بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حرمة إتلاف النفس بغير حق

الحمد لله الذي جعل الناس أمناء على أنفسهم في الدنيا والدين، فكانوا بكل ما يؤدي إلى سلامتهم في الدارين مطالبين، وعن كل ما يؤدي إلى هلاكها فيهما محذرين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281)، واعلموا أنكم مسؤولون عن أنفسكم، ومسؤولون عن بني جنسكم، فإن الله تبارك وتعالى كرم الإنسان تكريما، يقول عز من قائل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/70) ومن أجل هذا التكريم كان الجنس البشري جنسا ذا ميزة من بين سائر الأجناس التي يشاركها الحياة في هذه الأرض، فالله سبحانه وتعالى اختار هذا الجنس البشري لأن يكون مسؤولا عن عمارة هذه الأرض، ومسؤولا عن تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى فيها، فهو خليفة في الأرض كما بين الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عندما قص علينا ما كان من إيذانه الملأ الأعلى من خلق الإنسان الأول، وأنه مستخلفه في هذه الأرض، ولئن كان الإنسان بحكم كونه خليفة في هذه الأرض مسؤولا عن غيره من الكائنات التي يشاركها الوجود في هذه الأرض؛ فهو أحرى أن يكون مسؤولا عن نفسه.

ومن أجل ذلك حذر الله تبارك وتعالى من كل ما يؤدي إلى الهلاك والتباب في الدنيا أو في الآخرة، فالإنسان مطالب بأن يحافظ على سلامته في الدنيا، ومطالب أن يحافظ على سلامته في الآخرة، أما محافظته على سلامته في الدنيا فبتجنيب نفسه أسباب التلف والهلاك، وأما محافظته على سلامته في الدار الآخرة فباتقاء الله سبحانه وتعالى، والحرص على كل ما يبلغه رضوان الله من العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة، فإن الله سبحانه وتعالى ناط الفوز والفلاح في الدار الآخرة بهذين الأمرين، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر/ 1 ـ 3) ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس/ 9 ـ 10)، ولئن كان الإنسان مسؤولا عن سلامته في هذه الدنيا أيضا كما أنه مسؤول عن سلامته في الدار الآخرة؛ فإن عليه أن يجنب نفسه كل ما يؤدي بها إلى التهلكة، والله سبحانه وتعالى يبين ذلك عندما يقول محذرا لعباده (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة/195)، وقد حذر الله سبحانه عباده من أن يقتلوا أنفسهم، فقد قال عز من قائل: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا) (النساء/29ـ30).

والإنسان محذر أيما حذر من أن يقتل نفسه بأي وسيلة تؤدي إلى هلاك النفس وتلفها، فقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن رمى نفسه من شاهق فقتل نفسه؛ فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه؛ فسمه في يده يتحساه في جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا»، فإذاً يحرم على الإنسان أن يتناول مأكولا يؤدي به إلى هلاك نفسه، أو أن يفعل أي شيء كان يؤدي به إلى هلاك نفسه؛ لأن في كل ذلك إتلافا لهذه النفس، ويترتب على كل ذلك ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من الوعيد الشديد، وكما أن الإنسان مسؤول عن نفسه كذلك مسؤول أيضا هو عن جنسه، فليس له أن يقدم على إتلاف الجنس البشري، بل عليه أن يحافظ على غيره كما يحافظ على نفسه، اللهم إلا أن يكون في ذلك داع شرعي يدعو إلى إتلاف نفس ما بسبب ارتكابها المخالفات الشرعية، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء/33)، جعل الله سبحانه وتعالى هذا الحكم العادل الشرعي عندما يقتل الإنسان نفسا بغير حق، وهو أن يقتص منه بالعدل من غير أن يتجاوز هذا المقتص الحدود الشرعية التي أذن الله تعالى بها، ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى من الإسراف في القتل لأجل مراعاة هذه الحرمة البشرية، ونجد أن الله سبحانه وتعالى شرع القصاص ما بين العباد لأجل الحفاظ على هذه الأنفس، فقد قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/179).

وهكذا نجد رحمة الله تبارك وتعالى وعدله يتجليان في كل أمر ونهي يصدران منه سبحانه وتعالى، ويتجليان في كل حكم يأتي من قبله عز وجل، فكل حكم تتجلى فيه رحمة الله، ويتجلى فيه عدل الله سبحانه، وكل أمر أونهي يأتيان من قبل الله سبحانه وتعالى تتجلى فيهما رحمة الله تبارك وتعالى لعباده، ونجد أن القرآن الكريم يشير إلى أن من أتلف نفسا فكأنما أتلف نفسه؛ ذلك لأن الجنس البشري مع جامع العقيدة الصحيحة التي تربط بين الأمة الواحدة بمثابة النفس الواحدة، ولذلك نعى الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل ما كان يصدر منهم فقد قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) (البقرة/ 84 ـ 85)، فجعل الله سبحانه وتعالى قتلهم لبعضهم البعض بمثابة قتلهم أنفسهم، ولذلك عبر عن هذه الدماء التي يسفكونها بأنها دماؤهم، وجعل قتلهم لبعضهم إنما هو قتلهم لأنفسهم، كل ذلك من أجل مراعاة هذه الحرمات وعدم إقدام الإنسان على إتلاف نفس ما، اللهم إلا إن كان هنالك ما يؤذن بذلك من حكم شرعي جاء من قبل الله سبحانه؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلق هذه الأنفس، وهو الذي شرع هذه الأحكام، فلا يجوز أبدا الإقدام على إتلاف نفس ما إلا بحكم من قبله تبارك وتعالى، ولذلك كتب الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا،  ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا، كل ذلك من أجل مراعاة حرمات هذه النفس البشرية، وهي من حرمات الله عز وجل.

ولئن كان إتلاف الإنسان لنفسه أو إتلافه لغيره محرم عليه بأي وجه من الوجوه؛ فإن من هذه الأسباب التي يحرم على الإنسان أن يمارسها من أجل إتلاف النفس الإسراع في السير؛ فإن الإسراع في السير يتلف كثيرا من الأنفس، فهو نحر من الإنسان لنفسه، ونحر لغيره، والانتحار من المحرمات التي يجب على الإنسان ألا يقدم عليها بأي حال من الأحوال، كما أن مخالفات الإنسان الذي يقود سيارة ما لنظام السير مما يؤدي إلى تلف النفس وإلى تلف الغير فهو محرم على أي حال من الأحوال؛ ذلك لأجل المحافظة على سلامة الأنفس؛ ولأجل المحافظة على سلامة الأمة، وإن من تعريض الإنسان لنفسه للتلف وتعريضه لغيره للتلف أن يقود سيارة وهو بحالة غير طبيعية، فعندما يقدم الإنسان على قيادة سيارة وهو في حالة سكر يعد بذلك ناحرا لنفسه وناحرا لغيره؛ لأنه أقدم على إتلاف نفسه، وأقدم على إتلاف غيره، وهو مسؤول عن نفسه، ومسؤول عن غيره، فكما أنه يقدم على إتلاف نفسه، يقدم بذلك على إتلاف الركاب الذين معه، ويقدم كذلك على إتلاف المارة في الطريق، ويقدم على إتلاف الركاب الآخرين في السيارات الأخرى، وذلك كثيرا ما يؤدي إلى تلف عدد كبير من الناس، وكذلك يجب على الإنسان أن يتجنب قيادة السيارة عندما يكون في حالة إرهاق؛ كأن يكون متعبا أو يكون متعرضا لسهر من قبل، فقد لا يملك عينيه عندما يغشيّهما النعاس، ويؤدي ذلك إلى تلفه، كما يؤدي إلى تلف غيره، وكما أن الإنسان مسؤول عن نفسه وغيره فليس له أن يقدم على هذه الحالة، وهذا الخطأ كثيرا ما يرتكبه الحجاج والمعتمرون بعدما يؤدون المناسك، ويقفلون إلى أهلهم، فقد يشدهم الحنين إلى أوطانهم والشوق إلى أهليهم إلى المغامرة وعدم المبالاة لما كانوا عليه من قبل من سهر وكلال، فيصلون إرهاقا بإرهاق، وسهرا بسهر، ويؤدي ذلك كثيرا إلى تلفهم، فكم يفقد من أخيار صالحين بسبب هذه الأخطاء التي ترتكب، فيجب على الناس أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أنفسهم، وأن يتقوا الله في غيرهم، وأن لا يرتكبوا هذه الأخطار، وأن لا يأتوا هذه المغامرات.

فاتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على سلامتكم في الدين والدنيا بتقوى الله واتباع مراشده والوقوف عند حدوده.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكـريم.

*         *        *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 102 ـ 104)، ألا وإن من التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر التآمر بما يؤدي إلى حفظ هذه الأنفس، ويؤدي إلى سلامتها وعدم تعريضها للإتلاف، فإن تعريضها للإتلاف منافيا لحكمة الله تبارك وتعالى التي أوجد من أجلها الإنسان، وهي كونه عامرا لهذه الأرض، قائما بأمر الله تبارك وتعالى فيها، منفذا لحكمه، واقفا عند حدوده، مراعيا لغيره، قائما بكل ما بصّره الله تباك وتعالى به من مصالح لبني جنسه ومصالح لغير جنسه في هذه الأرض.

فاتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على هذه الأوامر الربانية التي جاءت لأجل مصلحتكم؛ ولأجل سلامتكم في الدنيا وفي الدين.