بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وكونوا عباد الله إخوانا

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، الحمدُ للهِ الذي ألفَ بالإسلامِ بينَ عبادِهِ المؤمنينَ ، وجعلَهمْ إخوةً متحابّينَ متآلفينَ على الخيرِ متعاونينَ ، سبحانهُ يقولُ في كتابِهِ العزيزِ : (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأنفال/1)، ويقولُ (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/46)، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ، ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ، ونستغفرُهُ ونتوبُ إليهِ ، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له ، ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ، يُحيي ويُميتُ وهوَ حيٌّ لا يموتُ ، بيدِهِ الخيرُ ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنَا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ ، أرسلُهُ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى اللهِ بِإذنِهِ وسراجاً مُنيراً ، أرسلَهُ رحْمةً للعالَمِينَ ، وسراجاً للمُهتدينَ ، وإماماً للمُتقينَ ، فبَلَّغَ الرِّسالةَ ، وأدَّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمَّةَ ، وكشفَ الغُمَّةَ ، وجاهدَ في سَبِيلِ رَبِّهِ حتى أتاهُ اليقينُ ، صلى الله عليه وسلم وعلى آلِهِ وصحبِهِ ، وعلى كلِّ مَنِ اهتدى بِهدْيهِ ، وسارَ على نهْجِهِ ، واستنَّ بسُنَّتِهِ ، ودعَا بدَعْوَتِهِ إلى يومِ الدِّيْنِ ، أمَّا بعدُ:

فَيَا عباد الله أُوصِيكُمْ ونفْسِي بِتَقْوَى اللهِ ، والعَمَلِ بما فيهِ رِضاهُ ، فاتقُوا اللهَ وراقِبُوهُ ، وامتَثِلُوا أوامِرَهُ ولا تعصُوهُ ، واذكرُوهُ ولا تنسَوهُ ، واشكرُوهُ ولا تكفرُوهُ.

واعلمُوا أنَّ أقْوَى عامِلٍ لِرَفْعِ مَنَارِ الأُمَمِ ، وأفْضلَ مُعِينٍ لِنُهُوضِهَا ونَيْلِهَا مُنْتَهَى المَجْدِ والشَّرَفِ ؛ هُوَ الاتِّحَادُ وَجَمْعُ الشَّمْلِ ، فالاتِحَادُ وارتباطُ القُلُوبِ بعضُها ببعضٍ ، وتظاهرُها على أمرٍ واحدٍ، واجتماعُها على كلمةٍ واحدةٍ ؛ من أهمِّ أسبابِ السعادةِ ، وأقوى دَوَاعي المودّةِ والمحبةِ ، فكمْ بهِ عَمَرَتْ بِلادٌ ، وسادتْ عِبادٌ، وانتشرَ عِمْرانٌ ، وتقدمتْ أوطانٌ ، وأُسِّسَتْ مَمَالِكٌ ، وسُهِّلتْ مَسَالكٌ ، وقَوِيتْ شَوكةٌ ، وكَثُرَ تَضَامُنٌ ، إلى غيرِ ذلكَ مِنْ فوائدِ الاتحادِ، فمنْ تمسّكَ بهِ فقد اسْتَمسكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى ، وفازَ بالسببِ الأقوى ، وما تمسّكتْ بهِ أمّةٌ منَ الأممِ إلا ظهرَ سُلطانُها، وقَوِيتْ شوكتُها، ودامتْ دَولتُها، وبلغتْ في الرُّقِيِّ ورَغَدِ العَيْشِ أقْصَى الغَاياتِ وأرْفَعِ الدّرَجاتِ، وما تخالَفَت أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ، وَاخْتَلَّتْ كلِمَتُها، وتنازعت في أمرها إلا اضمحلّ سلطانها، وضعفت شوكتها، وتلاشت دولتها، وتبدل عزها ذلا، ورفعتها ضعة وانحطاطا، وكان من نصيبها الفشل والخسران المبين؛ فإن التخالف والتنازع في الكلمة والرأي هو سبب الضعف والخذلان، والفشل في جميع الأزمان، بل هو مجلبة الفساد، ومطية الكساد، وداعية الخراب والدمار، وداهية العار والشنار، فكم من عائلات كثيرة كانت في رغد من العيش، وبيوت كبيرة كانت آهلة بأهلها؛ حتى إذا دبّت فيهم عقارب الخلاف، وسرى سمها في قلوبهم، وأخذ الشيطان منهم مأخذه تفرقوا شذر مذر، فأصبحت بيوتهم خاوية على عروشها، فهنيئا لأمة اتحدت، وعلى الخيرات اجتمعت، والويل والدمار لأمة دبّت فيهم عقارب الخلاف، وتسرب فيهم ريح الشقاق؛ حتى قضى عليهم بالتشتت والفراق.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالوحدة، ونهاهم عن الفرقة، وذكرهم نعمته عليهم ببعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأب صدعهم، وجمع صفهم، ووحّد كلمتهم بعد أن كانوا متشتتين، وذكّرهم الحالة التي كانوا عليها قبل بعثته عليه الصلاة والسلام من العداوة والبغضاء، يقول عزّ من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/102ـ 104)، ويحذر الله سبحانه وتعالى عباده من أن يسلكوا مسلك من كان قبلهم من الذين تفرقت بهم السبل وكانوا شيعا، يقول عزّ من قائل: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/105).

