بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

خطورة الكذب في الإسلام

الحمد لله الذي يحب الصدق والصادقين، ويبغض الكذب والكاذبين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أصدق الناس لسانا، وأفصحهم بيانا، وأوضحهم برهانا، وأقومهم سبيلا، وأقواهم دليلا، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستنّ بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله قد اقتضت حكمة العليّ الأعلى أن يجعل السمة البشرية التي تتميز بها حياة الناس عن حياة غيرهم من الكائنات الأرضية تداخل المصالح، واشتراك المنافع، والتعاون والاجتماع، والتفاهم والترابط؛ ولأجل ذلك ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان بما آتاه من موهبة البيان التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على الناس؛ حيث قال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1 ـ 4) فبدون هذه الموهبة لا يمكن التفاهم بين الناس ولا التآلف ولا الترابط ولا التعاون في المصالح المشتركة والمنافع التي تعود على الجميع، وإذا كانت هذه نعمةً عظيمةً من الله سبحانه  ـ وكل نعمة من نعمه تعالى تستوجب شكره ـ فإن من واجب العبد الذي منّ الله سبحانه وتعالى عليه باللسان والبيان أن لا يستخدم لسانه ألا فيما يعود على نفسه بالمصلحة الدينية والدنيوية التي لا تكون على حساب الدين، وذلك الذي يعنيه الحق سبحانه وتعالى بالقول السديد حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70 ـ 71) ومن القول السديد أن يلتزم العبد الصدق في قوله، والحق في عمله، وأن يتجنب الكذب على أي حال، وحسبكم مزية كبرى للصدق والصادقين أن كلام الله سبحانه وتعالى صفته اللازمة الصدق، فقد قال عز من قائل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) (النساء/122) وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا) (النساء/87) والنبي صلى الله عليه وسلم يصف كلام الله بقوله: «وإن أصدق الحديث كتاب الله»، وقد أمرنا الله سبحانـه وتعالى أن نكون مع الصادقين حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/119).

فالصدق يا عباد الله هي الصفة التي يتحلى بها المؤمنون بالله واليوم الآخر الذين يخشون الله سبحانه وتعالى ويرجونه، وهي عُشّ الفضائل ومنبع الخيرات؛ فإن الحياة الإنسانية إن لم تكن قائمة على الصدق كانت حياة يشوبها القلق والانزعاج؛ إذ لا يطمئن أحد إلى كلام أحد، ولا يثق أحد في عمل أحد ما دام الكذب متفشيا ما بينهم، مستطيرا في أقوالهم، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الكذب عش الرذائل ومصدر الشر كله، ولذلك توعد الله سبحانه وتعالى الكذابين بقوله عز من قائل: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (الذاريات/10) أي الكذابون، فالكذب ينشأ عنه عدم الوفاء بالوعد، وعدم تحري الفضيلة، وعدم اتباع الخير، وعدم المبالاة بحقوق الآخرين كما هو معروف، وإذا اعتاد أحد الكذب اعتاد جميع المنكرات، وإذا هوّن على نفسه أن يكذب في وقت من الأوقات هان عليه الكذب في سائر الأوقات، وكان مثله كمثل العقد الذي انقطع سلكه فانحلّ نظامه، وتتابعت خرزاته، وتساقطت حباته، هكذا تسقط الفضائل فضيلة بعد فضيلة إذا تعود الإنسان الكذب في أي حال من الأحوال، وهكذا يتجرأ على الكذب على أي حال إذا اعتاد هذا الكذب في سائر أحواله، وذلك الذي يدل عليه الحديث الصحيح عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قال: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يدعو إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»، وقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يطبع المؤمن على الخلال كلها ليس الخيانة والكذب»؛ أي لا يمكن أن تكون الخيانة صفة من صفات المؤمن، ولا أن يكون الكذب صفة من صفات المؤمن، وقد جاء في بعض ما روي عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أنه سئل: أيكون المؤمن بخيلا؟  قال: «نعم»، قيل له: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: «نعم»، قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: «لا»، هكذا نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤمن صفة الكذب، فقد يكون المؤمن بخيلا؛ أي نفسه تميل إلى الشح والبخل، ولكن إيمانه يستعلي على هذا الطبع، ويسيطر عليه، فيجعله لا يمنع الزكاة التي فرضها الله سبحانه وتعالى عليه، ولا يمنع الحقوق التي أوجبها الله تعالى عليه، ويكون المؤمن جبانا؛ أي هيّابا؛ لأن ذلك طبع يطبع عليه الإنسان لا يمكنه أن يتخلص منه، ولكنه لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال كذابا؛ لأن الكذب صفة يكتسبها الإنسان باعتياده، فإذا اعتاد الكذب صار جبلة له، والكذاب يتعود الأوهام حتى تكون في نفسه حقائق، ولا يطمئن أحد إلى قوله ولو صدق في أي وقت من الأوقات، والنبي صلى الله عليه وسلم بين صفات المنافقين في قوله صلوات الله وسلامه عليه: «ثلاث من كن فيه كان منافقا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من خصال النفاق حتى يتوب عنها وينزع»،  وذكر من هذه الثلاث: من إذا حدث كذب، فصفة المنافق الكذب في حديثه، وهذا يعني أن المؤمن لا يمكن أن يكذب في حديثه؛ لأنه يتحرى الصدق على أي حال خشية من الوقوع في الهلكة ومن الانجرار إلى سائر صفات النفاق، والله سبحانه وتعالى جعل رسالات جميع المرسلين الذين بعثهم مبنية على الصدق، ووعد الصادقين على صدقهم خيرا عظيما ليجزي الصادقين بصدقهم، ويقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) (الزمر/ 33 ـ 34)  هكذا يعد الله سبحانه وتعالى الصادقين.

