بسم الله الرحمن الرحيم     

{الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } لأنهم هم المنتفعون به لا غير ، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } ما يلهي عما يعني ، كالأحاديث التي لا أصل لها ، والأساطير التي لا اعتبار فيها ، والمضاحيك ، وفضول الكلام ، وكل ما خرج إلى معنى التلهي (لعله) معناه: استبدال الخوض والباطل بالقرآن وتأويله ، {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {بِغَيْرِ عِلْمٍ}بحال ما يشتريه ، أو بالتجارة ، حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن ، {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} يتخذ السبيل سخرية ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} في الدارين ، لإهانتهم الحق ، باستئثار الباطل عليه.

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} متكبرا عن قبولها ، لا يعبأ بها ، {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} مشابها حاله حال من لم يسمعها ، {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}مشابها من في أذنه ثقل لا يقدر أن يسمع ، والوقر: ذهاب السمع كله ، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}أعلمه أن العذاب يحتفه لا محالة.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} أي: لهم نعيم جنات ، فعكس للمبالغة . {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} كائن فعله لا محالة ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يغلبه شيء يمنعه عن إنجاز وعده ووعيده ، {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ، وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كل صنف كثير المنفعة ، وكأنه استدل بذلك على عزته التي هي كمال القدرة ، وحكمته التي هي كمال العلم ، ومهد به قاعدة التوحيد{و} قررها بقوله:

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}؟ هذا الذي ذكر مخلوقه ، فماذا خلق آلهتكم ، حتى استحقوا مشاركته ، {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} إضراب عن تبكيتهم ، إلى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على ناظر.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} الحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية ، واستكمال الملكة التامة على الأفعال الفاضلة، على قدر طاقتها ، وكل من استكمل طاعةالله تعالى ، واجتنب كبائر ما نهي عنه ، فقد أوتي الحكمة ، وضده{من} لم يبلغها ولم يؤتها ، وتعبر الحكمة بالعقل والعلم (لعله) والعمل والإصابة في الأمور. ومن حكمته أنه صحب داوود شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها ، فلما أتمها لبسها ، وقال: نعم لبوس الحرب أنت ، فقال:" الصمت حكم ، وقليل فاعله " ، وأن داوود قال له يوما: كيف أصبحت ؟ فقال:" أصبحت في يد غيري" ، فتفكر داوود في نفسه فصعق .وأنه أمر أن يذبح شاة ، ويأتي بأطيب مضغتين منها ، فأتى باللسان والقلب ، ثم بعد أيام أمر{بأن} يأتي بأخبث مضغتين منها ،فأتى بهما أيضا ، فسأله عن ذلك فقال:" هما أطيب شيء إذا طابا ، وأخبث شيء إذا خبثا " . {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فإن إيتاء الحكمة في معنى القول ، {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة ، واستحقاق مزيدها ، {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} لا يحتاج إلى الشكر ، {حَمِيدٌ} حقيق بالحمد وإن لم يحمد ،ومحمود نطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لأن تسويته بين من لا نعمة إلا منه ، ومن لا نعمة منه ظلم بين مناف للحكمة.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا} ذات وهن ، {عَلَى وَهْنٍ} أي: تضعف ضعفا فوق ضعف ، فإنها لا يزال يتضاعف ضعفها ، {وَفِصَالُهُ} وفطامه {فِي عَامَيْنِ} في انقضائهما ، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} كأنه أمره بالشكر له على إيجاده ، وبالشكر لوالديه على سبب إيجاده ، وإنه من أخص النعم وأمهاتها ، إذ لم يتوصل إلى النعم الدينية والدنيوية إلا به إذا شكر نعمة الإيجاد ، وإن كفرها استحالت النعمة نقمة ، {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فأجازيك على شكرك أو كفرك.

