بسم الله الرحمن الرحيم

 

{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} آيات السورة ، و"القرآن" : الوارد فيها ، أو القرآن كله ، {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ } من شأنهم {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة ، فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة ، والوقوف على المحاسبة.

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون ( إلى أي مرجع يرجعون إليه بعد مماتهم). زين الله لهم أعمالهم القبيحة (لعله) التي رأوها حسنة ، بأن جعلها مشتهاة بالطبع ، محبوبة للنفس ، أو الأعمال الحسنة التي وجب عليهم أن يعملوها ، بترتيب المثوبات عليها ما يتبعها من ضر أو نفع. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أي عذاب كان من عذاب الأدنى ، كما قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى }.

{وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة ، واستحقاق العقوبة.

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} لتؤتاه {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} العلم: داخل في الحكمة لعموم العلم ، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل.

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ: أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ ، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تتحرك باضطراب ، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} حية خفيفة سريعة ، {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يرجع ، من عقب المقاتل : إذا كر بعد الفرار ، {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.

{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} بينة ، اسم فاعل أطلق للمفعول ، إشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها ، {قَالُوا : هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح سحريته . {وَجَحَدُوا بِهَا} وكذبوها ، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} صارت بمنعى اليقين ، ولكن عاندوها ، {ظُلْمًا} لأنفسهم ، {وَعُلُوًّا} ترفعا من الإيمان ، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا،وَقَالَا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: من لم يؤت علما ، أو مثل علمهما ، وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله ، حيث شكرا الله على ما آتاهما من العلم ، وجعلاه أساس الفضل ، ولم يذكروا دونه ما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما ، وتحريض للعالم أن يحمد الله على ما آتاه من فضله ،وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير.

{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} النبوة ، أو العلم ، أو الملك ، بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه ، {وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ، وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} تشهيرا لنعمة الله ، وتنزيها لها ، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك من عظائم ما أوتيه ، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} الذي لا يخفى على أحد.

{وَحُشِرَ} وجمع {لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبسون بحبس أولهم على آخرهم (لعله) ليتلاحقوا. {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} قيل : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبروته وظلم ، ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطؤوكم ، ولم يشعروا بكم . {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} تعجبا من حذرها وتحذيرها ، واهتدائها إلى مصالحها ، أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها وفهم غرضها ، ولذلك سأل توفيق شكره {وَقَالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي} قيل : ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} تماما للشكر ، واستدامة للنعمة ، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} وتعرف الطير ، {فَقَالَ : مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } لنجعلنه في (لعله) قفص مع ضده ، وقي: أضيق السجون ، معاشرة الأضداد . {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} لتيعتبر به أبناء جنسه ، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة تبين عذره. ولو لم يظهر سليمان الهيبة لجنوده لما استقاموا له طوعا.

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} زمانا غير بعيد ، يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا من عقوبته ، {فَقَالَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} يعني: حال سبأ ، وفي مخطابته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله من أحاط علما بما لا يحبط به لتتحاقر إليه نفسه ، ويقل إليه علمه ، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته ، {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يحتاج إليه الملوك ، وأما في التحقيق فلم تؤت سبأ كما أوتي سليمان ، لأنها من عبدة الأصنام ، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} عظمة بالنسبة إليها، أو إلى عرش أمثالها . {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} كأنهم كانوا يعبدونها ، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم ، وجميع أعمال المعاصي ، من تزيينه للخق المتعبدين لعنه الله ، كما أن أعمال البر من تزيين الله لهم ، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} سبيل السعادة ، {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} إليه ما داموا على ذلك الحال.

{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} قصدهم لأن لا يسجدوا ، أو زين لهم أن لا يسجدوا ، {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قيل:معنى الخبء: الغيب ، يريد: يعلم غيب السماوات والأرض ، {يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وصف لهم بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود ، من التفرد لكمال القدرة والعلم ، والحث على السجود له ، وردا على من يسجد لغيره ، والخبء: ما خفي من غيره ، وإخراجه: إظهاره ، وهو يعم إشراق الكواكب ، وإنزال الأمطار ، وإنبات النبات ، بل الإنشاء ، فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل ، والإبداع: فإنه إخراج ما كان بالإمكان من العدم إلى الوجوب والوجود ، ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته . وقرىء: {ما يخفون وما يعلنون} بالياء.

