طباعة
المجموعة: محاور ولقاءات
الزيارات: 5317

( من ضمن دروس العقيدة التي ألقاها سماحته في جامعة السلطان قابوس، وهي تحمل بين دفتيها علماً غزيراً )

---------------------------------------------------

 

افتتاحية:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، أحمده وأستعينه وأستهديه ، وأعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لاشريك له واشهد ان سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى تابعيهم بإحسان الى يوم الدين ،أما بعد :

 

*من علّمه أخبار الغيب؟

فلا يزال حديثنا في اعجاز كتاب الله تعالى، وفي هذا الدرس نتقل الى نوع آخر من الاعجاز وهو الاعجاز الخبري ، فإن القرآن الكريم ينطوي على الأخبار الكثيرة ، على المغيبات التي لم تكن تدور ببال أحد من الناس عندما انزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن على عبده ورسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، في تلك البيئة التي تكاد تكون معزولة عما يجري في العالم المعاصر آنذاك.

 

والغيب الذي تطرق اليه القرآن، إما أن يكون غيباً غابراً ، وإما أن يكون غيباً معاصراً ، وإما أن يكون غيباً مستقبلاً ، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن كثير من الأنباء الغابرة التي لم تكن تدور بخلد أحد في ذلك المجتمع الذي نزل فيه هذا القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما أن الله سبحانه وتعالى أخبر أيضاً عن غيوب معاصرة لنزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخبر عن أمور مستقبلة لم يكن يتصورها أحد من الناس ، وفي كل ذلك كان الواقع مفسراً لما جاء به كتاب الله سبحانه وتعالى ، إذ لم يأتِ أمر من الأمور لينقض ما جاء به القرآن الكريم .

 

وفي هذا ما يبّين بياناً واضحاً ان هذا القرآن من عند الله تعالى إذ ليس بإمكان أحد من الناس أن يخبر عن مثل هذه الغيوب التي لم تكن في حيطة علمه؛ بحيث لم يكن واقعها حاضراً ، ولم يكن واقعها ملموساً ، فيأتي الواقع مصدقاً لما يخبر به .

 

لقد أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن أخبار النبوات , وقد كان نزول القرآن مسبوقاً بنزول كتابين من عند الله سبحانه وتعالى ، كانا لا يزالان باقيين رغم ما لحقهما من التحريف والتبديل وهما التوراة والانجيل ، وكثير من الأنباء التي قصها الله تعالى في كتابه الكريم كانت مذكورة في الكتابين ، وعند أهل الكتابين علم بهذه الاخبار.

 

والقرآن نزل كما تعلمون على أمّي لم يكن يقرأ كتاباً ولا يخطه بيمينه ، وفي بيئة أمية لم تكن تعنى بقراءة الكتاب , فالمجتمع الذي نزل فيه القرآن على الرسول صلى  الله عليه وسلم كان مجتمعاً وثنياً , وكان بعيد العهد بالنبوات ، ولم تكن أخبار النبوات من الانباء التي تتلى في المحافل والمجامع عندهم ، بل كانوا لا يعرفون هذه الاخبار .

 

 وإذا كانوا يحتكون احياناً بنصارى العرب وغيرهم من أهل الكتاب الموجودين في جزيرة العرب، فإن هذا الاحتكاك لا يؤدي بهؤلاء الوثنين الى ان يحيطوا علماً بما في ذلك الكتابين من اخبار النبوات .

 

 كيف؟ واهل الكتاب الذين كانوا موجودين في جزيرة  العرب آنذاك كانوا في عداد الاميين لقلة وجود العلماء الذين كان لهم المام واسع بعلم الكتاب ، وان وجد قله من العلماء منهم قله نادرة وما يعرفونه من علم الكتاب لا يتجاوزهم الى غيرهم، فضلاً عن ان يتجاوزهم الى الأميين الذين كانوا على الوثنية، فما كانت هذه العلوم الكتابية تتجاوز اولئك الأحبار القلة فضلاً عن ان يتجاوزهم الى غير ابناء ملتهم من العرب الوثنيين .

 

والمجتمع المكي كان مجتمعاً يعني بالتجارة ، ولم يكن يعني بقضايا الدين كما تعلمون، فمهما كان اتصال النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الانباء الغيبية ، كان أمراً غير مألوف لأنه عليه أفضل الصلاة والسلام من ناحية في بيئة أمية ، ومن ناحية اخرى فإنه لم يكد يخرج عن تلك البيئة إلا مرتين عندما ذهب اولاً مع عمه أبي طالب الى اطراف بلاد الشام مما يلي جزيرة العرب ، والمرة الثانية أيضاً عندما ذهب في تجارة للسيدة خديجة رضى الله عنه ، وذلك قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه ، وعندما ذهب في المرة الاولى قيل كان عمره تسعة أعوام ، وقيل كان عمره اثنى عشر عاماً ، وعندما ذهب في المرة الثانية كان عمره صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عاما , ولم يتحدث عند رجوعه من هاتين الرحلتين عن شيء من أخبار النبوات, ولم يكن عليه أفضل الصلاة والسلام يعنى قبل أن يرسله الله سبحانه وتعالى بجمع القصص والأخبار ليقصها على الناس , فإذاً عليه هو أفضل الصلاة والسلام كان ابعد ما يكون من الاحتكاك بأهل الكتاب ومعرفة ما عندهم من النبوات حتى بمكنه أن يقص ذلك على الناس الذين كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم الى الاسلام ويتلو عليهم القرآن .

 

 والله سبحانه وتعالى يخبر في كتابه العزيز بأن قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا على علم بالاخبار التي قصها القرآن الكريم ، فالله عزوجل يقول: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49) (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا), لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحيط بها علماً ، ولم يكن قومه ايضاً يحيطون بها علما.

 

ويقول الله عزوجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران:44) ويقول سبحانه وتعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف:102).

 

فإذن هذه الأخبار هى أخبار مغيبّـة ، وما استطاع أحد من أهل الكتاب بعد ما وصلتهم هذه الدعوة في ايامه صلى الله عليه وسلم وبعد أيامه ، وعلى كثرة ما يضمرونه من الكراهية لها، وعلى كثرة ما يكنونه من الحقد للرسول صلى الله عليه وسلم ، ما استطاع أحد منهم أن يقف في وجه هذه الدعوة،  ويفنّـد ما اخبر به القرآن الكريم من اخبار النبوات وغيرها ليدعي ان شيئاً منه لم يكن كما انزله الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذن هذا دليل واضح على ان هذا الذي أخبر به القرآن الكريم هو من عند الله ، وأن القرآن من عند الله ، ولا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم ان يتوصل الى  هذة الاخبار إلا بوحي الله سبحانه وتعالى ، أما ان يتوصل اليها بعلم مكتسب من البشر في تلك الظروف التي كان يعيشها عليه أفضل الصلاة السلام فذلك أمر مستحيل .

