طباعة
المجموعة: محاور ولقاءات
الزيارات: 2170

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (1)

الموقع الجغرافي يثبت انفتاحها على العالم بدليل الهجرات التي جاءت إليها وذكر الشعراء لها

السيابي: السواحل أعطتها مجالات واسعة للوصول إلى آسيا وإفريقيا والنظريات السياسية هي التي تفرق كثيرا 

أكد سعادة الشيخ المفكر أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء أن عمان تواصلت مع الآخر منذ فجر الإسلام وقبله نافيا بذلك ما يشاع من أنهم قد عزلوا أنفسهم عن العالم.

وأوضح سعادته: إن الموقع الجغرافي يثبت انفتاحها على العالم بدليل الهجرات التي جاءتها وذكر الشعراء لها كما أن سواحلها الطويلة أعطتها مجالات واسعة للوصول إلى آسيا وإفريقيا .. ومع الجزء الأول من اللقاء.

 

في رأيكم سعادة الشيخ، هل عمان عزلت نفسها عن الآخر أم الآخر عزلها؟ ولماذا؟

فعلا هو تساؤل يثار بين الحين والآخر وهو تساؤل تاريخي حضاري للفكر والثقافة ذلك التساؤل يدور حول عدم انتشار الفكر العماني والثقافة العمانية مع غير العمانيين لماذا؟ وما الأسباب؟ هل عمان عزلت نفسها؟ بمعنى اعزل العمانيون أنفسهم ثقافيا وفكريا أم إن الآخر هو الذي عزلهم؟.

بعض الناس غير العمانيين يلقون باللائمة على العمانيين ويقولون: إنهم عزلوا أنفسهم عن الآخر وإن الآخر لم يعرفهم فكريا وثقافيا، وهم يرجعون هذا الانعزال العماني إلى الموقع الجغرافي لعمان  حيث إن عمان يفصلها عن الوطن العربي صحراء وجبال وهي تقع على البحر، ومنهم من يرى أن هناك أمرا آخر جعل العمانيين ينعزلون وذلك الأمر هو الفكر المذهبي وكلا الاتجاهين يلقيان باللائمة على العمانيين بأنهم عزلوا أنفسهم إما لسبب جغرافي أو لسبب فكري مذهبي.

سنناقش الأمرين أو السببين المفترضين:

أولا: من الناحية الجغرافية نناقش موقع عمان الجغرافي، فعمان قسم من أقسام شبه الجزيرة العربية وهي في الركن الجنوبي الشرقي منها وتحدها من الجهة الغربية الجبال والصحاري إلا إنها تطل على مساحة بحرية طويلة.

فمن جهة الجنوب مرتبطة باليمن التي هي كما يقال عنها: البلاد السعيدة وهي حاضرة من حواضر الإسلام والعروبة وإذا جئنا من الناحية الشمالية نجد أن لها امتدادا حتى بلاد الرافدين وحتى الشام عن طريق بحر عمان الذي يتصل بباقي دول الخليج التي تتصل بشط العرب ثم بالعراق ثم بالشام وهذه الشواطئ مأهولة ومسكونة والتواصل يتم من خلالها ؛ ومن هنا فإن الموقع الجغرافي لا يمكن أن يعطي انعزالا أو عزلة عن الآخر.

وفي هذا الأمر لو جئنا مثلا إلى الموقع الجغرافي والتواصل مع الآخر نجد أن عمان كانت مقصودة بهذه العزلة؛ فمن خلال تقسيمنا للأزمنة التاريخية فلو بدأنا مثلا بالعصر الجاهلي نجد أن هناك تواصلا مع عمان من قبل أدباء وشعراء ذلك العصر، على سبيل المثال نجد الأعشى ميمون بن قيس الشاعر المعروف المشهور الذي لقب بصناجة العرب والذي يقال عنه إنه ما مدح أحدا بشعره إلا رفعه وما هجا أحدا بشعره إلا وضعه، هذا الرجل الذائع الصيت كان يزور عمان فهناك قصيدة مطلعها:

أذن اليوم جيرتي بحفوفِ ** صرموا حبل آلف مألوفِ

واستقلت على الجمال حدوج ** كلها فوق بازلٍ موقوفِ

ويقول فيها:

وصحبنا من آل جفنة أملاكا ** كراما بالشام ذات الرفيفِ

وبني المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوة كالسيوفِ

وجلنداء في عمان مقيما ** ثم قيسا في حضرموت المنيفِ

(وجلنداء في عمان مقيما) يعني به الملك العماني الجلندى بن المستكبر والد الملكين عبد وجيفر وهما من بني معولة بن شمس اللذين أرسل اليهما النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه ودخلا في الإسلام ودخل معهما قومهما جميعا في الإسلام.

بعض الكتاب أخذ من هذا البيت أن الجلندى هو لقب لكل من كان يحكم عمان كما أن قيسا هو لقب لكل من يحكم حضرموت، وهذا غير صحيح، والصحيح أنه يقصد شخصين معينين ففي عمان كان يقصد الجلندى بن المستكبر وهذا في زمن الشاعر وأنه أي (الشاعر) قال صحبنا الجلندى الذي في عمان مقيما، فهو يقصد به شخصا معينا هو الجلندى بن المستكبر وليس هو لقب لكل من يحكم عمان، كما أن قيسا في حضرموت أيضا يقصد به قيس بن معد يكرب الكندي والد الأشعث بن قيس الأمير المشهور في الإسلام فليس معنى ذلك أن الجلندى هو لقب لكل من يحكم عمان وقيس لقب لكل من يحكم حضرموت كما جاء في بعض الكتب الأدبية والتاريخية

إذا كان هناك اتصال وتواصل في العهد الجاهلي، وفي العهد الإسلامي كان هناك شعراء يأتون إلى عمان منهم سوار بن المضرب السعدي وهو غير عماني جاء إلى عمان هاربا من الحجاج عندما يقول:

أحب عمان من حبي سُليمى ** وما طبي بحب قرى عمانِ

علاقة عاشق وهوى متاحا ** فما أنا والهوى متدانيانِ

تذكر ما تذكر من سُليمى ** ولكن المزار بها نآني

فلا أنسى ليالي بالكلندى ** فنينا وكل هذا العيش فانِ

ويوما بالمجازة يوم صدق ** ويوما بين ضنك وصومحانِ

هذه أماكن عمانية معروفة يذكرها الشاعر.

