بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

 (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ 1) الكوثر، ”فوعل“، من الكثرة، وهو الخير المفرط في الكثرة، من العـلم والعمل، وشرف الـدارين. وقيل: عن ابن عـباس أنـه فسر الكوثر : بالخير الكثير، وقد أعطاه الله سبحانه ما لا غاية لكثرته من خير الـدارين، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) فدم على الصلاة خالصا لوجه الله، خلاف الساهي عنها المرائي فيها، شكرا لإنعامه؛ فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر، (وَانْحَرْ 2) البدن التي ]هي[ خيار أموال العرب، وتصدق على المحاويج، خلافا لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون؛ فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وقد فسرت الصلاة: بصلاة العيد، والنحر بالضحية.

 

(إِنَّ شَانِئَكَ) إن من أبغضك لبغضه لك، (هُوَ الْأَبْتَرُ 3) لا أنت، والأبتر من خير الدارين؛ كما أن الكوثر هو خير الدارين. والوعد بخير الدارين يعم كل من كان على طريقته، والوعيد بانقطاع خيرهما يعم كل من عاداه، فلا يرجى منه ولا فيه ولا له خير، بل كل شر محيط به.

 

فانظر في نظم هذه السورة الأنيق، وترتيبه الرشيق، مع قصرها ووجازتها تبصرة، كيف ضمنها الله النكت البديعة، حيث بنى الفعل في أولها على المبتدأ، ليدل على الخصوصية؛ وجمع ضمير المتكلم ليؤذن بكبريائه وعظمته؛ وصدر الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم؛ وأتى بالكوثر محذوف الموصوف، ليكون أدل على الشباع، والتناول على طريق الاتساع، وعقب ذلك بفاء التعقيب، ليكون القيام بالشكر الأوفر مسببا عن الإنعام بالعطاء الأكبر.

 

وقوله: (لَربِّكَ) تعريض بدين من يعرض له بالقول المؤذي، من ابن وائل وأشباهه مما كانت عبادته ونحره لغير الله. وأشار بها ]كذا[ بين العبادتين إلى نوعي العبادات: البدنية التي الصلاة إمامها،والمالية التي نحر البدن سنامها؛ وحذف اللام الأخرى إذ دلت عليهما الأولى، ولمراعاة حق التشييع الذي هو من جملة نظمة البديع؛ وإلى ]الرسول صلى الله عليه وسلم[ بكاف الخطاب على طريقة الالتفات، إظهارا لعلو شأنه، وليعلم بذلك أن من حق العبادة أن يقصد بها وجه الله خالصا.

 

ثم قال: (إنَّ شَانِئك) فعلله ما أمره به من الإقبال على شأنه في العبادة بذلك، على الاستئناف الذي هو جنس من التعليل رائع. وإنما ذكره بصفته لا باسمه، ليتناول كل من أتى حاله، وعرف الخير ليتم به البتر، وأفخم الفضل لبيان أنه المعين لهذا النقص والعيب. وذلك كله مع علو مطلعها وتمام مقطعها، وكونها مشحونة بالنكت الجليلة، متكثرة بالمحاسن غير القليلة، مما يدل على أنه كلام رب العالمين، الباهر لكلام المخلوقين؛ فسبحانه لو لم ينزل إلا هذه السورة الواحدة الموجزة، لكفى به آية معجزة، لو هم الثقلان أن يأتوا بمثلها، لشاب الغرب، وساب كالماء السراب قبل أن يأتوا بها.