 

على أن كفار قريش الذين كانوا يصفون هذة الاخبار باساطير الاولين ارادوا أن يشككوا في صحتها ، وان يدعوا بان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاها من قبل  بشر ، ولكن من هو هذا البشر ؟

 

القرآن يبين لنا وضعيه هذا البشر التي اتسمع له بان يعلم الرسول صلى الله عليه و سلم مثل هذه الأقاصيص، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل:103)، من هو هذا البشر لم يكن هذا البشر الذي ادعى كفار قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يكتب هذه المعلومات منه من أصحاب الاقدام الراسخه في علم الكتاب ، قيل كان قيناً رومياً، وقيل كان أعجمياً عاملاُ في المجتمع المكي هو من الموالي واختلف في أصله ، هل هو من الروم أو هو من العجم ، وعلى كلا الحالين فإن لسانه لم يكن لسانً عربيا، وإذا كان قد اكتسب من مخالطته لآهل مكة شيئاً من اللغة العربية فإن ذلك لا يعدو ان يكون من حيث المجاملات التي تدور بين الناس كإلقاء التحية واستقبالها والسؤال عن الحال والرد على السائل، فلسانه كان لسانًا أعجمياً كما أخبر الله سبحانه وتعالى ، واختلف في اسمه فقيل: كان اسمه رحمن، وقيل: اسمه جبير، وقيل غير ذلك، فأنى يمكن لهذا البشر الأعجمي ان يلقن النبي صلى الله عليه وسلم هذة المعلومات بالدقة ، ويعلم إياه بالتفصيل حتى يؤديها عليه أفضل الصلاة والسلام بهذا اللسان العربي المبين، بهذه البلاغة التي أخرست ألسنه البلغاء، واسكتت اصواتهم فلم يستطيع أحد ان  يأتي بمثلها.

 

*الحقد والتشكيك:

وكما ادعى اولئك الكفار الحاقدون بأن هذا الذي يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم من انباء الامم واخبار النبوات هو من تعليم بشر ، وهذا البشر كما قالوا هو ذلك القين او ذلك العامل الاعجمي الذي كان في المجتمع المكي ، فإن أخلاف اولئك من الحاقدين على هذا الدين، الذين كادت قلوبهم تزيد حقداً وكراهية على هذه الدعوة وانتشارها ، رددوا أيضاً مثل هذه المقالة، فنجد من المستشرقين من يزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى ما في القرآن من أخبار وعلوم وغيرها من نسطورا راهب النصارى الذي التقى- كما يقال-بالرسول صلى الله عليه وسلم قي رحلته الثانية الى الشام عندما كان عمره خمسة وعشرين عاماً ، أومن بحيرى الراهب الذي التقى به الرسول صلى الله عليه وسلم وعمره تسعة اعوام او اثنا عشر عاما،

 

وقد ركزّ هذا المستشرق اكثر ما يكون على بحيري زاعماً أنه هو الاستاذ الذي تلقى منه النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلوم ، لقد أراد هذا  المستشرق أن يجعل من هذه القصة ، قصة التقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالراهب، ولا ندري في صحتها من عدم صحتها ، فإن في ذلك أقوالاً للعلماء الخبراء بالروايات، حاول ان يجعل من هذه القصة سلماً ليصل به الى غرضه وهو التشكيك في هذا القرآن وما أنزله الله على النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن هذا السّلم وقع به ، فإن بالقرآن من الإجابة على سؤال الناس ما لم يكن معهوداً في وقت بحيري ولا في وقت نسطورا، وفيه من الإخبار عن المغيبات المستقبلة التي لم تكن في ذلك الوقت تدور بخلد أحد من الناس ، فوقعت كما أخبر بها القرآن الكريم وأنى لنسطورا أن  يحيط علماً بهذه المغيبّات! أن يحيط علماً بالملابسات التي ستلابس هذه الدعوة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو اليها ما بين العرب الاميين؟!

 

وما كان أولئك العرب يواجهون به هذه الدعوة من أنواع التحديات ، أنى لبحيري اونسطورا ان يلقّن النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفتح وما فيها من البشائر بالفتح المبين، وما فيها من الإخبار بأنه عليه أفضل الصلاة والسلام سيدخل مع أصحابه البلد الحرام،  أو نسطورا أن يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاجابة التي سيوجهها عليه أفضل الصلاة والسلام الى المنافقين والذين في قلوبهم مرض الذين سروا سروراً عظيماً بذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمينن الى مكة المكرمة لأجل عمرة الحديبية ، بسبب ما كانوا يتوقعون من إبادة قريش لهذه المجموعة الاسلامية عن بكرة أبيها.

 

 هذه الملابسات كلها لا يمكن لأحد أن يحيط بها ، وهل يمكن لبحيري أو نسطورا أن يتنبأ أحدهما بما سيجري للرسول صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؟ مع ان النفاق في ذلك الوقت لم يكن أحد يحسب له حساباً، إذ كان نتيجة ظروف كانت في المدينة المنورة، ولم تكن حتى في مكة المكرمة عندما بدا النبي صلى الله عليه وسلم يعلن دعوته بين الناس ، وهل يمكن لبحيري او نسطورا في ذلك الوقت أن يتحدث عن قصة انهزام بني الأصفر أمام الزحف الساساني، ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم المنتصر عليهم سينقلبون الى منتصر بعد سنين مع أن هذه الحادثة ربما حدثت ، وكل واحد من الراهبين رميم في التراب؟ بهذا كله يتبين أن هذه التكأة التي حاول ان يتكى عليها هذا المستشرق الذي حاول ان يشكك في كتاب الله سبحانه وتعالى ما لبثت أن سقطت به .

 

 ومثل هذا الكلام ما وجدته في بعض الكتب الأمريكية نقلاً عن بعض خبراء الروم الذين درسوا هذا القرآن دراسة فحص وتمحيص ، فكانت النتيجة التي توصلوا اليها حسب ما يزعمون بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال وليد فكرة واحدة ونتيجة دراسة من شخص واحد .

 

 وانما قالوا بان هناك مجموعة من الناس لفت بالكرة الأرضية ودرست اوضاع البشر النفسية والاجتماعية ، ودرست طبيعة الكون ، ثم جمعت هذه الحصيلة وبعد تجميعها لفقّت هذا الذي يسمى بالقرآن، وخرج به محمد صلى الله عليه وسلم على الناس مدعيا ان ذلك وحياً اوحاه الله تعالى إليه، هذا من العجيب ، ولا يصدر مثل  هذا الكلام الا عن جهله لا يحيطون علماً بوضع العرب في ذلك الوقت الذي نزل فيه القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، العرب في ذلك الوقت كانوا متقوقعين في جزيرة العرب لا يشتغلون بما يدور حولهم من الأحداث ولا يعرفون ما عند غيرهم من وسائل التعمير والتدمير ، فانى لهم ان يلفوا بالكرة الأرضية وهم ما كانوا يتصورون أن الارض كرة، ويجمعوا هذه المعلومات ويدرسوا طبيعة الكون ويدرسوا اوضاع البشر النفسية والاجتماعية ويرجعوا بهذه الحصيلة! ويقدموها لرجل يزعم أمام الناس أنه رسول من عند سبحانه وتعالى.

