سورة الشورى

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو إيحائها، أوحى الله إليك، وإلى الرسل من قبلم؛ {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)} .

{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} يتشققن من عظمة الله؛ وقيل: من ادعاء الولد، وفي موضع: تكاد كل واحدة أن تتفطر من فوق التي تليها، من قول المشركين: » اتخذ الله ولدا« غضبا على قائلها ومعتقدها، {مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} قيل: بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام، واعداد الاسباب المقربة الى الطاعة، {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته.

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ} شركاء وأنداد، {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أحوالهم وأعمالهم، فيجازيهم بها، {وَمَا أَنْتَ} يا محمد {عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} بموكل بهم، أو بموكول إليك أمرهم. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} أهل أم القرى، وهي مكة {وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} يوم القيامة بجمع الخلائق فيه، {لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} كلهم على ملة واحدة، {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} بالهداية، والحمل على الطاعة، {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} ينصرهم للدخول في طاعته ورحمته، لأنهم في حال (لعله) الخذلان.

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي: إن أرادوا أولياء بحق، فالله الولي بالحق، لا ما اتخذوه من دونه، {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)} لكونه حقيقا بالولاية. {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} من أمر من أمور الدين والدنيا، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} مفوض إليه، يميز المحق من كتاب الله، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في مجامع الأمور، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} أرجع في المعضلات.

{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا}  أي: وخلق للأنعام من جنسها أزواجا؛ أو خلق لكم من الأنعام أصنافا؛ أو ذكورا وإناثا، {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم، من الذر وهو : البث، وفي معناه: الذر والذرء،{فِيهِ} في هذا التدبير، وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد، فإنه كالمنبع للبث والتكثير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إذ ليس مثله شئ يزواجه ويناسبه، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}.

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خزائنها، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يوسع ويضيق على وفق مشيئته، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} فيفعله على ما ينبغي. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أي: شرع لكم من الدين، دين نوح ومحمد، ومن بينهما وقبلهما وبعدهما من أرباب الشرائع، وهو دين الإسلام، وهو أصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} وهو الإيمان بما يجب تصديقه، والطاعة في أحكام الله، {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ولا تختلفوا في هذا الأصل؛أما فروع الشرائع فمختلفة، كما قال:{لِكُلِّ جعلنا منكم شرعةً ومِنْهَاجا}.

{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} عظم عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من التوحيد،{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ} بالإرشاد والتوفيق {مَنْ يُنِيبُ (13)} يقبل إليه.

{وَمَا تَفَرَّقُوا} يعني ]الأمم[ السالفة،{إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما، فلم يلتفتوا إليها {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} عداوة أو طلبا للدنيا؛ {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} هو القيامة، أو آخر أعمارهم المقدرة، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المبطلين.

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب، {فِي شَكٍّ مِنْهُ} من كتابهم لا يعلمونه كما هو، ولا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن {مُرِيبٍ (14)}  مقلق، أو يدخل في الريبة.

{فَلِذَلِكَ} فلأجل ذلك التفرق، أو الكتاب أو العلم الذي أوتيته {فَادْعُ} على الاتفاق على الملة الحنيفية، أو الاتباع لما أوتيت، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الباطلة، {وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} يعني جميع الكتب المنزلة، لا كالكفرة الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في تبليغ الشرائع والحكومة، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية، وهذا إشارة الى كمال القوة العملية، {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} خالق الكل، أو متولي أمره، {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فكل منا مجازى بعمله، {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا حجاج، بمعنى: لا خصومة إذ الحق قد ظهر، ولم يبق للمحاجة مجال، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة، فيميز بين المحق والمبطل، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} مرجع الكل.

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} في دينه،{مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه،{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}زائلة باطلة،{وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} بمعاندتهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)} على كفرهم.

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ملتبسا به بعيدا عن الباطل، أو ببما يحق إنزاله من العقائد والأحكام، {وَالْمِيزَانَ} والشرع يوازن به الحقوق، ويحكم بين الناس، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}إتيانها، فاتبع الكتاب، واعمل بالشرع، وواظب على العدل، {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي: الكائن لا محالة.

{أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} يجادلون فيها، من المرية، {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}عن الحق، فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجوزها، فهو أبعد من الاهتداء إلى ما وراءه. {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} يسدي إليهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام،{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي: يرزقه كما يشاء، فيخص كلا من عباده بنوع من البر، على ما اقتضته حكمته، {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} الباهر القدرة، الممتنع عن الغلبة عما يريده.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ} ثوابها؛ شبه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا، ولذلك قيل: » الدنيا مزرعة الآخرة« ؛ الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض، ويقال للزرع الحاصل منه،{نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} نعطيه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها؛ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} شيئا منها على ما قسمنا له، {وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} لأن تحصيل المرادين لا يجتمعان.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} بل لهم شركاء، والهمزة للتقرير والتقريع؛ وشركاؤهم: شياطينهم، {شَرَعُوا} بالتزين {لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}؟ كالشرك وإنكار البعث، والعمل للدنيا؛ وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإضافتها إليهم، لانهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها، لأنها سبب ضلالتهم، وافتتانهم بما تدينوا به؛ {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء، ولوعد بأن الفصل يكون يوم القيامة، {لَقُضِيَ} الأمر{بَيْنَهُمْ} بين الكافرين والمؤمنين، أو المشركين وشركائهم، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} .

{تَرَى الظَّالِمِينَ} في القيامة {مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا كَسَبُوا} من السيئات، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا؛ {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} في أطيب بقاعها، {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا؛ {ذَلِكَ الَّذِي} أي: الذي ذكره من نعيم الجنة، {يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به في محياهم، وعند مماتهم وبعثهم.

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على ما أتعاطاه من التبليغ {أَجْرًا} نفعا دنيويا {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: التقرب إلى الله؛ وقيل: {فِي الْقُرْبَى}  : أن يتقربوا إلى الله على العمل بطاعته، {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} ومن يكتسب طاعة، {نَزِدْ لَهُ فِيهَا} في الحسنة {حُسْنًا} بمضاعفة الثواب، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن تاب، {شَكُورٌ (23)}  لمن أطاع بتوفيه الثواب، والتفضل عليه بالزيادة.

{أَمْ يَقُولُونَ} بل يقولون: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} افترى محمد بدعوى النبوة، أو القرآن؛ {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} استبعاد للافتراء عن مثله، بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه، جاهلا بربه، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا؛ وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك لتجترئ بالافتراء عليه؛ وقيل: {يختمْ عَلَى قلبك} يمسك القرآن والوحي عنه، أو يربط (لعله) عليك بالصبر فلا يشق عليك أذاهم، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)}استئناف لنفي الافتراء عما يقوله، بأنه لو كان مفترى لمحقه، إذ من صفته تعالى يمحو الباطل ويثبت الحق؛ أو لوعيده بمحق باطلهم وتثبيت حقه بالقرآن.

{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}  بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول، قيل: التوبة الانتقال عن الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة، {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}  لمن تاب منها، أو عن الصغائر لمن اجتنب الكبائر، {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة.

{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: يستجيب الله لهم؛ والمراد: إجابة الدعاء، والإثابة على الطاعة، فإنها دعاء، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}  على ما سألوا واستحقوا؛{وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}في الدارين، بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل (لعله) فيهما.

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ}يحتمل هذا لعباده المؤمنين، كم روي: » إن الله يزوي عن عبده المؤمن الدنيا، كما يزوي الوالد الشفيق عن ابنه المساوئ« ؛ { لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} بالتكبر، أو أفسدوا فيها بعد منزلة بعد منزلة، (لعله) ومركبا بعد مركب؛ {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ} بتقدير {مَا يَشَاءُ} (لعله) نظرا منه لعباده كما اقتضت مشيئته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم، فيقدر لهم ما يناسب شأنهم.

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان، {وَهُوَ الْوَلِيُّ} الذي يتولى أمر خلقه، من إيجاد وإمداد، {الْحَمِيدُ (28)} المستحق على ذلك.

{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإنها بذاتها وصفاتها، تدل على وجود صانع قادر حكيم، {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} من حي، {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)}.

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} كانت دنيوية أو دينية، لأنها كأنها مخصوصة بالعاصين، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} بسبب معاصيكم {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} من الذنوب ولا يعاقب عليها؛ وقيل: الآية مخصوصة بالمجرمين، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر، منها: تعرضه للأجر العظيم، والصبر عليه، ويدلك على ذلك قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} فائتين ما قضى عليكم من المصائب، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} يحرسكم عنه، {وَلَا نَصِيرٍ (31)}يدفعه عنكم.

{وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي} السفن الجارية {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)}  كالجبال؛ إِنْ {يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} فيبقين ثوابت على ظهر البحر، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)} لكل من كان همته النظر في آيات الله. {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} أو يهلكهن {بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)} .

{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)} محيد من العذاب. {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تمتعون به مدة حياتكم، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من ثواب الآخرة {خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}بخلوص نفعه ودوامه.

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} فلا ينتصرون لأنفسهم، بل يحملون أنفسهم الصبر عن ذلك لله تعالى. {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أجابوا إلى ما دعاهم إليه للقيامة بأمر دينه، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} لا يتفردون برأيهم حتى يشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبرهم، وطلبهم للسلامة، والخوف من العطب، وتيقظهم لعواقب الأمور، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)}في سبيل الخير، وذلك يقتضي في بذل المال والنفس.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} على ما أباحه الله لهم كراهة التذلل مع القدرة على إعزاز الدين لله وأهله. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}عدة مبهمة تدل على عظم الموعود، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} المبتدئين بالسيئة، والمتجاوزين في الانتقام. {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} بعدما ظلم {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} بالمعاتبة والمعاقبة. {نَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} يبتدئونهم بالإضرار، ويطلبون ما لا يستحقون تجبرا عليهم، {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)}  على ظلمهم وبغيهم. {وَلَمَنْ صَبَرَ}  على الأذى، {وَغَفَرَ} وعفى عن الانتصار،{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} إن ذلك من ثمرة العزم ونتائجه، الرغبة في الثواب هو من عزم الأمور.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه؛ {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} حين يرونه فتراتهم على حال ضرير، وذلك عند الموت، أو يوم لقيامة، أو في الحالين، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)}؟ إلى الدنيا. {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} على النار {خَاشِعِينَ} متذللين، متقاصرين (لعله) بما يلحقهم {مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي: يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم، ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف.

{وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} لأن أنفسهم وأهليهم لم يريدوا بها وجه الله فيؤجرون {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)} في الدنيا والآخرة، كما أن المؤمنين في نعيم مقيم فيهما،{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)} إلى الهدى والنجاة.

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} إذ دعاكم لحياتكم الأبدية، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} وهو عند انقضاء آجالكم لا يمكن رده، {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)}إنكار لما اقترفتموه، لأنه مدون في صحائف أعمالكم، تشهد عليكم به ألسنتكم وجوارحكم. {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} رقيبا، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} .

{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}بليغ الكفران، ينسى النعمة رأسا، ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها.

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فله أن يقسم النعمة والبلية كيف شاء، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من غير لزوم، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يجمع له بينهما، فيولد له الذكور والإناث، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} وما صح له أَنْ {يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} كلاما خفيا يدرك بسرعة، لانه تمثيل ليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} قيل: المراد به: الإلهام، والوحي المنزل به الملك إلى الرسل، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} قيل: الرسول هو الملك الموحي إلى الرسول، {إِنَّهُ عَلِيٌّ} عن صفات المخلوقين، {حَكِيمٌ (51)} يفعل مل تقتضيه حكمته.

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} يعني: ما أوحي إليه، وسماه روحا لأن القلوب تحيي به، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} قبل الوحي؛ وفيه دليل على أن حجة المسموعات لا تقوم الإ بعد البيان بالسمع، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} الكتاب الموحى إليك{نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} بالتأمل والنظر فيه، والإيمان به، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} هو الحق. {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}خلقا وملكا؛{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}  بارتفاع الوسائط؛ وفيه وعد للمؤمنين ووعيد لمن عداهم.