بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

خشيةُ اللهِ سببٌ لسلامةِ الدنيا وسعادةِ العقبى

 

   الحمدُ للهِ الذي أمرَ بطاعتِه ، ووعدَ عليها حسنَ الثوابِ ، ونهى عن معصيتِه ، وتوعّدَ عليها سوءَ العقابِ ، وجعلَ خشيتَه مؤديةً إلى أحسنِ الصنائعِ ، وجعل اتّباعَ الهوى مفضياً إلى ارتكابِ أقبحِ الشنائعِ ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقدْ رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ إلى خلقِه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمةَ ، وكشفَ اللهُ به الغمةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، واعلموا أنّ خشيةَ اللهِ سبحانه هي سببٌ لسلامةِ الدنيا وسعادةِ العُقبى ، واعلموا أنَّ أضرَّ ما يضرُّ بالإنسانِ أن يعصيَ ربَّه سبحانه ، وأن يُطيعَ هواه ؛ فإنَّ طاعةَ الهوى مدعاةٌ لسوءِ الأعمالِ في هذه الحياةِ الدنيا ، ومفضيةٌ إلى ارتكابِ ما قدّرَ اللهُ سبحانه وتعالى منه ،كما أنّ طاعةَ الهوى يؤدي إلى الهوانِ في الدارِ الآخرةِ ، وقد حذّرَ اللهُ سبحانه وتعالى من طاعةِ الهوى ، وأمرَ الناسَ أن يتغلّبُوا على هواهم ، وأن يطيعوا ربَّهم سبحانه ، فقدْ قالَ اللهُ سبحانه وتعالى : ( فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات/37 ـ 41) ، وحسْبُ الإنسانِ العاقلِ اللبيبِ فارقاً بين المصيرين ما يسمعُه في هاتين الآيتين الكريمتين ، فالفرقُ شاسعٌ جدّاً بين مَن يُطيعُ هواه ومن يعصي هواه ، فمَن تغلَّبَ على هواه استطاعَ أن يضبِطَ حركاتِه وسكناتِه كلَّها بضوابطِ الشرعِ ، واستطاعَ أن يوجِّهَ حياتَه بأسرِها الوِجهةَ المرضيةَ ، فبذلك تستقيمُ أحوالُه الظاهرةُ والباطنةُ ، وتصلحُ سريرتُه وعلانيتُه ، وأما مَن أطاعَ هواه ، واستأسرَ لهذه الحياةِ الدنيا ؛ فإنه ولا ريبَ ينسى الدارَ الآخرةَ ، ويصبحُ بذلك أسيرَ شهوتِه مستسلِماً للشيطانِ ، مُنقاداً لدعوتِه ، لا يُبالي بما يأتيه وما يذرُه في هذه الحياةِ الدنيا ، وبذلك تضطرِب أحوالُه ، وتفسدُ سريرتُه وعلانيتُه ، على أنَّ طاعةَ الهوى هي سببٌ لارتكابِ المعاصي بأسرِها ، فما مِن معصيةٍ يرتكبُها الإنسانُ إلا والهوى داعيه إليها ، فالانقيادُ لهذه الحياةِ الدنيا ونسيانُ الآخرة إنما ينشأُ عن هوى النفوسِ ، ولذلك حذَّرَ اللهُ سبحانه وتعالى أيّما تحذيرٍ من الركونِ إلى الحياةِ الدنيا ، وبيّنَ أنّ الذين يركنون إلى الحياةِ الدنيا لا نصيبَ لهم إلا ما يجنونه فيها من ثمراتِها ، فقدْ قالَ سبحانه وتعالى : ( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) ( الإسراء/18 ـ 19) ، وقالَ سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( هود/15 ـ 16) .

    ولا ريبَ أنّ الذي يستأسِرُ لشهوتِه ، وينقادُ لها حتى توقعَه في الرذيلةِ ، وتسربِلَه بسربالِها ؛ إنما هو مستجيبٌ لهواه ، فمَن ارتكبَ الفحشاءَ فقدْ استجابَ لهواه ، ولذلك كان على الإنسانِ أن يُكابِرَ هذه الشهوةَ ، وأن يطيعَ ربَّه سبحانه وتعالى ؛ فإنّ اتباعَ الشهواتِ مُفضٍ ـ والعياذُ باللهِ ـ إلى خطرٍ عظيمٍ ، فاللهُ سبحانه وتعالى يقولُ : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) ( مريم/59) ، ولذلك كانَ واجباً على الإنسانِ أن يُكابِرَ شهوتَه ، وأن يسخّرَ غريزتَه في طاعةِ اللهِ سبحانه وتعالى ، لا أن يستأسِرَ لها ، وينقادَ إلى معصيتِه عزَّ وجلَّ .