 

 العرب كانوا مع مطالعتهم لأطراف الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية ما كانوا يحيطون علماً بما يدور في هاتين الإمبراطوريتين وما عليه الناس هناك، حتى انهم تعجبوا عندما اشار سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحفر خندقاً عند المدينة، لأجل صد غارة الأحزاب على المدينة، تعجب كل من الطرفين العرب والمشركون، ما كانوا يدركون ان هناك وسيلة للدفاع امثال هذه الوسائل ، والمسلمون ايضا ما كانوا يعرفون ذلك لولا ان الله سبحانه وتعالى هيئ سلمان الفارسي الذي جاء من بلاد فارس وعرف هناك وسائل الدفاع ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة ويقترح عليهم ان يتخذوها.

 

 كذلك كتب احد مستشرقي النصارى في كتاب له ان هذا الاخبار، اخبار النبوات انما استفادها النبي صلى الله عليه وسلم من خلال مجالسته لليهود في المدينة المنورة بعدما هاجر الى المدينة وانه صلى الله عليه وسلم عندما كان بمكة لم يكن يحيط شيئاً بهذه الأخبار وهذه حجة داحضة ومقـولة مفتضحة ، فان القرآن الذي نزل بمكة يشتمل على اخبار النبوات اكثر من القرآن الذي نزل بالمدينة ، فالسور المكية السور الحافلة باخبار النبوات واخبار الامم السابقين كما تجدون ذلك في سورة الاعراف وهى سورة مكية، وسورة ابراهيم ، وسورة يونس ، وسورة يوسف وسورة الاسراء ، وسورة مريم ، وسورة طه ، وسورة النمل ، وغيرها من السور الكثيرة التي تشتمل على هذا الأخبار ، وعندما كانت هذه الاخبار تعرض فى السور المدنية فانها تأتي عَرَضاً فقط لا تفصيلا لأجل قصد اقامة الحجة على أهل الكتاب الذين كانوا على، علم بهذه الأخبار اخبار النبوات بينما في السور المكية يفصل تفصيلا هذه الأخبار عن الامم الماضية وعن النبوات.

نصر يوافق نصراً:

جاءت في كتاب الله سبحانه وتعالى معجزة واضحة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط علماً بهذه الأخبار قبل ان يوحيها الله اليه ، والمجتمع الذي كان يعيش فيه صلى الله عليه وسلم لم يكن على علم بها، فكان من اعسر العسير ان يكون في مثل ذلك المجتمع ان يطلع على هذه الأخبار من غير ان يوحي الله سبحانه وتعالى اليه بها .

 

 وقد جاءت هذه الأخبار في كتاب الله عزوجل لأجل حكمة بالغة؛ لأن القرآن الكريم كتاب دعوة، وفي اطار هذه الدعوة تلقى الأخبار التي يقصها والاحكام التي يشرعها والوعد الذي يعد به ، والوعيد الذي يتوعد به الى ما وراء ذلك من انواع الاغراض التي تأتي في كتاب الله ، قد كان سبحانه وتعالى يثبت بهذه الأخبار ، يثبت قلب عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين معه (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)(هود: من الآية120) والأخبار الغيبية المعاصرة هى اخبار كثيرة جاءت في كتاب الله.

 

 من بينها ذلك النبأ الذي لا يملك العقل امامة الا ان يقف خاشعاً لعظم النبأ الذي انبأ به القرآن قبل وقوعه في وقت ما كان احد يتخيل وقوعه ، فاذا بهذا الخبر يتحول الى حقيقة يشاهدها كل أحد ويعايشها كل من عاصرها ، اخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة من بعثته عليه افضل الصلاة والسلام بأن الروم هزموا أمام الجيش الساساني الفارسي، وان هذه الهزيمة ستنقلب الى انتصار في بضع سنين، لا يستطيع أحد أن يتصور عظيم المعجزة في هذا الخبر الا بعد ان يحيط علماً بأخبار الدولتين الكبريين اللتين كانتا تتقاتلان في ذلك الوقت ، فان هذا الأمر لا يمكن ان يصدر الا ممن يعلم والسر وأخفى ، الذي تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، الذي يولج في النهار ويولج النهار في الليل ، ويحول المهزوم الى منتصر ، ويحول الغالب الى مغلوب ، اما الانسان الذي حجب الله سبحانه وتعالى الأخبار الغيبية والحقائق الغيبية لا يمكن ان يخبر بمثل هذا ابداً.

 

 كانت الدولتان الكبريان في ذلك الوقت تتقاسمان العالم المتحضر، فكانت كل دولة من هاتين الدولتين آخذة بجانب كبير من السيطرة على هذه الأرض ، فالدولة الرومية وهى -كما يقول عنها الغربيون- دولة الرومان يسمى العرب هؤلاء الرومان بالروم ، هذه الدولة كانت تحكم في ذلك الوقت بلاد البلقان واليونان والشام ومصر وشمال افريقيا، وكانت دولة الفرس -كما يقول بعض المحققين في التاريخ في ذلك الوقت- هى اقوى من دولة الروم ، كانت هى الامبراطورية الأولى في العالم بسبب انقسام الدولة الرومانية الكبرى الى شرقية وغربية ، وان كانت الدولة البيزنطية الشرقية كانت اكبر وأقوى وهى التي تبسط نفوذها على جزء كبير من العالم المتمدن , وكانت الدولة الفارسية تحكم إيران والعراق واليمن وجانباً كبيراً من الهند ويمتد نفوذها في الشمال الى سيبيريا وفي الشرق الى حدود الصين .

