بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

 (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا 1)  قيل: صفوف الملائكة في السماء، لصفوف المصلين في الأرض، (وَإِنَّا لَنحنُ الصَّافُّون) . (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا 2 فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا 3)  قيل: أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب، باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهية، منتظرين لأمر الله، الزاجرين الاجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها؛ أو الناس عن المعاصي بإلهام الخيرات؛ أو الشياطين عن التعرض لها، التالين آيات الله، وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليئه؛ أو بطوائف الأجرام المتزينة كالصفوف المرصوصة، والأرواح المدبرة لها، والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس،(يسبِّحُون الَّليل وَالنَّهَارَ لاَ يَفتُرون)؛ أو بنفوس العلماء الصافين في العبادات، الزاجرين عن الكفر، والسوق بالحجج والنصائح، التالين آيات الله وشرائعه.

 

(إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ 4 رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ 5)  فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره، دليل وجود الصانع الحكيم، ووحدته على ما مر غير مرة؛ والمشارق: مشارق الكواكب؛ أو مشارق الشمس في السنة، وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً، تشرف في كل يوم في واحد، وبحسبها تختلف المغارب؛ ولذلك اكتفى بذكرها، مع أن الشروق أدل على القدرة.

 

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ 6 وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ 7 لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) وهم الملائكة، (وَيُقْذَفُونَ) ويرمون (مِنْ كُلِّ جَانِبٍ 8) من جوانب السماء. (دُحُورًا) وهو الطرد، (وَلَهُمْ عَذَابٌ) أي: عذاب آخر (وَاصِبٌ 9)  دائم، لعله وكذلك إخوانهم من الإنس، العذاب مآلهم. (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ) والخطف: الاختلاس؛ والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة؛ والشهاب: ما يرى كأن كوكباً انقض، (ثَاقِبٌ 10) مضى كأنه يثقب الجو بضوئه.

 

(فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبرهم (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا)  يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما، والمشارق والكواكب والشهب الثواقب، (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ 11 بَلْ عَجِبْتَ) من إنكارهم البعث. يروى عن قتادة أنه قال: عجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين نزل، وضلال بني آدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل ما يسمعه يؤمن به، فلما سمعه المشركون سخروا منه، ولم يؤمنوا به عجب من ذلك صلى الله عليه وسلم . (وَيَسْخَرُونَ 12)من تعجبك وتقريرك للبعث. (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ 13)  وإذا وعظوا بشئ لا يتعظون به، وإذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر، لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم.

 

(وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً) معجزة تدل على صدق القائل به، (يَسْتَسْخِرُونَ 14)  يبالغون في السخرية. (وَقَالُوا إِنْ هَذَا) يعنون ما يرونه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 15)  ظاهر سحريته، وذلك لضعف إيمانهم، لعله أو عدمه للبعث، بدليل قوله: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 16 أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ 17 قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ 18) صاغرون. (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ 19) أي: إذا كان ذلك، فإنما البعثة زجرة واحدة، وهي النفخة والثانية؛ من زجر الراعي غنمه: إذا صاح عليها، وأمرها بالإعادة.

 

(وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ 20) اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا وهو ثمرة الدين، وقد تم به كلامهم. وقوله:(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 21)  ، قيل: جواب المـلائكة؛ والفضل: القـضاء، والفرق بين المـحسن والمسـيء. (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بأمر الله الملائكة، (وَأَزْوَاجَهُمْ) وأشباهم، عابد الصنم مع عبدة الصنم، أو نساؤهم اللاتي على دينكم، أو قرناؤهم من الشياطين، (وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ 22 مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ 23) فعرفوهم طريقها ليسلكوا (وَقِفُوهُمْ) واحبسوهم في الموقف، (إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ 24)  عن عقائدهم وأعمالهم. (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ 25) لا ينصر بعضكم بعضا بالتخلص، وهو توبيخ وتقريع، (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ 26) منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عنهم، وأصل الاستسلام: طلب السلامة.