فموقع عمان الجغرافي لم يعطها عزلة بدليل أن القبائل العربية هاجرت إليها فهاجرت إليها القبائل اليمنية القحطانية أولا ثم هاجرت إليها القبائل النزارية العدنانية من شمال الجزيرة العربية وتكاثرت هذه القبائل في عمان ومعنى ذلك أن الموقع الجغرافي لم يسبب لها عزلة أو انعزالا.

وموقع عمان البحري أعطى العمانيين اندفاعا إلى جنوب شرق آسيا ووصلوا إلى الصين وإلى شرق إفريقيا ووصلوا إلى جزر القمر ووسط إفريقيا (البحيرات الوسطى) في القرون الأخيرة فموقعها الجغرافي ليس مبررا على أنه جعل من العمانيين منعزلين.

أذن هل السبب الثاني كما يقول بعض الباحثين وهو ما نقله الدكتور وليد محمود خالص في تقديمه لكتاب (إيضاح السلوك إلى حضرات ملك الملوك) وهو كتاب للشيخ العالم الكبير ناصر بن أبي نبهان الخروصي وهو في السلوك أي في التصوف شرح فيه الشيخ ناصر قصيدتين تائيتين لابن الفارض لأن الإباضية أعطوا التصوف اسم السلوك بمعنى نقلوه من طقوسيات إلى سلوك وهذه رؤية جميلة جدا للتصوف لأنهم نقلوا التصوف من ممارسات طقوسية جافة وأحيانا تصاحبها خرافات إلى سلوك بمعنى يوجه سلوك الإنسان والسلوك في العادة يطلق على الحركة الإيجابية للإنسان فالسلوك إذا أطلق هكذا من غير تقييد يعني أنه ينصرف إلى الحراك الإيجابي للإنسان ولذلك سمى الشيخ ناصر بن أبي نبهان كتابه بهذا الاسم والشيخ ناصر ربط التصوف بالعقل وربطه بالفلسفة فكان عميقا جدا في هذا العمل.

الدكتور وليد محمود خالص حقق الكتاب وقدم له وأشار إلى قضية العزلة الثقافية للعمانيين هل هم عزلوا أنفسهم أم أن غيرهم عزلهم وهل هذا الانعزال راجع إلى الموقع الجغرافي كما ذكر ذلك بعض الباحثين أم أن المذهبي الفكري هو السبب باعتبارهم معتنقين للمذهب الإباضي، وهو لم يناقش الموضوع لكنه ذكر في بعض من ذكر هذا الكلام من الباحثين دون الإشارة إلى اسمائهم.

والدكتور وليد محمود خالص يشير إلى أنهم لم يعزلوا أنفسهم ثقافيا وإنما ذكر أن الآخر هو الذي عزلهم لوضع مذهبي فكري لاعتناقهم المذهب الإباضي.

كما أن الكاتبة ليلى البلوشية ناقشت موضوع العزلة الثقافية لعمان والعمانيين عبر صحيفة الرؤية.

 

أمر مذهبي فكري

والقول بأن العزلة كانت لأمر مذهبي فكري وهو المذهب الإباضي طبعا هذا شيء يحتمل من الصحة قدرا كبيرا وذلك لأن الإسلام انقسم إلى تيارات ثلاثة وهي تيارات سياسية تدور حول نظرية الخلافة أي الحكم من هو الأحق بالخلافة، فكل الفرق الإسلامية تندرج تحت هذه التيارات الثلاثة، التيار الكبير يرى أن الخلافة حق من حقوق قريش وهذا التيار هو الذي مشى عليه أهل السنة وهو بزعامة معاوية بن أبي سفيان ومن بعده أولاده ثم بنو أمية من الفرع المرواني بدءا من مروان بن الحكم وأولاده ثم أولادهم.

وهنالك تيار آخر يقول: إن أحق الناس بالخلافة هو الخليفة علي بن أبي طالب وأولاده وهذا التيار عليه الشيعة بجمبع فرقهم.

وهناك تيار ثالث يقول: إن الخلافة شورى بين المسلمين ليس حقا قبليا وليس هناك حق أسري بمعنى لم يكن الأمر يختص بالخليفة علي بن ابي طالب وأولاده كأسرة، ولا لقريش كقبيلة وإنما الأمر شورى بين جميع المسلمين لمن يتأهل منهم لهذا المنصب فهو به أحق (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى والعمل الصالح) هذا الرأي تبناه الإباضية وتبنته فرق الخوارج، والكل من هذه الفرق لديهم أدلتهم، ولسنا هنا نقصد التدليل والترجيح.

لا شك أن الخوارج والإباضية وقفوا نتيجة هذا الرأي من الدولة الأموية موقفا معارضا وبعدها الدولة العباسية، فخاضت هاتان الدولتان حروبا ضدهم بناء على هذا الرأي الفكري.

بعد ذلك انتهى الخوارج فبقي في الساحة الإباضية بين أهل السنة القائلين: إن الخلافة حق لقريش وبين الشيعة القائلين: إن الخلافة حق لآل البيت الذين هم علي بن أبي طالب وأولاده فبقي الإباضية وحدهم في الساحة شرقا وغربا ولا شك أنهم خاضوا حروبا مع الأنظمة السياسية القائمة على الحق القبلي أو الحق الأسري.

وهذا أوجد خصومات كبيرة ، ودائما الآراء السياسية أو النظريات السياسة هي التي تفرق الناس أكثر من غيرها، فلو جئنا إلى الخلافات العقدية نجد أن فيها   شيئا من التساهل تجاه الرأي المخالف، أما من باب الخلاف الفقهي فهذا من باب أولى هناك مرونة في الاختلاف الفقهي بين كل المذاهب بل عند العالم الواحد، وبما أن عمان يوجد فيها الإباضية وتوجد فيها الدولة الإباضية بمعنى أن القرار السياسي الذي صار في عمان وقف منه الجميع موقف الخصومة (حقيقة لنكن صرحاء وواقعين) رغم أن هذا الأمر لا أعطية بنسبة مائة في المائة لكني أعطيه نسبة كبيرة لا تقل عن سبعين إلى ثمانين بالمائة.

