بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حقيقةُ الإيمانِ

 

الحمدُ للهِ الذي جعلَ الإيمانَ أماناً للمؤمنين ، ودليلاً على الصالحاتِ للعاملين ، وسبيلاً للسعادةِ في يومِ الدِّين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعْ اللهَ ورسولَه فقَدْ رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه ، وصفيُّه من خلقِه وخليلُه ، أرسلَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَه على الدِّينِ كلِّه ولو كرِهَ المشركون ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعْدُ :

    فيا عبادَ اللهِ :

     ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) ( آل عمران/102 ـ 103) ، واعلمُوا أنَّ الاعتصامَ بحبلِ اللهِ لا يكونُ إلا بالاستمساكِ بالعُروةِ الوُثقى التي هي الإيمانُ باللهِ واليومِ الآخرِ ، وبكلِّ ما أوجبَ اللهُ سبحانه وتعالى الإيمانَ به من أركانِ الإيمانِ ، والإيمانُ ليس مجرّدَ نظرياتٍ تدورُ بالنفسِ ، وإنما هو عقيدةٌ راسخةٌ في النفسِ ، عقيدةٌ لا يطرقُها الارتيابُ ، ولا ينالُ منها الاضطرابُ ، عقيدةٌ تستحكِمُ في النفسِ ، وتتعمّقُ في القلبِ ، وتسيطرُ على العقلِ ، وتوجّهُ الجوارحَ لطاعةِ اللهِ سبحانه وتعالى ، فالمؤمنُ حقّاً لا يرضى أن تكونَ هناك مفارقاتٌ بين عقيدتِه وبين واقعِه العمليِّ ، ولا بين عقيدتِه وبين واقعِه الاجتماعيِّ ، ومِن هنا نرى في كتابِ اللهِ تعالى ما يدلُّنا على حقيقةِ الإيمانِ من خلالِ وصفِه سبحانه وتعالى للمؤمنين ، فاللهُ عزَّ وجلَّ يقولُ : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات/15) ، ويقولُ سبحانه وتعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الأنفال/2 ـ 4) ، ويقولُ تباركَ وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( المؤمنون/1 ـ 11) ، هذه الآياتُ الكريمةُ تدلُّنا على أنّ الإيمانَ ـ كما قلتُ ـ عقيدةٌ راسخةٌ في النفسِ ، مهيمنةٌ على العقلِ والقلبِ ، والمشاعرِ والوِجدانِ ، عقيدةٌ تتحكّمُ في نفسِ الإنسانِ حتى تجعلَه يسخّرَ جميعَ أعمالِه لحسَبِ ما تقتضيه هذه العقيدةُ ، عقيدةٌ تجعلُ الإنسانَ لا يرضى بحياةِ الجاهليةِ من حولِه .

      ولذلك لا يقِفُ أمرُ المؤمنِ عند إصلاحِ نفسِه فحسب ؛ بإقامِ الصلاةِ ، والإنفاقِ كما أوجبَ اللهُ تعالى عليه من رزقِ اللهِ ، واجتنابِ محارمِ اللهِ ، بل يحرصُ المؤمنُ بجانبِ ذلك على أن يكونَ الناسُ سائرين في هذا المنهجِ القويمِ ، مستقيمين على هذا الصراطِ المستقيمِ ، ولذلك جاء في وصفِ المؤمنين الجهادُ بالأنفسِ وبالأموالِ في سبيلِ اللهِ ، وذلك لأجلِ إقامةِ الحياةِ الإسلاميةِ ، ولأجلِ توجيهِ الناسِ إلى طريقِ اللهِ تعالى الذي يؤدي إلى مرضاتِه عزَّ وجلَّ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنَّ الإيمانَ ليس مجرّدَ تمتماتٍ يُتمْتِمُها بلسانِه ، وإنما الإيمانُ منهجُ حياةٍ ، فقد قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « الإيمانُ بضعٌ وستون ـ وفي روايةٍ بضعٌ وسبعون ـ شعبةً ، أعلاها كلمةُ لا إلهَ إلا اللهُ ، وأدناها إماطةُ الأذى من الطريقِ » ، فإماطةُ الأذى من الأمورِ التي يراها الإنسانُ عاديةً حسَبَ مألوفِ الناسِ ، ولكنَّ اللهَ سبحانه وتعالى جعلَ لهذا العملِ وزناً كبيراً عنده ، إذْ جعلَه شُعبةً من شُعَبِ الإيمانِ ، ويقولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « لا يؤمنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه » ، وهذا يعني أن تكونَ بين المؤمنين وحْدةُ المشاعرِ والأحاسيسِ ، وحْدةُ المبادئِ والأهدافِ ، وحْدةُ الآلامِ والآمالِ ، فيُحِسُّ المسلمُ بأحاسيسِ سائرِ المسلمين ، ويقولُ الرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حلاوةَ الإيمانِ : أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ ، وأن يكرَهَ أن يعودَ في الكفرِ كما يكرهُ أن يُقذفَ في النارِ » ، ويقولُ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ : « لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه مِن والدِه وولدِه والناسِ أجمعين » ، وفي روايةٍ أخرى عنه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ : « والذي نفسِي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه » .

       وهذا يعني أن تكونَ أحاسيسُ النفسِ نتيجةً لهذا الإيمانِ ، تُعبِّرُ عنه ، وتصدِّقُها بجانبِ ذلك الأعمالُ الصالحةُ ؛ فإنّ محبةَ اللهِ عزَّ وجلَّ تستدعي طاعتَه ، ومحبةَ الرسولِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ تستدعي طاعتَه ، فإنّ الإنسانَ مع مَن أحبَّ ، وإذا كان مِن شأنِ الإنسانِ أن يُسارِعَ في هوى أحبابِه مِن الناسِ ؛ فكيفَ إذا كان محباً للهِ تعالى الذي برَأَه فسوّاه في أحسنِ تقويمٍ ، ومنَّ عليه بالآلاءِ الظاهرةِ والباطنةِ ، وكيف بمحبةِ الرسولِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ الذي هو أعظمُ البشرِ منزلةً ، وأرفعُهم قدْراً ، والذي جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى مفتاحاً للهدى وباباً للخيرِ ، فالناسُ جميعاً ما عرَفُوا الهدى إلا من طريقِه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ ، لذلك كانت متابعتُه صلى الله عليه وسلم عنواناً على الإيمانِ ، ومِن هنا جاءت متابعتُه صلى الله عليه وسلم في الكتابِ العزيزِ واقعةً بين قُطْرَيْ محبةِ العبادِ للهِ ومحبةِ اللهِ للعبادِ ، فقَدْ قالَ اللهُ سبحانه وتعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( آل عمران/31) .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصُوا على هذا الإيمانِ الذي تنبِضُ به قلوبُكم ، وتُحِسُّ به مشاعرُكم ، وتصدِّقُه أعمالُكم ، فإنَّ الإيمانَ ليس بالتمنّي ، ولكنْ ما وقَرَ في القلبِ ، وصدّقَه العملُ ، واحرصُوا على أن تصدِّقُوا هذا الإيمانَ بكلِّ ما تأتونه ، وبكلِّ ما تذرونه بحيثُ تكونُ أعمالُكم كلُّها ترجمةً لهذا الإيمانِ ؛ بحيثُ تكونُ مُطابِقةً لتشريعِ اللهِ سبحانه وتعالى . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاسْتغفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادْعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*          *            *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعْدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     إذا كانَ قيامُ الأجسامِ بالأرواحِ فإن قيامَ الأرواحِ بالإيمانِ ، ذلك لأنّ الإيمانَ هو الذي يحلُّ ملغزاتِ هذه الدنيا ، ويكشِفُ جوانبَها المُتعَتِّمةَ على عقلِ الإنسانِ ، ويفتحُ للإنسانِ نوافذَ ليُطِلَّ على عوالمِ الغيبِ ، فبالإيمانِ يعرِفُ الإنسانُ ربَّه تعالى ، وبالإيمانِ يتصلُ الإنسانُ بالملأِ الأعلى ، وبالإيمانِ يعرِفُ الإنسانُ مصيرَ البشرِ يومَ القيامة ، فيعملُ بحسّبِ ما يقتضيه الواجبُ الذي فرضَه اللهُ سبحانه وتعالى عليه ، وبحسَبِ ما تقتضيه به مصلحتُه في الدارِ الآخرةِ التي إليها الترحالُ ، والإيمانُ هو الذي ينتزِعُ من القلوبِ السخائمَ والأحقادَ ، ويوحِّدُ بين مشاعرِ المؤمنين كما يدلُّ على ذلك قولُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم : « المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشدُّ بعضَه بعضاً » ، ويقولُ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ : « مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثَلِ الجسدِ ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمّى والسهرِ » .

    فاحْرِصُوا رحمَكم اللهُ على ترسيخِ جذورِ الإيمانِ في قلوبِكم ، وأشعلُوا شُعلتَه في عقولِكم لتستنيرَ هذه العقولُ بنورِه ، ولتستَمِدَّ من هذا الضياءِ الذي يبيّنُ لها طريقَ الحقِّ ، واسلكُوا طريقَ الإيمانِ في كلِّ تصرفاتِكم وفي كلِّ أعمالِكم ، في حالِ غضبِكم وفي رضاكم ، في حالِ مكرهِكم وفي منشطِكم ، وليكُنْ عطاؤكم ومنعُكم بحسَبِ ما يقتضيه الإيمانُ ، ورضاكم وسخطُكم بحسَبِ ما يقتضيه الإيمانُ ، وجميعُ تصرفاتِكم بحسَبِ ما يقتضيه هذا الإيمانُ .