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي: هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره . الآن وصف عرشها بالعظم ، بالإضافة إلى عرش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله تعالى بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق الله من السماوات والأرض ، فبين العظمتين بون عظيم ، لأن حملته على ما جاء في التأويل أنهم ثمانية أجزاء من الملائكة ، (لعله) مع ما جعل الله لهم من القوة ، كل جزء مثل الثقلين ، والحافين من حوله هم غير الحملة ، والله العالم بهم وبعددهم.

{قَالَ : سَنَنظُرُ} سنعرف من النظر ، بمعنى: الاعتبار ، {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ، {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.

{قَالَتْ} أي: بعدما ألقي إليها ، {يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} لكرم مضمونه ، أو لغرابة شأنه ، فقيل: إنها كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب ، فدخل الهدهد من كوة ، وألقاه على نحرها ، بحيث لم تشعر به . {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} استئناف ، كانه قيل لها: ممن هو؟ وما هو؟ فقالت: إنه أي: إن الكتاب ، أو العنوان من سليمان ، {وَإِنَّهُ} وإن المكتوب ، أو المضمون {بسم الله الرحمن الرحيم* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} " أن" مفسرة لـ"كتاب" ، أو مصدرية ، فيكون بصلته خبر محذوف ، أي : هو ، أو: المقصود أن لا تعلوا ، أو بدل من " كتاب" ، {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} مؤمنين ، أو منقادين . وهذا كلام فيه غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود ، لاشتماله على البسملة ، الدلالة على ذات الصانع ، وصفاتها صريحا والتزاما ، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل ، والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل ، والأمر فيه بالانقياد بعد إقامة الحجة على رسالته ، فإن إلقاء الكتاب إليها على منقار الطائر ، وهي على تلك الحالة من أعظم الدلالة. {قَالَتْ : يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أجيبوني في أمري ، واذكروا ما تستصوبون فيه ، {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} ما أبت أمرا {حَتَّى تَشْهَدُونِ} إلا بمحضركم ، استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإجابة ، أي: يجامعوها ويعاضدوها ، وذلك بعد ما أهالها أمر الكتاب والكاتب ، ولم تستهن به ، ولم تستخف به ، ولم تهمله ، وعظم شأن عاقبته في قلبها ، وهي ربما لم تشعر بأحوال سليمان ولا جنوده ، وكل ذلك لأمر ملكها ودنياها ، لا على دينها . وانظر ما صنعه سليمان وهو بعد لم يصح معه صدق الطير من كذبه ، كيف لم يتوسع بالعذر ، وهو عدم الصحة على ما نطق به الطير ، وانتهز الفرصة للمسابقة على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعلى إظهار دين الله.

{قَالُوا: نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} بالأجساد والعدد ، {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} نجدة وشجاعة ، {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} وتدبير الأمر إليك موكول ، لأن القوة مع عدم التدبير للأمور ، تؤول إلى الموهن ، {فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} من المقاتلة ، أو الصلح نطعك ، ونتبع رأيك.

{قَالَتْ : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} تزييف لما أحست منهم إلى الميل إلى المقاتلة ، بادعائهم القوى الذاتية والعرضية ، وإشعار بأنها ترى الصلح ، مخافة أن يتخطى سليمان خططهم ، فيسرع إلى فساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم ، ثم إن الحرب سجال لا يدرى عاقبتها ، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} بجبرهم لهم على الانقياد والطاعة ، وأن يكونوا مملوكين لا مالكين ، {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تأكيد لما وصفت من حالهم ، وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة . {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} بيان لما ترى تقديمة من المصالحة ، والمعنى: أني(لعله) مرسلة رسلا بهدية دفعة بها على ملكي ، {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} من حاله ، حتى أعمل بحسب ذلك.

{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} أي: الرسول ، {قَالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} خطاب للرسول ومن معه ، {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} من النبوة والملك الذي لا مزيد عليه ، {خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم} فلا حاجة لي إلى هديتكم ، ولا وقع لها عندي ، {بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لأنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فتفرحون بما يهدى إليكم ، حبا لزيادة أموالكم ، أو بما تهدونه افتخارا على أمثالكم . {ارْجِعْ} أيها الرسول {إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا} لا طاقة لهم بمقاومتها ، ولا قدرة لهم على مقابلتها ، {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا} من سبأ ، {أَذِلَّةً} بذهاب ما كانوا فيه من العز ، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أسراء مهانون.

{قَالَ : يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} اراد بذلك أن يرها بعض ما خصه الله من العجائب الدالة على عظيم القدرة ، وصدقه في دعوى النبوة ، ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها ، فينظر أتعرفه أم تنكره ، {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فإنهم إذا أتوه مسلمين منقادين لأمره وطاعته ، حرمت عليه غنيمة أموالهم.

