بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الموت خير واعظ

الحمد لله الحيّ القيّوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يتنقصه ليلة ولا يوم، سبحانه تقدس عن الموت، وتعالى عن الفوت، كتب على خلقه الفناء، واستأثر وحده بالبقاء، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله بالمحجة البيضاء، والطريقة السواء، والشريعة السمحاء، فوعظ وقدّر، وبشّر وأنذر، ودعا إلى الله على بصيرة حتى أتاه اليقين، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كلّ من اهتدى بهديه، واستنّ بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله وأطيعوه، وتقربوا إليه بصنوف الطاعات، واحذروا من الوقوع في معاصيه، ولتكن لكم في حوادث الدهر وريب الزمان عبر تنفعكم، تتزودونها من هذه الدار؛ لتجنوا ثمراتها في الدار الأخرى، وإذا كانت النفوس في غفلة عن وعظ الواعظين وتذكير المذكّرين فتُحِط بالإنسان موعظة صامت أبلغ من كلّ ناطق، ونطق أخرس أصدق من كلّ لسن، وهو الحرمان الذي قدره الله سبحانه وتعالى على خلقه أجمعين، فهذه مواكب المشيعين تغدو وتروح إلى المقابر، تودع فيها أعزّ الأعزة عليها، وأحبّ الأحبّة إليها، تنزل هؤلاء من شُرُفات القصور إلى بطون المقابر، وتنقلهم من نعومة العرائش إلى خشونة التراب، ففي ذلك ذكرى للذاكرين، وموعظة للمعتبرين، وفوق ذلك فإن كتاب الله عزّ وجلّ يحذرنا من هذه الدنيا ومن الركون إليها، ويرسم لنا ببلاغته الباهرة حقيقتها، ويصور لنا مشاهد يوم القيامة، فبحسب الإنسان أن يتذكر بالموت، وأن يتعظ بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

يصور لنا الله سبحانه وتعالى هذه الدنيا على حقيقتها في قوله: }كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ{ (آل عمران/185) وقوله عزّ من قائل: }إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ (يونس/24) وقوله سبحانه: }وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا{ (الكهف/ 45 ـ 46)، وقوله: }اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{  (الحديد/ 20 ـ 21).

فاتقوا الله يا عباد الله، وتزودوا من هذه الدار الدنيا العمل الصالح، وتزودوا من يومكم لغدكم، ومن حياتكم لموتكم، ومن دنياكم لآخرتكم، ومن شبابكم لهرمكم، ومن صحتكم لسقمكم، ومن يومكم لغدكم، واعلموا أن الطريق طويل، وأن الحمل ثقيل، وأن الحساب عسير، وأن الناقد بصير، وليس بعد الموت مستعتب، وليس بعد القبر دار إلا الجنة أو النار، فاتقوا الله يا عباد الله، وانتهزوا الفرصة من فسحة الأجل، وتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بصنوف الطاعات.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*              *           *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله، اتقوا الله سبحانه وتعالى حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، وبادروا بالعمل الصالح قبل فوت الفرص؛ فإن الأنفاس محدودة، وإن اللحظات معدودة، وإن الدار الآخرة أقرب إلى الإنسان من شِراك نعله، فكلّ من مات فقد قامت قيامته، وقد أخبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: أن كلّ ميت لا بدّ له من ندم، فإن كان محسنا ندم على أن لا يكون قد استزاد من العمل الصالح، وإن كان مسيئا ندم على عدم نزعه عن إساءته، وأخبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: أن المرء يرافقه إلى قبره ثلاثة: عمله وأهله وماله، فيرجع الأهل والمال ويبقى له العمل، فليس للإنسان أنيس في قبره إلا عمله، واعلموا أنما الحياة الدنيا هي متاع قليل كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنها، وهي تعمي الإنسان وتخلبه بزهرتها وزخرفها وكلٌّ من ذلك زائل، فلو كانت الحياة الدنيا تبرا وكانت الآخرة ترابا لكانت الآخرة أولى بالحرص عليها بجانب بقائها وفناء الحياة الدنيا، فإن الإنسان لا يدري متى يفجأه ريب الحمام في هذه الحياة، فلا يغرنّ أحدا شبابه، ولا يغرنّ أحدا ماله ولا يغرنّ أحدا جاهه؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أفنى القرون الماضية، وكثير منها كان في أوج قوته ووفرة طغيانه وكثرة ماله ونعومة شبابه؛ ولكن الله سبحانه وتعالى يفعل في خلقه ما يشاء، فعلى الشاب أن ينتهز فرصة شبابه في العمل الصالح الذي يقربه إلى الله سبحانه وتعالى زلفى، وعلى كلّ أحد أن يعلم أنه مسؤول عن هذه الحياة، فالشيخ مسؤول، والشاب مسؤول، والصغير مسؤول، والكبير مسؤول، والغني مسؤول، والفقير مسؤول ، وبقدر ما أوتي الإنسان في هذه الحياة الدنيا تتضاعف المسؤولية، وقد أخبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام عما يسأل عليه العبد يوم القيامة فقد قال: « لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم»، فاتقوا الله يا عباد الله، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.