بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(يس 1 وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ 2  إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 3 عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 4)لمن الذين أورسلو على صراط مستقيم، وهو: التوحيد والاستقامة في الأمور؛ وفائدته: وصف الشرع بالاستقامة في الامور؛ وفائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحاً. (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ 5 لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ) أي: مثل ما انذر آباهم، (فَهُمْ غَافِلُونَ 6) عن الإنذار والإيمان بالرسل. (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 7)  لأنهم ممن علم أنهم لا يؤمنون.

 

(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا)تقرير لتصميمهم على الكفر، والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني الآيات والنذر، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم. (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ)  أي: فالأغلال، وأصله: إلى أذقانهم، فلا تخيلهم يطأطئون رؤوسهم غاضون أبصارهم، في أنهم لا يلتفتون لفت الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، (فَهُمْ مُقْمَحُونَ 8 وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ 9) بمن أحاط بهم سدان، فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل.

 

(وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 10 إِنَّمَا تُنْذِرُ) إنذار تترتب عليه البغيـة المرومة، (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي: القـرآن بالتأمل فيه، والعمل به، (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله، أو في سنته، ولا يغتر برحمته، فإنه كما هو رحمن بالمؤمنين، منتقم قاهر للعاصين، (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ 11) .

 

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى) الأموات بالبعث، أو الجهال بالهداية. (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة، (وَآَثَارَهُمْ) ما أثروه من الحق والباطل، (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ 12) يعني اللوح المحفوظ.

 

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) ومثل لهم (مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) أي: واجعل لهم مثلا أصحاب القريـة مثلا، (إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ 13 إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا) فقوينـا (بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ 14 قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون، (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ 15 قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ 16 وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ 17) الظاهر البين بالآيات الشاهدة.

 

(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) تشاءمنا بكم، (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ 18 قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) سبب شؤمكم معكم، وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم. (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ 19) عادتكم الإسراف في أموركم.

 

(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ 20 اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا)على النصح وتبليغ الرسالة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ 21) إلى خير الدارين، لعله وهذا سن سنة حسنة لجميع من دعا إلى طاعة،أو نهى عن معصية.

 

(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 22)؟ تلطف في الإرشاد بإيره في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها، والمراد: تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة خالقهم إلى عبادة غيره، ولذلك قال: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ 23) بالنصر والمظاهرة (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 24)  فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضرا بوجه على الخالق المقتدر على النفع، ودفع الضر وإنزاله ضلال بين لا يخفى على عاقل.

 

(إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ 25) فاسمعوا إيماني. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قيل له لعله بعد الموت، إذناً في دخولها كسائر الشهداء؛ (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ 26) وقت التعبد، فإن العلمك بعد ارتفاعه لا ينفع، (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ 27) وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملكم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر، والدخول في الإيمان والطاعة على آداب الأولياء في كظم الغيظ؛ أو ليعلموا أنهم كانوا على خطإ عظيم في أمره، وأنه كان على حق.

 

(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إهلاكه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ) لإهلاكهم، (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ 28 إِنْ كَانَتْ) الأخذة والعقوبة (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) صاح بها جبريل على ما قيل، (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ 29) ميتون، شبهوا بالنار رمزا إلى أن الحي كالنار الساطع، والميت كرمادها.

 

(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) تعالي، فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري، وهي ما دل عليها: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ 30) فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسر عليهم، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين؛ ومن أحاطت به الحسرة فهو عن النعمة بمعزل.

 

(أَلَمْ يَرَوْا) ألم يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) فيتعظون بهم. (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ 31) أي: الم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ 32)  يوم القيامة للجزاء.

 

(وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ 33 وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ 34 لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) لعله ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما،(أَفَلَا يَشْكُرُونَ 35)  أمر بالشكر من حيث إنه إنكار لتركه.

 

(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) الأنواع والأصناف، (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الشجر والنبات (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) الذكر والأنثى، (وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ 36)  وأزواجاً مما لا يطلعهم الله عليه، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته.

 

(وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) نزيله ونكشف عن مكانه؛ مستعار من سلخ الجلد. (فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ 37) داخلون في الظلام. (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) لحد معين ينتهي إليه دورها، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيرة؛ أو لا استقرار لها على نهج مخصوص، أو منتهى مقدر لكل يوم من مطلع، وتغرب من مغرب، ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم؛ وقرئ:  لا مستقر لها أي: لا سكون، فانها متحركة سائرة سائحة في فلكها دائما إلى يوم القيامة؛ (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالبـة قدرته على ] كل [ مقدور، (الْعَلِيمِ 38)  المحيط علمه بكل معلوم.

 

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ) قدرنا مسيره، (مَنَازِلَ) أو مسيره في منازل، ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه، ولا يتقاصر عنه، فإذا كان في آخر منازله، وهو الذي يكون قبيل الاجتماع، دق واستقوس (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ) كالشمراخ المعوج (الْقَدِيمِ 39) العتيق؛ وقيل: ما مر عليه حول فصاعداً.

 

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا) يصح لها (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة مسيره، فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان في آثاره ومنافعه، أو مكانه بالنزول إلى محله، أو سلطانـه فيطمس نوره، (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) يسبقه فيفوتـه ولكن يعاقبه، (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40) يسيرون فيه بانبساط، فانظر هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت.

 

(وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ 41 وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ 42 وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ) فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق، (وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ 43) ينجون من الموت به. (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا) الإ الرحمة والتمتع بالحياة (إِلَى حِينٍ 44)  زمان قدر لآجالهم.

 

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ) الوقائع التي قد خلت، والعذاب المعد في الآخرة، أو نوازل السماء وكواكب الأرض، لقوله: (أفلم يَرَوْا إلىَ مَا بَين أيديهم وَمَا خَلفَهم مِنَ السَّمَاء والأَرْض) أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر. ويروي عن ابن عبـاس: (مَا بين) لعله ( أيديكم) الآخرة، فاعلـموا لها، ( وَمَا خلفكم) الدنيا فاحذروها .(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 45 وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ 46) كأنه قال: وإذا قيل لهم: اتقوا العذاب أعرضوا، لانهم اعتادوه وتمرنوا عليه.

 

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) على محاويجكم. (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا) تهكماً من إقرارهم به، وتعليقهم الأمور بمشيئته (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)؟ قيل عن ابن عباس : كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن؟!؛ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 47)حيث أمر تمونا بما يخالف مشيئة الله.

 

( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 48 مَا يَنْظُرُونَ ) ما ينتظرون إِلَّا (صَيْحَةً وَاحِدَةً) النفخة الأولى ،أو نزول الموت على كل شخص؛ والدليل على ذلك تمام الآية:  (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ 49)  يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم،لا يخطر ببالهم أمرها ، كقوله:( فأخذناهم بَغتَةً وَهُم لاَيَشعُرُون) ومن قرأها: يخصمون بضم الياء وفتح الخاء وكسر الصاد  فهم يخصمون لعله ربهم وأولياءه، كقوله: (أولم ير الإنسان أنَّا خلقناه من نُّطفةٍ فإذا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) . (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) في شئ من أمورهم، (وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ 50) فيروا حالهم.

 

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ 51) يسـرعون. (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ 52) أي: ما وعد الرحمن حق. (إِنْ كَانَتْ) ما كانت الغفلة (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) هي النفخة الأخيرة، (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ 53) لمجرد تلك الصيحة؛ وفي ذلك تهوين أمر البعث ] والحشر[ في قدرة الله، واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان فيما يشاهدونه.

 

(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 54)  حكاية لما يقال لهم حيئذ، و تصويراً للموعود، وتمكينا له في النفوس؛ وكذا قوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ 55) متلذذون في النعمة من الفاكهة؛ وفي تنكير " شغل" وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ، تنبيه على أنه أعلى عن أن تحيط به الإفهام، يعرف عن كنهه الكلام، لعله وإعلام على أنه لا يأتي عليهم حال وهم في غير فاكهة.

 

(هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ) على السرر المزينة (مُتَّكِئُونَ 56 لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ 57)  ما يدعون به لأنفسهم. (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ 58)  أي أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة تعظيما لهم، وذلك مطلوبهم ومتمناهم. (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ 59) وانفردوا عن المؤمنين، وذلك حين يسار بهم إلى الجنة.

 

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة، وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره، وجعلها عبادةً للشيطان، لانه الآمر بها والمزين لها، وفيه دليل على ان جميع الخلق المتعبدين إما عابد الله ، وإما عابد للشيطان؛ وسمى طاعته عبادةً بدليل هذه الآية والتي تليها، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 60) تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيما يحملهم عليه، (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ 61)  إشارة إلى ما عهد إليهم، أو إلى عبادته.

 

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ 62) زيادة إيضاح معاداة الشيطان، مع ظهور عداوته، ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي؛ والجبل: الخلق. (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ 63 اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ 64) ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.

 

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) نمنعها من الكلام، (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ 65) بظهور آثام المعاصي عليها، ودلالتها على أفعالها، أو بإنطاق الله إياها؛ وفي الحديث: إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ 66) الطريق، وجهة السلوك فضلا عن غيره.

 

(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ) بتصغير صورهم وإبطال قواهم، (عَلَى مَكَانَتِهِمْ) مكانهم، بحيث يجمدون فيه، (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا) ذهابا (وَلَا يَرْجِعُونَ 67)  ولا رجوعا؛ والمعنى: أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد غليهم احقاء بان يفعل بهم ذلك، لكنا لم نفعل، لشمول الرحمة، واقتضاء الحكمة إمهالهم إلى انقضاء آجالهم، كقوله: (لو يؤاخذ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسبوا مَا ترك عَلَى ظهرها مِن دَابَّة...).

 

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) ومن نطل عمره (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نعليه فيه، فلا يزال يتزايد ضعفه، وانتقاص بنيته وقواه، عكس ما كان عليه بدء أمره، لعله فانه ولو تنقص منه ضرس فذلك انتكاس في خلقه، (أَفَلَا يَعْقِلُونَ 68) أن من قدر على ذلك، قدر على الطمس والمسخ، فإنه مشتمل عليها وزيادة، غير أنه يدرج.

 

(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) وما يصح له الشعر، ولا يتأتى له إن أراد قرضه، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة وإرشاد من الله، (وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ 69) كتاب سماوي يتلى في المعابد ظاهرا أنه ليس كلام البشر لما فيه من الإعجاز. (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) عاقلا فهما، فإن الغافل كالميت، أو مؤمنا في علم الله، فإن الحياة الأبدية بالإيمان؛ وتخصيصه بالإنذار لأنه المنتفع به لا غير. (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) وتجب كلمة العذاب (عَلَى الْكَافِرِينَ 70) المصرين على الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حيا إشعار بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة.

 

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) ما تولينا إيجاده، ولم يقدر على إيجاده غيرنا، (أَنْعَامًا) خصصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع، (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ 71) ممتلكون بتملكنا إياهم، (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) صيرناها منقـادة لهـم، (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ 72 وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ) أخـرى (وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ 73)  أنعم الله في ذلك، إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها، كيف أمكن التوصل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة؟.

 

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً) أشركوها به في العبادة بعدما رأوا منه تلك القدرة الباهرة، والنعم المتظاهرة، وعملوا أنه المنفرد بها، (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ 74) رجاء نصرهم لهم، والأمر بالعكس، لانه (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ) لآلهتهم (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ 75) معدون لحفظهم والذب عنهم، أو محضرون إثرهم في النار، أو محضرون لهم في دار الدنيا، يعذبهم الله بهم فيها كما يعذبون بالأموال والأولاد.

 

(فَلَا يَحْزُنْكَ) فلا يهمنك (قَوْلُهُمْ) في الله بالإلحاد والشرك، (إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ 76) فنجازيهم عليه، وكفى ذلك أن تتسلى به.

 

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ 77) تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر؛ وفيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث ذمه، وجعله إفراطا في الخصومة بينا، ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بداية خلقه، ومقابلة النعمة –التي لا مزيد عليها، وهي خلقه من أخس شئ وأمهنه شريفاً مكرما – بالتكذيب؛ وقيل: معنى (فإذا هُو خَصِيم مُبين) فإذا هو بعدما كان ماءً مهيناً مميز منطيق قادر على الخصام، معرب عما في نفسه.

 

(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا) أمرا عجيبا، وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، وتشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه. (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) خلقنا إياه. (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ 78) منكرا إياه؛ والرميم: ما بلي من العظام؛ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإن قدرته كما كانت لامتناع التغيير فيه. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ 79) يعلم تفاصيل المخلوقات وكيفية خلقها.

 

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ 80) فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها، كان قادرا على إحياء الموتى، إن لو تدبروا وأنصفوا فيما حكموا. (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) مع كبر جرمهما وعظم شأنهما، (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟ في الصغر والحقارة بالإضافة إليهما. (بَلَى) جواب من الله لتقرير ما بعد النفي، مشعر بأنه لا جواب سواه، (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ 81)  .

 

(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82)  يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف، وافتقار إلى مزاولة عمل، واستعمال آلة، قطعا لمادة الشبهة، وعن أن يكون قادرا بقدرة لعله هي غيره؛ وعن أن يكون مفتقرا إلى شئ من مخلوقاته عزوجل وتعالى علوا كبيرا.

 

(فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : حقيقة كل شئ من تنزيه له عما ضربوا له، وتعجيب عما قالوه فيه، معللاً مالـكا للملك كله، قادرا على كل شئ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 83) وعد ووعيد للمقرين والمنكرين. عن ابن عباس:  كنت لا أعلم ما روي في فضل  يس كيف خصت به، فإذا أنه لهذه الآية ، وعنه عليه السلام فيما يروى: "أن لكل شئ قلبا، وقلب القرآن يس" .