بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الظلم ظلمات

 

 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والطغيان، والبغي والعدوان، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير، قصم الجبارين ببطشه بعد أمنه، وأسبل على العاصين ستره بمنه، وتكفل بأرزاق البرايا إنسه وجنه (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) (البقرة/255)، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، وسار على نهجه، واستن بسنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

 فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله وراقبوه، وامتثلوا أوامره ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه.

واعلموا أن من كبائر الذنوب كبيرة ما حرم الله شيئا مثلها، ولا توعّد أحدا بمثل ما توعد مرتكبها، ألا وهي الظلم، الظلم ظلمات يوم القيامة، الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه النار، فما أقبح الظلم! وما أشنع عاقبته الوخيمة! التي هي سبب لإزالة النعم، وسبب لخراب الدار، وسبب للشقاء الدائم والخسران المبين، وقد حرم الله سبحانه وتعالى الظلم بجميع أنواعه؛ سواء كان اعتداء على الغير في نفسه أو ماله أو عرضه بغير حق؛ أو كان مخالفة لله سبحانه وتعالى ومبارزة له بانتهاك حرماته، حذر من جميع ذلك، وتوعد مرتكبه بالوعيد الشديد والعذاب الأليم، يقول عز من قائل: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإنسان/31)، ويقول سبحانه: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء/227)، ويقول جل شأنه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة/51)، ويقول عز وجل: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/57)، ويقول سبحانه: (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام/21)، ويقول سبحانه: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر/18)، ويقول عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/10)، ويقول عز من قائل: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف/29)، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف يمينا على مال امرئ مسلم ليقطعه لقي الله وهو عليه غضبان»، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار» قال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا؟! يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كان قضيبا من أراك»، وقد ورد: من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة، وجاء عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه؛ أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار»، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعوة المظلوم من الدعوات التي لا ترد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، فيفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك؛ ولو بعد حين»، وقد روي: اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، وقد ينتقم الله سبحانه وتعالى من الظالم في الدنيا قبل يوم القيامة، وفيما قصه علينا القرآن الكريم من أخبار الماضين، وأنباء الأمم السابقة، وما حل بهم من الانتقام منهم؛ من قصم الأعمار، وخراب الديار بسبب ظلمهم؛ عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يقول عز من قائل: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (الكهف/59)، ويقول سبحانه: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (النمل/52-53)، ويقول عز من قائل: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت/40)، ويقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر/6-14)، وقد يستبطئ الظالم عقوبة الله عز وجل في الدنيا، فيتمادى في غيه، ويستمر في ظلمه مغرورا بإمهال الله له، والله سبحانه وتعالى يمهل للظالم؛ عساه أن يتوب من ضلاله؛ ولعله يرجع عن طغيانه، فإذا أصر على مخالفته، ولم يرجع عن ضلالته؛ أخذه الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، وضربه بسياط نقمته، وجعله عظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود/102) (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم/44ـ45) (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (إبراهيم/42ـ52).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*              *            *

الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين والمرسلين، وسيّد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون:

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم»، في هذا الحديث الشريف يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتناب الظلم والابتعاد عنه، ويخبرنا بأن الظلم سيكون سببا للتخبط في الظلمات يوم القيامة؛ حتى أن الظالم في ذلك اليوم لا يرى طريقه، فلا يعرف أين يذهب، ولا كيف يسير ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الحديد/13-15)، وكما ورد التحذير من الظلم؛ فقد ورد التحذير من الركون إلى الظلمة ونصرتهم ومساعدتهم والميل إليهم، يقول عز من قائل: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)  هود/113)، وقد روي: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه، وروى الإمام جابر بن زيد - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الظلمة وأعوانهم ومن أعانهم ببري قلم أو مدة دواة إلى النار»، فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»، ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / 279)  ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (البقرة/281) (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/31).