بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ 1) أصله المتزمل، من تزمل بثيابه: إذا تلـفف بها، (قُمِ اللَّيْلَ) أي: قم إلى الصلاة، أو داوم عليها، (إِلَّا قَلِيلًا 2 نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ... (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا 4) قال بينه تبيينا؛ وفي الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم:كان لا يجاوز الآية في القرآن، ]إلا[ ويقف عليها . قال أبو سعيد: إنه رأى فيما يرى النائم أن قائلا يقول له: إذا قرأت فلا تجاوز الآية؛ وقال:مرت عائشة أم المؤمنين على قارئ يقرأ، وهو يسرع في قراءته، فقالت: لا قرأ ولا ترك انتهى. والمقصود من القراءة: التدبر.

 

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5) يعني القرآن، فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين، سيما على الرسول، إذ كان عليه السلام أمر أن يتحملها ويحملها امته؛ أو أراد بهذا الاعتراض ما كلفه من القيام بالليل من جملة التكاليف الثقيلة، من حيث إن الليل وقت الراحة والهدوء، فلا بد لمن اختاره من مجاهدة لنفسه؛ وقيل: قولا ثقيلا في الميزان، أو رصين لرزانة لفظه، وكثرة معانيه، أو ثقيل على المتأمل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر، وتجريد للنظر، أو ثقيل على الكفار والفجار.

 

(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، من نشأ من مكانه: إذا نهض؛ أو قيام الليل على أن الناشئة له؛ أو العبادة التي تنشأ بالليل، أي: تحدث؛ قال أبو سعـيد:إن الناشئة: كل صلاة بعد النوم بعد العـشاء الآخرة . (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي: كلفة؛ أو ثبات قدم؛ وقرئ: وطاء، من مواطأة القلب اللسان لها، أو فيها، أو مواقعة لما يراد من الخضوع والإخلاص، (وَأَقْوَمُ قِيلًا 6) وأشد مقالا، أو أثبت قراءة بحضور القلب.

 

(إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا 7) تقلبا في مهامك بها، فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الحق تستدعي فراغا؛ وقرئ:سبخا أي: تفرق قلب بالشواغل. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره ليلا ونهارا؛ وذكر الله يتناول كل ما ذكره، من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم، وهو يعم جميع الطاعة. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا 8) وانقطع غليه بالعبادة وجرد نفسك عما سواه.

 

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا 9) مسبب عن التهليل؛ فإن توحده بالألوهية يقتضي لأن توكل إليه الأمور. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) من الهذيان. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا 10) بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم، وكل أمرهم على الله، كما قال: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) لعله دعني وإياهم وكل ]إلي[ أمرهم. (أُولِي النَّعْمَةِ) أرباب التنعم. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا 11) زمانا، أو إمهالا.

 

(إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا) تعليل للأمر؛ والنكل: القيد الثقيل. (وَجَحِيمًا 12) قيل: إن الجحيم النار الشديدة التأجج. (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) طعاما ينشب في الحلق كالضريع، والزقوم، غير سائغة تأخذ بالحلق، لا هو نازل، ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع.(وَعَذَابًا أَلِيمًا 13) ونوعا آخر من العذاب مؤلما، لا يعرف كنهه إلا الله؛ ولما كانت العقوبات الأربع مما تشترك فيها الأشباح والأرواح، فإن النفوس العامية المنهمكة في الشهوات تبقى مقيدة بحبها والتعلق بها عن التخلص إلى عالم المجردات، متجرعة غصة الهجران، معذبة بالحرمان عن تجلي أنوار القدس. ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) تضطرب وتتزلزل.(وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا ) رملا مجتمعا. ( مَهِيلًا 14) منثورا؛ من هيل هيلا: إذا نثر.

 

( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) يشهد لكم وعليكم يوم القيامة بالإجابة والامتناع.( كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا 15 فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا 16) ثقيلا، من قولهم: طعام وبيل لا يستمرأ لثقله، ومنه الوابل للمطر العظيم. ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أي: فكيف تتقون العذاب في الآخرة إن كفرتم به في الدنيا أنفسكم، ( إِنْ كَفَرْتُمْ) بقيتم على الكفر، ( يَوْمًا) عذاب يوم، ( يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا 17) من شدة هواه؛ وهذا على التمثيل، وأصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع بالشيب والهرم.  ( السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ) منشق ( بِهِ) بشدة ذلك اليوم على عظمها وأحكامها، فضلا عن أيام العذاب، ( كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا 18) .

 

( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) عظة، ( فَمَنْ شَاءَ) أن يتعظ،(اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا 19 إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ويقوم ذلك جماعة من أصحابك. ( وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله؛ ومعناه: لا يفوته علم ما تفعـلون، ( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي: لن تحصوا تقدير الأوقات، ولن تستطيعوا ضبط الساعات، ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ) بالترخيص في ترك القيام المقدر؛ ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ) قيل: فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل؛ عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. قيل: كان التهجد واجبا على التخيير المذكور، فعسر عليهم القيام به، فنسخ به، ثم نسخ هذا بالصلـوات الخمس. وعن أبي سعـيد: وعن قـوله: (فاقرءوا مَا تيسَّر من القرآن) فقد قيل: ذلك قراءة القرآن عند فاتحة الكتاب في الصلوات المفروضة؛ وقيل: ذلك في النوافل، والأول أحب إلي، والله أعلم بتأويل كتابه .

 

( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) من تحصيل علم أو تجارة، ( وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) قيل: ما تيسر لكـم عند قراءته، ]مع[ خشوع القلب وصفـاء السر،  (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) من بذل مال، أو جسم، أو غريزة عقل؛ ويعم ذلك جميع ما يكون طاعة لله، ولو في دفع الوساوس الشيطانية والاشتغال عنها بذكر الله، ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا) من ذلك الذي قدمتموه ( وَأَعْظَمَ أَجْرًا) مما تتبعون به شهوات الأنفس، فإن ذلك قليل لا جدوى له؛ ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) في مجامع أحوالكم، فإن الإنسان لا يخلو من تفريط، ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 20) لمن تاب.