   وكذلك الذي يجمعُ حطامَ هذه الحياةِ الدنيا ، ولا يبالي بما يكتسِبُه من أموالٍ من أيِّ بابٍ كان ؛ فإنما ذلك مجردُ استجابةٍ لهذا الهوى الذي يجعلُ الشهوةَ الماليةَ تتأجّجُ في نفسِ الإنسانِ ، ولذلك شرعَ اللهُ سبحانه وتعالى ما شرعَ مِن غضِّ هذه الشهوةِ ، وقيّدَها بقيودِ الشرعِ ، فأوجبَ أن يكونَ اكتسابُ المالِ مِن الوجوهِ المشروعةِ ،كما أوجبَ سبحانه وتعالى أن يكونَ بذْلُ المالِ في الوجوهِ التي شرعَ فيها البذْلَ ، وقد جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيانِ ما يُسألُ عنه العبدُ يومَ القيامةِ : « وعن مالِه مِن أينِ اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقه ؟ » ، لذلك كان لِزاماً على الإنسانِ أن يحرِصَ على اكتسابِ المالِ من الوجوهِ المشروعةِ ، وأن يتركَ الوجوهَ المحرمةَ ، وقد حذّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ من أخذِ المالِ من غيرِ حلِّه ، وقد قالَ عزَّ وجلَّ : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة/188) ، ويقولُ سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) ( النساء/29 ـ 30) ، وحذَّر اللهُ سبحانه وتعالى من أكْلِ الربا إذْ قالَ عزَّ وجلَّ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة/275) ، وقالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) ( البقرة/278 ـ 279) ، وقد جاءَ التحذيرُ من الغشِّ على لسانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذْ قال ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « مَن غشَّنا فليسَ مِنَّا » ، وجاءَ أيضاً في الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « القليلُ مِن أموالِ الناس يُورِثُ النارَ » ، وقالَ صلى الله عليه وسلم : « مَن اقتطعَ حقَّ مسلمٍ بيمينِه حرّمَ اللهُ عليه الجنةَ وأوجبَ له النارَ » ، وقد جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى في الإنفاقِ المشروعِ الذي أمرَ اللهُ به عزَّ وجلَّ مُداواةً لهذه الشهوةِ ، فإنَّ الإنسانَ باعتيادِه الإنفاقَ ـ إنفاقَ المالِ فيما أمرَ اللهُ تعالى بالإنفاقِ فيه ـ يُعالِجُ شهوتَه النفسيةَ ، ويُكابِرُ بذلك هذه الرغبةَ حتى يستطيعَ أن يُوجِّهَها الوِجهةَ المرضيةَ ، وحتى يستطيعَ أن يتخلَّصَ من شرِّها وأذاها .

     فلذلك كانَ جديراً بالإنسانِ وهو يخشى اللهَ سبحانه وتعالى ويتقيه ويرجو الدارَ الآخرةَ أن يعصيَ هواه ، وأنَ يؤثرَ آخرتَه على دنياه ، فإنّ اللهَ سبحانه وتعالى ضربَ الأمثالَ الكثيرةَ في هذه الحياةِ الدنيا من أجلِ بيانِ هوانها على اللهِ ، ومن أجلِ بيانِ حقارتِها في موازينِه عزَّ وجلَّ ، فقد قالَ سبحانه : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( يونس/24) ، ثم بيّنَ سبحانه وتعالى ما هي الدارُ التي يدعو إليها ، ويجبُ على المؤمنِ أن يحرِصَ عليها ، قالَ : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( يونس/25) ، ثمّ بيّنَ مصيرَ الناسِ في تلك الدارِ بحسبِ ما عَمِلُوا في هذه الدارِ إذْ قالَ : ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( يونس/26 ـ 27) ، ويقولُ سبحانه : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) ( الكهف/45 ـ 46) ، فإذاً على الإنسانِ أن يحرِصَ على الباقياتِ الصالحاتِ ، على ما يقرِّبُه إلى اللهِ تعالى زُلفى ، وأن يسخّرَ حياتَه هذه كلَّها لطاعتِه عزَّ وجلَّ ، وأن يحرِصَ على تغلّبِه على شهواتِه ورغباتِه وهواه حتى لا يكونَ أسيراً لها ، وحتى يتخلّصَ من شرِّها ، ويكونَ سائراً في الدربِ الذي يُفضي به إلى سلامةِ الدنيا وسعادةِ العُقبى .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرِصُوا على ما يُقرِّبُكم إليه زُلفى . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّين ، أما بعدُ :    