 

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني: الرؤساء والأتباع (يَتَسَاءَلُونَ 27) يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ، ولذلك فسر: يتخاصمون، وذلك زيادة عذاب فوق عذابهم. (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ 28) عن أقوى الوجوه وأيمنها، أو عن الدين؛ (قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 29 وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ 30) أجابهم الرؤساء بمنع إضلالهم، فإنهم كانوا ضالين في أنفسهم؛ وثانياً: بأنهم ما أجبروهم على الكفر، إذ لم يكن لهم عليهم تسلط، وإنما جنحوا إليه، لأنهم كانوا قوما مختارين الضلال.

 

(فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ 31 فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ 32 فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ 33 )كما كانوا مشتركين في الأفعال، (إِنَّا كَذَلِكَ) مثل ذلك الفعل (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 34 إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ 35) أي: عن كلمة التوحيد والعمل بمقتضاه.

 

(وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ 36)  للرسل ورسلهم، ولو من حجة عقل قامت عليهم حجة الله لقالوا: هذا من وسواس الشيطان، وإن الحق خلافه؛ فرد الله عليهم دحضاً لحجتهم، وإزهاقا لباطلهم فقال: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ 37 إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ 38) بردكـم حجة الله.  (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 39) الإ جزاء ما عملتهم.

 

(إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 40 أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ 41)  خصائصه، من الدوام وتمحض اللذة، ولذلك فسره بقوله:( فَوَاكِهُ) فإن الفاكهة ما يقصد بها الإ التلذذ دون التغذي والقوت؛ فإن أهل الجنة لما أعيدوا على خلقه محكمة محفوظة عن التحلل كان أرزاقهم فواكه خالصة. (وَهُمْ مُكْرَمُونَ 42) في نبله، يصل إليهم من غير تعب، لا كما عليه غذاء أهل الدنيا، لأن في الحقيقة ليس في الدنيا فاكهة محضة عن الشوائب؛ بل فيها قوت وقوام، لأنها دار عبادة. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 43)  في جنات ليس فيها الإ النعيم. (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ 44).

 

(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ 45)  من شراب معين؛ إشعارا بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب الجامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة؛ ولذلك قوله: (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ 46) لعله والناظرين، وصفها بـلذة للمبالغة؛ (لَا فِيهَا غَوْلٌ) غائلة، كما في خمر الدنيا كالخمار، من غاله يغوله: إذا أفسده، ومنه الغول، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ 47) لعله قيل معناه: لا ينفد شرابهم.

 

 (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهن، وذلك من تمام الحسن، (عِينٌ 48) قيل: نجل العيون، جمع : عيناء. (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ 49)  شبههن ببيض النعام المصون من الغبار نحوه في الصفاء والبياض.

 

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ 50 ) فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل تساؤلهم عن ما جرى عليهم ولهم في الدنيا. (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) في مكالمتهم: (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ 51)  جليس في الدنيا (يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ 52)  يوبخني على التصديق بالبعث ، وقرى بالتشديد من التصدق. (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ 53)  لمجزيون من الدين، بمعنى: الجزاء.

 

(قَالَ) أي: ذلك القائل: (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ 54) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين؛ وقيل : القائل هو الله، أو بعض الملائكة، يقول لهم :تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين ، فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟، وذلك نعمة جليلة تصغر في حقها . (فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ 55)  وسطه، (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ 56) لتهلكني بالإغواء ، (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي) بالهداية والعصمة،(لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ 57) معك فيها. (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ 58) 

 

أي: مخلدون منعمون، (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى) التي كانت في الدنيا، (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 59) كالكفار، (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 60 )وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له، أو معاودة مكالمة جلسائه تحدثا بنعمة الله، وتلذذا بها، وتعجبا منها؛ أو أن يكون من كلام الله لتقرير قوله، والإخبار بما عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب.

 

(لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ 61) أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام.(أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ 62 إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ 63) محنة وعذابا في الآخرة. (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ 64) منبها في قعر الجحيم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. (طَلْعُهَا) حملها، مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل، (كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ 65)  في تناهي القبح والهول، لعله لأن منظرها ومنظر ما فيها عذاب خلاف الجنة؛ وهو تشبيه بالمتخيل، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك؛ وقيل: الشياطين لعله حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف، لعلها سميت بها لذلك.

