بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 1 هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الحشر: جمع من مكان إلى آخر، (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) لشدة بأسهم ومنعتهم، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي: أن حصونهم تمنـعهم  من بأس من يتـوقونه، (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ) أي: عذابه، وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء، (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) لقوة وثوقهم، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها، أي: يملأها، (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) ضنا بها على المسلمين، وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها، أو يخرجون أحوال ما بنوه من الأمور في حرب المسلمين بالانتكاص عنه، لقوله: (وَأْتُوا البيوتَ من أبوابها) أي: الأمور، (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم كانوا أيضا يخرجون ظواهرها، نكاية وتوسيعا لمجال القتال؛ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ 2) فاتعظوا بحالهم، فلا تعتمدوا على غير الله.

 

(وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ) الخروج من أوطانهم، (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالقتل والسبي وغير ذلك؛ (وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ 3 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 4) الإشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم، لعله أي: ]سواءا[ أخرجوا من أوطانهم أو قعدوا فالعذاب محيط بهم، بسبب مشاققتهم لله ورسوله.

 

(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) أي: شيء قطعتم من نخلة؛ فعلة، من اللون، ويجمع على ألوان؛ وقيل: من اللين، ومعناها: النخلة الكريمة، وجمعها: أليان ، (أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ 5).

 

(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) وما أعاده عليه؛ أو رده عليه، فإنه كان حقيقا، بأن يكون له، لأنه تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين، (مِنْهُمْ) من الكفرة، (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) فما أجريتم على تحصيله، من الوجيف: وهو سرعة السير، (مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) يقذف الرعب في قلوبهم، (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 6) فينفعل ما يريد، تارة بالوسائط الظاهرة، وتارة لعله بدقائق باطنة لا تعرف إلا بالتفرس.

 

(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً) لعله مداولا (بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ) الرؤساء (مِنْكُمْ) الدولة: ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم، كما كان في الجاهلية؛ (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ) من الأمر (فَخُذُوهُ) أي: تمسكوا به لأنه واجب الطاعة، (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ) عن فعله، (فَانْتَهُوا) عنه، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في مخالفة رسوله، (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 7)في الدارين لمن خالف.

 

(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 8) الذي ظهر صدقهم في إيمانهم. (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا) توطنوا (الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) عطف على المهاجرين ؛ والمراد بهم: الأنصار، الذين ظهر صدقهم، فإنهم لزموا المدينة والإيمان، وتمكنوا فيهما؛ وقيل المعنى: تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان، أو تبوؤوا الدار، وأخلصوا الإيمان؛ وقيل: سمى المدينة بالإيمان، لأنها مظهره، (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرة المهاجرين، (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً) ما تحمل عليه الحاجة، كالطلب والحسد والغيظ، (مِمَّا أُوتُوا) ما آتاهم الله من فضله. قال الغزالي: أي لا تضيق به صدوروهم ولا يغتنون، فأثنى عليهم بعدم الحسد ؛ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ويقدمون المهاجرين على أنفسهم، وهذا من علامات الإيمان، (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) حاجة؛ من خصاص البناء، وهي فروجه، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) حتى يخالفها مما ]يغلب[ عليها من حب المال وبغض الإنفاق، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9)  الفائزون.

 

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام، أو التابعون بإحسان، وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة؛ ولذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين، (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ) أي: لإخواننا في الدين، (فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا) حقدا لهم، لأنه ما دام في القلب حقد لأحد من أهل الإيمان بلا حجة فذاك مرض فيه، (رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ 10) فأنت أهل بأن تجيب دعاء من دعاك.

 

(أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا) أظهروا خلاف ما أضمروا، فلذلك .... (يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) فانظر سماهم الله إخوانهم، لأنهم متشابهون في الأعمال، إلا لعله ما أقروا به من الإقرار بالألسنة في الظاهر، (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم، (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 11) لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك، كما قال: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)   على عرض عاجل، (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) انهزاما، (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ 12) بعد، بل يخذلهم الله، ولا تنفعهم نصرة المنافقين، لأنهم لا ينصرونهم إلا لغرض عاجل وليس له ثبات.