 

 وفي عام590 للميلاد أي عندما كان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم18 عاماً على التحقيق، خلافاً لما يقوله الكثيرون من أن عمره صلى الله عليه وسلم كان آنذاك عشرين عامًا ، في ذلك العام ، اعتلى عرش الإمبراطورية الفارسية الإمبراطور خسرت الإمبراطور الفارسى القوي القاهر الذي كان يمجد فى اوساط شعبه تمجيداً يصل الى حد العبادة، حتى انهم كانوا يرددون نشيداً في مدحه فكانوا يقولون فيه:

في الآلهة انسان غير فانٍ ** في الناس اله ليس له ثانِ

تعالى اسمه وارتفع مجده **يطلع مع الشمس بضيائه

وينير الليالى المظلمة بنوره

 

وعندما توج هذا الإمبراطور بنى قصرا جديدا ونقل الميزانية الاحتياطية من قصره القديم الى قصره الجديد، وكانت اربعة ملايين وستمائة مليون من الدنانير (4،600,000) فضلاً عن الفضة وفضلاً عن المجوهرات، مع ان العملة التي كانت تتداول في الإمبراطورية الفارسية هى الدراهم الفضية لا الدنانير الذهبية ، ولم تمض الا فترة قصيرة حتى كانت الميزانية الاحتياطية عنده ثمائمائة مليون وثمانية ملايين من الدنانير الفضية، فضلاً عن بقية الممتلكـات.

 

 و شاء الله سبحانه وتعالى ان تولد في نفس بعض قادة جيش هذا الإمبراطور كراهية له، وكان في مقدمه هؤلاء (بهرام) فاذا به يطيح بهذا الإمبراطور، فيولي الإمبراطور هارباً نحو الغرب ويلقى بنفسه في يد ماركوس إمبراطور الروم آنذاك ، والإمبراطور الروماني امده بالجنود الجرارة لأجل القضاء على الثورة داخل إمبراطوريته، فقضى على الثورة وتمكن من الرجوع الى عرش مملكته والسيطرة على إمبراطوريته، مد سيطرته على اطراف إمبراطوريته وهدأت الأوضاع، وشاء الله سبحانه وتعالى في مقابل ذلك بعد فترة من الوقت ان يثور فوكس (احد قاده الجيش الرومي) على الأمبراطور الروماني ويقضى عليه قتلاً، واذا بهذا ( الفوكس) بتبوأ عرش الإمبراطورية الرومانية.

 

 وهنا ثارت تائرة الإمبراطور الفارسي؛ لأن فوكس فض ولي نعمته الذي رده الى مملكته فرأى من الواجب عليه ان يثأر لولي نعمته، وأن يحاول القضاء على سيطرة ( فوكس ) فاصطدم القتال ما بينه وبين جيش بنى الأصفر الروم ، وجيش بني ساسان الفرس , وأخذ الجيش الفارسي يكتسح الجيش الروماني، فوقع في نفوس كثير من بطارقته الروم بأن الروم ما كانوا يملكون الحماس للدفاع عن شرفهم؛ لأنهم تحت قيادة من لا يرضون قيادته وهو حسب ما يرون رجل نذل ، جاء واغتصب العرش من غير استحقاق له، فرأوا ان يدعوا ( هرقل) وهو شاب ناشئ وكان والده الحاكم الروماني في الشمال الافريقي ، وقد نشأ في قرطاجنه, أراد ان يدعوه ليقضى على ( فوكس ) ويتبوأ عرش الإمبراطورية حتى يصد هذا التيار الفارسي الكاسح , وفي سنة (610م) ستمائة وعشر للميلاد، جيء بهرقل وقضى على فوكس، وتبوأ عرش الإمبراطورية.

 

 ولكن الجيش الساساني لم يتقهقر، فقد ضاق وخسر لذة الانتصار، وراى أن يوالي توجيه الضربات الى الإمبراطورية الرومانية حتى يقضى عليها ، ويضم اطرافها الى إمبراطوريته فيتوسع ملكه ، خّيب هرقل أمل الروم، فاذا به يميل الى الدعة والجواري والسكر , ويترك المهمة الملقاة على عاتقه، واخذ الجيش الساساني يكتسح هذه المملكة الرومانية ممكلة تلو مملكه او قطر تلو قطر ، حتى وصلوا اعتاب العاصمة ، بل طوق العاصمة القسطنطينية من كل ناحية، وفي سنة 616م أي في السنة الخامسة من بعثته صلى الله عليه وسلم ما بقي من الإمبراطورية الرومانية الاّ العاصمة وحدها، وبقى إمبراطورها محصورأ في هذه العاصمة.  

 

ولم يستطع الجيش الفارسي أن يضم هذا العاصمة لحصانتها بالجبال ، ولأجل حصانتها بالأسوار، وبقي ضارباً عليه طوقاً من الحصار ، في هذا الوقت وصلت الأخبار الى مشركي قريش لما وصل اليه الروم من الضعف ، وما وصل اليه الفرس من القوة ، فشمتوا بالمسلمين من حيث أن الروم نصاري ، يجمعهم بالمسلمين جميعاً يؤمنون برسالة سماوية بخلاف الفرس ، فاشتد الامر على المسلمين من هذة الشماته التي كانت من قبل كفار قريش، فأنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ )(الروم: 1-4) وبما أن ايمان المسلمين بربهم سبحانه وتعالى ووعده ايمان جازم لا يحرم حوله شك، ردوا على قريش بأن الروم المهزومين سوف ينتصرون في بضع سنين ، رأت قريش ذلك امراً مستحيلا اذ من يمكن ان يتصور من البشر بأن المهزوم المغلوب سيتحول فجأه الى غالب منتصر فاتح .

 

 فلو تحدث احد مثلاً عند انهزام هنري ومن معه على جيش الأحلاف ، بأن هؤلاء المهزومين سوف ينقلبون الى منتصرين وسيهزمون عدوهم لعد عابثاً، لا يمكن لأحد أن يتنبأ.. مهزوم سينقلب الى منتصر ، فان الانتصار قد يكون مفتاحاً لباب انتصار متوال ، بحيث تتوالى الانتصارات وكثيراً ما يقع ذلك ،  ونحن في العصر الحاضر وجدنا اصحاب الخبرات في الأمور العسكرية والشئون الدولية والأوضاع البشرية، يتحدثون فينقلب الأمر الى ضده .

 

 عندما كان شاه إيران يعاني من المعارضة في إيران، أدلى كارتر بتصريح ، مع أن كارتر درس الأحوال الدولية وأوضاع البشر ، وعرف ما عند الشاه الايراني من القوة،  ادلى بتصريح يقول فيه: " بأن المؤشرات تدل على أن الشاه سينتصر على المعارضة", ولكن لم يمض الا شهر على تصريحه هذا حتى خرج الشاه من ايران بنفسه، حاملاً معه صندوقاً من تراب ايران ليأنس به في غربته ، فكيف يمكن لبشر ما خرج الى هاتين الإمبراطوريتين ليقيس مدى قوة كل واحدة منهما ، وما درس أوضاع الجيشين وما وصل في اطراف هاتين الدولتين الا الى بصرى وهى في اطراف الروم ، وصلها مرتين كما قلت من قبل، احدى المرتين كان عمره يتراوح ما بين تسع سنوات واثنتا عشر سنة والمرة الثانية كان عمره خمسة وعشرين عاماً .

