بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ }القرآن ، ألقن الله عباده ووفقهم كيف يثنون عليه ، ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم ، وهي نعمة الإسلام ، وما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم في الآخرة ، وغناهم في الدنيا ، { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي: سببا من العوج ، والعوج في المعاني ، كالعوج في الأعيان ، يقال: في رأيه عوج ، وفي عصاه عوج ، والمراد: نفي الاختلاف والتناقض في معانية ، وخروج شيء منه من الحكمة.

{قَيِّمًا} مستقيما، أي: جعله قيما ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة ، وفائدة الجمع بين نفي العوج ، وإثبات الاستقامة ، وفي أحدهما غنى عن الآخر : التأكيد ، لأنه رب مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند التصفح ، أو قيما على سائر الكتب مصدقا لها ، شاهدا بصحتها. {لِّيُنذِرَ بَأْسًا} عذابا {شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ} صادرا من عنده في الدارين ، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} لا ينتقلون عنه إلا إذا انتقلوا بأنفسهم.

{وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ،كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفة"كلمة" تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق{بها} ، وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به، بل يكظمون عليه، فكيف بمثل هذا المنكر ، {إِن يَقُولُونَ} (لعله) أي: ما يقولون {إِلَّا كَذِبًا}.

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ} قاتل{نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} أي: آثار الكفار ، شبهه وإياهم – حين تولوا عنه ، ولم يؤمنوا به ، وما بداخله من الأسف على توليهم – برجل فارقه أحبته ، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ، ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم . وقال سهل بن عبدالله في هذه الآية – على ما يوجد عنه-:" لعلك مهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم ، وقد سبق من الحكم في إيمان المؤمنين ، وكفر الكافرين ، فلا تغيير ولا تبديل". وقال سهل أيضا:" لعلك شاغل نفسك عنا باشتغال لهم حرصا على إيمانهم ، ما عليك إلا البلاغ ، فلا يشغلك عنا(لعله) غيرنا ، (لعله) وهو كقوله:{ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى *  فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى }". فإذا كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم  على إيمان أمته ، لم يرض الله منه ذلك الحرص ، لأن فيه ترك الرضا بالقضاء ، ورد المقدور ، فكيف يرضى من غيره الحرص على الدنيا الدنيه، التي هي متاع الغرور ، ومعدن الشرور!. { إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} مفعول له ، أي: لفرط الحزن . والأسف: المبالغة في الحزن والغضب.

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ} أي: ما على الدنيا{زِينَةً لَّهَا} أي: ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا، وما يستحسن منها {لِنَبْلُوَهُمْ} لنختبرهم{أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وحسن العمل: الزهد فيها ، وترك الاغترار بها ، ثم زهد في الميل عنها ، بقوله:

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} من الزينة{صَعِيدًا} أرضا ملساء{جُرُزًا} يابسا ، لا نبات فيها ، بعد أن كانت خضراء معشبة. والمعنى: نعيدها بعد عمارتها خرابا ، بإمانة الحيوان ، وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك.

ولما ذكر من الآيات الكلية(لعله) بتزين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها ، وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ، فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} يعني: أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف ، وبقاء حياتهم مدة طويلة . والكهف : الغار الواسع في الجبل. والرقيم : اسم كلبهم أو قريتهم ن أو اسم كتاب كتب فيه شأنهم ، أو اسم الجبل الذي فيه الكهف ، أو غير ذلك ، {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} لأهل العقول ، لأن غيرهم يتعجبون من غير عجب ، ومن العجب لا يتعجبون.

{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ، فَقَالُوا : رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي: رحمة من خزائن رحمتك ، وهي المغفرة والرزق ، والأمن من الأعداء . والرحمة: ما يتوصل بها إلى الرحمة الأبدية ، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} حتى نكون بسببه راشدين مهتدين . قال ابن عباس:"رشدا: أي مخرجا من العذاب في سلامة ، وهو ضد من كان أمره فرطا".

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} أي: ضربنا عليها حجابا من أن تسمع ، يعني: أنمناهم إنامة ثقيلة ، لا تنبههم فيها الأصوات ، {سِنِينَ عَدَدًا}.

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي: ايقظناهم من نومهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} (لعله) المختلفين في مدة لبثهم ، لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في مدة لبثهم ، وذلك قوله{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ :كَمْ لَبِثْتُمْ ؟قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قَالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} . وكأن الذين قالوا:{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. أو اي الحزبين المختلفين من غيرهم {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} والمعنى: أنهم أضبط أمدا لأوقات لبثهم بالأمارات والدلائل ، وكأنهم أخص مدحا من الذين قالوا:" لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ" ، وإن كانوا لم يكتسبوا بذلك مع الله عيبا ولا ذما ، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الاجتهاد والرأي ، لا على القطع بالشهادة بالغيب.

