بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الدروسُ المستفادةُ من حادثةِ الإسراءِ والمعراجِ

 

الحمدُ للهِ الذي شرّفَ نبيَّه المصطفى وحبيبَه المجتبى ، إذْ أسرى به ليلاً مِن المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى ، فأراه من آياتِه ما أرى ، وبوَّأه الدرجاتِ العلى ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، مَن يُطعِ اللهَ ورسولَه فقد رشَدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ على فترةٍ من الرسلِ ، وانقطاعٍ من الوحي ، وضلالةٍ من الأمم ، وفسادٍ من الأخلاقِ ، وانحطاطٍ من القيم ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصَحَ الأمّةَ ، وكشَفَ الغمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمّدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ مَن اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنّتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     لقد اعتادَ المسلمون في هذه الأيامِ وأسلافِها أن تتجدّدَ في نفوسِهم ذكرى من ذكرياتِ الرسولِ ـ عليه وعلى آلِه وصحبِه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ ، وهي ذكرى الإسراءِ والمعراجِ ، وقد نصَّ القرآنُ الكريمُ نصّاً صريحاً على الإسراءِ ، وجاء مُشيراً إلى المعراجِ ، فقد قالَ في الإسراءِ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ( الإسراء/1) ، وأشار إلى المعراج في قوله :  ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ( النجم/5 ـ 9) إلى آخرِ هذه الآياتِ الكريمةِ التي يشيرُ اللهُ تباركَ وتعالى فيها إلى أنّه أكرمَ عبدَه ورسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم ، إذ أراه ما أراه من آياتِه الكبرى عندما بوَّأه الدرجاتِ العلى ، والإسراءُ درجةٌ ومنزلةٌ عظيمةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ذلك لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ابتلاه ـ عليه وعلى آلِه وصحبِه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ في ذلك الوقتِ الذي كان يُلاقي فيه لأواءَ العنَتِ من قومِه ، إذ أعرضوا عنه ،  وكذّبوه ، وجابهوا الدعوةَ التي جاءَ بها ، وكذَّبوا المعجزةَ الباهرةَ التي اختصَّه اللهُ سبحانه وتعالى بها ، وهي معجزةُ القرآنِ الكريمِ ، ابتلاه اللهُ سبحانه وتعالى في ذلك الوقتِ برزيّتين كبيرتين ، فقد فَقَدَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ في ذلك الوقتِ عمَّه الذي كان يحنو عليه ، ويدافِعُ عنه شرَّ ما كان يلقى من قومِه ، ثمَّ فقَدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السيدةَ الحنونَ زوجَه الوفيّةَ خديجةَ الكبرى ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ ، فكانت مصيبتُه مصيبةً فادحةً ، وكادت الدعوةُ الإسلاميةُ أن تلفظَ أنفاسَها في ذلك اليومِ المكفهرِّ العابسِ في مكةَ المكرمةِ عندما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُلاقي ما يُلاقي من عنَتِ قومِه .

     وقد شاءَ اللهُ سبحانه وتعالى أن يأتيَ بعد ذلك صلى الله عليه وسلم إلى الطائفِ ، يدعو أهلَها إلى الإسلامِ مُبشّرِاً وداعياً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، ولكنَّ أهلَ الطائفِ كانوا أعتى وأشدَّ من قريش ، فلقيَ صلى الله عليه وسلم ما لقيَ مِن قِبلِهم ، فقد أغروا به السفهاءَ حتى أسالوا دمَه الشريفَ صلى الله عليه وسلم ، وآوى إلى بستانِ عتبة بنِ ربيعة ، وضرعَ إلى اللهِ سبحانه وتعالى قائلاً : « اللهمَّ إني أشكو إليك ضعْفَ قوّتي ، وقِلّةَ حيلتي ، وهواني على الناسِ ، أنت ربُّ المستضعفين وربُّ كلِّ شيءٍ ، إلى مَن تكِلُني ؟! إلى عدوٍّ ملّكَته أمري أم إلى بعيدٍ يتجهّمُني ؟! إن لم يكنْ بك غضبٌ عليّ فلا أبالي ، ولكن عافيتُك أوسعُ لي ، أعوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ ، وصلحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ أن تُنزِلَ بي غضبَك ، أو يحلَّ بي سخطُك ، لك العُتبى حتى ترضى ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بك » ، فإذا باللهِ سبحانه وتعالى يكرِمُه أوّلَ ما يُكرِمُه بإيمانِ الجنِّ به ، وكأنّما سبحانه وتعالى ينبِّئُه بذلك أنّه إنْ كفرَ الإنسُ بدعوتِه فقد هيّأَ الجنَّ لهذه الدعوةِ فآمنوا بها ، ثمَّ إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أكرمَه بعد ذلك بالإسراءِ من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركَ اللهُ حولَه ؛ بأنْ جعلَه مُتنزَّلاً للرسالاتِ ، وموئِلاً للنبوّاتِ ، وفي هذا ما يشيرُ إلى إمامتِه صلى الله عليه وسلم  بالنبيّين ، وأنَّ دعوتَه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ إنّما جاءت ختاماً لتلك الدعواتِ السابقةِ التي قامَ بها المرسلون مِن قبلُ ، وأنَّ أمّتَه صلى الله عليه وسلم هي وريثةُ الأممِ في مقدّساتِها ، وهي أيضاً وريثةُ الأمـمِ في هدْيِ نبوّاتِها .