فوجود الإباضية خارج دائرة الدولة الأموية ومن ثم العباسية وخارج التوجه الشيعي والتوجه السني من الناحية الفكرية هذا جعلهم في موقع الخصومة فتوجهت إليهم السهام بالطعن والنقد والتشويه والتجريح إلى حد كبير بمعنى أن الناحية الفكرية المذهبية أوجدت حاجزا نفسيا عند الآخرين تجاههم ولا سيما أنهم ربطوا بالخوارج والخوارج قد نسب إليهم كل العنف في التاريخ الإسلامي وطبعا هي أيضا نسبة تحتاج إلى مراجعة في الحقيقة فالخوارج لم يتركوا لنا مؤلفات نعرف منها أقوالهم وآرائهم ودفاعهم عن أنفسهم ولكن أتوقع أن هناك مبالغات تجاه ما ينسب إلى فرق الخوارج، صحيح أن لهم بعض المبادئ المتشددة، ولكن أتوقع أن تكون هناك مبالغات مثل القول: إن الخوارج كانوا يستعرضون الناس بالسيف وكانوا يقتلون كل من خالفهم، أما أنهم ينازلون ويناوئون الحكم ورجال الحكومة فهذا صحيح لأنهم في حرب معهم ولأنهم غير معترفين بشرعية الدولة الأموية وشرعية الدولة العباسية فبالتالي هم ينازلون الحكومات ورجال تلك الدول لكنهم لا يمكن أن يستعرضوا الناس المدنيين هكذا لأنه لا يوجد دليل مادي واحد على أن شخصا ما قتل من قبل فرقة من فرق الخوارج وهو شخص مدني ليس له علاقة بمسؤولية في تلك الدول.

وعندما ربط الإباضية بالخوارج وقف منهم هذا الموقف فأصبح وكأن الإباضي هو من الخوارج والخوارج ما عندهم إلا السيف فهاب الناس منهم ورموهم بكل نقيصة ورموهم بكل تشويه وكل تجريح ووجهت اليهم سهام النقد إلى حد كبير وألفت فيهم المؤلفات التي طعنت في الإباضية وقالت في الإباضية ما لم يقل به الإباضية وما لم يفعله الإباضية على الإطلاق والآن أصبحت الدراسات الحديثة تبين عوار وكذب تلك المؤلفات التي ألفت في المقالات وفي الفرق بأن تلك المقالات غير صحيحة التي نسبت إلى الإباضية والإباضية أحيانا يقولون: إن من يقول بها يخرج من الإسلام ، والآن نجد الدراسات الحديثة من الباحثين المتحررين المتنورين المنصفين أصبحت توضح انتهاكات تلك الكتب التي ألفت سابقا والتي ما تزال تؤلف في مثل هذا الموضوع من قبل البعض وهذا الأمر جعل عند الناس حاجزا نفسيا تجاه كل شيء إباضي.

 

على لسان الزائرين للسلطنة

وسمعنا كثيرا من الإخوة الذين جاؤوا إلى السلطنة للتدريس من فلسطين ومن بلاد الشام ومن مصر وكان ذلك في السبعينات وليس الآن طبعا، فالآن اتضحت الصورة ووضح الصبح لكل ذي عينين يقولون: إن الإباضية ليس كما قيل عنهم، فعندما يريدون أن يأتوا إلى عمان يقولون ذلك لأقاربهم وزملائهم أنهم ذاهبون إلى عمان، فيقال لهم : هناك إباضية خوارج وهناك السيف مسلول سمعنا هذا من عدة أشخاص من أولئك الإخوة، ويقولون فلما أتينا إلى عمان وجدنا الصورة مختلفة تماما قرأنا عن الإباضية شيئا آخر وسمعنا عنهم في مجتمعاتنا شيئا آخر وكانوا يحذروننا من المجيء إلى عمان لأن هناك إباضية خوارج فوجدنا شيئا مغايرا فتغيرت الصورة لدينا.

وفي وقت قريب كنت في زيارة لفضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام فتذاكرنا هذا الأمر، فقال كان عندي وفد من إحدى الدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي سابقا (لا أحب ذكر اسمها) وذكرت لهم أنني عندما كنت في سلطنة عمان مدة عشر سنوات أدرس الفقه الإباضي تعجبوا وانزعجوا واندهشوا وقالوا كيف تدرس الفقه الإباضي هؤلاء من الخوارج فقلت لهم لا: إن الفقه الإباضي فقه أصيل لا يختلف عن فقه المذاهب الإسلامية الأخرى سواء من حيث الاستدلال أو من حيث طرق الاستنباط وأوضحت لهم هذا الأمر، هذا حدث قريبا.

فلذلك يقول الدكتور شوقي علام: من الجميل أن ينشر الكتيّب المعنون (الفرق بين الإباضية والخوارج) لأنه فعلا يوضح الفرق بين الإباضية والخوارج لأنه لا يزال الناس يربطون الإباضية بالخوارج، وهو عبارة عن رسالة وضعها الشيخ أبو إسحاق اطفيش رحمة الله عليه الذي كان مقيما في مصر بناء على طلب أحد علماء الأزهر وطلب منه أن يكتب له مقالة أو رسالة في هذا الموضوع فكتب الشيخ أبو إسحاق تلك الرسالة أوضح فيها الفرق بين الإباضية والخوارج ونشرها ذلك العالم الأزهري في كتابه وكان ذلك الشخص اسمه الشيخ إبراهيم عبدالباقي وقد ألف كتابا بعنوان (الدين والعلم الحديث) وهو كتاب جميل وممتاز جدا.

كما نشرها الشيخ محمد بن عبدالله السالمي في كتابه (عمان تاريخ يتكلم) ثم نشرها علي يحيى معمر في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية، وأنا استخرجتها من هذه الكتب فجعلتها كتيبا صغيرا فعملت لها مقدمة وطبعتها تحت عنوان (الفرق بين الإباضية والخوارج) والآن هو كتاب منتشر.

----------------------

جرية عمان: الجمعة, 3 رمضان 1434هـ. 12 يوليو 2013م

 

أجرى اللقاء: سيف بن سالم الفضيلي

****************

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (2)

منذ دخولها الإسلام كان موقفها فاعلا وإيجابيا

السيابي: عمان تواصلت منذ فجر الإسلام والصحابي مازن أقوى مثل..

