بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أهمية الوحدة في الإسلام

الحمد لله الذي شرع لعباده شعائر الدين، وجعل فيها تأليفا بين قلوب عباده المؤمنين، سبحانه هو الإله الواحد الفرد الصمد،  الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 3 ـ 4)، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، فكانت أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 102 ـ 105)، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مدنيا بطبعه، اجتماعيا بفطرته، فلذلك كانت مصالح البشر متشابكة، ومنافعهم متداخلة، ولا يستغني أحد عن أحد مهما أوتي في هذه الدنيا من سلطان وجاه، وقوة ومال؛ ذلك من أجل أن يتعاون الناس على القيام بأعباء الخلافة في هذه الأرض؛ فإن الناس جميعا مستخلفون في هذه الأرض، ومؤتمنون على دين الله سبحانه وتعالى، فعليهم أن يتعاضدوا على هذا الخير، وأن يتعاونوا على هذا البر، وقد حض الله تبارك وتعالى على التعاون، فقد قال عز من قائل: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/2).

هذا.. ونجد في كتاب الله سبحانه من الآيات البينات الدالة على وجوب الوحدة والتآلف، والقضاء على أسباب التنافر والاختلاف؛ ما فيه تبصرة للعباد، فقد سمعتم ما سمعتموه من آيات الله تبارك وتعالى التي نزلت في سورة آل عمران تدعو إلى الاتحاد كما تدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وسمعتم فيها ما سمعتموه مما يدعو إلى نبذ أسباب الفرقة وما فيه من التحذير البالغ من كل ما يؤدي إلى التشتت والاختلاف، وقد بين الله سبحانه عاقبة التفرق والاختلاف عندما قال وهو أصدق القائلين: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال/46)، والله سبحانه وتعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة الجامعة التي تؤلف هذه القلوب بعد تنافرها، وتجمعها بعد شتاتها، وقد ألف الله سبحانه بعبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بين طائفتي المهاجرين والأنصار، فكانوا أمة واحدة متحدة في آلامها وآمالها، في عقيدتها وعباداتها، في مبادئها وغاياتها، كل قلب من قلوب أبنائها ينبض بما تنبض به القلوب الأخرى، كانوا متعاونين على الخير، متآمرين بالمعروف، متناهين عن المنكر، وقد قضى الله سبحانه بهذه الدعوة التي بعث بها عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كان بين طائفتي الأنصار الأوس والخزرج من الخلاف والشقاق، وقد امتن الله سبحانه على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم مظهرا للناس إعجاز هذا الدين الحنيف وآيات قدرته سبحانه عندما قال: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال/63)، ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحض على هذه الوحدة، فهو يحذر عليه أفضل الصلاة والسلام من كل ما يدعو إلى الفرقة والخلاف والنزاع بين الناس، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يخذله ولا يحقّره، بحسب امرئ من الشر أن يحقّر أخاه المسلم»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، ويقول صلى الله عليه وسلم في وصف المؤمنين أيضا: «يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».

جاء كتاب الله بما يدعو إلى القضاء على أسباب الفرقة والخلاف والتحذير البالغ منها، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/10)، ثم إنه سبحانه يقول إثر ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات/ 11 ـ 12)، ثم يبين للناس جميعا من أين منشؤهم، ومن أين تناسلوا، فهم أولاد أب واحد وأم واحدة، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، فلا داعي إلى التعالي بالأنساب والأحساب؛ لأنها لا زنة لها عند الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13) فتقوى الله هي ميزان التفاضل بين الناس، وبحسب ما يكون المؤمن عليه من تقوى الله تكون منزلته من الله سبحانه، فمن كان أكثر اتقاء لربه، وعملا بأمره سبحانه، وازدجارا عن نهيه؛ كان أقرب إلى الله، ومن كان بخلاف ذلك كان أيضا بخلاف ذلك.

