بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

من أسباب حرب الله للعباد

الحمد لله الذي هو بكلّ أحد بصير، وعلى كلّ شيء قدير، له ما في السماوات وما في الأرض وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه حمد من استقال من عثراته، واستغفر من سيئاته، وأشفق من خطيئاته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، عظم حلمه فعفا، وتكفّل بخلقه فكفى، وعلم من عباده السر وأخفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالمحجة البيضاء، والطريقة السواء، والشريعة السمحاء، فبشّر وأنذر، وحضّ وحذر، وأمر وزجر، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتقوا سخطه باتقاء محارمه، ولتكن لكم فيما تشاهدون، وفيما تسمعون من النقص في الأنفس وفي الثمرات عبرة بالغة تدعوكم إلى التفكر في أسباب ذلك، فها أنتم أولاء تشاهدون كيف هذا النقص في الأنفس من جرّاء أحداث السير وغيرها، وكيف هذا النقص في الأموال بسبب ما يعتري الثمرات من العاهات، وما يعتري الزروع من الأمور المختلفة التي لم تكن تعرف من قبل، فإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، والعاقل لا يشتغل بالمُسَبَّبَات عن الأسباب، بل يحاول أن يفكّر في سبب كلّ شيء.

وما هذا النقص إلا حرب من الله سبحانه، وما أكثر أسباب الحرب من العباد ! فإن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده محارمه، ومن بين هذه المحارم التي حذرهم سبحانه وتعالى منها الربا، فقد قال عزّ من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ[ (البقرة/ 278 ـ  279) وقد قال عزّ من قائل في الربا: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/275) ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) (آل عمران/130) وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «الربا ثلاثة وتسعون بابا أيسرها في الإثم مثل أن ينكح الرجل أمه»، وفي الحديث الصحيح عنه صلوات الله وسلامه عليه: «لعن الله الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهده»، وقال: «هم سواء»، ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام: «اتقوا السبع الموبقات»، وذكر من بين هذه السبع أكل الربا، فأكل الربا من أكبر أسباب حرب الله سبحانه وتعالى على العباد.

وما أكثر الربا وتفشيه في هذا العصر! فإن معاملات الناس إن لم تكن كلها ربوية فجلها ربوية، منها ما هو ربا صريح، ومنها ما هو من ذرائع الربا كالعقودات المختلفة التي يتفق عليها الناس، وهي تخالف أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه، ومن هذه العقود بيوع الإقالة التي تفشت في الناس بطريقة لا تمتّ بصلة إلى شرع الله عزّ وجلّ، والنبي صلى الله عليه وسلم بين في البيوع أحكاما، من ذلك أنه عليه أفضل الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يقبض وبيع ما لم يضمن، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع، ومنها أنه عليه أفضل الصلاة والسلام نهى عن بيعين في بيع؛ أي عقدين في عقد، وكلّ ذلك مما يدخل في بيوعات الإقالة بجانب التذرع إلى الربا الذي هو من طرق العِيْنة التي توعّد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذر منها، وبجانب ذلك فإن مبارزة الله سبحانه وتعالى بأنواع مختلفة من معاصيه تعدّ سببا لحربه، فإن الله سبحانه وتعالى شرع شرائع، وحدّ حدودا، وحرّم محارم، وبيّن أحكاما، وقد عطلت أحكام الله سبحانه وتعالى، وانتهكت محارمه، وعطلت حدوده، فما أدعى ذلك إلى الحرب التي نراها ظاهرة في الأنفس وفي الأموال!

فعلى العباد أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها، وألا يمروا بهذه الأحداث بسلام من غير أن يناقشوا أنفسهم، فإن للمؤمن بالله سبحانه وتعالى في كلّ شيء عبرة، وعلى الناس أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر؛ فإن ترك الأمر بالمعروف، وترك النهي عن المنكر سبب لسُخْط الله سبحانه الذي يجر إلى عقوبته، فالله سبحانه يقول: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/104) ويقول عزّ من قائل: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران/110) وقد وعد الله سبحانه وتعالى بالنصر من ينصره فقال عزّ من قائل: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/ 40 ـ  41) وقال سبحانه وتعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة/ 78 ـ 79) فهذه الأمور كلها؛ وهي تعطيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم مبالاة الناس بأحكام الله سبحانه وتعالى وحدوده وشرائعه من أسباب سخطه عزّ وجلّ، وإذا كان سخط الله عزّ وجلّ يفضي إلى هذه العقوبات العامة في الدنيا؛ فإنه يفضي إلى العقوبة الدائمة والعياذ بالله يوم القيامة، فالله عزّ وجلّ يقول: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النمل/89 ـ 90) ويقول عزّ من قائل: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (القصص/84).

فاتقوا الله يا عباد الله، وحاسبوا أنفسكم، واحذروا الله في سركم وعلانيتكم، وراقبوا أنفسكم فيما تأتون وفيما تذرون، والتزموا أحكام الله سبحانه في جميع المعاملات، تقيّدوا بأحكامه، وائتمروا بأوامره، وازدجروا عن زواجره، فإن الله سبحانه وتعالى شديد العقاب، كما أنه سبحانه وتعالى واسع المغفرة، ولا إخلاف لوعده ولا لوعيده، فإنه تبارك وتعالى يقول: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران/9) ويقول سبحانه: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (ق/ 28 ـ 29)  فاتقوا الله يا عباد الله، وتناصحوا فيما بينكم، وتآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.

*            *           *

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إذا كان من شأن الإنسان في أموره الدنيوية أن يطلب معرفة ما ينفعه ومعرفة ما يضره؛ فأحرى به أن يطلب ذلك في أمر دينه، فإن الله سبحانه وتعالى لا يعبد بالجهل، ولأجل ذلك كان العلم فريضة على عباد الله عزّ وجلّ، يجب على الإنسان أن يتفقه في دينه، وأن يعرف كيف يعبد الله سبحانه وتعالى، وكيف يغار على حرماته، وكيف يتعامل مع الناس، وقد بين الله سبحانه وتعالى أحكامه فيما أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقد وضح الصبح لذي عينين؛ إذ النبي عليه أفضل الصلاة والسلام لم يترك هذه الأمة إلا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يضلّ عنها إلا غويّ، فيجب على جميع أفراد هذه الأمة أن يسيروا على هذه المحجّة، وأن يتقوا الله تعالى في سريرتهم وعلانيتهم، وأن يتفقهوا في دينهم ليعرفوا كيف يعبدون الله، وكيف يتعاملون بينهم، وأحكام المعاملات مبسوطة في كتب الفقه مما استخرج من كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، فيجب الرجوع إلى ذلك لاستبيان الحقيقة واكتشافها، والله سبحانه وتعالى لا يعذر عباده بجهلهم بعد أن أقام عليهم الحجة بما بعث من الرسل وبما أنزل من الكتب، فإن الله سبحانه وتعالى لم يرسل رسله ولم ينزل كتبه إلا ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة.

فاتقوا الله يا عباد الله، والتزموا حدود الله، وتجنبوا محارمه، وائتمروا بأوامره، واتركوا جميع مناهيه، ودعوا جميع الشبه؛ فإن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكلّ ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».