حمل سعادة الشيخ المفكر أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الافتاء جزءا من المسؤولية عن (العزلة) العمانيين انفسهم كونهم لا يعرفون عن بلدهم وتاريخه وحضارته وفكره ولا يتواصلون مع اصحاب النفوذ في البلدان التي يسافرون اليها وقدّره بنسبة 25 بالمائة، مشيرا الى ان الأمر قد تغير في هذا العصر الذي نعيش فيه فأصبحت نظرة الآخرين ايجابية نتيجة اللقاءات والتواصل بين العمانيين وغيرهم كما ان العمانيين بدأوا يشعرون بالمسؤولية تجاه حضارتهم وفكرهم وتاريخهم وهذا امر جيد وفيه تقارب بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وافكارهم وفيه طي لكثير من صفحات الماضي المظلمة والظالمة.

وفي الوقت نفسه حمل سعادته الجزء الأكبر من المسؤولية إلى الآخر الذي عزلها وعزا هذا العزل الى سبب سياسي مذهبي فكري نتيجة المواقف التاريخية المنبثقة عن الفتنة الكبرى في تاريخ الاسلام.

 

وتكملة لإجابة سعادته على سؤال، هل عمان عزلت نفسها عن الآخر أم الآخر عزلها، ولماذا؟

وبناء على هذا كله هل العمانيون عزلوا انفسهم أم عزلهم الآخرون من هذا المنطلق استطيع ان اقرر ان العمانيين لم يعزلوا انفسهم وإذا كانوا لم يعزلوا انفسهم كيف اقول انه عزلهم الآخر، اولا استطرد ان العمانيين لم يعزلوا انفسهم فهم تواصلوا مع الآخر منذ بداية العهد الاسلامي فمسير الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السمائلي الى النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل في الاسلام هو من باب التواصل مع الآخر ومن الأكيد انه لم يذهب بنفسه وهذه مبادرة عمانية في الدخول إلى الاسلام.

كما يقول الشيخ الشاعر الكبير عبدالله بن علي الخليلي:

فإن يك هذا الدين جاء لطيبة ** فهذي سعت للدين في خير منزل

 

الامر الثاني ان العمانيين منذ ان دخلوا في الاسلام كان موقفهم فاعلا وإيجابيا مع المسلمين فشاركوا في التحريرات الاسلامية في حروب الشام وبلاد فارس، ثم شاركوا في نقل الاسلام واختلطوا بشعوب جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وشعوب شرق افريقيا وهذا في عهد مبكر في الاسلام.

 

وعندما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم العمانيون بوفاته لم يرتضوا ان يتركوا عمرو بن العاص ان يرجع منفردا وانما رافقه وفد عالي المستوى برئاسة عبد بن الجلندى احد ملوك عمان ومعه سبعون شخصا عمانيا من اعيان اهل عمان بقصد مرافقة مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم لكي يصلوا به المدينة سالما، الامر الثاني لكي يبايعوا ابابكر الصديق بالخلافة وهذا الذي حدث.

 

وشارك العمانيون في التحريرات الاسلامية وانتقل عدد كبير منهم للسكنى في العراق في عدة أماكن وآخر استقر في البصرة فالإمام جابر بن زيد خرج من عمان وسكن مع قومه العمانيين في البصرة الذين شاركوا في فتوح فارس ورجعوا الى العراق واستوطنوا بها وعندما خططت البصرة جعل لهم مخطط سكني بالتعبير المعاصر لكي يستقروا فيها، طبعا ليس كل الذين خرجوا مع القائد الاسلامي عثمان بن ابي العاص الثقفي ساروا الى العراق وإنما بعضهم رجع الى عمان ولكن كثيرا منهم ذهبوا الى العراق فنزلوا في منطقة بين فارس والعراق اسمها (توّج) ثم انتقلوا الى البصرة.

 

وجابر بن زيد، كما سبق، في عهد الخلفاء الراشدين انتقل الى البصرة لكي يسكن مع قومه وهناك اخذ يتردد بين البصرة والحجاز ليأخذ العلم عن اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعن زوجاته رضي الله تعالى عنهن فالعمانيون تواصلوا مع الآخرين بشكل كبير وأقبلوا على مؤلفات الآخرين ونقلوا عنها وعن الصحابة وعن جميع التابعين وعن العلماء الآخرين.

 

تخريجات

فمثلا في القرن الرابع الهجري الف ابن المنذر النيسابوري كتابه الاشراف وهو في مسائل الخلاف عن المذاهب الاربعة والامام النيسابوري توفي سنة 318 هـ هذا الكتاب وصل الى عمان والشيخ ابو سعيد الكدمي عمل عليه تعليقات سماها (زيادات الاشراف) في اربعة اجزاء ومعظم هذا الكتاب هو مفرغ في (بيان الشرع) الذي الفه العلامة محمد بن ابراهيم الكندي الذي توفي سنة 508 هجرية، ومن هنالك جاءت اقوال المذاهب الاخرى ودخلت في المذهب الاباضي، ثم جاءت الكتب من بعده فنقلت عن (بيان الشرع)، فبعض الاقوال لأصحاب المذاهب الأخرى أطرت إباضيا وصارت كأنها من اقوال المذهب الاباضي نتيجة ذلك التلاقح الفكري بين الامام ابن المنذر النيسابوري الشافعي وبين الإمام أبي سعيد الكدمي الناعبي الاباضي.

 

وابو سعيد ايضا عمل تخريجات اخرى من كتاب الاشراف وهو الذي عرف بتخريجاته الكثيرة، والتخريج هو احداث قول آخر في المسألة عن الاقوال الموجودة، فرأى الامام ابو سعيد الكدمي ان ما يذكره الامام ابن المنذر في كتابه الاشراف (وهما عاشا في القرن نفسه) ينسجم مع المبادئ العامة للمذهب الاباضي فقال يخرج على هذا القول عند اصحابنا قول آخر فأصبحت تخريجات الامام ابي سعيد الكدمي على كتاب الاشراف تشكل معلما بارزا في الفقه الاباضي، فهذا يدل على سرعة تواصل العمانيين مع الآخر.

