السؤال:

وهو: "ما هو رأي سماحة الشيخ في التفسير العلمي للقرآن؟"

وجزاكم الله عنا خيراً

الجواب:

إليكم أيتها الأخت الكريمة نقلاً كاملاً لسماحة الشيخ الخليلي حفظه الله من كتابه القيم جواهر التفسير ج1:

 

يقول تحت عنوان:

الإعجاز العلمي : القرآن يخاطب العقل في كل العصور:

 

القرآن الكريم صراط هداية وكتاب دعوة ومنهج حياة، لم ينزله الله (سبحانه) لبحث دقائق علم الطب أو الفلك أو غيرهما وإنما أنزله ليكون نورا يضيء للإنسانية طريق حياتها ،ويبصرها بما يضرها وما ينفعها غير أن الإنسان هو جزء من الموجودات في هذا الكون كله رباط وثيق لأنه في الحقيقة المحور الذي تدور عليه رحاه والكون كله صفحات مهيأة لدراسة الإنسان كل سطر من سطورها حافل بما لا يحصى عددا من آيات الله الشاهدة على وجوده الناطقة بتسبيحه وحمده، فلا يكاد اللبيب الموفق يفتح عينيه على شيء يتلوه من هذه السطور حتى يمتلئ قلبه إيمانا بمبدع الكون الذي تسبح بحمده كل ذرة في هذا الوجود وتسجد خاضعة لجلاله وكبريائه .

 

فلا يجد اللبيب الموفق مناصا من التجارب مع ذرات الكون في تسبيحها والتفاعل معها في سجودها لله وانقيادها لأمره ولا يشذ عن ذلك إلا من تكدرت فطرته وتعفنت طبيعته فأظلم عقله وحار فكره بسبب هذا كله جاء القرآن الكريم ليفتح عيني الإنسان على صفحات هذا الكون الواسع ويأخذ بيده ليطوف به في معارض هذا الوجود وكثيرا ما كان في ذلك ما يُبصر الإنسان بما لم تنفتح عليه عيناه من قبل من حقائق كونية شاء الله(سبحانه) ألا تخرج للناس من طوايا الخفاء إلا بعد أزمنة متطاولة من نزول الكتاب سواء كانت هذه الحقائق في ذات الإنسان نفسه أم في الأرض التي جعلها الله مهده ومرتعه أم في سائر الأجرام التي ترتبط بها الأرض بسنة الجاذبية أم في الفضاء السحيق الذي تسبح في خضمه الهائل هذه الأجرام دون أن يحدث أي صدام بينها أو خلل في سيرها .

 

واكتشاف الإنسان لهذه الحقائق إنما هو اكتشاف لنوع آخر من إعجاز القرآن الذي تحدث عنها قبل تصور الإنسان لها بأكثر من عشرة قرون ولكن بما أن القرآن هو خطاب الغيب الموجه إلى الدهر كله لا يتصادم في أخباره مع عقلية أي عصر من عصور هذا الدهر، فكل عصر يفهم من لغته بقدر اتساع آفاق علمه وهذا من إعجاز بيانه كما ذكرنا من قبل ولا يكاد التطور العلمي يتمخض عن حقيقة انطوى عليها سر الوجود إلا وتجد القرآن الكريم إما دالا عليها بوضوح عبارته أو موميا إليها بمجمل إشارته وقد وعد الله سبحانه بتجلية هذه الحقائق للناس لتستبين لهم حجة القرآن الذي دل عليها أو أشار إليها وليعلموا أنه من عند الله تعالى(قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ،سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِي،ألا إنهم في مريه من لقاء ربهم ألا انه بكل شيء محيط ) ( فصلت/53، 54).

 

ولعمري ما أبين دلالة هذه الآيات على ما اكتشفه الناس في أنفسهم وفي الكون من حولهم من نواميس الخلق وأسرار الوجود التي يعد كل فرد منها شاهد صدق على إعجاز القرآن فلا يبقى معه مجال للشك وفي التأكيد المتتالي بأن الله على كل شهيد وأنه بكل شيء محيط دلالة واضحة على أن مدلول الآية أوسع وأشمل وأدق مما وصلت إليه أفهام الناس من قبل هذه الاكتشافات وما أحسن ما قاله الأستاذ الرافعي "إن لم يكن الإعجاز في هذا التعبير ظاهرا بداهة فليس يصح في الأذهان شيء وتشير بداية سورة الفرقان إلى انطواء القرآن الكريم على عجائب الخلق في هذا الكون فقد جاء فيها(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ00) ( الفرقان/4- 6) .

 

ففي هذا الرد على هذه المزاعم الباطلة والشبهات الواهية بأن هذا القرآن الذي يزعمون افتراءه منزل ممن يعلم السر في السموات والأرض دليل على انطوائه على عجائب السموات والأرض الدالة على عجز المخلوقين، ولو تضافرت جهودهم عن الإتيان بمثله وإنما هو تنزيل ممن يعلم أسرار الوجود ويحيط بدقائقه.