{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي} أي شرك كان ، شرك جحود ، أو نفاق ، وذلك يقتضي جميع مخالفة الله ، فالتجاهد : بذل الوسع ، {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} باستحقاقه الإشراك ، تقليدا لهما ، وقيل: أراد بنفي العلم به نفيه ، {فَلَا تُطِعْهُمَا} في ذلك ، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} صحابا معروفا يرتضيه الشرع ، ويقتضيه الكرم ، {وَاتَّبِعْ} في الدين ، {سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} بالتوحيد والإخلاص ، ومعناه: دين من أقبل على طاعتي ، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بأن أجازيك على إيمانك وتوحيدك ، ومخالفتك لهما ، وصحبتك إياهما ، وأجازيهما على شركهما ودعوتهما لك بالمعصية.

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} أي: أن الخصلة من الإساءة أو الإحسان إن تكن مثلا في الصغر كحبة الخردل ، {فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} في أخفى مكان وأحرزه ، كجوف صخرة أو أعلاه ، كمحدب السماوات ، أو أسفله كمقعر الأرض ، {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يحضرها ، فيحاسب ويجازي عليها ، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} يصل علمه إلى كل خفي ، {خَبِيرٌ} عالم بكنهه.

{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} تكميلا لنفسك ، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} تكميلا لغيرك ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} من الشدائد ، سيما في ذلك ، {إِنَّ ذَلِكَ} إشارة إلى الضمير ، أو إلى كل ما أمره ، {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} يجوز أن يكون بمعنى: الفاعل ، ومن قوله: { فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ } أي: جد ، (لعله) وفي موضع : أي:الأمور الواجبة التي أمر الله بها.

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قيل: لا تمله ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون ، من الصعر.. فيلوي عنقه ، وهذا من حيث الصفة ، وأما من حيث المعنى: فالتولي عن أداء حقوقهم ، والقطع عن إيصالهم ، والاستخفاف بهم ، {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي: فرحا ، مصدر وقع موقع الحال ، أو تمرح مرحا ، أو لأجل المرح : وهو البطر ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} المختال للماشي مرحا.

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} توسط فيه بين الدبيب والإسراع . وعنه صلى الله عليه وسلم :" سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " ، {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} وأنقص منه وأقصره ، {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ} أوحشها ، {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} والحمار في الذم سيما نهاقه ، وكذلك يكنى عنه...

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم {وَمَا فِي الْأَرْضِ} بأن مكنكم من الانتفاع به بوسط وغير وسط ، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} الإسباغ :بمعنى العموم ، كما قال:{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } وذلك يعم الإيجاد والإمداد وجلب المنافع ، {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} محسوسة ومعقولة ، ما تعرفونه وما لا تعرفونه ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} في صفاته وتوحيده {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفاد من دليل، {وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أنزله الله ، بل بالتقليد كما قال:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ:  اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ، قَالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} وهو منع صريح من التقليد في الأصول ، واتباع الآباء محبوب في القلوب بالطباع ، مهما توافقت الطباع ، إلا ما نهت عنه خشية الله ، {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} إلى ما يؤول إليه الإشراك.

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} وذلك يتضمن معنى الإذعان والانقياد والإخلاص لله ، دون التعالي عليه ، والمخالفة لأمره ، ومعناه: يخلص دينه لله ، (لعله) ويفوض أمره له ، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله ، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} تعلق بأوثق ما يتعلق به ، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة. بمن أراد أن يترقى شاهق جبل ، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه ، ويحتمل له فيه مثل آخر ، وهو قد تحصن بعروة التوحيد عن الإشراك بالله ، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} أمور الفريقين إذ الكل صائر إليه.

{وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} إذ ليس موكول إليك كفره ، ولا يضرك في الدارين ، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} بالإهلاك والتعذيب ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بعقائدها.

{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} تمتيعا أو زمانا قليلا ، فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ، أي: نمهلهم ليتمتعوا بنعيم العاجلة ، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} بثقل الأجرام الغلاظ ، أو يضم إلى الإحراق الضغط.