 

وعندما اراد العوتبي من علماء القرن الخامس الهجري ان يؤلف كتابه في الانساب اعتمد على كثير من الكتب اعتمد على كتاب بن حزم وهو جمهرة النسب وعلى كتاب ابن حبيب الاندلسي وكتاب ابن الكلبي وهم من غير العمانيين والعوتبي علامة كبير.

 

وايضا محمد بن عبدالله الازدي صاحب كتاب الماء هذا الرجل خرج من صحار وذهب الى فارس وذهب الى بلاد الشام والى مصر والى الاندلس ومات في فلنسية في الاندلس الف كتابه (الماء) وهو كتاب طبي اعطاه اسم الماء انطلاقا من الآية الكريمة (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فألفه بطريقة المعجم بالحروف الهجائية فيه ادب وحكم واشياء جميلة جدا وطبعته وزارة التراث والثقافة في ثلاثة مجلدات بتحقيق الباحث العراقي هادي حسن حمّود، وهو لازم كثيرا الطبيب الرئيس ابن سينا وكان كثيرا ما يجله وينقل عنه الكثير في كتابه (الماء) حتى انه نقل القصيدة الرائعة التي قالها الطبيب الرئيس بن سينا في وصف النفس التي عبر عنها بالورقاء أو الوريقة، وهي التي فيها:

هبطت اليك من المحل الارفع ** ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة ناظر ** وهي التي سفرت ولم تتبرقع

هبطت على كره اليك وربما ** كرهت فراقك وهي ذات تفجع

واظنها نسيت عهودا بالحمى ** ومعاهدا بفراقها لم تقنع

وهي قصيدة فلسفية لكنها فيها شاعرية حتى ان الكاتب الاديب المصري احمد امين شكك في نسبتها الى ابن سينا لما فيها من شاعرية لكن محمد الازدي الصحاري قال انا اثبتها هنا لاني سمعتها من فيه أي من فم ابن سينا.

 

صاحب كتاب (القراءات الثماني)

وهناك عالم عماني آخر هو ابو الحسن محمد بن علي بن سعيد العماني صاحب كتاب (القراءات الثماني) الذي طبعته وزارة التراث والثقافة ايضا بالسلطنة هذا الرجل ايضا جاب العديد من المناطق فذهب الى مصر والف العديد من الكتب منها (المرشد في الوقف والابتداء) سمعت شيخنا الخليلي مفتي عام السلطنة (أبقاه الله) يقول انه اطلع على ان الشيخ محمود خليل الحصري شيخ المقارئ المصرية الأسبق ينقل عن هذا الكتاب (المرشد في الوقف والابتداء) وهذا الرجل ذهب الى مصر بعد عام 500 هجرية، وجميع العلماء والأدباء وأهل الثقافة والفكر في عمان قرأوا عن غيرهم ونقلوا عن غيرهم.

 

والى عهد قريب كان العمانيون علماؤهم وأدباؤهم وشعراؤهم يحفظون ديوان المتنبي بالكامل ودواوين غيره من الشعراء لا فرق بين عالمهم وبين اديبهم وشاعرهم، والذي لا يحفظ ديوان المتنبي بالكامل يحفظ جزءا كبيرا منه، وهذا عندما كان الاهتمام بالحفظ هو المعمول به وكان العمانيون متعلقين بالشعر.

 

ومما يدل على هذا ما يقال ان الشيخ ماجد بن خميس العبري زار الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي في سمائل واستشهد الشيخ العبري ببيت شعري على قافية اللام فسأله الشيخ الخليلي عمن هذا البيت فقال له عن المتنبي فأطرق الشيخ سعيد اطراقة فاستحضر فيها لاميات المتنبي فقال ان هذا البيت لا يوجد في قصائد المتنبي اللامية مما يدل ان الشيخ الخليلي كان يحفظ ديوان المتنبي عن ظهر قلب.

 

لا يكتبون عن الأعلام العمانيين

عندما نقول العمانيون لم يعزلوا انفسهم، كيف حدثت هذه العزلة الثقافية والفكرية إذن؟ بمعنى ذلك ان العالم العماني غير معروف خارج عمان والشاعر العماني غير معروف خارج عمان والأديب العماني غير معروف خارج عمان والمؤرخ العماني غير معروف خارج عمان.

 

وعندما يكتب الآخرون عن الرجال وعن الاعلام لا يكتبون عن الاعلام العمانيين، لماذا؟ مثلا نجد العالم في الشام او في العراق يكتب عن الأعلام ويذكر علماء المسلمين في جميع البلاد الا علماء عمان فنجده وهو في الشام يؤلف ويكتب عن علماء اليمن، واليمن بجانب عمان ويكتب عن العلماء الآخرين ولم يكتب عن علماء عمان، وحتى العالم في اليمن رغم ان اليمن قريبة من عمان ومتصلة بها لم يذكر أعلام عمان.

 

فمثلا عندما كتب الشوكاني كتابه (البدر الساطع) ذكر في فترة زمنية علماء إلا أنه لم يذكر عالما عمانيا، وهلم جرا، وأؤكد ان العمانيين لم يعزلوا انفسهم بل أنهم تواصلوا وكتبوا والفوا عن الآخر سواء في الأنساب او التاريخ او العقيدة او التفسير او الحديث وفي كل شيء، اذن السبب الآخر هو الذي عزل العمانيين ثقافيا وفكريا وذلك السبب في وجهة نظري ليس كما يقال جغرافي وانما هو يكمن جزء منه في الخلاف السياسي وجزء آخر اعتبره فكريا، نتيجة تلك المواقف التاريخية السابقة المعروفة أو المنبثقة عن تاريخ الفتنة الكبرى في تاريخ الاسلام.