     ثمَّ بجانبِ ذلك أكرمَه اللهُ سبحانه بالعروجِ إلى السماءِ العُلى من أجلِ أنْ يُريَه من آياتِه ما أراه ، وهنالك بوّأَه اللهُ سبحانه وتعالى ما بوّأَه من الدرجاتِ العلى التي لم يتبوّأْها مِن قبلِه صلى الله عليه وسلم أحدٌ من البشرِ ، وكان في ذلك إشعارٌ من اللهِ سبحانه وتعالى له بأنّه إنْ وقفَ في وجهِهِ البشرُ ، وتنكّرت له الأرضُ ؛ فإنَّ الملأَ الأعلى يرحِّبون به صلى الله عليه وسلم ، والسماواتِ العُلى تفتحُ أبوابَها له ، فكانت رحلةُ الإسراءِ والمعراجِ منّةً كريمةً من عندِ اللهِ سبحانه لعبدِه ورسولِه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقتِ الحرِجِ ، وفي هذا أيضاً ما يشيرُ إشارةً واضحةً إلى أنَّ هذه الأمةَ يجبُ عليها أن تحافظَ على هدْيِ النبوّاتِ مِن قبلُ ، وأن تحافظَ على مقدّساتِ الرسالاتِ السابقةِ ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى اختارَها لأنْ تكونَ أمّةً وسَطاً بين الأممِ ، واختارَ نبيَّها صلى الله عليه وسلم أن يؤمَّ جميعَ النبيّين في المسجدِ الأقصى الذي هو مُتنزَّلُ الرسالاتِ ، وجعلَه اللهُ سبحانه وتعالى مكاناً مباركاً ، وفي هذا أيضاً ما يشيرُ إلى الربطِ بين المسجدين الشريفين : المسجدِ الحرامِ الذي انطلقَ منه صلى الله عليه وسلم في بدايةِ رحلتِه الأرضيةِ ، والمسجدِ الأقصى الذي جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى غايةً لهذه الرحلةِ ، وبدايةً للرحلةِ السماويةِ ، وفي ذلك ما يشيرُ أيضاً إلى أنَّ هذه الأمّةَ رسالتُها رسالةُ المسجدِ ، فهي مرتبطةٌ بالمسجدِ ؛ فإنَّ المسجدَ كان بدايةَ رحلتِه صلى الله عليه وسلم في الأرضِ ، ونهايةَ رحلتِه فيها ، وبدايةَ رحلتِه منها إلى السماواتِ العلى ، ذلك كلُّه لأجلِ أن تحافظَ هذه الأمةُ أيَّما محافظةٍ على هذه المقدّساتِ ، وقد شاءَ اللهُ سبحانه أن يفرضَ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم هناك في السماواتِ العُلى ، وهو ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بجوارِ الملأِ الأعلى  ، شاءَ اللهُ أن يفرضَ عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمّتِه هذه الصلواتِ الخمسَ ، وفي هذا ما يشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ عندما يمثُلُ بين يدي اللهِ سبحانه لأداءِ هذه الصلاةِ إنّما تعرجُ روحه لتتضرّعَ إليه تباركَ وتعالى ، فجديرٌ أيضاً بالمسلمِ أن يحافظَ أيّما محافظةٍ على هؤلاءِ الصلواتِ الخمسِ ، وأنْ لا يفرِّطَ فيهنَّ ، واللهُ سبحانه وتعالى يقولُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في نفسِ السورةِ التي امتنَّ عليه وعلى أمّتِه فيها بالإسراءِ ، يقولُ : ( أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) ( الإسراء/78 ـ 79) .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وعظِّموا ما عظَّمَ اللهُ سبحانه وتعالى من شعائرِه ، وحافِظوا على أداءِ هذه الصلواتِ الخمسِ كما أمرَكم اللهُ تعالى في الجماعاتِ ، وحافِظوا على أداءِ جميعِ شعائرِ اللهِ التي افترضَها عليكم . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِروا اللهَ يغفرْ لكم ؛ إنّه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجبْ لكم ؛ إنه هو البــرُّ الكريمُ .

