بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

   (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا 1 وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا 2 وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا 3 فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا 4 فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا 5) قيل: هذه صفات ملائكة الحرب، فإنهم ينزعون أرواح الكفار من أبدانهم غرقا، أي: إغراقا في النزع، فإنهم ينزعونها من أقاصي الأبدان، أو نفوسا غرقة في الأجساد؛ وينشطون أي: يخرجون أرواح المؤمنين برفق، من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، فيدبرون أمر عقابها بأن تهيئها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات، أو الأوليان لهم، والباقيات لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيها، أي: يسرعون فيه، فيسبقون إلى ما أمروا به، فيدبرون أمره، أو صفات أمره، أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة، فإنها تنزع من الأبدان غرقا، أي: نزعا شديدا من إغراق النازع في القوس، فتنشط إلى عالم الملكوت وتسبح فيه،فتسبق إلى حضائر القدس، فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات؛ أو حال سلوكها فإنها تنزع عن الشهوات، وتنشط إلى عالم القدس، فتسبح في مراتب الارتفاع فتسبق إلى الكمالات، حتى تصير من المكملات؛ وقيل: غير ذلك، تركناه اختصارا. أقسم الله بها على قيام الساعة.

 

( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ 6) المراد الرجفة: الأجرام عندها وهي لعله تضطرب وتتحرك لما بها ]من[ حركة شديدة، وهي عند النفخة الأولى؛ ( تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ 7) وهي النفخة الثانية.

 

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ 8) شديدة الاضطراب من الخوف، وهي قلوب العاصين؛ مأخوذ من وجيف الخيل واركاب؛ ( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ 9) حيرة؛ وأضاف الأبصار على القلوب والمراد: ابصار أصحابها، ( يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ 10) في الحالة الأولى، يعنون الحياة بعد الموت، من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي: طريقه التي جاء فيها فحفرها، أي: أثر فيها بمشيه، على النسبة، كقوله: (عيشة راضية).

 

(أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً 11) بالية ( قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ 12) ذات خسران، أو خاسرا أصحابها؛ والمعنى: أنها إن صحت فنحن إذا لخاسرون لتكذيبنا بها، وهو استهزاء منهم، ( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ 13) أي: لا يستصعبونها فما هي إلا صيحة واحدة، يعني: النفخة الثانية؛ (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ 14) فإذا ]هم[ أحياء على وجه الأرض، بعدما كانوا أمواتا في بطنها، والساهرة: الأرض البيضاء المستوية؛ وسميت ساهرة، لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة: جارية الماء، ونائمة ضدها، قال:

وساهـرة يضحى السراب مجللا             لأقطـارها قد جبتها متلثـما

أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلاك؛ وقيل: اسم جهنم.

 (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى 15)؟ أليس قد أتاك حديثه، فيسليك على تكذيب قومك، ( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى 16 اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى 17 فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى 18)؟ هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر والطغيان، لعله وما عداه وبال عليك، كما قال: (لا خيرَ فيِ كثير من نَّجْوَاهم ....) الآية؛ ( وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ) وأرشدك إلى معرفته ( فَتَخْشَى 19) بأداء الواجبات وترك المحرمات، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة؛ ( فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى 20) أي: فذهب وبلغ، فأراه المعجزة الكبرى، ( فَكَذَّبَ وَعَصَى 21) بعد ظهور الآية وتحقق الأمر، ( ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الطاعة ( يَسْعَى 22) سعيا في إبطال أمره، ( فَحَشَرَ) فجمع السحرة، أو جنوده، ( فَنَادَى 23) في المجمع بنفسه، أو مناد؛( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى 24) كل من يلي أمركم، (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى 25) أخذا منكلا لمن حل به في الآخرة بالإحراق، وفي الدجنيا بالإغراق، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى 26) لمن كان من شأنه الخشية.

 

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا)؟ أصعب خلقا أيها المنكرون للبعث، ( أَمِ السَّمَاءُ)؟ ثم بين كيف خلقها، فقال: ( بَنَاهَا 27) لعله أي: من قدر على خلق السماء يقدر على حياتكم بعد الموت؛ ثم بين البناء، فقال: ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا 28) فعدلها، أو فجعلها مستوية، أو فتتممها بما يتمك به كمالها؛ ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) أظلمه؛ منقول من غطش الليل: إذا أظلم؛ ( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا 29) وأبرز ضوء شمسها، كقوله: (والشمس وضحاها) يريد النهار.

 

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا 30) بسطها ومهدها، ( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا) بتفجير العيون، ( وَمَرْعَاهَا 31) لرعيها، ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا 32) أثبتها، ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ 33) تتيعا لكم، وتمتيع المواشي راجع إلى تمتيعهم أيضا.

 

(فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّة) الداهية التي تطم، أي: تعلو على سائر الدواهي من الأمور الدنيويةُ ، (الْكُبْرَى 34) التي هي أكثر الطامات، وهي القيامة، أو طامة الموت، لأنها أكبر الدواهي في الدنيا؛ ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى 35) بأن يراه مدونا في صحيفته، وكان قد نسيها من فرط الغفلة؛ ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) وأظهرت ( لِمَنْ يَرَى 36) لكل راء، أو كافر؛ ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى 37 وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 38) فانهمك فيها، ولم يستعد للآخرة بالعباد وتهذيب النفس، ( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى 39) هي مأواه؛ ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) مقامه بين يديه، لعلمه بالمبدإ والمعاد، ( وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى 40) لعلمه بأنه عدو مهلك، ( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى 41) ليس لها سواها مأوى.

 

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا 42)؟ متى إرساؤها، أي: إقامتها وإثباتها ومنتهاها ومستقرها، من مرسى السفينة: وهو حيث تنتهي إليه وتستقر، ( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا 43) في أي شيء من أن تذكر وقتا لهم؛ أي: ما أنت من ذكراها لهم، وتبيين وقتها في شيء، فإن ذكرها لا يزيدهم إلا غيا، ووقتها مما استأثره الله بعلمه؛ وقيل: فيم إنكار لسؤالهم وأنت من ذكراها مستأنف، معناه: أنت ذكر من ذكراها، أي: علامة من أشراطها، فإن إرساله خاتما للأنبياء أمارة من أمارتها؛ وقيل:إنه متصل، والجواب: ( إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا 44) أي: منتهى علمها؛ ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا 45) إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها.

 

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا) أي: في الدنيا أو في القبور ( إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا 46) إلا عشية يومك أو ضحاه، كقوله: (إلاَّ ساعةً مِن نَّهار).