شهر المسارعة والإخبات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، جعل الصيام رياض المخبتين، وعدة المتقين، ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ )[1]، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين، ونشهد أن سيدنا وقدوتنا نبينا محمد الصادق الأمين، خير الصائمين والقائمين والقانتين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .

أَمَّا بَعْدُ :

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزوجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ )[2] .

عباد الله:

اعلموا-رحمكم الله-بأن شهر رمضان هو شهر تصحيح مسار حياة الإنسان، ونقاء فكره وعقيدته، وتصحيح سلوكه وعودته إلى ربه، وتكفير ذنوبه وغسل أدرانه، إن هذا الشهر فرصة لكل واحد منا أن يعود إلى الله، وأن يقدم بين يديه قبل لقاء الله عملاً صالحاً يرجو به رحمة الله، يقول الله تعالى:  ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )[3] .

إن الله تعالى قد وصف عباده المؤمنين بأنهم مسارعون، وأنهم سابقون، وأنهم إلى الحق راجعون، وأنهم لا يقيمون على ذنب حتى يتبعوه بالتوبة، يقول سبحانه: ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ )[4]، ويقول تعالى: ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )[5]،  ويقول جل ذكره: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )[6] .

كما أن شهر الصيام ينقيك، ويُجلِّي فكرك، ويطهر ضميرك مما ران عليه من ذنوب ومعاصٍ: كالحسد والحقد والبغضاء حتى تعود لإخوانك بالمحبة، ولجيرانك بالوفاء، ولأهلك بالتواصل، ولأرحامك بأداء الحقوق .

ثم إنك تحمل قلباً مُفعماً راضياً بقضاء الله وقدره، تحمل حب الخير لهم، وتضحي من أجلهم، متفانٍ من أجل خدمتهم، هذا هو الصائم الحقيقي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا إِيْمَانَ لِمَنْ لا صَلاةَ لَهُ ، وَلا صَلاةَ لِمَنْ لا وُضُوءَ لَهُ ، وَلا صَوْمَ إِلاَّ بِالكَفِّ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ »[7]، فالملتزم بأمر الله هو الذي يصوم صوماً حقيقياً يبتعد عن كل ما يغضب الله عزوجل .

عباد الله:

إن انصرام أيام هذا الشهر الفضيل يوماً بعد يوم تقربنا من آخره، فطوبى لمن سارع فيه للعمل الصالح، وطوبى لمن وفَّى فيه بالعمل الصالح، وطوبى ثم طوبى لمن لم يُضيِّع لحظة من لحظاته، ودقيقة من دقائقه إلا وأدى فيه عملاً صالحاً .

    فشهر رمضان المبارك يفتح لك آفاق الخير، لتضاعف أجورك بالصدقة والصلة، بالصلاة وقراءة القرآن، بالبر والإحسان، بزيارة الأرحام وتفقد المريض، بالتساعد والتعاضد، بتعليم العلم؛ بل بكل عمل صالح تتقرب به إلى الله تعالى، ستجد بأن شهر الصيام يفتح لك كنوزاً من الجنة، يضاعف ثواب النافلة إلى ثواب الفريضة، وثواب الفريضة إلى سبعين فريضة، والله يضاعف لمن يشاء إلى سبع مائة ضعف، وإلى أكثر من ذلك إلى ما شاء الله، يقول الله عزوجل في الحديث القدسي: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»[8] .

 فالصوم له خصوصية، يفيض الله عزوجل فيه ما يشاء على من يشاء من عباده، فالبدارَ البدارَ، والمسارعةَ المسارعةَ لما بقي من أيامه ولياليه، وساعاته ولحظاته؛ حتى تكونوا عند الله من الفائزين، وعند ختم الصوم من المقبولين المرحومين .

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّهُ هُو البَّرُّ الْكَرِيمُ .

***

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَنَشْهَدُ أَلَّا ِإِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ، وَنشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى تَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .

أما بعد؛ فيا أيها المؤمنون:

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان ليلة القدر أنه قال: « من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيت أني أسجد في غدوتها في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر»[9]، وعن أَنَسِ بن مَالِكٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أريت هذه الليلة حتى تلاحا رجلان منكم فرفعت، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»[10]، أي تخاصم رجلان فجلس النبي r يصلح بينهما فرفعت .

أيها الإخوة الأكارم:

إن العشر الأواخر هي مضنة الكنز العظيم، لا تغفلوا فما بقي هو خير الدهر كله، فيها ليلة من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وقد بين القرآن بأنها خير من ألف شهر في العمل الصالح والأجر والمثوبة، فإذا حسبناها بالمدة فعبادة ليلة واحدة تعدل عبادة أكثر من ثمانين سنة، وإذا كان العدد ليس مقصوداً فخيرها وبرها وفضلها وبركتها لا حدود له، ولا يحد بحد، في هذه الليلة تنزل ملائكة الله حتى تضيق بهم الأرض، تسلم على كل قائم، وعلى كل راكع، وعلى كل ساجد، وعلى كل تالٍ للقرآن، وعلى كل ذاكر، وعلى كل مستغفر، وعلى كل داعٍ مخبت أواب .

ومن أراد أن يكون من أهل ليلة القدر فالحذر الحذر من المعصية، فإذا أردت أن تحرز ليلة القدر فصن نفسك عن خطرات الآثام، وصن سمعك وبصرك عن كل معصية بقول أو فعل أو نية أو اعتقاد، ثم لتكن مواصلاً لطاعة الله عزوجل .

وكان صلى الله عليه وسلم كثير الاجتهاد، يقومها ويحث أصحابه عليها، ويوقظ أهله، فعلينا إذا أن لا نضيع الفرصة، فمن فآته فليعوض، ومن قصَّر فليتم، ومن بطَّأ فليسابق، ومن تكاسل فلينشط، واعلموا- رحمني ورحمكم الله-بأن خير الطاعة ما كانت بحضور قلب، فما فائدة كثرة التسبيح والقلب غافل، فغفلة القلب هي المصيبة، فأحضر قلبك عند تسبيحك، وأحضر قلبك عند صلاتك، وأحضر قلبك عند ذكرك لربك، وأحضر قلبك عند دعائك، فإن القلب يناجي الرب قبل أن يناجيه اللسان .

 والله إنه لن يبكي الباكي إلا على تفويته لرمضان، إن كان من أهل الخسران، ضيَّع الصيام والقيام وضيع القرآن، فعاد بلا ثواب ولا أجور، فاللهَ اللهَ يا عبد الله؛ فرمضان شاهد لك أو شاهد عليك، حجة لك أو حجة عليك، وإنه إذا مضى فربما يعود وأنت مفقود غير موجود، فانتبه هذه فرصة لا تضيعها، في كل يوم من أيامها، ، وكل ليلة من لياليها، وكل لحظة من لحظاتها، فاهتبل الفرصة، أمامك الفوز والرضوان، وأمامك جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فغسلوا ذنوبكم-رحمكم الله-في هذا الشهر، واجأروا إليه بالضراعة، واسكبوا دموع الاستغفار والإنابة والتوبة إلى الله تعالى، ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[11] .

هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَاتِمِ النَّبِيِّينَ، وَإِمَامِ المُرْسَلِينَ، كَمَا أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ).

اللهُمَّ صَلِّ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

اللَّهُمَّ انْصُرِ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، رَبَّنَا اسْتَخْلِفْنَا فِي أَرْضِكَ كَمَا اسْتَخْلَفْتَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَكِّنْ لَنَا دَينَنَا الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لَنَا، وَأَبْدِلْنَا بِخَوْفِنَا أَمْنًا، وَبِذُلِّنَا عِزَّا، وَبِتَشَتُّتِنَا وَحْدَةً، وَاجْمَعْنَا عَلَى كَلِمَتِكَ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا بِطَاعَتِكَ .

اللَّهُمُّ ارْزُقْنَا لِسَانَاً صَادِقَاً ذَاكِرًا، وَقَلْبَاً خَاشِعَاً مُنِيبًا، وَإيمَانَاً رَاسِخَاُ ثَابِتًا، وَعِلْمَاً نَافِعَاً رَافِعًا، وَعَمَلاً صَالِحَاً زَاكِيًا، وَرِزْقًا حَلَالَاً وَاسِعًا، رَبَّنَا وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ المُتَّقِينَ، وَيَقِينَ الصِّدِّيقِينَ، وَخُشُوعَ المُخْبِتِينَ، وَثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ، وَدَرَجَةَ الفائزين.

اللَّهُمُّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِينَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِينَ، وَاشْفِ مَرَضَانَا وَمرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمُّ انْصُرْ سُلْطَانَنَا عَلَى أَعِدَائِكَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاجْعَلْ وَطَنَنَا آمِنَاً مُطْمَئِنَّاً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) .

( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) .

( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

 

[1] المؤمنون: 61.

[2]- النساء: 131 .

[3] الكهف: 110.

[4] آل عمران: 135.

[5] آل عمران: 191.

[6] النساء: 17.

[7]- رواه الإمام الربيع، رقم 92

[8]- رواه الإمام مسلم، رقم 1151

[9]- رواه الإمام الربيع، رقم 327

[10]- رواه الإمام الربيع، رقم 326

[11] المزمل: 20.