 

(فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ 66) لغلبة الجوع، والجبر على أكلها، أو لضيق النفس عليه، لأنها لا تعني من جوع، فهم جياع عطاش أبدا؛ والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه. (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا) أي: بعدما ملؤوا بطونهم منها وغلبهم العطش، شربوا من الحميم فوق ملء ذلك عذابا؛ والأكل عذاب، والجوع والعطش عذاب، زيادة عليهم من عذاب النار. لان  ثم يكون لما ]في[ شربهم من مزيد الكراهة والبشاعة، لان النعيم محرم عليهم، فلا تلذذ بأكل ولا شرب، ولا شبع ولا تحقق من ذلك، ويدلك على ذلك قوله: (لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ 67) لشرابا من غساق، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم. (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ 68) إلى دركاتها أو إلى نفسها.

 

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ 69 فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ 70) تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال؛ والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارهم؛ وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث.

 

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) قبل قومك (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ 71 وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ 72) أرسل لعله رسلا أنذروهم من العواقب، وحذرهم غرور الظواهر. (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ 73) ما حل بهم من البلوى. (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 74) الإ الذين تنبهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم لله، أو أخلصهم الله لدينه؛ وقد قرئ به، والخطاب للرسول وقومه سمعوا أخبارهم أو آثارهم.

 

(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ) شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها؛ أي: ولقد دعانا حين أيس من قومه، (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ 75) أي : أجبناه أحسن الإجابة. (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 76) من الغرق، أو أذى قومه، أو زلته التي زلها. (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ 77) إذ هلك من عداهم، وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة،إذ روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنية وأزواجهم. (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ 78) قيل: أبقينا له ثناء حسناً، وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة؛ وقيل: يصلى عليه يوم القيامة.

 

(سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ) قيل: هو سلام من الله عليه (فِي الْعَالَمِينَ 79)  قيل: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جمعياً. (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 80)  تعليل لما فعل بنوح من التكرمة، بأن ذلك مجازاة له إحسانه. (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 81) تعليل لإحسانه بالإيمان، ]و[ إظهار لجلاة قدره، تأصيل لعزه. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ 82) يعني: كفار قومه.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة، (لَإِبْرَاهِيمَ 83)  ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا؛ وقيل: كان بينهما هود وصالح. إِذْ (جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ 84)  من آفات القلوب، خالص لله وحده. (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ 85 أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ 86) أي: تريدون آلهة ذات إفك دون الله، لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل، ومبنى أمرهم على الإفك. (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 87)؟ ممن هو حقيق بالعبادة، لكونه ربا للعالمين، حتى تركتم عبادته، أشركتم به غيره!.

 

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ 88)  فرأى مواقعها، مع أن قصده إيهامهم. (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ 89)  قيل أراد: إني سقيم القلب لكفركم؛ أو خارج الممزاج عن الاعتدال خروجا قل ما يخلو منه ] أحد[ ، أو بصدد الموت، ومنه الميل، كفى بالسلامة داء، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ 90 فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ) فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، وأصله الميل بحيلة، (فَقَالَ) أي: للأصنام استهزاءً: (أَلَا تَأْكُلُونَ 91 مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ 92)  بجوابي. (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ) فمال عليهم مستخفيا، (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ 93) للدلالة على قوته، فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل.

 

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ 94) يسرعون من زفيف النعام، على ]500[ ما قيل. (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ 95) ما تعملونه من الأصنام. (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ 96) أي: وما تعملونه، فإن جوهرها بخلقه؛ وشكلها وإن كان بفعلهم – ولذلك جعل من أعمالهم – فبإقداره إياهم عليه، وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد. (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ 97)  في النار الشديدة، من الجحمة: وهي شدة التأجج.

 

(فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا) فإنهم لما قهرهم بالحجة، قصدوا تعذيبه بذلك، (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ 98) المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم، وجعله برهانا نيرا على علو شأنه، حيث جعل النار عليه بردا وسلاما. (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي) تجردا لعبادة ربه من الشواغل الدنيوية إلى الأعمال الدينية، (سَيَهْدِينِ 99)  إلى ما فيه صلاح ديني؛ وإنما بت القول بالهداية لسبق وعده وحقيقة توكله عليه، وانقطاعه إليه. (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ 100) يعينني على الطاعة، لانه كأنه فريدا.

