بسم الله الرحمن الرحيم     

{طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } آيات السورة {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} بعض نبئها {بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنه المنتفعون به.

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} فرقا {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ ، يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } مقدمين في أمر الدين ، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} للآئمة المتقدمين ، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم} من بني إسرائيل {مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} من ذهاب ملكهم ، وذهابهم على يد مولود منهم فيما قيل.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} بإلهام أو رؤيا ، {أَنْ أَرْضِعِيهِ} ما أمكنك إخفاؤه ، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} قامت عليك دلائل الخوف ، {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي} عليه ضياعا ولا شدة ، {وَلَا تَحْزَنِي} لفراقه ، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} عن قريب ، بحيث تأمنين عليه ، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} تعليل لالتقاطهم إياه بما هو عاقبته ، {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}.

{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ} قرة العين: ترى ما يسرها ، وذلك لأنه أتى به الماء من أرض أخرى ، وليس من بني إسرائيل ، {لِّي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: وهم لا يشعرون أنهم على الخطإ في التقاطه ، أو في تربيته لما يتوسمون منه( من كل شيء ، إلا من ذكر موسى).

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} (لعله) من كل شيء إلا من ذكر موسى ، لما دمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون ، كقوله: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء }أي: خالية لا عقول فيها ، {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} إنها كادت لتظهر بموسى، أي: بأمره وقصته ، من فرط الضجر ، {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالصبر والثبات ، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لتكون من المصدقين بوعد الله ، إذ أوحي إليها من قبل في شأن موسى ، وبأنه من المرسلين.

{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ} اتبعي أثره ، وتتبعي خبره ، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} عن بعد {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أنها تقص ، أو أنها أخته.

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} ومعناه: أن يرضع من المرضعات {مِن قَبْلُ} من قبل قصها أثره ، {فَقَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} لأجلكم {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} لا يقصرون في رضاعه وتربيته.

{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} علم مشاهدة ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن وعد الله حق فيرتابون فيه.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه ، {وَاسْتَوَى} صار رجلا.{قال} ابن عباس :" الأشدش ما بين ثلاث عشرة سنة إلى ثلاثين ، ثم هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين شدته سواء ، فإذا طفر في الأربعين أخذ في النقصان". وقيل: استوى قده ، أو عقله ، أو أنهت قوته ، واستوى عقله ، وحده: بأن يكون عاقلا للتعبد ، لأنه قيل:" الصلاة على من عقل " ، فيكون يحد من يعقلها إذا تعلمها ، أي: الفقه والعلم والعقل في الدين ، وهذا الحال يؤتى كل متعبد إلا من بيده.. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} بالدين ، {وَكَذَلِكَ} ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم ، والمعنى: أنه" من عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم".

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} قيل: كان لموسى نفر من بني إسرائيل يستمعون له ويقتدون (لعله) به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق ، رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه ، حتى (لعله) ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم ، (لعله) وكان لا يدخل فريدا إلا خائفا (لعله) متسخفيا ، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ ، هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ،فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} فقتله ، وأصله أنهى حياته ، من قوله:{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ }. {قَالَ :هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لأنه لم يؤمر بقتله ، وكل شيء لم يأمر الله به بل نهى عنه وعمله العامل فلا شك أنه من عمل الشيطان ، {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة ، ومن شأنه يصد الناس عن الحق إلى الضلالة.

{قَالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتله ، {فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ } بالمغفرة ، وقيل معناه: بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك ، فلن أستعملها في  مظاهرة أعدائك.

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} الاستقادة ، {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه مشتق من الصراخ ، {قَالَ لَهُ مُوسَى : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} بين الغواية ، لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر.

{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} لموسى والإسرائيلي ، لأنه لم يكن على دينهما ، أو لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل ، {قَالَ : يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ}؟ قيل: قال له الإسرائيلي لما سماه غويا ظن أنه يبطش عليه ، أو القبطي ، وكأنه توهم من قوله أنه الذي قتله القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي ، {إِن تُرِيدُ} ما تريد {إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} تطاول على الناس ، ولا تنظر إلى العواقب ، {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أمورك ، أو بين الناس ، بدفع التخاصم بالتي هي أحسن ، قيل: لما قال، انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه ، وهموا بقتله ، فخرج مؤمن من آل فرعون ليخبره بما علم فقال:

{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} من آخرها {يَسْعَى} يسرع ، {قَالَ: يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} الطلب ، {قَالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} خلصني منهم ، واحفظني من لحوقهم ، أو من عملهم.