العلم الحديث ومعجزة القرآن:

ولقد أخذت هذه الحقائق تتكشف برهة بعد أخرى بما لا يبقى معه شك في عجز المخلوقين عن مثله، وقد اتضح ذلك لغير المسلمين فأذعنت ألسنتهم وأقلامهم لمعجزة القرآن، وإن لم يحالفهم التوفيق فيتبعوا نوره ومن بين هؤلاء الدكتور(موريس بوكاي) الذي سبق أن ذكرته وقد ألف في ذلك كتابا سماه "العلم في التوراة والإنجيل والقرآن" أوضح فيه تعذر كون القرآن من عند الناس واستحالة كونه غير منه شيء، وأثبت فيه أن الكتابين السابقين قد أصابهما كثير من التحريف والتبديل وقد استبصر في بحثه هذا بنور العلم الحديث، هذا وقد وقف المفسرون حيال هذه الاكتشافات مواقف متباينة فمنهم المفرط ومنهم المفرّط ومنهم المعتدل أما المفرطون فهم مع تلك النظريات ولو لم يحتملها لفظه وهم- وإن كانت لهم نية ما تتناسخ ويقضي بعضها على بعض أو يعدل بعضها بعضا فإذا فسر القرآن بشيء من هذه النظريات ثم نسخت النظرية بنظرية أخرى كان ذلك سببا لتعريض القرآن للرد والتكذيب.

 

وأما المفرطون فهم قوم اقتصروا على آراء السلف في التفسير، وعصبوا أعينهم عن العلم الحديث ودلائله، وأما المعتدلون فهم الذين جعلوا القرآن هو الأصل وحملوا عليه الحقائق العلمية التي دلت عليها آياته دلالة واضحة دون النظريات التي قبلوها، وما كان مدلولا عليه بها دلالة غامضة قبلوه بتحفظ، خشية تعريض كتاب الله للتعديل والتبديل، وفي نظري أن هذا المنهج هو المنهج الوسط، إذ لا سبيل لأن نغمض أعيننا عن الحقائق العلمية الثابتة التي دل عليها القرآن أو أشار إليها، ونتمسك بأقوال الماضين التي حشيت بكثير من الإسرائيليات الزائفة مع أن القرآن نفسه واضح في أن آيات الله الكونية ستتجلى للناس بصدقه وستقطع ألسنة الجاحدين بما يتكشف منها من الشواهد القاطعة بإعجازه، كما أنه لا سبيل للي أعناق الآيات حتى تخضع لنظرية هذا أو ذاك من قوم كثيرا ما يبنون نظرياتهم على نظرتهم المادية القاصرة إلى الكون والحياة.

 

ومما لا شك فيه أن خوض هذا العباب المتلاطم الرهيب يستلزم خبرة ودراية ولست جديرا بمثل هذا الأمر، فإني لم أتخصص في نوع من أنواع هذه العلوم، بل لم يكتب الله لي أن ألتحق بدراسة نظامية ولم أتمكن من الوقوف على مختبر للنظر في حقيقة علمية وما بضاعتي من إلا مزجاة، غير أني أستعين الله تعالى في التحدث عن نماذج من الإعجاز العلمي في القرآن بحسب ما وصل إليه من خلال مطالعاتي لما قاله الكاتبون المتخصصون في الدراسات العلمية، وإلى القارئ الكريم ما سنح للذهن منها:

( ثم ذكر سماحته أمثلة كثيرة طويلة مليئة بالحقائق العلمية من يشاء فليراجعها في جواهر التفسير )

ثم قال سماحته في آخر هذا المبحث:

 

والقرآن الكريم في تشريعاته الحكيمة وقصصه وأمثاله يشير إشارات عابرة إلى حالات نفسية تكاد أحيانا تقرب من التصريح وهي أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه أي باحث في الأحوال النفسية والعالم النفساني عالم مظلم لا معالم فيه ولا مرشد في مسالكه، وعندما رحل إليه علماء النفس دخلوه على جهل وتاهوا في أرجائه السحيقة، ولم يعودوا منه إلا بفروض ونظريات كثيرة ما دلت التجارب على كذبها، ولو أنهم استصحبوا القرآن الكريم لأنار لهم المسالك النفسية وبصرهم بالحقائق التي لا تأتي التجارب إلا شاهدة على صدقها.

 

ولو أن علماء المسلمين بحثوا علم النفس على ضوء القرآن الكريم لعادوا بنتائج ما عاد بها غيرهم، ولكانت الحقائق بدلا من الفروض والنظريات ولكن لأمر أراده الله(سبحانه) تكاسل المسلمون عن القيام بهذا الأمر فصاروا أتباعا لغيرهم في الدراسات النفسية ككثير من الدراسات وأرجو أن يوفق الله الجيل الناشئ للاضطلاع بهذا العبء وقد أردت بما أشرت إليه هنا بعث عزائمهم لذلك وهذا النموذج اليسير من الإعجاز العلمي في القرآن لم أرد به إلا إيقاظ همم شبابنا المتجهين إلى الدراسات العلمية ليجعلوا القرآن الكريم نصب أعينهم في كل ما يدرسون .

 

وأرجو أن يوفقني الله أن أعود إلى الموضوع بشيء من التوسع عندما أصل في التفسير- إن شاء الله- إلى الآيات التي تشير إلى علم الكون في كتاب الله ولقد وددت أن أذكر ولو باختصار الإعجاز الطبي في القرآن ولكني آثرت الشروع في التفسير وإرجاء ذلك إلى محله والله تعالى ولي التوفيق.