ويحذر الله سبحانه وتعالى من كلّ طريق تؤدي إلى الفرقة، فيسدّ المنافذ على المجتمع الإنساني؛ حتى لا تكون هنالك ثغرة يصل من خلالها الشيطان إلى قلوب الناس، فيشتت شملهم ويفرق جماعتهم، يتضح ذلك جليّا في الآداب الإجتماعيّة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/6)، في هذه الآية الكريمة يحذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين من قبول قول النمامين الذين يريدون أن يشتتوا شمل هذه الأمة، ويفرقوا جماعتها، ويجعلوها أشلاء ممزعة وأوصالا مقطعة، في هذه الآية الكريمة يحذر الله سبحانه وتعالى من قبول قول النمامين فما ظنكم بالنميمة نفسها التي ظهر أثرها، وعمّ خطرها، وانتشر ضررها، ووجب التنبيه عليها، والتنفير منها، والتحذير عنها، إنها داء وبيل، ومرض اجتماعيّ خطير، تبعث الفتن، وتزرع الأحقاد، وتقطع الصلات، وتفرق الجماعات، فتجعل الصديقين عدوين، والأخوين أجنبيين، والزوجين متنافرين، إنها مصيبة على المجتمع أيما مصيبة، تفعل في القلوب والأرواح أفعالا عجيبة، وتؤثر على الأسر والمجتمعات آثارا خطيرة غريبة، تفعل فيها فعل النار في الهشيم، تفرق بين الأحبة، وتباعد بين الأخوة، وتقطع العلاقات بين الزملاء، وتبتر المودة بين الأصدقاء، كم شتت من أسر، وخربت من بيوتات، وأهلكت من مجتمعات، كم فرقت بين المرء وزوجه، والابن وأبيه، والأخ وأخيه، كم أذكت من أحقاد، وأثارت من فتن، وأوغرت من صدور، كم جلبت من فتن وبلايا من أخطار عظمى وشرور كبرى، بل لربما قامت الحروب الطاحنة بين فئات ودول بسبب ذلك، النمام سهم مسموم في المجتمع، مؤذ لله ولرسوله وللمؤمنين، مفسد بين جماعة المسلمين، والله لا يحب المفسدين، فلينتبه أولئك الذين صارت النميمة بضاعتهم وديدنهم، يعقدون المجالس، ويكوّنون اللقاءات، وينفخون في الكلمات، ويزيفون المقالات، ويجعلون من الحبة قبة، ربّ كلمة لا تبارح مكانها، وربّ كلمة صارت شرارة أعقبتها نار مضرمة، تقضي على الأخضر واليابس وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما نظن أن تبلغ ما بلغت ي، هوي بها في النار أبعد ممّا بين المشرق والمغرب، «لا يدخل الجنة نمام»، «شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه».

فاتقوا الله يا عباد الله، وتآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/2) (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأنفال/1) (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال/46 ).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*              *            *

الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين والمرسلين، وسيّد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله عزّ وجلّ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون:

يقول عزّ من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات/11ـ12)، في هاتين الآيتين يحذر الله سبحانه وتعالى من السخرية، فلا يحلّ لأحد أن يسخر من أحد، فليس لرجل أن يسخر من رجل، ولا لامرأة أن تسخر من امرأة، فقد يكون المسخور منه خيرا من الساخر؛ إذ ليست العبرة بالأموال، ولا بالأحساب ولا بالأنساب، ولا بالمناصب ولا بالمراتب، وإنما العبرة بتقوى الله عزّ وجلّ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله، الناس رجلان: مؤمن تقيّ كريم على الله، وفاجر شقيّ هيّن على الله، «إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بالآباء، كلكم لآدم، وآدم من تراب»، ليس إلا مؤمن تقيّ أو فاجر شقيّ، كما يحذر سبحانه وتعالى من اللمز والتنابز بالألقاب، والظنّ السيء، والتجسس والغيبة؛ ذلك كلّه لأجل توحيد شمل هذه الأمة، فهذا الدين دين وحدة، كما أنه دين توحيد، ولقد بيّن سبحانه وتعالى أن هذه الأمة أمة واحدة، تلتقي في ظلّ عبادة الله عزّ وجلّ، وفي ظلّ تقواه، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/92)  (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون/52).

فاتقوا الله يا عباد الله، وكونوا في التآلف والتآزر، والتوادد والتعاون؛ كالبنيان الذي يشدّ بعضه بعضا، وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء تفوزوا فوزا عظيما، وتخلدوا لأنفسكم تأريخا جليلا، يتلى على صفحات الدهر بكرة وأصيلا (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المزمل/20) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/31).