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ}قبالة مدين ، قرية شعيب ، ولم تكن في سلطان فرعون ، {قَالَ : عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} توكلا على الله ، وحسن ظن به ، وكان لا يعرف الطرق.

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} وصل إليه ، وهو بئر كانوا يسقون منها ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ} جماعة {يَسْقُونَ} قيل: مواشيهم ، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} قيل: تمنعان أغنامهما من الماء لئلا تختلط بأغنامهم ، {قَالَ : مَا خَطْبُكُمَا}؟ ما شأنكما تذودان؟ {قَالَتَا: لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} كبير السن.

{فَسَقَى لَهُمَا} مواشيهما {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقَالَ : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ} أي شيء أنزلت {إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} يدعو على معنى دعاء المضطر ، {فَقِيرٌ} محتاج ، يبلغ به إلى درجات الخير الحقيقي.

{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء، قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} ليكافئك {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} جزاء سقيك لنا ، {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، قَالَ : لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } لرعي الغنم {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: خير من استعملت ، من قوي على العمل ، وأدى الأمانة . وروي أن شعيبا قال لها : وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ، وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته ، وأمرها بالمشي خلفه.

{قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي} تؤجر نفسك مني {ثَمَانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} قيل: بإلزام إتمام العشر ، أو المناقشة في مراعاة الأوقات ، واستيفاء الأعمال ، {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في حسن المعاملة ، ولين الجانب ، والوفاء بالعهد.

{قَالَ: ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي: ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا ، لا نخرج عنه ، {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} وفيت {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} تتعدى علي بطلب الزيادة ، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ} من المعاقدة {وَكِيلٌ} شاهد حفيظ.

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ، آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أبصر من الجهة التي تلي الطور ، {قَالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ ، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} عن يمين موسى ، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} نبارك الخير (لعله) بها لموسى بنزول الوحي إليه فيها ، وصار من النبيئين المرسلين ، {مِنَ الشَّجَرَةِ : أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } في الهيئة أو في السرعة ، {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يرجع {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } قيل: يدك { مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

{قَالَ : رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } أحسن مني بيانا ، {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} معينا {يُصَدِّقُنِي ،  إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} ولساني لا يطاوعني عند المجادلة ، وقيل: المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه ، ولكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب.

{قَالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنقويك ، وإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ، {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} غلبة وحجة ، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} باستيلاء أو حجاج {بِآيَاتِنَا ، أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}.

{فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ ، قَالُوا : مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى : رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ } يعلم أني محق ، وأنتم مبطلون ، {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} العاقبة المحمودة ، فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية ، وهي الجنة ، لأنها خلقت مجازا إلى الآخرة ، والمقصود منها بالذات هو الثواب للموحدين ، والعقاب للمشركين العابدين غير الله ، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لا يفوزون بالهدى في الدنيا ، وحسن العاقبة في العقبي.

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ:يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ، فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } بغير استحقاق ، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} بالنشور.

{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ، فَانظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قدوة للضلال بالحمل على الإضلال . {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} بدفع العذاب. {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} طردا عن الرحمة ،{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} من المطرودين ، أو ممن قبح وجوههم.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أنوارا لقلوبهم بستبصرون بها الحقائق ، ويميزون بينها وبين الظواهر ، {وَهُدًى} للشرائع التي هي سبيل الجنة، {وَرَحْمَةً} لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر.

{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} قيل: الوادي ، أو الطور ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي: ما كنت حاضرا {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} إذ أوحينا إليه الأمر ، {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} والمراد: الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيبات التي لا تعرف إلا بالوحي ، ولذلك استدرك عنه بقوله:

{وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي: ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى ، فتطاول عليهم المدد ، فحرفت الأخبار ، وتغيرت الشرائع ، واندرست العلوم ، {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} مقيما {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ} تقرأ عليهم تعلما منهم {آيَاتِنَا} التي فيها قصتهم ، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياك ، ومخبرين لك بها.