 

 كيف يستطيع وهو في عمر الخامسة والأربعون ان يجزم بأن هؤلاء المهزومين سينقلبون الى منتصرين ، وأن المنتصرين سينقلبون الى مغلوبين !!!  ولكن خبر من لا تخفى عليه خافية في الارض ولا في السماء ، وبسبب ايقان المسلمين بوعد الله سبحانه وتعالى راهن ابو بكر الصديق رضى الله عنه - قبل أن يحرم الرهان في الإسلام- احد المشركين على هذا الخبر الإلهي، وكان مبدأ امرهما انهما تراهنا على اربع  قلائص الى مده سبع سنوات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابا بكر رضى الله عنه ـ أن يمدد الفترة الى تسع سنوات ، ويزيد على ذلك قلوصين .

 

 وشاء الله سبحانه وتعالى ، ان تتحول نفسيه هرقل الإمبراطور الروماني لمجرد  نزول هذة الآيات الكريمة، فبمجرد ما نزل قول الله سبحانه وتعالى (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِين) تحولت نفسية هرقل عن ذلك الوضع الذي كان عليه، وفكر جدياً في الأمر وانقلب من حالة الكسل والدعه واللهو الى الجد والنشاط والدأب على العمل ، وكان اول ما عمله أنه طلب التفاوض مع خصمه الإمبراطور الفارسي ، وقال له في تفاوضه هذا: بأنك طوقتني ولم تبق لي باقيه فحطم هذا الطوق طوق الحصار الذي ضربته عليّ ، قال له : لن أفعل ذلك الا اذا اعطيتني ما أريد ، قال له : وماذا تريد ؟ قال له : اريد كذا وكذا ، اشترط عليه مالا يطبقه من الأموال ، اشترط عليه امراً هائلاً من المجوهرات وشيئاً هائلا من الفضة ، وعدد كبيراً من الغلمان وعدداً من الجواري، قال له: كيف لى ان آتيك بما تريد وانت ضربت على هذا الطوق من الحصار، فّرج عني واتركني اخرج من هذا الحصار لأجمع لك ماتريد، قال له : كم تريد من المدة ؟ قال : ثلاث سنوات قال : اذن بيني وبينك ثلاث سنوات، وأنا اتربص هنا فإن جئتني بما اشترطه عليك فذاك والا فإنني اجدد الحصار من جديد.

 

 خرج هرقل الى اطراف مملكته المثخنة بالجراح ، وأخذ يلملم من رعاياه المنكوبين شتاتهم، وجمع منهم جيشاً لم يأتِ به الى القسطنطينية ليقاوم به خسرت ، ولكن ذهب به رأساً الى المدائن ودخل به المدائن قلب العاصمة الفارسية ، واكتسح القوه الفارسية في المدائن ، وغرز اعلام النصر على قصور المدائن ، واخذ ابن كسرى وحلق رأسه، وكانت هذه تعتبر اهانه ما بعدها اهانه، فهنا اشتد غيض كسرى وشدد الحصار على القسطنطينية، ولكنه لم يستطع أن يدخلها لأنها كانت حصينة ، وانهار جيشه نفسياً ، بسبب هذه الهزيمة الذي لحقته من جراء دخول هرقل أرض المدائن .

 

 وعندما جاء هرقل عائداً الى مملكته .. الى إمبراطوريته ، عندما عاد عائداً ولى خسرت هارباً ولاذ بالجبال لئلا يقضي هرقل عليه، ثم ذهب بعد ذلك الى من يتوسط بينه وبين هرقل ، حتى يتم الصلح بينهم من الجانبين على أن يعود كل جانب الى حدوده الدولية المعروفة من قبل، ودخل هرقل بلاد القسطنطينية عام 625 للميلاد دخول القائد المظفر المنتصر وصادف ذلك العام عام 625م، السنة الثانية للهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الانتصار الكاسح الذي انتصره الروم على الفرس مواكبا للانتصار الذي انتصره المسلمون على المشركين في غزوة بدر الكبرى.

 

 وكان قول الله سبحانه وتعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ )(الروم: 4-5) مشيرا الى النصرين نصرة المسلمين اولاً على أعدائهم المشركين ونصرة الروم الكتابيين على الفرس الوثنيين ، هذا من اعجاز كتاب الله سبحانه الذي لا تأيتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، اما ان يتصور احد من تلقاء نفسه بأن المهزوم سينقلب الى منتصر فذلك امر بعيد عن العقول، اللهم الا اذا كان احد يهذي بما لا يمكن ان يتقبله احد وأن يستسيغــه فهم .

 

* من أسرار الغيب في سورة الفتح:

وعلى أي حال فإن الله سبحانه وتعالى قد اخبر في كتابه العزيز باخبار كثيرة ، فجاءت طبق ما اخبر بها من اخبار معاصرة في كتاب الله عز وجل في محكم كتابه عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) (الفتح:1-3).

 

هذة السورة بما فيها من الغيوب بما فيها من العجائب ، بما فيها من البشائر، نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في ظرف من احرج الظروف واحلكها وأدقها ، وكان المسلمون يعانون من آثار ما يرون انه مصيبة عليهم ، امراً عجبا عندما نزلت هذه السورة الكريمة بهذه البشائر ، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى في منامه-ورؤيا الأنبياء حق لأن الشيطان لا يتمثل لهم-رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه انه خرج مع اصحابه الى مكة معتمراً وطاف بالبيت العتيق مع اصحابه ، تم تحللوا من عمرتهم ، فمنهم من تحلل بالحلق ومنهم من تحلل بالتقصير ، فأخبر اصحابه رضى الله تعالى عنهم بهذه البشارة العظيمة ، وكانوا لرسوخ ايمانهم وقوه ايمانهم لا يترددون في تصديق رؤياه عليه افضل الصلاة والسلام؛ لأنهم موقنون انه من عند الله سبحانه وتعالى وأن الشيطان لا يمكن ان يتمثل له، فهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وهمَّ اصحابه بالعمرة ، واستعدوا لذلك فأحرموا بعمرتهم وانطلقوا متجهين الى ناحية الحرم الشريف ، وهنا انطلقت ألسنة الحاقدين الذين كان النفاق يملأ قلوبهم بالشماتة بالمسلمين، بأن هؤلاء لن يكونوا الاّ أكلة سائغة لقريش ، فإن قريشاً غزت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في عقر دارهم ، فكيف تسمح لهم بأن يطأوا ترابها , وان يقضوا وطرهم من الطواف بالبيت العتيق الذي هو في قلب مكة المكرمة التي تملأها القوى القرشية من كل جانب، فأنى لهم أن يفلتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد خرج من بين ظهرانيهم من ذلك المكان! وبعضهم آوى اولئك المهاجرين اليهم ، أنى لهم أن يفلتوا من قبضتهم بعدما تمكنوا منهم ؟!

 

 وكانت لواعج الشوق تدفع بالمسلمين دفعاً الى بيت الله العتيق لما وقر في نفوسهم  من تعظيم البيت، ومن حب أداء الشعائر المقدسة من حوله ، وما كاد المسلمون يستنشقون عرق تربة الحرم الشريف حتى وقفت قريش امامهم بقضها وقضيها وعدها وعديدها وصدتهم بكل وسيلة عن بيت الله الحرام، وبركت ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم القصواء، وكانت كما امر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها حبسها حابس الفيل ، فما كان لها ذلك بخلق ، ولكنه امر الله سبحانه وتعالى نافذ، واعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشا لن تطلب منه خطة الا وسيسمع لها من أجل المهادنة والصلح. 

 

وهنا اشتد الأمر على المسلمين الذين ليس بينهم وبين حرم الله تعالى الاّ خطوات , وليس بينهم وبين بيت الله العتيق الاّ بضعة أميال ، اشتد الأمر عليهم ورأوا أن تلك إهانة ما بعدها إهانة ، وحرصوا أن يدفعوا ضريبة الدم حتى يتمكنوا من عمرتهم ، وصلوا الى مرادهم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد صلح ، ظاهره فيه الانتصار لقريش على المسلمين والغضاضة على المسلمين ، وباطنه ـ ما علم الله سبحانه وتعالى من نصره للحق وظهور كلمته وعلو عباده الذين قاموا بواجب الدعوة اليه، وخالطت بشاشة الايمان قلوبهم، وكان من بنود هذا الصلح ان كل لاجئ الى المسلمين من قبل قريش ليس لهم ان يُلجِئُوه.

 

 وكل من يفر من المسلمين الى ناحية قريش فلهم حق إلجائه ، وعندما امر النبي صلى الله عليه وسلم  اصحابه بأن يتحللوا بالحلق أو التقصير ، شق ذلك عليهم ، ومع مسارعتهم في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ترددوا في هذا الأمر ، ولم يحلق احد منهم ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على ام المؤمنين ـ زوجة أم سلمة- رضى الله تعالى عنها مغموماً لما لقي، فأشارت عليه بأن يخرج لأصحابه ويحلق رأسه امامهم حتى يقتدوا به ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم اول من تحلل من عمرته تلك وحلق رأسه امام المسلمين ، فأقبل المسلمون يتحللون من عمرتهم ، وكاد بعضهم يقتل بعضاً من الغم الذي في  نفوسهم .

 

 ثم انزل الله سبحانه وتعالى هذه البشارة على الرسول صلى الله عليه وسلم(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) فجاء احد المسلمين فقال له : اهو فتح يا رسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم فتح واي فتح" الله سبحانه وتعالى يخبر عنه انه فتح مبين ، فكيف لا يكون فتحاً ، وقد جاء في هذه السورة الكريمة الإخبار عما سيُحدِّث عنه اولئك  الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين ، وهم من الاعراب من اسلم غفار الذين كانوا حول المدينة المنورة، كما جاء في هذه السورة ايضا عما كانت تحدث به نفوسهم ، فقد قال سبحانه وتعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )(الفتح: من الآية11) إلى أن قال الله سبحانه وتعالى: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(الفتح: من الآية12)، فقد وقع في نفوسهم ان المسلمين لن يعودوا الى اهلهم ابدا ، انهم سيكونون طعمه لقريش ، ولكن الامر كان على عكس ذلك.

 

 ثم اخبر الله سبحانه وتعالى ايضاً في هذه السورة أن المسلمين عندما ينطلقون بعد وقت قريب ، عندما ينطلقون الى فتح بلاد اخرى كثيرة ، سيحاول اولئك الذين تخلفوا عنهم ان يلحقوا بهم لأجل كسب المغانم والنيل من هذه الخيرات، قال الله تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ )(الفتح: من الآية15) وقد وقع  ذلك كما اخبر الله سبحانه وتعالى.

 

 ثم اخبر الله سبحانه وتعالى ايضا في هذه السورة بأن اولئك الذين تخلفوا سيواجهون معركة شديدة مع قوم أولوا بأس شديد وهذا وقع بعد حين، فالله تعالى قال: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)(الفتح: من الآية16) فقد وقعت معركة حامية الوطيس بين المسلمين واعدائهم المرتدين من بني حنيفة وغيرهم في عهد الى بكر الصديق رضى الله عنه، وبشر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه السورة الكريمة بشائر الانتصار ونيل المغانم الكثيرة عما قريب يقول الله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)(الفتح:18-20)، وفعلاً حصل فتح عظيم، وحصلت مغانم كثيرة للمسلمين عما قريب بعد ما نزلت السورة الكريمة بفترة قصيرة، اذ لم يمضِ بين الوقت إلاّ شهران فقط حتى فتح المسلمون خيبر، وكانت لهم مغانم كثيرة.

 

مزيد من مفاتح الغيب :

     ثم أخذ المد الإسلامي ينتشر في جزيرة العرب ، في شمالها وجنوبها ، وفي شرقها وغربها، ووصلت الدعوة الإسلامية الى اقصى جزيرة العرب، ودخل الناس في دين الدين الله افواجاً في تلك الفترة بعدما عقد صلح الحديبية.

 

 فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعوثه في ذلك الوقت الى اطراف جزيرة العرب، وبعث بعوثه ايضا في ذلك الوقت الى ملوك الارض، فكتب الى هرقل الإمبراطور الروماني ، وكتب الى خسرت الإمبراطور الفارسي ، وكتب الى نجاشي الحبشة ، وكتب الى حاكم مصر في ذلك الوقت ، ذلك كله كان في خلال هذه الفترة، فطرق صوت الاسلام والدعوة اليه مسامع أباطرة الأرض ، وقد هز هذا  الصوت كيان الإمبراطور الروماني المنتصر، ذلك الإمبراطور المنتصر الذي كان في أوج ظهوره في ذلك الوقت، وكان قد خرج من عاصمة بلاده القسطنطينية الى الشام ليفى بنذره، فانه قد نذر ان يعيد الصليب المقدس الى بيت المقدس ، وذهب الى الشام في سنة 629 للميلاد، وخرج من حمص الى بيت المقدس ماشياً على الاقدام حاملا الصليب المقدس بيديه، وكانت الفرس تفرش له في الطرق ونتثر عليه الرياحين طول الطريق.

 

 وعندما استقر بعد هذا النصر المظفر المؤزر، اصبح في يوم من الايام مصابا بهمٍّ عظيم، فسألته بطارقته عما أهمَّه حتى صار حزينا مع هذا النصر الذي يدعو الى الفرحة والاستبشار، فأجابهم: انى رأيت مَلِك الخِتَان قد ظهر، فردوا عليه، يا أيها الإمبراطور لا يختتن في ممالكك إلا اليهود، ولا يهولنك أمرهم فابعث كل يهودي يقتل ، بينما هو كذلك اذ أقبل عليهم رسول النبي صلى الله عليه وسلم دحية الكليبي الذي حمل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم الى إمبراطور الروم، وهنا ضاق ذرعاً بهذا الأمر الذي نزل به خصوصاً عندما علم بأن دحية مختتن.