فاتقوا الله يا عباد الله، وتحروا الصدق في جميع أقوالكم، واتبعوا الحق في جميع أعمالكم، واجتنبوا سخط الله سبحانه وتعالى باتباع الحق الذي جاء به وبَعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، وبالتزام الصدق على أي حال.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البـر الكريم.

*         *          *

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إذا كان الكذب من شيمة الفجار وليس من شيمة الأبرار؛ فإنه ليس من شأن المؤمن أن يكذب على أي حال جادا كان أو هازلا؛ فإن الكذب والعياذ بالله يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد شدد النكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين يكذبون ليثيروا ضحك الناس حيث قال: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به الناس فيكذب، ويل له، ويل له»، فالمؤمن يتجنب الكذب على أي حال، ولا يتبع الكذب لأي غرض من الأغراض، ومما يؤسف له كثيرا أن يوجد من بين المسلمين من يتجرأ على الكذب في هذا اليوم ليثير انزعاج الآخرين تأسيا بالقوم الكافرين، فيجتمع في ذلك ثلاث كبائر على نفسه، الكبيرة الأولى: الكذب، وقد علمتم ما توعد الله سبحانه وتعالى به على الكذب، الكبيرة الثانية: الانجرار وراء عادات الآخرين، وذلك لا يدفع إليه إلا عدم الإيمان، والانبهار بما عند الآخرين من العادات ولو كانت في منتهى الفساد وكانت أحط الرذائل، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من موالاة الكفار، وجعلها من علامات النفاق، والاقتداء بالكفار ليس هو إلا رمز هذه الموالاة التي حذر الله سبحانه وتعالى منها، وتوعد عليها، فالله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (الممتحنة/ 1 ـ 2) فكل أحد من الكفار يود من المسلمين أن يكفروا ككفره فيكونوا مثله، ويقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة/51) ثم أتبع ذلك قوله: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) (المائدة/52) وهذا يعني أن التأثر بهم لا يكون إلا ممن في نفسه مرض، وبيّن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أن هذه الموالاة مفتاح باب الردة والعياذ بالله؛ حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة/54) ومن هذه الموالاة ترسّم خطواتهم واتباع آثارهم، وذلك الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحرص كل الحرص على أن ينأى بأمته عنه، فقد كان عليه أفضل الصلاة والسلام في حال دفن ميت، وكان واقفا، وكان المسلمون من حوله وقوفا، فمر بهم يهودي وقال: هكذا تصنع أحبارنا، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه بالقعود مع أن القيام من الأمور العادية التي يعتادها الإنسان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أصر على مخالفة اليهود لئلا يتأثر المسلمون بمسالكهم، فكيف إذا كان التأثر بهم في رذيلة من أقبح الرذائل، وفاحشة من أقبح الفواحش؟! والكبيرة الثالثة: إزعاج الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من روع مؤمنا في الدنيا روعه الله تعالى يوم القيامة»، فالتفنن في الكذب لأجل إثارة الروع في نفوس الناس يجمـع كبائر شتى.

فاتقوا الله يا عباد الله، واحرصوا على ما أمركم الله تعالى  به، وازدجروا عما نهاكم الله تعالى عنه، والزموا الصدق في جميع أقوالكم وأعمالكم، واحذروا جميع مكائد الفجار وجميع طرق الكفار، واحرصوا على ما يقربكم إلى الله سبحانه وتعالى زلفا، واجعلوا ولاءكم لله ولرسوله وللذين آمنوا عملا بقوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة/ 55 ـ 56).