{وَمَا كُنتَ} في القصة {بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ولكن علمناك رحمة {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى وبين إسماعيل ، على أن دعوة موسى وعيسى مختصة ببني إسرائيل ، وما حوالهيم {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون.

{وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} (لعله) عقوبة ونقمة ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي ، {فَيَقُولُوا: رَبَّنَا لَوْلَا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} لعل المعنى: لولا قولهم إذا ما أصابتهم عقوبة ومصيبة بسبب كفرهم ومعاصيهم :" رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ" هلا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ، ونكون من المصدقين ، {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} يعني: الرسول المصدق بنوع من المعجزات ، {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

{فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا ، قَالُوا : لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} يعني: أبناء جنسهم في الرأي والمذهب ، وهم كفرة زمان موسى ، {قَالُوا : سِحْرَانِ} يعني: موسى وهارون ، أو موسى ومحمد {تَظَاهَرَا} تعاونا بإظهار تلك الخوارق ، أو بتوافق الكتابين، {وَقَالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي: بكل منهما.

{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} مما نزل على موسى وعلى محمد ، وإظهارهما لدلالة المعنى ، {أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنا ساحران مختلفان ، لأنه واجب على كل مؤمن اتباع ما هو أهدى سبيلا.

{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} إذ المقصود منهم أن يعبدوها ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} في موضع الحال للتقليد ، فإن هوى النفس قد يوافق الحق في حال ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى.

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ، ليتصل التذكير ، وقيل: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، أو في النظم ، لتتقرر الدعوة بالحجة ، والمواعظ بالمواعيد ، والنصائح بالعبر ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيؤمنون ويطيعون.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} قيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب . {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، قَالُوا :آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} دلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ ، وإنما هو أمر تقادم عهده ، لما رأو ذكره في الكتب المتقدمة ، وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ، أو تلاوته عليهم ،باعتقادهم صحته في الجملة.

{أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} مرة على إيمانهم بكتابهم ، ومرة على إيمانهم بالقرآن ، {بِمَا صَبَرُوا} بصبرهم وثباتهم على الإيمانين ، {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ويدفعون بالطاعة المعصية ، أو يدفعون بالتي هي أحسن من أساء إليهم ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} في سبيل الخير. {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} تكرما ، {وَقَالُوا} للاغين: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} متاركة لهم وتوديعا ، معناه: أسلمتم منا لا نعارضكم بالشتم ، {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لا نريد صحبتهم على دينهم ، أو لا نريد أذاهم ومقاومتهم بالباطل.

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي: من أحببت هدايته ، وقيل: أحببته لقرابته ، فإنك لا تقدر أن تهديه ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بالمستعدين لذلك ، وهم من قدر لهم (لعله) الهدى.

{وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} نخرج منها ، تعللا منهم لاغترارهم بالباطل ، بما خيل لهم الشيطان أنه لا يقوم لهم عزهم دونه ، وهو كقوله:{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } ، وكقوله: { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا }. {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} أولم نجعل مكانهم حرما ذا أمن ، {يُجْبَى إِلَيْهِ} يحمل إليه {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ، وقيل: إنه متعلق بقوله:{ مِن لَّدُنَّا} أي: قليل منهم ليتدبروا فيعلمون أن ذلك رزق من الله ، إذ لو علموا لما خافوا غيره ، ثم بين أن الأمر بالعكس ، بأنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله ، على ما هم عليه بقوله:

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي: وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش ، حتى أشروا فدمر الله عليهم ، فخرب ديارهم ، { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} خاوية ، { لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} منهم.

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} في أصلها التي عليها مدار أمرهم ، لأن أهلها أفطن وأنبل ،ولأن القرى تابعة لأمها في الأعمال على الأغلب من الأمور ، فيستحقون ما يستحقون ، {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} لإلزام الحجة ، وقطع المعذرة ، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} بتكذيب الرسل ، والعتو في الكفر.

{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} من أسباب الدنيا ، {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} تتمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية ، {وَمَا عِندَ اللَّهِ} وهو ثوابه {خَيْرٌ} خير في نفسه من ذلك ، لأنه لذة خالصة ، وبهجة كاملة ، {وَأَبْقَى} لأنه أبدي ، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟.

{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} وعدا بالجنة ، فإن حسن الموعد بحسن الموعود ، {فَهُوَ لَاقِيهِ} مدرك لا محالة ، لامتناع الخلف في وعده ، {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الذي هو مشوب بالآلآم ، مكدر بالمتاعب ، مستعقب للتحسر على الانقطاع ، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} للعذاب.