 

والقول بأنه كيف يتعدى ذلك السبب السياسي، وذلك السبب الفكري الى الأدب والشعر والتاريخ والفكر ولم يقتصر على الوضع الديني، أقول انه ما كانت توجد حدود فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو أدبي، كما هو حاصل الآن فالأديب والشاعر والمؤرخ يتأثر مذهبيا  وسياسيا أعود فأقول ان العزلة الفكرية والثقافية فرضت على عمان والعمانيين لعاملين اولهما فكري مذهبي والثاني سياسي، أما العامل الجغرافي فلا يعطي عزلة او انعزالا عن الآخر، على اننا كعمانيين لا نعفي أنفسنا من المسؤولية الأدبية عن هذه العزلة الثقافية والفكرية فالعمانيون يتحملون جزءا من ذلك، فإذا كان هنالك نسبة وتناسب فيمكنني ان احمل العمانيين نسبة 25 بالمائة واحمل الآخر نسبة 75 بالمائة وذلك لان العماني كان لم يعرف باسمه بمعنى انه لم يعرف ببلده ولا بتاريخه ولا بحضارته ولا بمذهبه فهو عندما يتوجه الى مكان ما تراه مستحييا منكفئا منزويا وطبعا لا أعمم هذا ولكن هذا هو الطابع الغالب على الانسان العماني في العصور الأخيرة وربما من قديم وان كانت الصورة توسعت في العصور الأخيرة، فمن النادر ان تجد العماني عندما يسافر يحمل كتابا عن تاريخه او عن مذهبه او عن حضارته ليعرف به الآخر مع ان ذلك الآخر في هذا العصر يطالبه بذلك والعماني اصبح من طبعه اذا اقام في مكان ما خارج عمان فإنه لا يتواصل مع المسؤولين هنالك، بعكس غير العمانيين فإنهم يتواصلون مع المسؤولين في تلك الدول، انظر مثلا الى غير العماني عندما يأتي الى عمان فإنه يتصل بالمسؤولين ويقيم معهم العلاقة الطيبة وهم بذلك يستطيعون قضاء مصالحهم وهذا المعنى جاءت به الأدبيات العربية، فإنه قيل ينبغي لأي شخص يحل في بلد ما ان يتصل بحاكمها ومسؤوليها وقاضيها وواليها وغيرهم حتى إذا نابه أمر من الشدة فإنه يستطيع ان يدفع ذلك عنه من خلال علاقته بأؤلئكم المسؤولين وفي هذا المعنى صاغ القاسم بن محمد الحريري صاحب مقامات الحريري مقامته التاسعة التي هي بعنوان المقامة الاسكندرانية فإنه قال فيها (انه يجب على الشخص إذا حل في بلد ان يتصل بقاضيها وحاكمها وساق قصة ذلك الرجل الذي خدع امرأة ذات حسب ونسب وغنى وجاه الى غير ذلك فتزوجها بعد ان خدع والدها بأنه صاحب حرفة شريفة وانه ميسور الحال ولكن بعد ان ابتعد بها عن اهلها وجدته لا شيء عنده ولا حرفة واستهلك ما عندها من مال وعندما ذهبت به الى قاضي الاسكندرية لم يحكم لها بشيء وانما اعطاه من مال الصدقة وكل ذلك نتيجة علاقة ذلك الرجل الزوج بالقاضي او بالحاكم في الاسكندرية.

 

وهكذا ينبغي للعماني ان يتفاعل مع المجتمع الذي يقيم معه ويتواصل مع المسؤولين ولكن الملاحظ هو العكس، فقد اقام العمانيون في دول مختلفة ولكنهم لم يتفاعلوا مع اهلها ولم يتصلوا بالمسؤولين فيها، ولم يتصلوا بالعلماء فيها وانما يبقون في اعمالهم ومنازلهم وهذا بالطبع خطأ في الحياة جسيم.

 

واذكر انني كنت في كمبالا العاصمة لجمهورية اوغندا في شهر ديسمبر من عام 2003 وكنت قد ذهبت الى هنالك لحضور مؤتمر عن الحضارة والتاريخ الاسلامي لشرق افريقيا وعندما كنت في الفندق زارني عدد من العمانيين المقيمين في كمبالا وتصادف ان زارني احد علماء اوغندا وعندما شاهد تلك المجموعة من العمانيين تعجب من وجودهم وقال انه لا علم له بوجود عمانيين في كمبالا، وهذا التعجب من ذلكم الشخص دليل على عدم الاتصال من أولئكم العمانيين الذين يفترض منهم ان يتصلوا به وبغيره من العلماء والمسؤولين، وأذكر هذا كمثال فقط على سلوك العمانيين، على انه لا يفوتني ان اقول ان الأمر قد تغير في هذا العصر الذي نعيش فيه فأصبحت نظرة الآخرين ايجابية نتيجة اللقاءات والتواصل بين العمانيين وغيرهم كما ان العمانيين بدأوا يشعرون بالمسؤولية تجاه حضارتهم وفكرهم وتاريخهم وهذا امر جيد وفيه تقارب بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وافكارهم وفيه طي لكثير من صفحات الماضي المظلمة والظالمة.

_____________________________________

جريدة عمان: السبت 4 رمضان 1434ه / 13 يوليو 2013م

أجرى اللقاء:  سيف بن سالم الفضيلي

******************

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (3)

النبي صلى الله عليه وسلم اعتبرها مكونا من مكونات الممالك في عهده

أكد سعادة الشيخ المفكر أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عمان مكونا من مكونات الممالك في عهده فقد كانت تشكل وحدة سياسية على مساحة جغرافية تمتد على مساحة طويلة غير عمان الآن.

كما أكد سعادته أن عمان وعلى رأسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – التزمت بعدم التدخل في شؤون الغير قولا وعملا فلذلك أصبحت الوساطة العمانية مطلوبة ومقبولة سياسيا ودينيا.

وفي جانب استقلالية الإفتاء قال سعادته: (أنا مع استقلالية الإفتاء في إطار الدولة ويمكن أن يكون الإفتاء بجانب القضاء ليأخذ قوته الإلزامية، فالإفتاء أخ للقضاء ورديفه وكل منهما مكمل للآخر) .. وإلى ما جاء في الجزء الأخير من اللقاء.

لعمان مكانة في قلب النبي صلى الله عليه مسلم وخلفائه الراشدين من بعده فكيف يمكن القول أن عمان في معزل عن الآخرين؟

فعمان اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم مكونا من مكونات الممالك في عهده صلى الله عليه وسلم، فكتب النبي إلى ممالك ذات وحدات سياسية مستقلة فكتب إلى هرقل امبراطور الروم وكتب إلى كسرى امبراطور الفرس وكتب إلى المقوقس حاكم مصر وكتب إلى عبد وجيفر ملكي عمان إذن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بالدخول في الإسلام هذه الجهات الأربع التي تشكل كيانات سياسية مستقلة، صحيح أن هناك خطابات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الزعماء في عمان لكن ليس معنى ذلك أن عمان ليست وحدة سياسية واحدة، ففي تلك الأيام لم تكن الدولة كالدولة المعاصرة اليوم بحيث تكون مركزية الدولة فيها قوية لكن عمان في تلك الأيام هي وحدة سياسية لكن داخل تلك الوحدة السياسية هنالك زعماء، يذهب ذلك الشخص أو ذلك الزعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه خطابا إلى قومه بأن هذا الرجل مسؤول فيكم إلى غير ذلك أو أن شخصا من قوم ذلك الرجل يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه ثم يطلب منه خطابا إلى زعيمه مثلا.

وعمان كانت تشكل وحدة سياسية على مساحة جغرافية تمتد على مساحة طويلة غير عمان الآن، لأن ذلك البعض الآن خرج عن الوحدة السياسية العمانية، بدليل أن عبد وجيفر كانا يبعثان برسلهما للدعوة للإسلام إلى الشمال إلى دبا وما جاورها ودبا كانت تطلق على مساحة جغرافية شاسعة في الحقيقية، وإلى الجنوب كان يذهب إلى مهرة كما جاء في كتب التاريخ فما إن يأتي رسول عبد وجيفر إلى أحد في هذه الأماكن إلا ويدخل في الإسلام وهذا يدل على أنهم يتحكمون في وحدة سياسية كبيرة تحت عنوان الملكية لأنهم كانوا ملوكا على عمان وعمان كانت تنبسط على رقعة جغرافية واسعة.

والرسول صلى الله عليه وسلم أيضا كان يعرف الكثير عن عمان، فعندما قال لعمر بن الخطاب: (إني لأعرف أرضا ينضح بناحيتها البحر يقال لها عمان لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر) وفي حديث آخر قال لشخص (لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك) الحديث هذا (إني لأعلم أرضا يقال لها عمان) يعني أن الرسول يعرف عمان وموقعها ويعرف لعبد وجيفر ابني الجلندى مكانتهم في قومهما ومكانتهما كملوك، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم فلذلك خاطبهم بذلك الخطاب الذي فيه تطمين لملكهم بعد دخولهم الإسلام إلى غير ذلك.

ثم إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما ذهب  إليه الوفد العماني الذي ذكرناه أثنى على أهل عمان لأنه كان يعرف مكانة العمانيين.

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو الآخر كان يعرف عمان عندما ذهب إليه الوفد العماني لكي يشرح لأمير المؤمنين ما حدث في عمان في آخر خلافة أبي بكر الصديق من قبل عامل الخليفة وذلك أن حذيفة بن محصن الغلفاني الذي كان عاملا على عمان من قبل دولة الخلافة بعث رجلا إلى دبا كي يأخذ الصدقة فتشاجر الجباة مع امرأة من دبا فصاحت في قومها كعادة العرب تستنجد بهم فجاء قومها ولكون أن الوقت كان وقت ارتداد اعتبرهم الجباة مرتدين فاعتقل منهم مجموعة من الناس فأرسل بهم إلى المدينة إلى دار الخلافة وتذكر المصادر العمانية هذه القصة بأنها ليست ردة، فذهب الوفد العماني ليفهم أبا بكر الصديق بأن هؤلاء ليسوا مرتدين وإنما حصل سوء فهم بين الوالي وبينهم في وعاء الصدقة وعندما وصلوا المدينة وجدوا أبابكر الصديق قد توفي وكان عمر بن الخطاب في الخلافة فأبلغوه بذلك فشدد الخليفة عمر بن الخطاب على الوالي فأمر بإطلاقهم وإكرامهم فلذلك كان العمانيون متواصلين حقيقة مع الآخر و كانوا في قلب الحدث الإسلامي.

مع ملاحظة أن المصادر العمانية تذكر هذه الحادثة ويعتبرونها ليست ردة وهي كذلك، ولكن المصادر التاريخية غير العمانية تذكر قصة أخرى حدثت في بداية خلافة أبي بكر الصديق وهي في منطقة دبا أيضا، وتلك في الحقيقة ردة واشترك جيش الخلافة مع الجيش العماني بقيادة عبد وجيفر ابني الجلندى وحسم الأمر لصالح الجيش الإسلامي وكما أن المصادر غير العمانية لم تذكر الحادثة الثانية التي فيها المشاجرة بين المرأة العمانية وجباة الزكاة فالمصادر العمانية لم تذكر الحادثة الأولى التي هي في الحقيقة ردة، ومن هنالك كان الاختلاف بين المصادر العمانية وغير العمانية، وقد ذكرت ذلك في كتابي الوسيط في التاريخ العماني.

لتكون وسيطا كن غير منحاز

سياستنا عدم التدخل في شؤون الغير والعمل بتهدئة بعض التوترات والمساهمة في حل بعض المشاكل بطريقة هادئة دون زوبعة إعلامية كما يطلق عليها الآن .. هل هذه السياسة سبب من أسباب القول بانعزالها كما قد يربطها بعض الناس؟

في الحقيقة هذه مواقف سياسية تنبني على دراسات سياسية واقعية فلو نظرنا إلى جميع الدول وجدنا أنها تقول هذا القول ولكن بعض الدول تلتزم به واقعا ملموسا قولا وعملا وبعضها تقول به قولا ولا تلتزم به عملا هذا هو الواقع السياسي وهو ما يسمى بالواقعية السياسية.

عمان كدولة أعلنت هذا القول وعلى رأس هذه الدولة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – والتزمت به عملا وهذا لا يدل على العزلة وهذا في الأصل جزء من السياسة الدولية المعلنة لجميع الدول، وهذا تقريبا ميثاق شرف بين جميع الدول التي هي في إطار الأمم المتحدة وهو بند أساسي معروف بين الدول. عمان التزمت بهذا القول عملا وبجانب هذا أصبحت عمان مقبولة في نزع التوترات مقبولة في تسوية الخلافات مقبولة في الوساطات لأنك إذا أردت دائما أن تكون وسيطا كن غير منحاز أما إذا عرف عنك الانحياز فإنه لا يجوز أن تكون وسيطا، والمنحاز لا يوثق به من أي طرف من الطرفين المتنازعين.

وأصبحت الوساطة العمانية مطلوبة ومقبولة وأقول لك وأؤكد أنه حتى على المستوى المذهبي الوساطة العمانية الإباضية مقبولة تحدث بعض التوترات في المؤتمرات بين أطراف مذهبية فيتدخل مثلا سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة فيحلها ويعتبر ذلك مقبولا من الجميع وهذا حدث في مؤتمر عقد في القدس عندما حدثت مشادة كبيرة بين علماء السلفية وكان على رأسهم العلامة الكبير محمد رشيد رضا وبين علماء أشاعرة وهم من المذاهب الأخرى وكان العلامة الإباضي الشيخ أبواسحاق أطفيش حاضرا وهو الذي توسط في حل هذا الخلاف وتسويته والقضاء على تلك المشادات وهذا الآن يقوم به الوفد الديني العماني والذي يكون دائما برئاسة  سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة.

فهذه القبولية الدينية المذهبية منبنية على تلك القبولية السياسية للدولة وعلى رأسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم فهي منظومة كاملة متقبلة.

فطالما أن عمان عرفت بوساطتها سياسيا هي أيضا مقبولة بوساطتها دينيا.

 

هل تؤيد استقلالية الإفتاء؟

الإفتاء في الحقيقة هو أخ للقضاء ورديفه وكل منهما مكمل للآخر الإفتاء يبين حكم الله تعالى في المسألة والقضاء يفصل في الحكم.

عندنا مقولة تقول: إن (القضاء ملزم) بمعنى أن حكم القاضي ملزم للخصمين في حل مشكلتهما حكما لازما، وأن (الإفتاء غير ملزم) حتى جاءت المقولة المعروفة فقهيا (لا فتوى في دعوى) وقيل أيضا فتوى المفتي غير ملزمة أما حكم القاضي فهو ملزم.

ولكن في الحقيقة عندي وجهة نظر وهذا ما أؤكده وأكدته من خلال محاضرة ألقيتها بمعهد العلوم الشرعية قبل سنوات فقلت: إن الإفتاء بصيغته الحالية هو أيضا ملزم كما أن القضاء هو ملزم، بمعنى أن فتوى المفتي ملزمة كما أن حكم القاضي ملزم، لماذا؟ أولا متى يكون القضاء ملزما ومتى يكون غير ملزم؟ القضاء يكون ملزما إذا عين القاضي من قبل الحاكم (ولي الأمر) فيصبح حكمه ملزما، أما إذا كان القاضي عرف بحكمه وبقضائه ولكنه لم يعين من قبل الحاكم وترافع إليه الخصمان فإن حكمه غير ملزم خاصة إذا لم يرض أحد الطرفين بالحكم، حتى القاعدة القانونية هي كقاعدة تكتب ولكن لا تكون ملزمة إلا إذا صدر بها أمر أو مرسوم من الحاكم، هكذا هو القضاء.

والفتوى القائلة: إن فتوى المفتي غير ملزمة . ذلك  عندما كان الإفتاء في السابق لا يكون بأمر الحاكم، بمعنى أنه لم يكن في إطار الدولة وإنما يبرز شخص ما بعلمه أو أشخاص معينون بعلمهم والعامة تتجه إليهم لتأخذ عنهم الفتوى فيما يعنيهم من أمور دينهم فيفتي المفتي فبالتالي فتواه غير ملزمة كما أن القاضي إذا لم يكن معينا من قبل الحاكم حكمه غير ملزم.

أما وإن الإفتاء أصبحت له أطر قانونية وكيانات قانونية تصدر بها تعيينات من قبل الحكام وأصبح جزءا من الدولة ففي وجهة نظري أن فتوى المفتي ملزمة عندما يأتي الشخص ويستفتي المفتي تكون فتوى المفتي له ملزمة.

وللعلم سماحة الشيخ المفتي نفسه (لم يقل بهذا القول الذي أنا أقوله) وسماحة المفتي حفظه الله لا يزال متمسكا بالقول السابق بأن فتوى المفتي غير ملزمة مع أنه هو المفتي لكني أقول: إن فتوى المفتي ملزمة إذا جاءه المستفتي واستفتاه لأن الإفتاء صار له كيان قانوني بناء على أمر الحاكم صدر تعيينه من الحاكم بمرسوم سلطاني وعمّد للإفتاء فأصبح هذا المفتي كذلك القاضي، وهذه المحاضرة ألقيتها بمعهد العلوم الشرعية وأكاد أجزم أنه لم يقل هذا القول غيري.

وإذا قلنا باستقلالية القضاء عن الدولة فإن استقلالية القضاء ليس معناه أنه مستقل عن الدولة فهو مستقل في إطار الدولة فالدولة تشمل ثلاث سلطات السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية وهي في الحقيقة كلها في إطار الدولة، ولكن في إطار الحكومة فلا، وهناك فرق بين أن توصف الدولة وأن توصف الحكومة، فالدولة تشمل الجميع هذا كله في إطار الدولة وإلا ستصير فوضى، فالإفتاء إن استقل عن الدولة فمعنى ذلك أنه سيصير غير ملزم ولم تكن له أية أهمية.

فالآن عندما ينصب القاضي أليس ينصب بأمر الحاكم؟، أنا لست مع استقلالية الإفتاء عن الدولة بل تكون استقلاليته في إطار الدولة، ويمكن أن يكون الإفتاء بجانب القضاء ويتبع لجهة ما حسب ما يراه أهل القرار في هذا الأمر.

لكن من حيث الإفتاء كناحية علمية هو رديف القضاء لا سيما في عصر الدولة المركزية الدولة القانونية الدولة ذات المؤسسات لذلك فإن فتوى المفتي ملزمة كما أن حكم القاضي ملزم ومعنى ذلك أنه حتى تأخذ الفتوى قوتها الإلزامية يجب أن يكون في إطار الدولة كما أخذ القضاء قوته الإلزامية بكونه في إطار الدولة.

-----------------------

جريدة عمان: الاحد, 5 رمضان 1434هـ. 14 يوليو 2013م

 

أجرى اللقاء: سيف بن سالم الفضيلي