طباعة
المجموعة: بأقلام القراء
الزيارات: 2363

إن الصحراء عظيمة عندما تذكر المرء بخالقه فيتوجه إليه، وهي علم شاهد على حياة الكفاح والتحمل والصبر.

 

وأحب أن أشارك بما ذكره المستكشف بودلي الأوروبي:

 

يقول بودلي:

"في عام 1918 وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي,ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية,حيث عشت بين الأعراب في الصحراء..وقضيت هناك سبعة أعوام,أتقنت خلالها لغة البدو وكنت أرتدي زيهم وآكل من طعامهم وأتخذ مظاهرهم في الحياة وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً وأنام كما ينامون في الخيام وقد تعمقت في دراسة الإسلام حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي وأحفلها بالسلام والإطمئنان والرضا بالحياة..

 

وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هيّناً..فهم لايتعجلون أمراً ولايلقون بأنفسهم في براثن الهم قلقاً على أمر..

إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له.

 

وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي, كلاّ "

ثم أردف قائلاً: " ودعني أضرب لك مثلا لما أعنيه: هبّت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط ورمت بها وادي ( الرون ) في فرنسا, وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة حتى أحسست كأن شعر رأسي يتزعزع من منابته لفرط وطأة الحر,وأحسست من فرط القيظ كأني مدفوع إلى الجنون..

ولكن العرب لم يشكون إطلاقا فقد هزوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المشهورة: (( قضاء مكتوب ))

لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير,فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء..

 

فعلوا هذا كله في صمت وهدوء دون أن تبدو من أحدهم شكوى..

قال رئيس القبيلة :لم نفقد الشيء الكبير فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء ولكن حمدا لله وشكرا فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ عملنا من جديد.

***

ثم قال بودلي:

وثمة حادثة أخرى, فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوما فانفجر أحد الإطارات وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي..وتولاني الغضب وانتابني القلق والهم وسألت صحبي من الأعراب..ماذا عسى أن نفعل؟؟

 

فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لا يجدي بل هو خليق بأن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.

 

ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس

إلا..ولكنها ما لبثت أن توقفت..فعلمت أن البنزين قد نفد.

 

وهنالك أيضا لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب ولا فارقهم هدوُّهم..بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام..

 

وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: قد اقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل أن الملتاثين ومرضى النفوس والسكريين الذين تحفل بهم أوروبا وأمريكا ماهم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساسا لها..

 

إنني لم أعانِ شيئا من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة..

 

وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاما على مغادرتي الصحراء مازلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة..

 

ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير الطبية ".

***

تعليق: مؤمن

-----------

 

في إحدى الأيام القريبة ....

 

ذهبت أنا وصديق لي إلى بلدتي الريفية الجميلة ...

تفصلنا عنها رقعة صغيرة من رمال الصحراء ...

وتلال الجبال ...

 

وفي الطريق قال لي ذلكم الصديق العزيز ...

هل ترى هذه الصحراء القاحلة الماحلة ...

فقلت له نعم ...

فقال لي :

هكذا قلوب البشر في هذا الزمان ...

 

ولبرهة ..

شعرت برجفة غريبة ودخيلة في قلبي ...

 

وحيث أني من أبناء المكان ,,,

وعشت وترعرعت فيه ...

دار بي الزمان...

ورجع بي إلى الوراء ...

 

تذكرت نفس الصحراء في مواسم الأمطار ووقت الرخاء ...

وهي مكتسية بخضرة داكنة ...

فوق رمالها الناعمة ...الوادعة ...

 

فعلا لم تكن تلكم التلال والهضاب بهذا الشح والجدب والجفاف ...

 

وعلى سبيل المثال ...

اذكر شجرة أو نبتة كنا نتسابق عليها في ذاك الموسم (السيداف) ...

رغم أنني شخصيا لا أحبها بكثرة ...

ولكن بهجة المكان وفرحة الصغار تحمسني للسباق عليها ...

 

وأتساءل الآن أين هي هذه الشجرة ...

انقرضت أو تكاد ...

كقلوب أصحابها في ذاك الأوان ...

 

وإلى الداخل قليلا ...

 

تذكرت المياه الرقراقة وهي تسيل على الحصباء ...

وكأنها اللؤلؤ والمرجان ...

كأنها لوحة فنية من فضة ندية

أبدعها المنان ...

صوت خرير الماء وكأني به الآن وهو ينساب بكل مودة وصفاء ...

انعكاس أشعة الشمس على صفحة الماء المرتجفة ...

بسبب الأقدام المندفعة وكانها عودة الحبيب الولهان ...

 

هذه لوحة فنية (كم أشتاق أن أراها ثانية) عمرها قريب العقدين من الزمان ...

ولا أخفيكم أيها الأحباب ....

ماعدنا نراها ...

ذهبت ورحلت مع قلوب أصحابها في ذاك الزمان ............

كنا نرعى الأغنام في السهول المجاورة ...

ولا شيء غير ( السمر والقصد ) وغيرها من نباتات الصحراء ...

 

وحمائم المودة ترفرف وتحلق بكل محبة وإخاء ...

 

أما الآن فطالها الإنسان ...

ومحاها العمران ...

وتغيرت الأحوال ،

ومرت السنين والأعوام...

 

نضج الصغير وشاخ الكبير ...

والأيام تجري وتجد في المسير ...

فسبحان الله القدير ...

 

*********

 

وعندما أمر على قوله تعالى ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )

 

أحس بغصة في قلبي ... ورهبة في نفسي ...

وأعيش بين أمرين ...

 

بين الطفولة البعيدة ...

والمنية القريبة ...

 

الأولى ذكريات جميلة ...

والثانية حقيقة مخيفة ...

أراها تعدوا نحوي ولا أملك أي حيلة ...

 

سوى رحمة ربي ...

 

فاللهم أسألك حسن الخاتمة ...

 

فما لنا من معين

سواك يا أرحم الراحمين ...