 

 وطلب قوماً من رهط النبي صلى الله عليه وسلم ليسألهم عن امره، فوجد ابا سفيان ومن معه في غزة وحملوا اليه، لما مثلوا بين يديه اخذ يسأل أبا سفيان اسئله، ويرد عليها، ثم قال لهم بعد ذلك: لقد كنت اعلم انه خارج، ولكن لم اكن اعلم انه فيكم، ولئن كنت صادقاً فيما تقول ليدركن موضع قدمىّ هاتين، ولو كنت اعلم انى اخلص اليه لتجشمت اليه حتى اغسل عن قديمه، ذلك من الفتح الذي يشير اليه القرآن الكريم (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

 

كيف لهذا الصوت الذي ينطلق من المدينة المنورة .. ينطلق الى عرش هرقل إمبراطور الروم، فيهتز هذا العرش من هذا الصوت، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يفتح مكة مسقط رأسه، وهكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يحقق لرسول صلى الله عليه وسلم ما وعده به من الفتح (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً).

 

 ولم يمضِ عام الا وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم بمن معه من المؤمنين الى عمرة الحديبية، ما كان عددهم يتجاوز الفاً وخمسمائة، وعندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة بعد سنتين كان عد جيشه عشرة آلاف مقاتل.

 

 وقد وعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين كانوا يتشوقون الى الطواف بالبيت الحرام والى استنشاق عبير الحرم الشريف، وعدهم الله سبحانه وتعالى أن يحقق لهم هذه الأمنية فقال في هذه السورة: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) الرؤيا التي رأها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما اخبرهم انه دخل مكة المكرمة هو وأصحابه في عام معين، حتى انهم عندما سألوه: الست بشرتنا بذلك؟ قال لهم : "بلى؛ ولكني ما اخبرتكم بأننا  سندخلها في هذه السنة" (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)(الفتح:27).

 

 ما مضى الا عام واحد حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الذين خرجوا معه الى عمرة الحديبية، دخلوا جميعاً مكة المكرمة معتمرين العمرة المشهورة في السيرة النبوية بعمرة القضية، وذلك في ذي العقدة للسنة السابعة للهجرة، وكانت عمرة الحديبية في نفس الشهر سنة ست للهجرة، فتم وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، دخلوا مكة المكرمة معتمرين، وطافوا بالبيت العتيق، وحلقوا رؤوسهم، ومنهم من قصَّر، وما كانوا يخافوا شيئاً، وقد أخلت قريش مكة للرسول صلى الله عليه وسلم لمدة ثلاثة أيام.

 

هذه هى بشائر هذه السورة التي لا يمكن أن يكتنفها فكر وعقل بشر، ولا يمكن أن تكون وليدة تفكير إنسان ، وانما هى مجرد وحى اوحاه الله سبحانه وتعالى الى عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام.

 

 وهكذا نجد في كتاب الله سبحانه وتعالى من الأخبار الكثيرة التي لم تكن فكانت، كم اخبر الله عزوجل بأخبار! من ذلك قول الله عز وجل في قصة تحويل القبلة من البيت المقدس الى البيت الحرام، قال الله سبحانه وتعالى -قبل أن يأمر المسلمين بتحولهم الى البيت الحرام-: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)(البقرة:142) حتى يوطِّن المسلمين لاستقبال هذا القول من اليهود: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)؟ ويلقنهم الجواب في قوله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وسوف نتعرض ان شاء الله في الدرس الآتي لبعض القضايا التي اخبر عنها القرآن الكريم فكانت كما أخبر .

 

 ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أوحاه بعلمه وأنزله سبحانه وتعالى بعلمه، فهو المحيط بكل شيء علماً ، وكل ما في القرآن من خبر انما هو من الحقائق التي يعلمها الله ولا تتبدل ابداً (لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)(يونس: من الآية64)، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشد، وأن يملأ قلوبنا إيماناً ويقينا، وأن ينور بصائرنا، ويطهر سرائرنا، ويهدينا الى الصراط المستقيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

الحوار والمناقشة:

سؤال1: ما حقيقة قصة هاروت وماروت؟

ج: قصة هاروت وماروت تحدثت عنها في درس مستقل في تفسير الاية الكريمة ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) (البقرة:102) وهي مدونة في الجزء الرابع من التفسير، وعند اكتمال هذا الجزء سيطبع ان شاء الله وسيظهر لكم، وارجو أن اكون بتوفيق الله مصيباً فيما قلته في قصة هاروت وماروت.

 

سؤال2: كيف بلغت الاية الكريمة ( الم*غلبت الروم 000) الى مسامع هرقل؟

ج: انا ما قلت بأن الآية الكريمة بلغت الى مسامع هرقل، وانما قلت: ان نزول هذه الآية الكريمة كان مؤذنا للانتصار، وشاء الله سبحانه وتعالى لا بسبب انه قرأ هذه الاية الكريمة، تحولت نفسيته عما كانت عليه بمشيئة الله سبحانه تحقيقاً لهذا الوعد، واذا اراد الله امراً هيَّأ له الأسباب، وقد اراد الله أن ينجز هذا الوعد، فهيأ له الأسباب، تحول هرقل عما كان عليه، حتى أن المؤرخ الانجليزي الذي أرَّخ لسقوط الدولة الرومية، وهو ( جبون ) الكاتب الانجليزي ذكر وضع هرقل الذي كان عليه، وقال ما معناه: بأنه كما يتلاشي الضباب أمام أشعة الشمس المحرقة كانت تتلاشي تلك الأحول التي كانت تلابس نفسية ذلك الإمبراطور الوادع الماجن؛ الذي يقف على أقدام (اركاديوس) أحد اباطرة الروم الذين كانوا مترفين ، يعنى كان كذلك الإمبراطور الذي كان في معنى الترف حتى صار فاتحاً يحكي في فتوحه احد الاباطرة الذي كان لهم دور في  الفتوح، يعنى تحولت حالته عما كانت عليه، وذلك امر لم يكن يدور بخلد أحد من الناس، وانما شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك سببا للانتصار الذي انتصره الروم على الفرس.