*         *          *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

      اتقوا اللهَ ، وعظِّموا رسولَه صلى الله عليه وسلم باتّباعِ سنّتِه ، وإحياءِ ما اندرسَ منها ؛ فإنَّ تعظيمَه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ ليس أمراً شكليّاً كشأنِ الناسِ الذين يحتفلون بذكرياتِه صلى الله عليه وسلم ، ثم لا يبالون بجانبِ ذلك بما اندرسَ من سنّتِه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ ، فتعظيمُه صلى الله عليه وسلم يقتضي القيامَ بدعوتِه ، وإحياءَ ما اندرسَ من سنّتِه ، والاقتداءَ به صلى الله عليه وسلم ، وذلك بالقيامِ بهذا الدِّينِ حقَّ القيامِ ؛ فإنَّه مِن شأنِ الإنسانِ الذي يحبُّ أحداً ويعظِّمُه ويجِلُّه أن يسارعَ في هواه ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كلُّ هواه إنّما في اتباعِ دينِ اللهِ سبحانه ، فهو ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بُعِثَ لإخراجِ الناسِ من الظلماتِ إلى النورِ ، ومن الباطلِ إلى الحقِّ ، ومن الغيِّ إلى الرشدِ ، ومن الضلالِ إلى الهدى ، ومن الافتراقِ إلى الاجتماعِ ، لذلك كان واجباً على هذه الأمّةِ أن تحرصَ كلَّ الحرصِ على هذه المُثُلِ ، أن تحرصَ على ما يجمعُ شملَها ، وأن لا تفترِقَ بها السُّبُلَ كما تفرّقتْ بالأممِ مِن قبلُ .

       هذا .. ولا ريبَ أنَّ النفسَ المسلمةَ عندما تمرُّ بها أيُّ ذكرى من ذكرياتِه صلى الله عليه وسلم تفيضُ مشاعرُها ، وتتحرّكُ أحاسيسُها ، ولكنْ لا يعني ذلكَ أن تكونَ محبّتُه صلى الله عليه وسلم محبّةً عاطفيّةً فقط لا تلبثُ أن تغورَ ، وإنّما محبّتُه صلى الله عليه وسلم محبّةُ عقيدةٍ ، محبّةُ إيمانٍ ، محبّةُ إخلاصٍ ووفاءٍ ، محبّةُ طاعةٍ وانقيادٍ ، وبجانبِ ذلك على الناسِ أن يُدرِكوا بأنَّ هذه الذكرى وإن كنّا نحن نقطعُ فيها بالنصِّ الذي وردَ فيها ، إلا أنّنا لا نستطيعُ أن نحدِّدَ زمنَ وقوعِ الحادثةِ ، فإنَّ زمنَ الإسراءِ والمعراجِ لم تأتِ روايةٌ صحيحةٌ تحدِّدُ زمنَه ، وإنّما جاءت الرواياتُ تنصُّ على هذه الحادثةِ العظيمةِ من غيرِ تحديدٍ لزمنِها ، ولذلك اختلفَ المسلمون فيها اختلافاً كبيراً ، وإنْ شاعتْ في أوساطِهم أنّها كانت في ليلةِ السابعِ والعشرين من هذا الشهرِ الكريمِ .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصوا على الخيرِ واتّباعِ الرشدِ الذي جاءَ به ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ .