بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

 (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ)ِ قيل: الجن أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية؛ وقيل: نوع من الأرواح المجرد؛ وقيل: نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها؛ وفيه دلالة على أنه عليه السلام ما رآهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما ارتفق حضورهم في بعض الأوقات قراءته فسمعوها، وأخبر الله ورسوله؛  (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا 1) بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه، ودقة معناه. (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) إلى الـحق. (فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا 2) على ما نطق به الدلائل القاطعة على التوحيد.

 

(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) كأنه قيل: صدقنا أنه تعالى جد ربنا، أي: ارتفعت عظمته، من جد فلان في عيني: إذا عظم؛ أو سلطانه؛ أو غناه؛ والمعنى: وصفه بالاستغناء عن الصاحبة والولد لعظمته وسلطانه، أو لغناه، وقوله: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا 3) بيان لذلك، أي: صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطإ ما اعتقدوه من الشرك، واتخاذ الصاحبة والولد.

 

(وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) جاهلنا،وهو إبليس ومردة الجن، (عَلَى اللَّهِ شَطَطًا 4) قولا ذا شطط، وهو البعد، ومجاوزة الحد. (وَأَنَّا ظَنَنَّا) حسبنا (أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا 5) اعتذارا عن اتباعهم للسفيه في ذلك لظنهم أن أحدا لا يكذب على الله؛ وعلى معنى ما أوله في هذه الآية كأنهم يلتمسون العلم من الإنس والجن على ما مضى في سورة الأحقاف.

(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قيل: كان الرجل يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، (فَزَادُوهُمْ) فزاد الإنس لعله والجن باستعاذتهم بهم (رَهَقًا 6) كبرا وعتوا؛ أو فزاد الجن الإنس غيا بأن أضلوهم، حتى استعاذوا بهم؛ والرهق في الشيء: غشيـان الشيء. (وَأَنَّهُمْ) وأن الإنـس (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ) أيها الجن، أو بالعكس (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا 7) كأنهم في الظن غير الجائز مشتركون بدليل الآية.

 

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) طلبنا بلوغ السماء، أو خبرها، (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا) قويا، وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها، (وَشُهُبًا 8) جمع شهاب: وهو المضيء المتولد من النار. (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) مقاعد خالية عن الحرس والشهب؛ أو صالحة للترصد والاستماع، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا 9) أي: شهابا راصدا له. (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا 10) لأنهم لا يعلمون من أحكام المغيبات شيئا.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا 11) متفرقة مختلفة جمع قدة، من قد إذا قطع.

 

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) علمنا (أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ) أينما كنا فيها، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا 12) إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا.

 

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى) أي: القرآن، (آَمَنَّا بِه) فهذا يدل على إيمانهم، وهم المستمعون له.ِ (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا 13) نقصا في الجزاء ولا أن ترهقه ذلة.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) الجائزون عن طريق الحق، وهو الإيمان والطاعة، (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا 14) توخوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب. (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا 15) توقد بهم، كما توقد بهم، كما توقد بكفار الإنس.

 

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا) أي: وأن الشـأن لة استقـام الإنس، أو الجن، أو كـلاهما (عَلَى الطَّرِيقَةِ) المثلى، (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا 16) لوسعنا عليهم الرزق، وتخصيص الماء الغدق – وهو الكثير- بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة؛ وكأن الآية تدل على أن الجن أهل حرث عن كانت الآية في سيـاق ذكرهم. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم كيف يشكرونه، ( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته، أو موعظته، أو وحيه، (يَسْلُكْهُ) يدخله (عَذَابًا صَعَدًا 17) شاقا يعلو المعذب ويغلبه، ولعله اردا به عذاب الدنيا والآخرة.

 

(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) مختصة به، (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا 18) قيل: هي مواضع السجود؛ والمراد به: النهي عن السجود لـغير الله. (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) قيل: هو النبي، وإنمـا ذكر لـفظ العبد لإخلاصـه لله، (يَدْعُوهُ) يعـبده، (كَادُوا) كاد الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا 19) متراكمين من ازدحامهم عليه، ليكسروا عليه سورة عبادته، ويجروه إليهم، وليشوشوا عليه عبادته بالوساوس الرديئة؛ أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره، وهو يجمع لبدة، وهو ما يلبد بعضه على بعض.

 

(قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا 20) أمره بالإقبال على شأنه، والإعراض عن متابعة وساوسهم. (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا 21) ولا نفعا. (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) إن اتبعتكم وخالفت أمره، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا 22) ملتجأ أميل إليه، ومعنى التحد: أي مال، (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ) أي: لا أملك إلا تبليغكم، (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالتوحيد، (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا 23 حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ) وهو الموت (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا 24) .

 

(قُلْ إِنْ أَدْرِي) أي: ما أدري (أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا 25 عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا 26) من العاصين، (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) والمعنى أن الله لا يطلع على أسرار المكونات إلا من أطاعه، ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا 27) حفظة من الملائكة يحفظونة من الشياطين، يطردونهم عنه، ويعصمونه من وساوسهم، حتى يبلغ ما أوحي به إليه.

 

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي: ليعلم النبي المحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة النازلون بالوحي؛ او ليعلم الله أن أبلغ الأنبياء، (رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) كما هي محروسة من التغيير، (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا 28) حتى القطر والرمل ورق الشجر.