بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ 1) إدخال لا النافية على فعل القسم للتأكيد شائع في كلامهم، قال امرؤ القيس:

لا أبـيـك ابـنـة العـامري     لا يـدعي القـوم أنـي أفـر

 

وقد مر الكلام فيه في قوله: (فلا اقسم بمواقع النجوم) والمعنى أنه لا يقسم بالشيء لعله إلا إعظاما له، لقوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)، وقال ابن عباس:(لا أقسم) معناه: بلى أقسم على ما يوجد عنه. (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ 2) قيل: النفس لعله الروحانية المطئنة الائمة للنفس الجسداوية الأمـارة بالسوء الخبيثة، ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ) يعني: الـجنس (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ 3) بعد تفرقها؟ (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ 4) على ما كانت، وإن دقت عظامها وصغرت.

 

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ 5) ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الآفات، وفيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه، ( يَسْأَلُ أَيَّان)َ متى  (يَوْمُ الْقِيَامَةِ 6) يسأل سؤال متعنت مستعد لقيام الساعة، فبين الله، فقال: ( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ 7) أي: شخص البصر، وتحير من شدة الفزع، وأصله من برق الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، ( وَخَسَفَ الْقَمَرُ 8) وذهب ضوؤه، ( وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ 9) قيل: حيث يطلعها الله من المغرب، أو في ذهاب ضوئهما؛ ولا ينافيه ]تفسير[ الخسوف: بذهاب ضوء البصر، والجمع: باستتباع الروح الحاسة في الذهاب، أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكان القدس.

( يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ 10)؟ أي: الفرار، يقوله قول الآيس من وجدانه المتمنى، وقرئ بالكسر، وهو المكان، ( كَلَّا) ردع عن طلب المفر، ( لَا وَزَرَ 11) لا ملجأ ولا مهرب، والوزر: ما يتحصن به من جبل وغيره، ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ 12) إليه وحده استقرار العباد، أو إلى حكمه استقرار أمرهم، أو إلى مشيئته موضع قرارهم، يدخل من يشاء الجنة، ومن يشاء النـار؛ (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ 13) بما قدم من عمل عمله، وبما أخر منه ما لم يعمله؛ أو بما قدم من عمل عمله، وبما أخر من سنة حسنة، أو سيئة عمل بها بعده؛ أو قدم من مال تصدق به، وبما أخر فخلفه؛ أو بأول عمله وآخره.

 

(بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ 14) أي: حجة بينة على أعمالها، لأنه شاهد بها؛ وصفها بالبصارة على المجاو؛ أو عين بصيرة بها، فلا يحتاج إلى الأنباء؛ والمعنى أنه ينبا بأعماله وإن لم ينبأ، ففيه ما يجزي عن التنبيه، لأنه شاهد عليها بما عملت، ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ 15) ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه، ويجادل عنها. وعن السدي:  ولو أرخى ستوره والمعاذير: الستور، واحدها معذار، ولأن الستر يمنع رؤية المحتجب، كما أن المعذرة تمنع عقوبة الذنب.

 

(لَا تُحَرِّكْ) يا محمد (بِهِ ) بالقرآن (لِسَانَكَ) قبل أن يتم وحيه؛ (لِتَعْجَلَ بِهِ 16) قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى يتمها مسارعة إلى الحفظ، وخوفا من النسيان؛ فأمر بالإنصات إليه ملتفتا إليه بسمعه وقلبه، حتى يقضى إليه وحيه؛ والمعنى: لا تحرك بقراءة الوحي لسانك ما دام جبريل يقرأ،(لتعجل بِهِ) لتأخذه على عجلة، لئلا ينفلت منك؛ ثم علل النـهي عن العـجلة بقوله:(إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صـدرك، (وَقُرْآَنَهُ 17) وإثبات قراءته في لسانك، ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) جعل قراءة جبريل قراءته، والقرآن: القراءة، ( فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ 18) قراءته، وتكرر فيه حتى يتكرر في ذهنك، ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19) بيان ما أشكل عليك من معانيه؛ وفيه دليل على أن الله وعد البيان لمن أتبع القرآن لا غير؛ وفيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة، لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو لعله أتم الأمور وأصل الدين، فكيف بها في غيره؟.

 

(كَلَّا) ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة، وحث على تكرير القراءة على قومه بالتؤدة، ليتقرر ذلك في قلوبهم، لأنهم غافلون عن الأدلة، لا يتدبرون القرآن وما فيه من البيان، ( بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ 20) أي: تختارون التكاسل والدعة عن الرغبة في طلب العلم، وتتركون الاهتمام بأمور العلم، فلا غنى لك معهم من إعادة القول وتكريره، وزيادة التنبيه وتقريره؛ وتعميم الخطاب، إشعارا بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال للعاجل، والتجافي عن الآجل، بدليل قوله: ( وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ 21) لأن من أحب شيئا غفل عن ضده.

 

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ 22) بهية متهللة، وذلك ينبىء عما في القلب من السرور، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 23) منتظرة ثوابه، ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ 24) شديدة العبوس، عابسة متغيرة مسودة،  (تَظُنُّ) تتوقع ( أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ 25) داهية تكسر الفقار، ( كَلَّا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، ( إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ 26) إذا بلغت النفس أعالي الصدر، ( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ 27) أي: ومن حضره من أهل وصديق بعضهم لبعض: أيكم يرقيه مما به؟ وقيل: هو كلام ملائكة الموت: أيكم يرقى بروحه، ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ من الرقي، ( وَظَنَّ) المحتضر ( أَنَّهُ الْفِرَاقُ 28) أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة.

 

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ 29) والتوت ساقه بساقه؛ وقيل التف شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ 30) سوقه إلى الله وحكمه، ( فَلَا صَدَّق)َ ما يجب تصديقه، أو فلا صدق ماله، أي: فلا زكاة، ( وَلَا صَلَّى 31) ما فرض عليه، (وَلَكِنْ كَذَّبَ) الحجة البالغة له، ( وَتَوَلَّى 32) عن الطاعة، ( ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى 33) يتبختر افتخارا بذلك، من المط، فإن المتبختر يمده خطاه، فيكون أصله يتمطط؛ أو من المطا وهو الظهر، فإنه يلويه.

 

(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى 34) ويل لك من الولي، وأصله أولادك الله ما تكرهه، وهو دعاء عليه، بأن يليه ما يكرره؛ أو أولى لك الهلاك، وقيل: وليك الشر في الدنيا فوليك، ثم وليك الشر في الآخرة فوليك، ( ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى 35) أي: بتكرير ذلك عليه مدة بعد أخرى.

 

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى 36)؟ ممهلا لا يكلف ولا يجازى، تكرير إنكاره للحشر والدلالة عليه من حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن، والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقق إلا بمجازاة، وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة، (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى 37) أي: كيف يحسب أن يهمل، وهو يرى في نفسه من تنقل الأحوال ما يستدل به على أن له صانعا حكيما، أكمل عقله وأقدره، وخلق فيه الشهوة، فيعلم أنه لا يجوز أن يكون مخلى من التكليف، ( ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى 38) فقدره فعدله، وعدل أعضاءه الظاهرة والباطنة في بطن أمه، (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ) الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى 39) وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة على ما مر تقريره مرارا؛ ولذلك رتب عليه قوله: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى 40) أليس ذلك الذي أنشأ هذه الأشياء بقادر على الإعادة؟!.