 

سؤال3: الا يمكن ان يُتنبأ الآن بنصر المسلمين في فلسطين على اعداء الله؟

ج: في الواقع قبل كل شىء نريد ان نفرق بين خبر الله سبحانه وخبر البشر، فالله سبحانه وتعالى عندما يخبر بخبر، يخبر عنه بطريقة جازمة، وقد يكون هذا الاخبار بطريقة محددة، فالله اخبر في كتابه بأن الروم سينتصرون على الفرس في بضع سنين، والبضع عند العرب بين الثلاثة والعشرة ، من منا يستطيع أن يقول الآن أننا  سنفتح فلسطين، وسيدخلها المسلمون ويتنصرون على اعداء الله في ظرف سنة او سنين او ثلاث او اربع او عشرين او ثلاثين او اربعين، منذ وطئ اعداء الله اليهود ارض فلسطين لازال العرب يرددون: عائدون! ولكن هل عادوا؟! انما تقطع أرضهم قطعة بعد أخرى, ونحن موقنون لا بِتنبُؤٍ من قبل أنفسنا، ولكن موقنون بأننا اذا استمسكنا بالعروة الوثقى، اذا تمسكنا بالاسلام فالله سبحانه وتعالى سينصرنا على القوم الكافرين، على اليهود، على الشيوعيين وعلى غيرهم في أي مكان، الله سبحانه وتعالى سينصرنا ، ولكن اذا صدقنا الله ، فان الله سبحانه وتعالى يصدقنا على كل حال، اما ونحن ندعي الاسلام فقط ونتمسك منه بالقشور، ولكن لا يلامس الإيمان شغاف نفوسنا فذلك من أبعد البعيد، ونسأل الله سبحانه وتعالى العافية.

 

الله سبحانه وتعالى وعد عبادة المؤمنين بالنصر (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47)، فإيجاد الايمان الحق هو الحق الواجب حتى نكون حقيقين بالنصر من قبل الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:40-41).

 

 فالذين وعدهم الله سبحانه وتعالى بالنصر هم الذين يجمعون هذه الخصال، هم الذين ينصرون الله لا يبتغون بجهادهم الاً رضوان الله، ولا يبتغون بعملهم الا وجه الله، يتقربون الى الله سبحانه وتعالى بما يعملون، ولا يتقربون الى غيره، لا يريدون حظاًً دنيوياً، لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً, وانما يريدون ان تكون كلمه الله هى العليا، وان تكون كلمة الذين كفروا هى السفلى، وأن يُعبد الله في الأرض، أن تقام الصلاة، وتؤتى الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اما اذا كان المسلمون على عكس ذلك، اذا كانوا هم يضيعون الصلاة ويتبعون الشهوات، ويمنعون الزكاة ويأكلون الربا، و يتآمرون بالمنكر، ويتناهون عن المعروف، ويقلدون اعداء الله، فكيف ينتصرون؟! وفي الحديث القدسي: "اذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني"، انما النصر مرهون بنصر العباد لربهم.

 

 ونصر العباد لربهم انما يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والجهاد في سبيله لإعلاء كلمته ، لا لأجل حظ دنيوي ولا لأجل غرض من اغراض الدنيا.

 

 والمسلمون الذين انتصروا في الرعيل الأول في العصر السابق , بماذا انتصروا ؟ انتصروا بصدقهم لله سبحانه وتعالى فيما وعدوه به، فصدقهم الله عز وجل ما وعدهم، خرج المسلمون في وقت واحد لمقاومة الدولتين الكبريتين في ذلك الوقت، مقاومة الروم ، ومقاومة الفرس، وما كانوا عند مقاومتهم الروم ليسندون ظهورهم الى الفرس، ولا كانوا عند مقاومتهم الفرس يسندون ظهورهم الى الروم، في وقت واحد واجهوا هاتين الدولتين الكبريتين، وكانت الصفات التي يتحلون بها تبهر أعداءهم.

 

 فقد ذكر الطبري في تأريخه  أن هرقل هذا الإمبراطور الروماني عندما كانت جيوشه تتساقط امام الزحف الاسلامي، اجتمع مع قاده جيشه يتدارس اسباب هذه الهزائم المتلاحقة التي كانوا يمنون بها، فسألهم: ماهى حالة هؤلاء الناس الذين لقيتموهم حتى هزموكم هذه الهزائم المتلاحقة؟ فقال له احد القادة: هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربهم حتى بأتوا عليه.

 

 وقال آخر: اما الليل فرهبان، اما النهار ففرسان، يريشون السهام ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه منك بما علا من أصواتهم من القرآن والذكر، فاذا وجدت هذه الصفات في المؤمنين اليوم لانتصروا على أعدائهم.

 

 وعندما كان الجيش الفارسي ايضا ينهار امام سيوف المسلمين ويتقهقر يوماً بعد يوم، ضاق يزدجرد ذرعاً بهذا الامر فكتب الى إمبراطور الصين يستنجده على المسلمين, والإمبراطور الصيني في ذلك الوقت كان الإمبراطور المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حسب ما يقال بأن الإمبراطور المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم، ... كان من اذكى اباطرة الصين واعمقهم فكراً وادقهم نظراًٍ.

 

 كتب الإمبراطور الفارسي يزدجرد إلى إمبراطور الصين بطلب منه النجدة على هؤلاء المسلمين, وأرسل اليه رسولا حاملاً اليه هذه الرسالة، فأذن للرسول فدخل وقرأ هذه الرسالة، تم اخذ يسأله عن أشياء، وكان فيما سأله عنه: هؤلاء القوم الذين خرجوا عليكم هل هم اكثر عدداً منكم ام اقل عدداً؟ قال له: أقل عدداً. هل هم اقل منكم عدة؟ قال:  نعم اقل عدة، فال له: اخبرني عن حالهم، قال: هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، قال: اخبرني عن حالتهم فيما بينهم؟ قال له: قلوبهم كقلب رجل واحد، قال له: اخبرني عن طعامهم: قال: هم يأكلون يقدر ما يعيشون، قال: اخبرني عن لباسهم، قال: هم يلبسون يقدر ما يستترون، ويقولون: لباس التقوى خير، اخذ يسأله عن اسئله ويجيبه، ثم قال له: لم ينتصروا عليكم إلا بهذه الصفات مع قلتهم وكثرتكم.

 

 ثم كتب رسالة جوابية الى إمبراطور فارس يقول فيها: لقد وصلنى كتابك، وفهمت ما عند رسولك، ولا يمنعني  من إرسال جيش أوله بمرو وآخره بالصين إلا ان أولئك القوم الذين خرجوا عليكم لا يقاومهم شيء، فلو وقفت في طريقهم الجبال لاقتلعوها ولو أرادوني لأزالوني من مكاني هذا، فان شئت ان تسلم فاستسلم لهم.

 

 فعندما يكون المسلمون متخلقين بهذه الأخلاق، متحلين بهذه الصفات، عندما تكون شعلة الإيمان تتوقد بين جوانحهم، والغيرة على حرمات الله سبحانه وتعالى تملأ كيانهم عندها يتنصرون.

تم الدرس