   فيا عبادَ اللهِ :

    اتقوا اللهَ ، واستغلُّوا أوقاتَكم في طاعتِه عزَّ وجلَّ ؛ فإنّ الإنسانَ مسؤولٌ بين يدَيْ اللهِ يومَ القيامةِ عن حياتِه ، عن عُمُرِه فيمَ أفناه ، وهو مسؤولٌ أيضاً عن شبابِه فيمَ أبلاه ، فعلى الإنسانِ أن يقضّيَ أوقاتَ فراغِه في طاعةِ اللهِ ، وفيما يعودُ إليه بالخيرِ ، ويعودُ على أمتِه بالخيرِ ، والأوقاتُ هي نعمةٌ من اللهِ سبحانه ، إذْ كلُّ لحظةٍ من لحظاتِ هذا الكونِ إنما هي على حسابِ العُمُرِ ، فهي جوهرةٌ لا تعوّضُ ، والإنسانُ الذي يُفوِّتُها في القيلِ والقالِ ، وفي اتباعِ الشهواتِ ، والانقيادِ للرذائلِ ؛ إنما أضاعَ فرصةً ثمينةً لا يمكنُ أن تُعوّضَ أبداً ، إذْ لا يمكنُ للإنسانِ أن يستدرِكَ ما فاتَ من وقتٍ ، فإنّ الوقتَ بحسبانٍ ، وكلَّ لحظةٍ إنما هي خطوةٌ من خطواتِ الإنسانِ التي تُدنيه من لقاءِ اللهِ سبحانه وتعالى ،كما أنّ على الإنسانِ أن يحرصَ في هذه الأوقاتِ على أن لا يستغلَّ فراغَه فيها في الكذبِ الذي هو شرُّ الصنائعِ وشرُّ الأعمالِ التي يتعوّدُها الإنسانُ ، فإنّ الحديثَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : « عليكم بالصدقِ ؛ فإنَّ الصدقَ يدعو إلى البرِّ ، وإنّ البِرَّ يدعو إلى الجنةِ ، وإنّ الرجلَ ليصدقُ ، ويتحرّى الصدْقَ حتى يُكتبَ عند اللهِ صدِّيقاً ، وإياكم والكذبَ ؛ فإن الكذبَ يهدي إلى الفجورِ ، وإنّ الفجورَ يهدي إلى النارِ ، وإنّ الرجلَ ليكذِبُ ، ويتحرّى الكذبَ حتى يكتبَ عند اللهِ كذّاباً » ، وإنّ من الاستئسارِ للهوى والانقيادِ لشهوةِ النفسِ أن يُضيّعَ الإنسانُ أوقاتَه في الكذبِ ؛ بحيثُ يريدُ أن يتندّرَ في كلامِه ، وأن يُثيرَ ضحِكَ الآخرين بما يُمليه من النكاتِ الكاذبةِ ، وذلك من أسوءِ الأعمالِ التي تؤدي به ـ والعياذُ باللهِ ـ إلى سخَطِ اللهِ ، فقد جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « ويلٌ للرجلِ يُحدِّثُ الناسَ ليُضحِكَهم فيكذبُ ، ويلٌ له ، ويلٌ له » .

     فجديرٌ إذاً بالعاقلِ أن يتقيَ اللهَ سبحانه وتعالى ، وأن يحرصَ على ضبْطِ كلماتِه ، ويحرصَ كلَّ الحرصِ على وزْنِ ما يقولُ بميزانِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فإنّ الإنسانَ مسؤولٌ عما يقولُ ، فقد أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذاً ـ رضيَ اللهُ عنه ـ في وصيتِه له إلى مِلاكِ الأمرِ بإشارتِه إلى لسانِه ، فقالَ له : أوَ إنّا مؤاخذون بما نقولُه ؟! يا رسولَ اللهِ ، فقالَ له صلى الله عليه وسلم : « ثكلتْكَ أمُّك ! وهل يكبُّ الناسَ في الناِر على مناخرِهم ـ أو قالَ على وجوهِهم ـ إلا حصائدُ ألسنتِهم ؟! » .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واستغلُّوا فرصةَ هذه الحياةِ في تقوى اللهِ والمسارعةِ إلى رضوانِه ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( البقرة/281) .