وقد شرع الله تعالى هذه العبادات التي شرعها من أجل جمع الشمل، وتأليف القلوب، وتوحيد الصف، ورأب الصدع، فإن الله سبحانه وتعالى شرع كل عبادة من العبادات من أجل هذه الأمور السامية التي تؤدي بالعباد إلى الاتحاد في ظل العبودية لله، فقد شرع الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، وشرعها في الجماعات من أجل تأليف القلوب حتى يكون الاتجاه من قبل العباد إلى الله اتجاها واحدا، فالناس مطالبون بأن يتجهوا إلى ربهم سبحانه وتعالى اتجاها واحدا، لذلك علمهم الله سبحانه في السورة التي يكررونها في الصلاة في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن يقولوا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/5)، فهم يوجهون العبادة إلى الله بصيغة جماعية لا بصيغة فردية؛ لأن كل إنسان مطالب بأن يكون جزءا من كل، فالكل بمثابة الإنسان الواحد، وشرع الله سبحانه صلاة الجمعة من أجل ما فيها أيضا من الخير العظيم، والبر العميم، وقد حض على المسارعة إليها عندما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة/9)  وشرع الله سبحانه أيضا الزكاة لما فيها من دفع الخصاصة عن الفقراء، والتأليف بين قلوبهم وقلوب الأغنياء، واستلال الأحقاد والسخائم من قلوب هؤلاء الفقراء، وجعل قلوب الأغنياء تفيض بالمرحمة، وتفيض بعواطف الإحسان اتجاه إخوانهم الفقراء، وشرع الله سبحانه وتعالى الصيام، وأنتم الآن على أبواب شهره الكريم لهذه الغاية السامية؛ فإن في الصيام تعويدا للنفوس على الصبر، وتذكيرا لأولي اليسر بحاجات ذوي المسغبة، وجعل الله سبحانه وتعالى في الصيام روحانية بالغة، فلذلك كان الصوم من جملة أسباب تفجير مشاعر الرحمة في نفوس الناس، وعطف قلوبهم بعضها على بعض، وقد بين الله تعالى الغاية من الصيام في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/183)، وكذلك شرع الله سبحانه الحج من أجل هذه الغايات السامية، فهو ملتقى عظيم يجمع بين عباد الله المؤمنين الذين تلتقي وفودهم من كل فج عميق في ذلك الحرم الآمن والبلد الأمين في رحاب الله الطاهرة؛ حيث تعج ألسنة الناس جميعا بلسان واحد داعية الله سبحانه، معلنة التلبية لندائه، والاستجابة لأمره، فإذاً يجب على المؤمنين جميعا أن يتعاونوا على الخير، وأن يكون كل مؤمن أخا للآخر؛ بحيث لا يفصل بينه وبينه أي فاصل، يتحدان في المشاعر والأحاسيس، والآمال والآلام، كما يتحـدان في العقيـدة والعبادة.

فاتقوا الله يا عباد الله، واحرصوا على ما يقربكم إلى الله تعالى زلفى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 133 ـ 135).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*         *        *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب، وأستغفره وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد: 

فيا عباد الله اتقوا الله (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281)، وليتزود كل أحد منكم من يومه لغده، ومن حاضره لمستقبله، ومن حياته لمماته، ومن دنياه لآخرته، ومن يسره لعسره، واعلموا أن الناس تسير بهم ركابهم سيرا سريعا إلى الدار الآخرة التي إليها المنتهى، وإليها الترحال، وقد جعل الله تعالى في العبادات الدورية التي تتكرر بتكرر العام، والتي تتكرر بتكرر اليوم تذكيرا للناس بمضي هذه الأوقات؛ ليحاسب الإنسان نفسه عند كل عبادة من هذه العبادات، فالصيام مثلا في كل عام يذكر الناس بمرور العام، ويذكرهم بإقبال عام جديد، ومن أجل ذلك كان الواجب على كل من يستقبل شهر رمضان المبارك أن يستقبله بالتوبة ومحاسبة النفس، والرجوع إلى الرشـد، والعض بالنواجـذ على الخير.

فاتقوا الله يا عباد الله، وصلوا أنفسكم بالله، وصلوا أنفسكم بإخوانكم المؤمنين بالترابط معهم برباط المودة والإخاء، واتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم.