بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة

الحمد لله الذي له الحجة البالغة، والبينة الدامغة، سبحانه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة/ 33)، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله جامعا للشتات، ومصدقا لما تقدمه من الرسالات، ومؤيّدا بأقوى الحجج وأبين المعجزات، فدعا إلى الله على بصيرة، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى لعباده الدين، ولم يكله إلى تجاربهم وتفكيرهم، وإنما أنزله سبحانه بواسطة صفوة خلقه الذين بعثهم إلى عباده مبشرين ومنذرين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يتم على عباده النعمة، وأن يكمل لهم الدين؛ بعث عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مؤيدا بالمعجزة الساطعة والحجة القاطعة، فدعا صلوات الله وسلامه عليه إلى ربه على بصيرة، وجاهد في سبيله حتى أتاه اليقين، ولم يأل المشركون والمنافقون ومن يقف معهم جهدا في الوقوف أمام هذه الدعوة؛ لأجل صدّ الناس عن سبيل الله، ولم يألوا جهدا في تشكيك الناس فيما جاء به رسول الله، فقد حاولوا أن ينسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب، وحاولوا أن ينسبوه إلى الجنون والسحر، وحاولوا أن يقولوا بأنه يتعلم ممن كان قبله، وكل ذلك لم يجْدِهم شيئا، فاقتحمت هذه الدعوة جميع السدود، وتخطت جميع الحواجز تصديقا لوعد الله سبحانه عندما يقول عز من قائل في وصف أولئك الذين يقفون في سبيلها، وفي وصف ما سوف ينتهي إليه الأمر: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة/ 32 ـ 33)، فقد أظهر الله سبحانه وتعالى هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولم تجدِ محاولات أولئك الذين وقفوا في سبيل هذه الدعوة، وحاولوا أن ينسبوا إلى هذا الدين ما نسبوا إليه من الافتراء والبهتان، لم تجدِهم محاولاتهم شيئا، بل تخطى هذا الدين جميع السدود التي تركوها أمامه، وجميع الحواجز التي حاولوا أن يحولوا بها بينه وبين وصوله إلى مسامع الناس وولوجه إلى أفكارهم ووجدانهم، فقد اختلط هذا الدين والحمد لله بعقول الناس وأفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم، فدخلوا فيه أفواجا بمشيئة الله؛ ليتم الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة نعمته، وليظهر دينه، فقد ظهر هذا الدين بمشيئة الله في تلك العصور السحيقة عندما كانت الوسائل وسائل بدائية، وكان الانتقال من مكان إلى مكان من الأمور الشاقة، ذلك كله لأن الله سبحانه وتعالى متم نوره ولو كره الكافرون.

ولم يزل الناس الذين يعادون هذه الدعوة، ويقفون في هذا السبيل يحرصون كل الحرص على الحيلولة بين هدى هذا الدين وبين وصوله إلى أدمغة الناس، واختلاطه بعقولهم وأفكارهم وقلوبهم وأحاسيسهم، ولكن يأبى الله ذلك، فإن الله عز وجل منجز وعده، وقد صدق وعده في العصور السابقة عندما أتم النعمة على عباده بظهور هذا الدين على الدين كله، وسوف ينجز وعده سبحانه وتعالى في هذه العصور اللاحقة، وسوف يظهر هـذا الدين على الدين كله ولو كـره الكافرون.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى وعاء هذا الدين القرآن الكريم كتاب الله الخالد الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت/42)، ولذلك حرص المشركون ومن كان معهم من المنافقين وغيرهم عبر العصور السابقة؛ كما يحرصون عبر العصور اللاحقة على الحيلولة بين الناس وبين هداية القرآن الكريم، ولكن أنى لهم أن تجديهم محاولاتهم شيئا، والقرآن الكريم هو نور من عند الله سبحانه، وهو روح من لدنه كما وصفه سبحانه وتعالى بقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى/52) وكما يقول سبحانه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) (النساء/174)، فالقرآن الكريم مزق بنوره جميع العقب التي تحول بين الناس وبين إدراك الحقيقة، فأصبحت الحقيقة ماثلة للأبصار، وما كانت تلك المحاولات التي يحاولها أولئك الذين رانت على قلوبهم الضلالة للحيلولة بين القرآن وبين وصول هداه ونوره إلى أفكار الناس إلا كما يحاول أحد من الناس أن يحجب نور الشمس بكفيه، أو كما يحاول أحد من البله أن يردم البحر المحيط ببعرات يقذفها فيه ليقضي على تياره أو ليكدر صفوه، فإن القرآن الكريم يقضي على جميع الشبه التي يقذفه بها القاذفون؛ لأنه نور من عند الله، ومع تجدّد الزمن، ومع التطورات العلمية، ومع الاكتشافات الحادثة؛ فإن القرآن الكريم يتجدّد إعجازه؛ إذ نوره يزداد سطوعا بذلك  كما وعد الله عز وجل أن يكشف للناس آياته في الأنفس وفي الآفاق حتى يتبين لهم أنه الحق، فقد قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (فصلت/52 ـ 54)، فمع تجدد الزمن، ومع تجدد العلوم، ومع تطورات الحضارات لا يزال القرآن الكريم منارة شامخة يشرق نورها على العالمين كما وعد الله سبحانه وتعالى عندما ابتدأ إنزاله بقوله عز وجل: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (القلم/52)، وبقوله تبارك وتعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص/ 87 ـ 88).

وقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم كتابا عربيا، وقد جاء بأرقى ما تكون عليه العربية من البيان، فقد قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف/2)، وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف/3)، وقال: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد/37) فالقرآن الكريم جاء وقد بلغت العربية ذروتها في الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك تحدى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا، وتحداهم بأن يتظاهروا؛ بحيث يستظهرون بكل مَن ورائهم ولو كان العالمون بعضهم لبعض ظهيرا، وبيّن أنهم مع ذلك كله لن يقدروا على أن يأتوا بسورة من مثله فضلا عن أن يأتوا مثله، وهكذا بلغ القرآن هذا المبلغ من الإعجاز بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وقد كان القرآن الكريم سببا للحفاظ على هذا الإسلام، فإن القرآن الكريم جعله الله وعاء للإسلام، وقد حفظه كما حفظ به الإسلام، يقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/9)، فهو محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى طول الأمد والقرون، لم تستطع أيدي العابثين أن تطوله بشيء من التحريف والتبديل، وقد كان أيضا سببا للحفاظ على اللغة العربية، فقد تسابق أبناء الأعاجم في دراستها وبحث فنونها واشتقاقاتها والاطلاع على أسرارها، كل ذلك من أجل الحفاظ على القرآن الكريم، وقد صاروا يغارون على هذه اللغة أكثر مما يغارون على لغات أقوامهم؛ لأنها لغة الدين التي تجمع جميع المسليمن، فإن الله سبحانه وتعالى خاطب بها العالمين، وهم يخاطبون بها الله سبحانه عندما يمثلون بين يديه، فلئن تطاول سفهاء الأحلام من الذين لا يعرفون من العربية شيئا، ولا يعرفون من الدين شيئا؛ فإنما ذلك يدل على إفلاسهم وإفلاس من يقف وراءهم من أجل صد الناس عن سبيل الله، ودعوة الله تبارك وتعالى لا بد أن تصل إلى حيث أراد الله عز وجل، وحجته لا بد من أن تقضي على جميع الشبه، فإن ذلك وعد الله الذي لا يتبدل.

فاتقوا الله يا عباد الله، واستمسكوا بهذا الحبل المتين، وانهجوا هذا الصراط المستقيم، ولا تفرطوا في شيء مما أمركم الله تعالى به أو نهاكم عنه، فإن الله عز وجل يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (الأحزاب/36).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكـريم.

*         *        *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إن العاقل دائما يتعظ بغيره، ولكن الأحمق هو الذي يتعظ به غيره، فمن شأن البله والمجانين أن يكونوا عظة للعقلاء وعبرة للمعتبرين، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون هؤلاء المغفلون الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم كما أراد من قبلهم من قبل؛ شاء الله أن يكونوا عبرة للمعتبرين؛ كما كان الذين من قبلهم، فلو كان بهم شيء من العقول أو شيء من الإدراك لأدركوا أن هذا القرآن الكريم لا يمكن بحال من الأحوال أن يقف في وجهه شيء، ولا يمكن أن يحول أحد بينه وبين الوصول إلى عقول الناس وأفكارهم بنوره وهداه، فقد سبقت محاولات كثيرة، سبقت محاولات من الذين قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، والذين قالوا بأنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، والذين قالوا بأنه سحر، والذين قالوا بأن الذي جاء به مجنون، وكل هذه المحاولات لم تجدِ شيئا، وطوالَ أربعة عشر قرنا لم تتوقف المحاولات عن طمس نور هذا القرآن، ولكن أبى الله سبحانه وتعالى ذلك كما وعد سبحانه أن يتم نوره، فإن وعد الله لن يتبدل، وإن كلمة الله سبحانه وتعالى لن تتحول، فنور الله سبحانه يسطع على هذه العقول بهذا الهدى الذي بعث الله به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم طوال هذه القرون من غير أن يخفت في لحظة من اللحظات، ومن غير أن تستطيع محاولات الذين يريدون أن ينسجوا حوله الشبه أن يحولوا بينه وبين السطوع والإشراق، ولئن كان الأمر كذلك؛ فإن على هؤلاء أن يوفروا لعابهم، وأن يحاولوا بأن لا يستهلكوا طاقاتهم في هذه المحاولات البائسة التي لن تعود عليهم إلا بالفشل الذريع، ولن تعود إلا بتكشفهم أمام الناس وافتضاحهم أمام الأمة.

فاحرصوا يا عباد الله على الاستمساك بما أنزل الله تعالى من خير، واحرصوا على اتباع هذا النور، ففيه عزتكم في دنياكم، وفيه سعادتكم في آخراكم، ولقنوه أولادكم؛ فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو، واحرصوا على تربية أولادكم على تعاليمه وإرشاده، ففي ذلك سلامتهم في الدنيا وسعادتهم في العقبى.