بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحثُّ على الزواجِ وتيسيرِه

 

   الحمدُ للهِ الذي ( خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ) ( النجم/45 ـ 46) ، وشرّفَ الإنسانَ بأن أباحَ له النكاحَ ، وحرّمَ عليه السِّفاحَ ؛ لِما في ذلك من حسْنِ النظامِ وحفظِ الوئامِ ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، خلقَ فسوّى ، وقدّرَ فهدى ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، بعثَه اللهُ بأقومِ السُّننِ ، وأعدلِ السَّننِ ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمّةَ ، وكشفَ الغمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنّتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

       إنَّ حكمةَ اللهِ سبحانه وتعالى اقتضتْ أن يكونَ ميلُ كلِّ واحدٍ من الجنسين الذكرِ والأنثى إلى الجنسِ الآخرِ ميلاً غريزيّاً قويّاً عميقاً ؛ لِما في ذلك من بقاءِ الجنس واستمرارِه ، وما في ذلك من امتدادِ النسْلِ الذي جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى امتداداً للنوعِ نفسِه ، وقد ميّزَ اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ بأنْ جعلَ اللقاءَ بين جنسيه الذكرِ والأنثى في إطارِ نظامٍ يستمدُّ قدسيتَه من شرعِ اللهِ سبحانه وتعالى ، ذلكم النظامُ هو الزواجُ الشرعيُّ الذي امتنَّ اللهُ سبحانه وتعالى به على عبادِه حيثُ قالَ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الروم/21) ، وقالَ عزَّ مِن قائل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء ) ( النساء/1) ، وهذا النظامُ أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بالمحافظةِ عليه ؛ لِما فيه من تكريمِ هذا الإنسانِ ، ورفْعِ قدْرِه ، وإعلاءِ شأنِه ؛ حتى لا يكونَ شأنُه شأنَ البهيمةِ العجماءِ التي ينزو ذكَرُها على أنثاها من دونِ محافظةٍ على أيِّ نظامٍ ، فالإنسانُ الذي جعلَه اللهُ سبحانه خليفةً في الأرضِ ، وحمّلَه ما حمّلَه من الأمانةِ ؛ جديرٌ بأن تختلفَ حالتُه عن حالةِ البهائمِ العجماءِ ، وقد جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى مِن مزايا هذا النظامِ حفْظَ الأنسابِ وصلةَ القراباتِ ؛ ذلك لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جعلَ حياةَ الإنسانِ في هذه الأرضِ حياةً مدنيّةً اجتماعيّةً ، ومِن أعظَمِ أواصرِ هذه الحياةِ أواصرُ القربى ، ومن أعظَمِ الرِّباطِ بينها ما يكونُ بين الآباءِ والأمّهاتِ من ناحيةٍ ، وبين الأبناءِ والبناتِ من ناحيةٍ أخرى ، ذلكم الرابطُ الذي يستمرُّ حتى تكونَ الأجيالُ المتلاحقةُ حلقاتٍ في سلسلةٍ واحدةٍ ، وبهذا يكونُ كلُّ إنسانٍ امتداداً لآبائِه الماضين وأسلافِه الغابرين .

      وقد أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بتيسيرِ المحافظةِ على هذا النظامِ ؛ كما نجدُ ذلك واضحاً في قولِه : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) ( النور/32) ، وحثَّ عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، فقدْ قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « يا معشرَ الشبابِ ، مَن استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوّجْ ، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصومِ ؛ فإنّه له وجاءٌ » ، وانظروا كيفَ أمرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالزواجِ أوّلاً ، ثم أمرَ بالصيامِ ثانياً إذا ما تعذّرَ الزِّواجُ ؛ لأجلِ حفْظِ العفّةِ والشرفِ والكرامةِ ، في هذا ما يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ الزواجَ ينبغي أن يحرصَ عليه كلُّ إنسانٍ ، والرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ اشتدَّ غضبُه على الذين أرادوا أن يتبتّلوا من صحابتِه ، وأخبرَهم بأنَّ من سنّتِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ إتيانَ النساءِ ، ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ صلى الله عليه وسلم : « ومَن رغبَ عن سنّتي فليسَ منّي » ، هكذا يأمرُنا الإسلامُ بالمحافظةِ على هذا النظامِ وتيسيرِه وعدَمِ التفريطِ فيه .