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ} بالصدق ، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} جمع: فتى ، والفتوة : بذلك الندى ، وكف الأذى ، وترك الشكوى ، أو اجتناب المحارم ، واستعمال المكارم ، وقيل الفتى: من لا يدعي قب الفعل ، ولا يزكي نفسه بعده. وقيل: شبابا. {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} يقينا وعلما ، وكانوا من خواص دقيانوس ، قد قذف في قلوبهم الإيمان ، وخافوا منه ومن قومه ، وقالوا: لنخل اثنان اثنان منا ، فيظهر كل منهما ما يضمر به لصاحبه ، ففعلوا ،فحصل اتفاقهم على الإيمان.

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} وقويناهم بالصبر على هجر الأوطان ، والفرار بالدين إلى بعض الغيران ، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق ، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} بأمر الله ، من قولهم قام بالأمر : إذا أظهره وأعلنه: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا} ولئن سميناهم آلهة، {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} قولا ذا شطط ، وهو الإفراد بالظلم ، والإبعاد فيه.

{هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ، لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم} هلا يأتون على عبادتهم {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بحجة ظاهرة ، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة الشريك إليه ، بالقول أو الفعل أو الاعتقاد!

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} خطاب من بعضهم لبعض ، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم ، {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} أي: فارقوهم على عبادة غير الله ، (لعله) ولأن يخطئوهم على ما فعلوا من الحق{كذا} ، وفي ذلك (لعله) دلالة على أنه قد بقيت متمسكة بالحق ، وعبادة الله ، لا {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته} علموا أنه لا يضيع من التجأ إليه ، {ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} وهو ما يرتفق به ، أي: ينتفع به ، وإنما قالوا: ذلك ثقة بفضل الله ، وقوة في رجائهم ، لتوكلهم عليه ، وانظر كيف كان عاقبة من توكل عليه ، واصغ إلى قوله ، وتفكر واعتبر ، إذ قال:

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} أي: تميل عنه ، ولا يقع شعاعها عليهم ، لئلا تضرهم ، {ذَاتَ الْيَمِينِ} جهة اليمين ، {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} تقطعهم ، أو تتركهم وتعدل عنهم {ذَاتَ الشِّمَالِ ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} في متسع من الكهف ، والمعنى: أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس ، في طلوعها ولا غروبها ، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس ، لولا أن الله يحجبها عنهم بقوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ، وقيل: في منفسح من غار{هم} ، ينالهم فيه روح الهواء ، ووبرد النسيم ، ولا يحسون كرب الغار .{ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي: ما صنعه الله من ازورار الشمس وقرضها ، طالعة وغاربة ، أنه من آيات الله ، يعني: أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصا بالكرامة ، وقيل: باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش ، فهم في مقنأة أبدا ، ومعنى {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أن شأنهم وحديثهم من آيات الله. {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} هو ثناء عليهم ، بأنهم جاهدوا في الله ، وأسلموا له وجوههم ، فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية ، {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} أي: من أضله فلا هادي له.

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ، وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} عن أن تضرهم الأرض ، {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} بالفناء والعتبة (لعله) يحفظهم عمن يريد الضرر بهم ، {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}.

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} ليسألوا بعضهم بعضا ، ويتعرفوا حالهم ، وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ، ويزدادوا يقينا ، ويشكروا ما أنعم به عليهم ، {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ: كَمْ لَبِثْتُمْ ؟ قَالُوا : لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قَالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ} وهي الفضة المضروبة ، {هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى} أحل وأطيب{طَعَامًا ، فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} عند دخول المدينة وشراء الطعام ، بكلام لين سليم عن التقاطع والتطلع على ما في الضمائر ، {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (لعله) فانظر لما انتبهوا كأن لم يكن لهم بد من  الطعام ، لتعرف فائدة الإنامة.

{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: تطلعوا على أحوالكم ودينكم {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} (لعله) يردوكم إلى دينهم ، {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} إذ الفلاح مناف للرجوع في دينهم.

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}(لعله) بإعادة الخلق للجزاء ، {وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} (لعله) فيما يجوز فيه التنازع ، {فَقَالُوا : ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا} أي: على باب كهفهم ، لئلا يتطرق إليهم الناس ، {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} ردوا العلم إلى الله عند اختلافهم ، {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ : لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}.