 

(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ 101 فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي: بلغ معه العمل بطاعة الله (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) من الرأي، إنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله، فتثبت قدمه، أو تزل إن جزع، ويأمن عليه إن سلم، ليوطن نفسه عليه، فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله.

 

(قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولعل الأمر به في اليقظة دون المنام، لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص، (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 102) على قضاء الله، (فَلَمَّا أَسْلَمَا) استسلما لأمر الله، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ 103)صرعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض، فهو أحد جانبي الجبهة، وقيل: كبه على وجهه بإشارته، لئلا يرى فيه تعبيرا يرق له فلا يذبحه.

 

(وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ 104 قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) بالعزم والإتيان بالمقدمات؛ تقديره كان ما كان مما ينطبق به الحال، ولا يحيط به المقال من استبشارهما، وشكرهما لله على ما أنعم عليهما، من دفع البلاء بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله، وإظهار فضلهما به على العالمين؛ مع ما نالا به ] من[ الثواب العظيم، إلى غير ذلك، (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 105) تعليل لإفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما؛ والمعنى: أنا عفونا إبراهيم عن ذبح ولده، نجزي من أحسن في طاعتنا بإفراج الشدائد. (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ 106)  الابتلاء البين، الذي يتميز فيه المخلص من غيره؛ أو المحنة البينة الصعوبة، فإنها من مشاق البلوى.

 

(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ) مما يذبح بدله، فيتم به الفعل، (عَظِيمٍ 107) عظيم الجثة سمين، أو عظيم القد؛ (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ 108 سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ 109 كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 110)  أي: نجزي بالسلامة كل من أحسن. (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 111 وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ 112 وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) أي: على إبراهيم في أولاده، (وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ) في عمله، أو على نفسه بالإيمان والطاعة، (وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي، (مُبِينٌ 113) ظاهر ظلمه؛ وفيه تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم من الذرية لا يعود على الأبوين بنقيصة ولا عيب.

 

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ 114)  أنعمنا عليهما بالنبوة، وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية. (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 115) من تغلب فرعون وآله. (وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ 116 وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ 117)  الواضح في بيانه. (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ 118)  الطريق الموصل إلى الحق والصواب. (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ 119 سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ 120 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 121 إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 122) .

 

(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 123 إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ 124 أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أتعبدون أو طالبون الخير منه، وهو اسم صنم فيما قيل، (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ 125 اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ 126 فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ 127)  في العذاب. (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 128 وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ 129 سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ 130 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 131 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 132)  .

 

(وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 133 إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 134 إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ 135 ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ 136 وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ 137 وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 138) أفليس فيكم عقل تعتبرون به.

 

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 139 إِذْ أَبَقَ) هرب، وأصله: الهرب من السيد، ولكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه، حسن إطلاقه عليه، (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ 140) المملوء. (فَسَاهَمَ) فقارع أهله (فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ 141) فصار من المغلوبين بالقرعة؛ وأصله: المزلـق عن مقام الظفر. روي:  أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله به، فركب السفينة فوقفت، فقالوا: هنا عبد آبق، واقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال: أنا الآبق، ورمى بنفسه في الماء. (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ 142) داخل في الملامة، أو أتى بما يلام عليه، أو مليم نفسه.

 

(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ 143)  في بطن الحوت، وهو قوله: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فيما قيل، (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 144)  قيل: حيا، وقيل: ميتا. (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ) بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو بيت، (وَهُوَ سَقِيمٌ 145) مما ناله؛ قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ) فوقه مظلة عليه (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ 146)  من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم على ساقه؛ "يفعيل" من "قطن بالمكان" : إذ قام به؛ والأكثر على أنها كانت الدباء، وغطته بأوراقها عما يؤذيه.

 

(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ) هم قومه الذين هرب عنهم؛ والمراد: ما سبق من إرساله، أو إرسال ثان إليهم، أو إلى غيرهم (أَوْ يَزِيدُونَ 147 فَآَمَنُوا) فصدقوه، (فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ 148) إلى أجلهم المسمى.

 

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ 149) معطوف على مثله في أول السورة، وهو قوله: (فاستفهم أهم أشدُّ خَلْقاً أم مَّنْ خَلَقْنَا) أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أولا باستفتائهم عن وجه إنكارهم البعث، فساق الكلام في تقريره جارا لما يلائمه من القصص، موصولا بعضها ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات، ولأنفسهم البنين، في قولهم:  الملائكة بنات الله . (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ 150)؟ وإنما خص علم المشاهدة، لأن أمثال ذلك لا يعلم إلا به.

 

(أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ 151 وَلَدَ اللَّهُ) لعدم ما يقتضيه، وقيـام ما ينفيه، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 152) في مـا يتدينـون به، (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ 153) ؟! استفهام إنكار، واستبعاد، (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 154) ؟! بما لا يرتضيه عقل، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ 155)؟! إنه منزه عن ذلك،(أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ 156)؟ حجة واضحة، (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ )؟ الذي أنزل عليكم (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 157)  .

 

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) قال الحسن:  معنى النسب: أنهم أشركوا السلطان في عبادة الله ؛ وقيل : أراد بـ الجنة الملائكة، سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار؛ كقولهم:  الملائكة بنات الله ؛ (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) إن الكفرة أو الإنس (لَمُحْضَرُونَ 158)  في العذاب. (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 159) من الباطل؛ (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 160) .

 

(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ 161 )عود إلى خطابهم، (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) لعله معناه: ما أنتم بمضلين الإ من سبقت له الشقاوة، ومن هو صـال الجحيم، (بِفَاتِنِينَ 162) مفسدين الناس بالإغواء. (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ 163)  الإ من سبق في علمه أنه من أهل النار، ويصلها لا محالة.

 

(وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ 164) حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية، للرد على عبدتهم على ما قيل، والمعنى: ما منا أحد الإ له مقام معلوم في العرفة والعبادة، والإنتهاء إلى أمر الله في تدبير العـالم. يحتمل أن يكـون هذا وما قبله من قوله: (سبحان الله) من كلامهم، ليتصل بقوله: ( وَلَقَد عَلِمت الِجنَّة) كأنه قال: ولقد علم الملائكة أن المشركين معذبون بذلك،وقالوا: سبحان الله ثم استثنوا المخلصين تنزيها لهم منه، ثم خاطبوا الكفرة بأن الافتتان بذلك للشقاوة المقدرة، ثم اعترفوا بالعبودية، وتفاوت مراتبهم فيه، لا يتجاوزونـها. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ 165)  في أداء الطاعة، ومنازل الخدمة، وقيل: صفوف الملائكة في السماء للعبادة لعله كصفوف الناس في الأرض، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ 166)المنزهون لله عما لا يليق به، ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعات، وهذا في المعارف.

 

(وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ 167 لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ 168) كتاباً من الكتب السمـاوية (لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 169)  لأخلصـنا العبـادة له، (فَكَفَرُوا بِهِ) أي: لما جاءهم الذكر الذي هو أشـرف الأذكار المـهيمن عليها، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 170)  عاقبة كفرهم.

 

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171 إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172 وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ 173) أي: حزب الله لهم الغلبة بالحجة والنصرة في العاقبة. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم (حَتَّى حِينٍ 174 وَأَبْصِرْهُمْ) على ما ينالـهم حينئذ؛ والمراد بالأمر: الدلالـة على أن ذلك كـائن قريب كأنه قدامـه، (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 175)  ما قضينا لك وعـليهم؛ (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ 176)؟! قيل: إنه لما نزل: (فسوف يُبصِرون) قالوا: متى هذا؟ فنزل: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ)  بفنائهم بغتة، (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ 177)  فبئس صباح المنذرين صباحهم.

 

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ 178 وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 179) وعد له بالنصر، ووعيد عليهم بالهلاك، والتكرير فيه على المبالغة.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) الغلبة والقوة (عَمَّا يَصِفُونَ 180) عما قاله المشركون فيه، على ما حكى في السورة؛ وإضافة الرب إلى العزة لاختصاصها به، إذ لا عزة الإ له، أو لمن أعزه، وقد أدرج فيه جملة السلبية والثبوتية، مع الإشعار بالتوحيد، (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ 181)  تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 182) على ما أفاض عليهم، وعلى من اتبعهم من النعم وحسن العاقبة، ولذلك أخره عن التسليم، والمراد: تعليم المؤمنين كيف يحمدونه ويسلمون على رسله.