    وقد جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى هذا النظامَ يتمُّ في إطارِ كثيرٍ من الأحكامِ ، مِن بينها الصداقُ الذي فرضَه اللهُ تعالى للنساءِ على أزواجِهنَّ حيثُ قالَ : ( وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ( النساء/4) ، وفي حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على أنَّ هذا الصداقَ هو شرطٌ من شروطِ صحةِ النكاحِ ، فقدَ قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « لا نكاحَ إلا بوليٍّ وصداقٍ وبيّنةٍ » ، هذا الصداقُ هو حقٌّ للمرأةِ المتزوّجةِ وحدها ، وليسَ حقّاً لوليِّها ، ولا لأيِّ أحدٍ من أقربائِها ، وهو شيءٌ يتوقّفُ عليه صحةُ النكاحِ ، ولا اعتبارَ بكثرتِه وقِلّتِه ، فالرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ قالَ لأحدٍ من الناسِ أرادَ أن يزوِّجَه : « التمسْ ولو خاتماً من حديدٍ » ، فكلُّ ما يُملَكُ ويمكنُ الانتفاعُ به يجوزُ أن يكونَ صداقاً للمرأةِ ، وليستْ كثرةُ صداقِ المرأةِ دليلاً على قيمتِها ، بل بالعكسِ ، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ : « أكثرُهنَّ بركةً أيسرُهنَّ مهراً » ، ولو كانَ صداقُ المرأةِ هو رمزُ قيمتِها لكانت بناتُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أولى بأن تكونَ صدُقاتُهنَّ أكثرَ الصدُقاتِ ، وقد كان صدُقاتُ بناتِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أيسرَ الصدُقاتِ ، كما كانت صدقاتُ أزواجِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ أيضاً أيسرَ الصدقاتِ ، أمَا في هذا ما يكفي العاقلَ دليلاً على أنَّ صداقَ المرأةِ ليس هو رمزاً لقيمتِها ؟! إنّما قيمتُها العفّةُ والطهارةُ وتقوى اللهِ سبحانه وتعالى ، وقد أمرَ الرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بتزويجِ العفيفِ ، فقد قالَ : « إذا جاءَكم مَن ترضَون دينَه وخُلُقَه فزوِّجوه » ، ثمَّ قالَ بعد ذلك : « إنْ لم تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ » .

    واللهُ سبحانه وتعالى بيّنَ في كتابِه العزيزِ وجوبَ المسارعةِ إلى إنكاحِ المرأةِ حيثُ قالَ : ( فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة/232) ، فليسَ للوليِّ أن يعضلَ وليّتَه عن الزواجِ ، بل عليه أن يسارعَ إلى تزويجِها ، وأن يجعلَ صداقَها من أبسطِ الصدقاتِ حتى يتمَّ تزويجُها في أيسرِ وقتٍ ، وما المغالاةُ في مهورِ النساءِ إلا سببٌ من أسبابِ عرقلةِ الزواجِ ، وهو إمّا أن ينشأَ عن الترفِ الذي انتشرَ في الأرضِ ، وسادَ بين الناسِ ، وإمّا أن يكونَ ناشئاً عن جشَعِ الآباءِ الماليِّ ، مع أنَّ الآباءَ ليس لهم أيُّ حقٍّ في صدقاتِ بناتِهم ، فاللهُ تعالى قالَ : ( وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ( النساء/4) ، ولم يقلْ وآتوا آباءَ النساءِ ، أو آتوا أولياءَ النساءِ صدقاتِهن ، بل أمرَ أن تؤتى النساءُ صدقاتِهن ، ومن ساقطِ المروءاتِ أن يحرصَ الأبُ على المالِ من خلالِ تزويجِه لكريمتِه ، فإنَّ ذلك شيءٌ تأباه المروءةُ ، ويأباه الشرفُ ، فضلاً عن الدينِ الحنيفِ ، فيجبُ على الآباءِ أن يرتدِعوا عن هذا الجشَعِ الذي امتلكَ نفوسَهم ، والذي كان سبباً لانتشارِ الفسـادِ في الأرضِ .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرِصوا على الخيرِ ، ويسِّروا ما أمرَكم اللهُ سبحانه وتعالى بتيسيرِه من زواجِ الإناثِ بالذكورِ ؛ فإنَّ في ذلك عفّةً لأنفسِكم ، وعفّةً لأولادِكم ، وعفّةً لمجتمعِكم ، وفي ذلك الوقايةَ من عارِ الدنيا ونارِ الآخرةِ . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفروا اللهَ يغفرْ لكم ؛ إنّه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجبْ لكم ؛ إنّه هو البرُّ الكريمُّ .

*         *          *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ في أنفسِكم ، واتقوا اللهَ في أولادِكم ، واعملوا بما أمرَكم اللهُ سبحانه وتعالى به ، وانتهُوا عمّا نهاكم اللهُ تعالى عنه ، واعلموا أنّكم محاسبون على أنفسِكم ، ومحاسبون على أولادِكم ، ومحاسبون على ذويكم ، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : ( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ( التحريم/6) ، فاتقوا اللهَ في أنفسِكم ، واتقوا اللهَ في الذين جعلَهم تحت أيديكم ، وأحسِنوا سياسةَ أمورِهم ، وإيّاكم والطمعَ ؛ فإنَّ الطمعَ يُردِي في نارِ جهنّمَ ، كما يؤدي إلى العارِ في هذه الحياةِ الدنيا ، واعلموا أنَّ ما فرضَه اللهُ سبحانه وتعالى من الصدقاتِ للنساءِ إنّما هو حقٌّ جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى للتمييزِ بين النكاحِ والسِّفاحِ ، ولا يتوقّفُ ذلك على المغالاةِ ، بل إنَّ المغالاةَ من المحجوراتِ ، وقد همَّ أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ الخطابِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ أن يحدّدَ صدقاتِ النساءِ في وقتِه ، معَ أنَّ الصدقاتِ في ذلك الوقتِ لم تكنْ بلغتْ ما بلغتْ إليه الآنَ من المغالاةِ ، فاتقوا اللهَ ، وأحسِنوا أحوالَكم يُحسِنِ اللهُ سبحانه وتعالى عاقبتَكم .