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ} أي: ما عبدتم في الدنيا من دوني {الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}؟ تدعون ، {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} بثبوت مقتضاه ، وحصول مؤداه ، وهو قوله:{ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }. {رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} دلالة على أنهم غووا باختيارهم ، وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلا ، {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم ، ومما اختاروه من الكفر ، {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي: ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم ، وقيل:"ما" مصدرية ، أي: تبرأنا من عبادتهم.

{وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ} من فرط الحيرة ، {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لعجزهم عن الإجابة والنصرة ، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} لازما بهم ، {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} لوجه من الحيل يدفعون به العذاب ، وإلى الحق لما رأو العذاب ، وقيل:"لو" للتمني ، أي: تمنوا أنهم كانوا مهتدين.

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ،فَيَقُولُ : مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} عطف على الأول ، فإنه تعالى يسأل أولا عن إشراكهم به ، ثم عن تكذيبهم الأنبياء . {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ} فصارت الأنباء كالعمى عليهم ، {فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} لا يسأل بعضهم بعضا. {فَأَمَّا مَن تَابَ} من معاصيه {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} جمع بين الإيمان والعمل الصالح ، {فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} عند الله ، و"عسى" من الله واجب.

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} لا موجب عليه ، ولا مانع له ، {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: التخير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا ، والأمر كذلك عند أهل التحقيق ، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله ، منوط بدواع  لا اختيار لهم فيها ، وقيل: المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة ، أي: الخير والصلاح لمن اختاره منهم ، {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزيها له أن ينازعه أحد ، ويزاحم اختياره اختيار ، {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكهم ، أو مشاركة ما يشركون به.

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} من العقائد الفاسدة ، ليس بغافل عنها ، بل مجاز عليها أشد الجزاء ، {وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون . {وَهُوَ اللَّهُ} المستحق للعبادة ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لا أحد يستحقها إلا هو ، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} لأنه المولي للنعم كلها ، عاجلها وآجلها ، يحمده المؤمنون في الآخرة ، كما حمدوه في الدنيا بقولهم:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } ابتهاجا بفضله ، والتذاذا بحمده ، {وَلَهُ الْحُكْمُ} القضاء النافذ في كل شيء ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالنشور.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} دائما ، من السرمد ، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بإسكان الشمس تحت الأرض ، أو حيث علم الله ، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء، أَفَلَا تَسْمَعُونَ}؟! سماع تدبر واستبصار . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}؟استراحة عن متاعب الأشغال ، وذلك مما يذكرنا الله من نعمه ، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} استبصار انتفاع . {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}؟ تقريع بعد تقريع ، إشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ،أو الأول لتقرير فساد رأيهم ، والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند ، وإنما كان محض تشه وهوى.

{وَنَزَعْنَا} وأخرجنا {مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} وهو كل من نبىء ، أو عالم يشهد عليهم بما كانوا عليه في الدنيا ، {فَقُلْنَا} للأمم الضالة: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} على صحة ما كنتم تدينون به، أو على بطلان شهادة الشاهد عليكم ، {فَعَلِمُوا} حينئذ {أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} في الألوهية ، لا يشاركه فيها أحد ، {وَضَلَّ عَنْهُم} وغاب عنهم غيبة الضائع ، {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من الباطل.

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} قيل: ناء به الحمل: إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة: الجماعة الكثيرة ، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} لا تبطر ، والفرح بالدنيا مذموم مطلقا ، لأنه نتيجة حبها والرضا بها ، والذهول عن ذهابها ، فإن للعلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة ، توجب الترح كما قال:

أشد الغم عندي في ســـرور           تيقن عنه صاحبه انتقالا

ولذلك قال تعالى:{  وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } وعلل النهي هاهنا بكونه مانعا من محبة الله  تعالى ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (لعله) الملتهين بزخرف الدنيا.