{سَيَقُولُونَ : ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ : خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ :سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُل:رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا} (لعله) لا على القطع والتدين به ، {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} لأنـ{ـه} ليس مع أحد منهم دلالة علم.

{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ، وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } (لعله) أي: إذا عصيته ، {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } قال قائل:" أما الثلاثمائة فقد عرفناها ، , وأم التسع فلا علم لنا بها".

{قُلِ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ، لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالغيب ما يغيب عن إدراكك ، والله لا يغيب عن إدراكه شيء. {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي: وأسمع به . والمعنى: ما أبصره بكل موجود ، وما أسمعه بكل مسموع. {مَا لَهُم} لأهل السماوات والأرض {مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} من متول لأمورهم ، {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} في قضائه.

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها ، {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملتجأ ، (لعله) إن لم يتبع القرآن.

ولما قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نح هؤلاء الفقراء ، وهم صهيب وخباب وسلمان ، وغيرهم من فقراء المسلمين حتى نجالسك ، نزل :{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} أي: احبسها وثبتها على سنتهم وطريقتهم ، واهتد بهداهم ، كانوا في الوجود أو العدم ، {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ، لأنهم عون على الدين ، ورفض لزينة الحياة الدنيا ، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} رضاه ، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} وعن طريقتهم المثلى ، {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (لعله) تريد اللهو مع اللاهين ، والخوض مع الخائضين، واللعب مع اللاعبين ، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أنسيناه ذكرنا من قلبه ، باتباع هواه ، لأن ذكر الله والهوى متنافيان ، لا يجتمعان في شيء واحد ، لأن الهوى من نتائج إبليس. {وَكَانَ أَمْرُهُ} من أمر دينه ودنياه {فُرُطًا} (لعله( بمعزل عن حصن التوحيد.

{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ، فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن ، وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} أي: جاء الحق ، وزاحت العلل ، فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو طريق الهلاك ، وجيء بلفظ الأمر والتخيير لما مكن من اختيار أيهما شاء ، فكأنه مخير مأمور بأن يختار ما شاء من النجدين . ثم {بين} جزاء من اختار الكفر فقال:{ إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا {لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق ، وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط ، {وَإِن يَسْتَغِيثُوا} من العطش ، {يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ} قيل: هو ردي الزيت ، أو ما أذيب من جواهر الأرض ، {يَشْوِي الْوُجُوهَ} إذا أقدم ليشرب شوى الوجه من حرارته ، {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} (لعله) حال لأنه ليس فيها شيء مما يسير أهلها.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}(لعله) ثم ذكر جزاءهم فقال:{ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ، يُحَلَّوْنَ} (لعله) يزينون ، لتكون الزينة نعمة لهم ولأمثالهم ، كما أن منظر أهل النار عذابا لهم. {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ} (لعله) قيل: هو ما رزق من الديباج ، {وَإِسْتَبْرَقٍ} (لعله) قيل: ما غلظ ، {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}.

 

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ، وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أنواع من المال ، من"ثمر ماله" : إذا كثره ، أي: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الكثيرة ، {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} يراجعه في الكلام ، من حار يحور: إذا راجع ، ويريه ما فيهمها ، ويفاخره بما ملك من المال دونه ، {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أنصارا وحشما ، أو أولادا ذكورا ، لأنهم ينفرون معه دون الإناث.

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} ضار لها بكفره ، {قَالَ : مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} أي: تهلك هذه الجنة ، شك في بيدودة جنته لطول أمله ، واستحسان رأيه ، وتمادي غفلته ، واغتراره بالمهلة ، وكأنه اطمأن إلى ما في يده دون ما عند الله ، ولم يجعلها كأنها وديعة مودعة في يده ، مستردة منه عن قريب ، إما بموته هو ، أو بذهابها من يده ببعض الأسباب ، ونرى أكثر الأغنياء تنطق ألسنة أحوالهم بذلك ، إلا الذين آمنوا ، وقليل ماهم.

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} كائنة ، {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا} إن رد إلى ربه – كما يزعم صاحبه – ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا ، أدعاء لكرامته عليه ومكانه عنده. وترى أكثر أهل الغرور قد غرتهم الحياة الدنيا ، وغرهم بالله الغرور ، فهم متصفوف بهذه الصفة ، وإن لم تنطق بها ألسنتهم (لعله) الصورية ، فقد اتنطق ألسنتهم الحالية ، {مُنقَلَبًا} مرجعا وعاقبة.