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره ، بحيث اضطروا إلى إذعانه ، {قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ} على إلزامهم ، وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا يستحق العبادة فيهما غيره ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن حمد الحامدين ، {الْحَمِيدُ} المستحق للحمد ، وإن لم يحمد.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} ولو ثبت كون الأشجار أقلاما ، {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} تكتبها تلك الأقلام وبذلك المداد ، وإيثار جمع القلة ، للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير ؟ ، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يعجزه شيء ، {حَكِيمٌ} لا يخرج عن علمه وحكمه أمر . والآية – قيل – جواب لليهود ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله:{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }، ولقد أنزل التوارة وفيها علم كل شيء.

{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلا كخلقها وبعثها ، إذ لا يشغله شأن عن شأن ، لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية ، كما قال: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} بسمع كل مسموع ، {بَصِيرٌ} يبصر كل مبصر ، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض ، فكذلك الخلق والبعث.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} من النيرين {يَجْرِي} في فلكه {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى منتهى معلوم ، الشمس إلى آخر السنة ، والقمر إلى آخر الشهر ، وقيل: إلى يوم القيامة ، {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

{ذَلِكَ} إشارة إلى الذى ذكر من سعة العلم ، وشمول القدرة ، وعجائب الصنع ، واختصاص الباري بها ، {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} بسبب هو الثابت في ذاته ، الثابتة إلهيته ، معناه أي: ذلك الذي ذكرت ، ليعلموا أن الله هو الحق ، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} هو {الْبَاطِلُ} المعدوم في حد ذاته ، لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله ، أو الباطل إلهيته ، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} متعال عن كل شيء ، وقادر على كل شيء.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} بفضله وتفضله على خلقه، في تهيئة أسبابه ، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته ، وكمال حكمته ، وشمول إنعامه ، {لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ} ودلائله ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على المشاق ، فينصب نفسه بالتفكر في الآفاق والأنفس ، {شَكُورٍ} يعرف النعم ، ويتعرف مانحا ، أو المؤمنين ، فإن الإيمان نصفان ، نصف صبر ، ونصف شكر.

{وَإِذَا غَشِيَهُم} علاهم وغطاهم {مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} كما يظل من جبل ، أو من سحاب ، أو غيرها ، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لزوال الهوى والتقليد عن الفطرة بما دهاهم ، إلى الخوف الظاهر الشديد ، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} مقيم على طريق القصد الذي هو التوحيد ، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ} غدار ، فإنه نقض للعهد الفطري ، وقيل: الختر: أشد الغدر ، {كَفُورٍ} للنعم.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} لا يقضي عنه ، أو لا يغني عنه ، ومعناه: كل امرىء تهمه نفسه ، {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالثواب والعقاب ، {حَقٌّ} لا يمكن خلفه ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ، وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان ، بأن يرجيكم الرحمة والمغفرة والجنة مع الإصرار فيجركم على المعاصي ، والغرور بالله {هو} الذي أهلك عامة الهالكين.

{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} علم وقت قيامها ، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في إبانه المقدر له ، والمحل المعين ، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}من خير أو شر ، وربما يعزم على الشيء ويفعل خلافه ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كما لا تدري في أي أرض تموت. روي أن ملك الموت مر على سليمان ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل: من هذا ؟ قال: ملك الموت ، فقال: كأنه يريدني ، فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ، ففعل ، فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجبا ، إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.

وإنما جعل العلم لله والدراية للعبد ، لأن فيها معنى الحيلة ، فيشعر بالفرق بين العلمين ، ويدل على أنه إذا عمل حيلة ، وأنفد فيها وسعه ، لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته ، فكيف بغيره مما لم ينصب له دليلا عليه ، وأما ما نصب عليه الدليل ، وقصر هو في الحيلة في استخراجه من مظانه ، فذاك الذي عليه اللوم واقع.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بالأشياء كلها بلا واسطة ، {خَبِيرٌ} يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها .