بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) بدلالتها على كمال قدرته واستغنائه، (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1) لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل على سواء؛ ثم شرع فيما ادعاه فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ) مقدر كفره، ناه عما يحمله عليه، (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقدر إيمانه، آمر بما يدعوه إليه، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 2) فيعاملكم حسب أعمالكم.

 

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) بالحكمة البالغة، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فصوركم من جملة ما خلق فيهما بأحسن صورة؛ ثم زينكم بصفوة أوصاف الكائنات، وخصكم بخلاصة خصائص المبدعات، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات، لتكونوا من خير البريات، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3) فأحسنوا سرائركم حتى لا يمسخ بالعذاب ظواهركم.

 

(يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ 4) فلا يخفى عليه ما يصح أن يعلم، كليا كان أو جزئيا، لأن نسبة المقتضي لعلمه إلى الكل واحدة؛ وتقديم تقدير القدرة على العلم، لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا بالذات، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص.

 

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) ضرر كفرهم في الدني؛ وأصله: الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل: للمطر الثقيل القطار، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 5)  في الآخرة. (ذَلِكَ) أي: المذكور من العذاب والوبال، (بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) أنكروا وتعجبوا أن يكون الرسول بشرا، (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) عن النذير بالبينات، (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) عن كل شيء، فضلا عن طاعتهم، (وَاللَّهُ غَنِيٌّ) عن عبادتهم وغيرها، (حَمِيدٌ 6) يدل على حمده كل مخلوق.

 

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) الزعم: ادعاء العلم  بالمحاسبة والمجازراة، (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) بالمحاسبة والمجازرة، (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ 7) لحصول القدرة التامة. (فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) يعني: القرآن، فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه، مطهر لغيره، مما فيه شـرحه وبيانه، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 8) فمجاز عليه.

 

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) لأجل ما فيه من الحساب والجزاء، والجمع: جمع الملائكة والثقلين، (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) الحقيقي، لأنه يغبن فيه بعضهم بعضا، لفوات الأشقياء منازل السعداء؛ مستعار من تغابن التجار؛ واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي هو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها.

 

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ) الإشارة إلى مجموع الأمرين، ولذلك جعله (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9)لأنه جامع للـمصالح، من دفع المـضار وجـلب المنافع. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 10)كأنها والآية المتقدمة بيان للتغابن وتفصيل له.

 

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) إلا بتقديره وإرادته، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) للثبات والاسترجاع عند مواقعة الذنوب. والإيمان شرط لوجود الهداية بدليل هذه الآية؛ ويحتمل في التأويل: ومن يؤمن بالله يهد قلبه لطلب العلم، والعمل بما علم؛ والمعنى: أنه يجعل لقلبه باعثا على مظان الهداية، لأن الاجتهاد على قدر الإيمان؛ وذلك هو معنى هداية الله له ومثله: (والذين اهتدَوا زادهم هُدىً وآتاهم تَقوَاهم) وكذلك خذلان الله لأهل الكفر تقصيهم عن المواجب، وانهماكهم للشهوات، (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 11)  حتى القلوب وأحوالها؛ وعالم منها ما يصلح للإيمان وضدها. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ 12 اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 13 )لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) لمن عصى الله فيهما، أو عصى الله لأجلهما، ومن ذلك قال: (إنَّ من أزواجكم وأولادكم) ، و من ها هنا للتبغيض، لأن من يطيع الله بهم وفيهم لأجلهم يكونون رحمة له، لأنهم أقرب الأشياء من غيرهم له لهذا وهذا، ويكونون سببا للحالين، وقال: (إنَّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لَّكم فاحذروهم) لأن منهم العقلاء المخاطبين، فيكون بعضهم سببا للطاعة، وبعضهم سببا للمعصية، ومن ذلك لم يشرك المال فيهما في العداوة، وجعله فتنة، لأنه جماد ييمم ولا يتيمم بنفسه، وإنما هو له لاستعمال الحالين. (فَاحْذَرُوهُمْ) عن أن تعصوا الله فيهما؛ (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم بترك المعاقبة (وَتَصْفَحُوا) بالإعراض، وترك التثريب عليها، (وَتَغْفِرُوا) بإخفائها، وتمهيد معذرتهم فيها، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 14) يعاملكم بمثل ما عملتم، ويتفضل عليكم.

 

(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) فجميع الأموال والأولاد اختبار، وابتلاء للإنسان؛ فإن أطاع الله بهما فله الثواب، وإن عصى الله بهما فعليه العذاب في الدارين، ولذلك قال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) ولم يقل: منها، (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 15) لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي: ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم، (وَاسْمَعُوا) له أوامره، (وَأَطِيعُوا) وامتثلوا، (وَأَنْفِقُوا) في وجوه الخير خالصا لوجهه (خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) افـعلوا ما هو خير لها، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) باستعمـاله للوقاية، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 16).

 

(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) مقرونا بالإخلاص، وطيب القلب، (يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ 17 عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 18).