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} من الأموال والأولاد والأزواج ، وقوة الأجسام وصحتها ، والعلم وغير ذلك ، {الدَّارَ الْآخِرَةَ} بصرفه فيما يوجبها لك ، فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها ، {وَلَا تَنسَ} ولا تترك ترك المنسي {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} مما خولك الله منها ، وهو أن تحصل بها آخرتك ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا (لعله) لعمل الآخرة ، وقيل: لا تنس صحتك وقوتك (لعله) وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة ، {وَأَحْسِن} ما يجب عليك أن تحسنه ما بينك وبين الحق والخلق ، {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أنعم عليك ، وقيل: أحسن بالشكر والطاعة كما أحسن إليك بالإنعام ، {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} وهو العبادة لغير الله ، واستعمال ما خولك إياه لغيره ، وهذه معنى تغزية أهل العلم للجاهلين إذا أوتو شيئا من الدنيا ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بل يبغضهم ويعاديهم.

{قَالَ : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} وذلك من نتائج العجب ، وهو طبع النفوس ، ولا يزول عنها إلا بالدفع والتزكية لها منه ، وهو من شباك الشيطان يصيد به  الجهلة ، {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته ، وكثرة ماله مع علمه بذلك ، ولعله قرأه في التوراة ، أو سمعه من حفاظها ، {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (لعله) سؤال استعلام ، فإنه تعالى مطلع عليها ، أو معاتبة ، فإنهم يعذبون بها بغتة ، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه وأغنى ، أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن ما يخصهم ، بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم ، ومعاقبهم عليها لا محالة.

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء ، عليه الأرجوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف عل زيه ، أو أقل منه ، ليتم له التفضل عليهم ، {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} على ما هو عادة الناس من الرغبة:{ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من الدنيا.

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بأحوال مآل الدنيا ، وإقبال عاقبتها ، قيل: أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة ، {وَيْلَكُمْ} دعاء بالهلاك ، استعمل للزجر عما لا يرتضى ، {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} مما أوتي قارون ، بل من الدنيا وما فيها ، {وَلَا يُلَقَّاهَا} قيل: الضمير فيه للكلمة التي تكلم بها العلماء ، أو للثواب ، فإنه بمعنى المثوبة ، أو للجنة ، أو للإيمان والعمل الصالح ، فإنهما في معنى السيرة والطريقة ، {إِلَّا الصَّابِرُونَ} على الطاعات ، وعن المعاصي.

{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} قيل: انطبقت عليهم الأرض هو وأصحابه وداره وأمواله ، وأنه يخسف به كل يوم قامة ، وأنه يتجلجل فيها ولا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة ، {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}.

{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} لما أن صار عبرة لهم لا لنفسه ،بعدما انكشف الغطاء عن المتعامين للتبصر بالبصائر (لعله) فيما كان منكشفا قبل وقوعه لأهل البصائر ، {يَقُولُونَ : وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} يبسط ويقدر بمقتضى مشيئته ، لا كرامة تقتضي البسط ، ولا لهوان يقتضى القبض ، {لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لنعمة الله ، أو المكذبون برسله ، وبما وعدوا من ثواب الآخرة .

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} إشارة تعظيم ، كأنه قال: تلك التي سمعت خبرها ، وبلغك وصفها ، (لعله) لأنها ليست في الحقيقة بدار غيرها، {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} غلبة وقهرا ورئاسة بغير الحق ، {وَلَا فَسَادًا} ظلما على الناس ، كما أراده فرعون وقارون ، {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلْمُتَّقِينَ} مما لا يرضاه الله.

{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ذاتا وقدرا ، أو وصفا ودواما ، {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إلا مثل عملهم.

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} وهو المقام المحمود ، وعدك أن يبعثك فيه. {قُل : رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى} وما يستحقه من الجزاء ، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} وما يستحقه من العذاب والإذلال.

{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} وما كنت ترجوه {إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ولكن ألقاه رحما منه ، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى ، كأنه قال: وما ألقي إليك إلا رحمة ، أي: لأجل الترحم ، {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} مظاهرا لهم علينا بمداراتهم ، والتحمل عنهم ، والإجابة إلى طلبهم.

{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} عن قراءتها والعمل بها وتبليغها ، {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ، وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى عبادته وتوحيده ، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} به سواه.

{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} من نفس أو هواها ، أو أحد من الخلق ، قيل: الخطاب في الظاهر للنبي ، والمراد به : أهل دينه ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لا يستحق العباة سواه ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} إلا ذاته ، {لَهُ الْحُكْمُ} القضاء النافذ في الخلائق ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للجزاء بالحق.