السبب الثاني: العمل الصالح، يقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي وعملوا الأعمال الصالحات، فالصالحات وصف لموصوفٍ لم يُذكر، أو أنَّ الصالحة نفسَها صارت في مكان الموصوف؛ كما تطلق السيئة على العمل المخالف لأمر الله سبحانه وتعالى مع أنها في حقيقتها وصف للعمل.
والعمل الصالح ـ كما سبق الحديث ـ إنما هو كالظلّ للإيمان، فلا ينفك الإيمان عن العمل الصالح، بل لا بدّ أن يكون المؤمن جامعاً ما بين إيمانه بما فرض الله تعالى عليه أن يؤمن به، وما بين هذه الأعمال الصالحة.
والأعمال الصالحة إنما تقاس بمقاييس الحق التي أنزلها الله سبحانه، وتوزن بموازين العدل، فالعمل الصالح لا يرجع إلى مقاييس البشر؛ ذلك لأن عقول البشر القاصرة هي أقلّ وأحقر من أن تَستطيع أن تُحدِّد العمل الصالح، فإن العقول البشرية لا يمكن أن تكتنف جميع الحقائق، إذ العقل هو طاقة محدودة كما أن البصر طاقة محدودة، فالبصر يبصر الشيء القريب ولا يبصر الشيء البعيد، ويبصر ظواهر الأشياء دون بواطنها، وتحول بينه الحواجز عن إبصار ما وراءها، فكذلك العقل، هو طاقة محدودة، فهنالك حواجز نفسية تحول بين هذا العقل وبين الوصول إلى كثير من الحقائق، ويستطيع أن يدرك ما كان قريباً منه، ولكن لا يستطيع أن يدرك ما كان بعيدا عنه، والعقل البشري يتأثر بمؤثرات كثيرةٍ، منها مؤثرات نفسية، ومنها مؤثرات اجتماعية، ولذلك فإن البشر يتفاوتون في الاستحسان والاستقباح، فقد تستحسن طائفة من الناس عاشت في بيئة معينة أمراً معيناً، وتستقبح ذلك الأمر نفسه طائفةٌ أخرى عاشت في بيئة أخرى، وذلك لتأثير البيئة، وقد تكون هذه العوامل المؤثرة نفسية، فيختلف اثنان في الاستحسان والاستقباح، مع أنهما نشآ في بيئة واحدة، وتربيا في بيئة واحدة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أن يكون تحديد العمل الصالح من غير هذا العقل البشري القاصر المحدود، فالتمييز ما بين العمل الصالح والعمل الفاسد إنما يرجع إلى شريعة الله سبحانه وتعالى، فما وافق الحقّ الذي أنزله الله هو من الأعمال الصالحة، وما خالف الحقّ الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هو من الأعمال السيئة.
ولا بدّ لمن عمل صالحاً أن يجتنب الأعمال السيئة حتى تكون أعماله الصالحة غير مشوبة بالسيئات، وإذا ما وقع في هفوة أو زلّة فإنه يسارع بالتوبة والاستغفار والندم على ما فرّط، يقول الله تعالى في المتقين الذين وعدهم جنة عرضها السماوات والأرض: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فإذا ما وقع أحدهم في فاحشة أو ظلم نفسه؛ فإنه يثوب إلى رشده، ويتوب إلى ربّه، ويستغفر لذنبه، ويندم على ما فرّط في جنب الله، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾، فالذين اتقوا إذا ألمّ بهم ملمّ من الشيطان الرجيم، وحاول أن يباعدهم عن المسلك الصحيح؛ تذكّروا فإذا هم مبصرون، وعادوا إلى ربّهم وأطاعوا، واستغفروا وأنابوا إليه تبارك وتعالى.