{قَالَ : عِفْريتٌ} خبيث مارد {مِّنَ الْجِنِّ : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} ذلك ، {وَإِنِّي عَلَيْهِ} على حمله {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} لا أختزل من شيئا ، ولا أضيعه ، ولا أضعه في غير مأمنه ، ووصف نفسه ما يكون به آلة لحمله وحفظه ، وهو القوة والأمانة ، اللذان لا بد للأمين منهما ، وإن أختل منه واحدهما ، فلا يكون آلة ولا حجة لذلك.

{قَالَ: الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} قيل: هو آصف بن برخيا ، أو جبريل ، أو ملك غيره ، أو سليمان نفسه ، فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم ، وأن هذه الكرامة كانت نسبية .

والخطاب: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} للعفريت ، أراد إظهار معجزة في نقله ، فتحداهم أولا ، ثم أراهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيره. والمراد بالكتاب: جنس الكتب المنزلة ، وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه ، {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ ، قَالَ : هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} ولم يقل: إنما أوتيته على علم عندي {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ : نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } بتغيير هيأته وشكله ، {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي ، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} قيل: إلى معرفته ، أو إلى الإيمان بالله ورسوله.

{فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ تشبيها عليها ، زيادة في امتحان عقلها ،{قَالَتْ :كَأَنَّهُ هُوَ} ولم تقل هو هو ، لاحتمال أن يكون مثله ، وذلك من تتدقها في النظريات ، تعرف سليمان كمال عقلها ، حيث لم تقر ولم تنكر ، وقيل: اشتبه عليها ، {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} قيل : إنه كلام سليمان ، أي: أوتينا العلم بالله وقدرته ، وصحة ما جاء من عنده قبلها ، وكنا منقادين لحكمه ، لم نزل على دينه . {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} أي: وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام ، {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي: صدها نشؤها بين أظهر الكفار ، واختيارها للكفر.

{قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} روي: أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر ، صحنه من زجاج أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقى حيوانات البحر ، ووضع سريره في صدره ، فجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا ، فكشفت عن ساقيها ، {قَالَ :إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملس {مِّن قَوَارِيرَ} من الزجاج . وتلك أسوة حسنة لملوك الدنيا ، بإلقاء القوة والهيبة والحيلة على من عاداهم في دين الله ، فإنها ما نزلت هذه الآيات بخبر صنعهم عبثا ولا لعبا ، بل لحكمة قاهرة وحجة باهرة. فلما رأت ما رأت ، {قَالَتْ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بعبادة غيرك ، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيما أمر به عباده.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تفاجأ التفرق والاختصام ، فآمن فريق ، وكفر فريق. {قَالَ : يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} بالعقوبة ، فتقولون  ائتنا بما تعدنا {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبل التوبة ، فتؤخرونها إلى نزول العذاب ، {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} قبل نزوله ، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها ، فإنها لا تقبل حين ذلك.

{قَالُوا اطَّيَّرْنَا} تشاءمنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} إذ تتابعت علينا الشدائد ، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم ، {قَالَ: طَائِرُكُمْ} سببكم الذي جاء منه شركم ، {عِندَ اللَّهِ} وهو قدره ، أو علمكم المكتوب عنده ، أي: ما يصيبكم من الخير والشر من عند الله بأمره ، وهو مكتوب عليكم ،يسمى طائرا لسرعة نزوله بالإنسان ، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم . وقيل عن ابن عباس :" الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم ". {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بتعاقب السراء والضراء.

{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} أي: شأنهم الفساد الخالص من شوب الصلاح . {قَالُوا} أي: قال بعضهم لبعض {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} أي: تحالفوا بالله {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} لتباغتن صالحا وأهله ليلا ، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} لولي دمه ، {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} فضلا أن تولينا إهلاكهم ، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا} بهذه المواضعه ، {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} بل جعلناها سببا لإهلاكهم ، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بذلك.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } خالية ، من "خوى البطن" : إذا خلا ، أو ساقطة منهدمة ، من "خوى النجم": إذا سقط ، {بِمَا ظَلَمُوا} بسبب ظلمهم ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيتعظون . {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} صالحا ومن معه ، {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي ، فلذلك خصوا بالنجاة . ويوجد عن أبي سعيد فيما أرجو (لعله):" وأما التسعة الرهط ، فأولئك معنا ألزم أمرا في البراءة ، وأوضح كفرا ، ولا يسع جهلهم معنا ، لأن في ظاهر الآية لزوم العقوبة لهم ، والكفر لازم لهم ، ولا يسع جهلهم من وقف على تغيير أمرهم ، والبراءة منهم براءة الحقيقة بالشهادة على ما صح في كتاب الله فيهم ، والله أعلم بالصواب".

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} فحشها ، واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح ، أو تبصرون آثار العصاة وما نزل بهم. {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} بيان لإتيانهم الفاحشة اتباعا للشهوة ، لا بحجة حق ، للدلالة على قبحه ، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل ، {مِّن دُونِ النِّسَاء} اللآئي خلقن لذلك ، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلون فعل من يجهل قبحها ، أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح ، أو تجهلون العاقبة.

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عن أفعالنا ، أو عن الأقذار ، ويعدون فعلنا قذرا.

{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ، إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} قدرنا كونها من الباقين في العذاب. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}.

{قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته ، وعظم شأنه ، وما خص به رسله من الآيات الكبرى ، والانتصار من العدا بتحميده ، والسلام على المصطفين من عبيده ، شكرا على ما أنعم عليهم ، وعلمه ما جهل من أحوالهم ، وعرفانا لفضلهم وحق تقدمهم ، واجتهادهم في الدين . أو لوطا بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ، ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش ، والنجاة من الهلاك. {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} إلزاما لهم ، وتهكم بهم ، وتسفيه لرأيهم ، إذ معلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسا حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير.

{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} التي هي أصول الكائنات ومبادىء المنافع ، {وَأَنزَلَ لَكُم} لأجلكم {مِّنَ السَّمَاء مَاء ، فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} تنبيه على أن نبات الحدائق البهية ، المختلفة الأنواع ، المتباعدة الطباع ، من المواد المتشابهة التي لا يقدر عليها غيره ، كما أشار إليه بقوله :{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا} شجر الحدائق ، وهي البساتين ، من الأحداق : وهو الإحاطة ، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أغيره يقرن به ، ويجعل له شريكا ، وهو المنفرد بالخلق والتكوين ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} عن الحق الذي هو التوحيد.

{أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} بدل من " أمن خلق السماوات" وجعلها قرارا: تسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها ، {وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} جبالا تتكون فيها المعادن ، وتنبع من حضيضها المنافع ، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والمالح {حَاجِزًا} برزخا ، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يتعلمون فيعلمون ، أو لا يقبلون العلم إن أتاهم.

{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} المضطر: الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجأ إلى الله ، من الاضطرار ، وهو افتعال من الضرورة ، {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ويدفع عنه ما يسوؤه ، {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} خلفاء فيها ، بأن ورثكم سكناها ، والتصرف فيها ممن قبلكم ، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة ، {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي: تذكرون آلاءه تذكرا قليلا ، والمراد بالقلة: العدم ، أو الحقارة المزيحة للفائدة.

{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} بالنجوم وعلامات الأرض ، والظلمات : ظلمات الليالي ، أضافها إلى البر والبحر للملابسة ، أو مشتبهات الطرق ، يقال: طريقة ظلماء وعمياء: للتي لا منار بها ، {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني: المطر ، ولو صح أن السبب الأكثري في تكوين الريح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة ، لانكسار حرها وتمويجها الهوي ، ولا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله ، والفاعل السبب للسبب فاعل المسبب ، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} يقدر على مثل ذلك؟ {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تعالى القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق.

{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} والكفرة وإن أنكروا الإعادة ، فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها ، {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} أي: بأسباب سماوية وأرضية ، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} يفعل ذلك؟ {قُلْ :هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} على أن غيره يقدر على شيء من ذلك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في إشراككم ، فإن القدرة من لوازم الألوهية.

{قُل : لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} لما بين اختصاصه بالقدرة التامة الفائقة العامة ، أتبعه بما هو كاللازم له ، وهو التفرد بعلم الغيب ، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى ينشرون ، مركبة من: "أي" و"آن".

{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} لما نفى عنهم علم الغيب ، وأكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة ، بالغ فيه بأن أضرب عنه ، وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات ، وهو أن القيامة كافية لا محالة ، لا يعلمونه كما يحق وينبغى ، وقيل: أراد ما جهلوا في الدنيا ، وسقط علمه عنهم ، علموه في الآخرة .وقال مجاهد:{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا". {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} لا يدركون دلائلها لتعاميهم عنها.وقرىء :" بل أدارك" بمعنى : تبابع حتى استحكم ، أو تبابع حتى انقطع.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ}بيان لعمههم ، {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} من قبل وعد محمد ، وتقديم "هذا" على "نحن" لأن المقصود بالذكر هو البعث ، وحيث أخر فالمقصود به المبعوث ، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .

{قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} تهديد لهم على التكذيب ، وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم . {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على تكذيبهم وإعراضهم ،{وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ} في حرج صدر {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرهم.

{وَيَقُولُونَ : مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} العذاب الموعود ، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ : عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } تبعكم ولحقكم ، وقيل: دنا وقرب لكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} حلوله.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} بتأخير عقوبتهم على المعاصي ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} لا يعرفون حق النعمة فيه ، بل فلا يشكرون بل يستعجلون بجهلهم وقوعه. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } بين ، أو مبين ما فيه لمن يطالعه ، والمراد: اللوح ، أو القضاء على الاستعارة.

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أمر الدين ، قيل: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم ، فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض ، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه. {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } فإنهم المنتفعون به لا غير. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم} (لعله) بين المختلفين في الدين يوم القيامة {بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ولا تبال بمعاداتهم ، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره. {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} تعليل آخر للأمر بالتوكل ، من حيث إنه يقطع طمعه عن متابعتهم ومشايعتهم ومعاضدتهم رأسا ، وإنما شبهوا بالموتى لعدم  انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم ، كما شبهوا بالصم في قوله:{ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد ، وإدبارهم هاهنا كناية لعدم قبولهم. {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} حيث الاهتداء لا يحصل إلا بالبصر ، {إِن تُسْمِعُ} أي: ما يجدي إسماعك {إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} من هو في علم الله كذلك ، {فَهُم مُّسْلِمُونَ} منقادون مستسلمون لأمر الله .

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} إذا دنا وقوع معناه ، وهو ما وعدوا به من البعث أو العذاب ، (لعله) وقيل: وجوب العذاب عليهم ، وقيل: إذا غضب الله عليهم ، {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ} وهي التي لا يفوتها هارب ، ولا يدركها طالب ، {تُكَلِّمُهُمْ} ببطلان الأديان ، إلا دين الإسلام فيما قيل ، {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}.

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وهو عبارة عن كثرة عددهم ، وتباعد أطرافهم . {حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ : أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}؟ أي: أكذبتم بها بادىء الرأي ، غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق ، {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}؟ حيث لم تتفكروا فيها ، ومعنى الآية أكذبتم بآياتي غير عالمين بها؟.

{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} حل بهم العذاب الموعود ، وهو كبهم في النار بعد ذلك ، {بِمَا ظَلَمُوا} بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات الله ، {فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} باعتذار لشغلهم بالعذاب.

{أَلَمْ يَرَوْا} ليتحقق لهم التوحيد ، ويرشدهم إلى يجويز الحشر ، وبعثة الرسل ، لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص ، غير متعين بذاته ، لا يكون إلا بقدرة قاهرة ، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة ، قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان ، {أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } صاغرين.

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} ثابتة في مكانها ، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} في السرعة ، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد ، لا يكاد يتبين حركتها ، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أحكم كل شيء ، وسواه على ما ينبغي ، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} عالم بظواهر الأفعال وبواطنها ، فيجازيهم عليها ، كما قال: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} قيل: كل طاعة وقعت من مطيع ، {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} يضاعف له بالواحدة سبعمائة ، {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} يعني: به خوف عذاب يوم القيامة . {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} (لعله) كما كانت في الدنيا ، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} أمر الرسول بأن يقول لهم ذلك بعد ما بين المبدأ والمعاد ، وشرح أحوال القيامة ، إشعارا بأنه قد أتم الدعوة ، وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه ، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} خلقا وملكا ، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} المنقادين . {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} وأن أواضب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا ، أو أن أتلو القرآن على الثقلين ، ويحقق ذلك قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى} باتباعه إياي في ذلك ، {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فإن منافعه عائدة إليه ، {وَمَن ضَلَّ} بمخالفتي ، {فَقُلْ: إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} به ، فليس علي وبال ضلاله ، إذ ما على الرسول إلا البلاغ ، وفيه إيذان أن من قرىء عليه القرآن فقد قامت عليه حجة الله ، قبلها أم ردها.

{وَقُلِ :الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ما علمني ووفقني للعمل به ، {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} القاهرة في الدنيا أو في الآخرة ، أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وكل ما لم يؤمنوا به ، نظيره {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي } {فَتَعْرِفُونَهَا} حيث لا ينفعكم ، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عما تعملون.