 

(لَأَنْتُمْ) أيها المؤمنون؛ (أَشَدُّ رَهْبَةً) مرهوبا، فِي (صُدُورِهِمْ) فإنهم كانوا يظهرون مخافتهم من المؤمنين، (مِنَ اللَّهِ) على ما يظهرونه نفاقا، فإن استبطان رهبتم سبب لإظهار رهبة الله؛ أو لا يرهبون الله .... يرهبون القتل على أيد المؤمنين، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ 13 ) لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته، ويعلمون بأنه الحقيق بأن يخشى, (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ) بالخنادق، (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) لفرط رهبتم، (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي: وليس ذلك لضعفهم وجبنهم، فإنه يشد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم، لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله، (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا) مجتمعين منفقين، (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم. قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم ومختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق؛ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ 14 ) ما فيه صلاحهم، وأن تشتت القلوب يوهن قواهم.

 

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا) في زمان قريب، (ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 15) في العقبى؛ (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ) أي: مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان، (إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ) أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور؛ (فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه كما قال: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ 16) فيقول الله تعالى: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ 17) استحقا الاشتراك في العذاب، هذا بالإضلال، وذلك بالاتباع والتقليد.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ليوم القيامة، سماه به لدنوه، أو لأن الدنيا كيوم، والآخرة غده؛ أمر الله تعالى كل نفس أن تنظر ما قدمته، فإن كان خيرا حمدت الله وزادت، وإن كان شرا استغفرت منه وتابت؛ وهذا إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 18).

 

(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) أي: تركوا ما تعبدهم الله به، (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الروحانية فهموا بالنفس الجسمانية، فجعلهم ناسين لها، حتى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلصها ولم يجنبوها ما يضرها ويهلكها، ولا يخالف هذا قوله: (قد أهمتَّهم أنفسهم) ، لأنه أراد بهذه النفس في هذا الموضع: النفس الجسمانية، (أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 19 ) الخارجون من تزكية الأنفس عن الرذائل.

 

(لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) الذين استكملوا أنفسهم، فاستأهلوا الجنة، والذين استمهنوها فاستحقوا النار (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ 20)

 بالنعيم المقيم.

(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ) وكان مركبا فيه عقل، (لَرَأَيْتَهُ) تمثيل وتخييل كما مر في قوله: (إنَّا عرضنا الأمانة) ولذلك عقبه بقوله: (خَاشِعًا) لعله متواضعا قد وضعته عن التكبر آيات القرآن (مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) لعله من عذابه وعقوبته إن لم يمتثل لما في القرآن، فإن الإشارة إليه وإلى أمثاله؛ والمراد: توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، وقلة تدبره، والتصدع: التشقق. (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 21) أنه:

 

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن العباد علمه؛ (وَالشَّهَادَةِ): ما شاهدوه وعاينوه، (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ 22)  ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية وأحوالها، وما حضر له من الأجرام وأعراضها، وتقدم الغيب لتقدمه في الوجود، وتعلق العلم القديم به؛ أو المعدوم والموجود؛ أو السر والعلانية؛ أو الآخرة والدنيا، كقوله:( الذين يؤمنون بالغيب).

 

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) ذو الملك، لأنه المالك للأشياء، (الْقُدُّوسُ) البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا؛ والقدس: هو الطهارة، (السَّلَامُ) ذو السلامة من كل نقص وآفة، (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن؛ وقيل: المصدق لمن آمن به من عباده المؤمنين (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب الحافظ لكل شيء، (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) الذي جبر خلقه على ما أراد؛ أو جبر حالهم: بمعنى أصلحه. (الْمُتَكَبِّرُ) الذي يكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا، (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ 23) إذ لا يشاركه شيء في ذلك ولا يضره شركهم.

 

(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ) المقدر للأشياء على مقتضى حكمته (الْبَارِئُ) الموجد له؛ بريئا من التفاوت، (الْمُصَوِّرُ) الموحد لصورها وكيفياتها كما أراد، (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) لأنها دالة على محاسن المعاني، فيتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لتنكشف له أسرارها، فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموقنين، (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لتنزهه عن النقائص كلها.(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 24) الجامع للكمالات كلها بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.