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ}؟ أي: خلق أصلك من تراب ، {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} عدلك ، وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال ، صار(لعله صرت) كافرا بالله ، لشكه ، لشكك في الغيب ، {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي: لكني مؤمن به موحد له ، مطيع لأمره ، {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: لا أعصيه في أمر ولا نهي.

{وَلَوْلَا} وهلا {إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ، قُلْتَ : مَا شَاء اللَّهُ} المعنى: هلا قلت عند دخولها ، والنظر إلى ما رزقك الله منها إلا:"ما شاء الله" اعترافا بأنها وكل ما فيها ، إنما حصل بمشيئة الله ، وأن أمرها بيده ، إن شاء تركها عامرة ، وإن شاء خربها ، وإن شاء نزعها من يدي ، وملكها غيري بإحسار مني ، أو اضطرار ، وقلت:{ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها ، وتدبير أمرها{إنما} هو بمعونته وتأييده. {إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} في الدارين ، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} عذابا{مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أرضا بيضاء ينزلق عليها لملامستها.

{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} غائرا ن أي: ذاهبا في الأرض ، وفي المعنى: كل (لعله) من كفر بالله فماله بهذه الصفة ، لأنه لا ينتفع به في دينه ، بل أشد خسرانا منه ، لأنه متعذب به في الدارين ، وإن كان موجودا في يده متصرفا فيه ، {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} فلا يتأتى لك طلبه ، فضلا عن الوجود ، والمعنى: إن ترني أفقر منك ، فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى ، فيرزقني في الدنيا لإيماني جنة أتقوى بها على مرضاته ، خيرا من جنتك ، لأنها لك استدراج وغرور ، ويسلبك إياها لكفرك ، فلا يبقى لك منها إلا الخسران ، وذلك تفرس منه في عواقب الأمور ، وقد كان بهما ما توقع ، فقال:

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} هو عبارة عن إهلاكه ، وأصله : من " أحاط به العدو" ، لأنه إذا أحاط به ، فقد ملكه واستولى عليه ، ثم استعمل في كل إهلاك ، {فَأَصْبَحَ} أي: الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} يضرب أحدهما على الأخرى ندما وتحسرا ، وإنما صار تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر ، لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن ، كما كنى عن ذلك بعض الكف ، والسقوط في اليد ، لأنه في معنى الندم ، كأنه قيل: فأصبح يندم ، وكذا أعمال الكافرين أجمع يكون عليهم (لعله) الخسران . {عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} أي: في تأصيلها وعمارتها ، {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} يعني: أن كرومها المعروشة سقطت عروشها على الأرض ، وسقطت فوقها الكروم ، {وَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} تذكر موعظة أخيه ، فعلم أنه أوتي من جهة كفره وطغيانه.

{وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ} يقدرون على نصرته {مِن دُونِ اللَّهِ} أي: هو وحده القادر على نصرته ، لا يقدر أحد غيره أن ينصره ، إلا أنه لم ينصره لحكمة ، {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} وما كان ممتنعا بقوته عن انتقام الله.

{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} أي: النصرة لله وحده لا يملكها غيره ، ولا يستطيعها أحد سواه. تقريرا لقوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} ، أو هنالك السلطان والملك لله لا يغلب ، أو مثل تلك الحال الشديدة ، يتولى الله ويؤمن به كل مضطر ، يعني: أن قوله: { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} كلمة ألجىء إليها ، فقالها جزعا مما دهاه من شؤم كفره ، ولولا ذلك لم يقلها ، أو هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ، يعني: أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن ، وصدق قوله:{ فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء} ، ويؤيده قوله: { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي: لأوليائه. أو "هنالك" إشارة إلى الآخرة ، أي: في تلك الدار الولاية لله ، كقوله: {  لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ }؟.

{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء} أي: هو كما أنزلناه ، وهذا مثل لجميع ما في الدنيا ، { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} فالتف بسببه وتكاثف ، حتى خالط بعضه بعضا ، أو أثر في النبات الماء فاختلط به حتى روى ، { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} يابسا متكسرا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} تنسفه وتطيره ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الإنشاء والإفناء ، { مُّقْتَدِرًا} قادرا . شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وعاقبتها من الهلاك والفناء بحال النبات : يكون أخضر ، ثم يهيج ، فتنسفه الرياح ، كأن لم يكن ، فيبقى الجزاء.

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لا عدة للعقبى إلا إذا أريد به لها ، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للعامل {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} جزاء {وَخَيْرٌ أَمَلًا} لأنه وعد صادق ، وأكثر الآمال كاذبة ، يعني: أن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ، ويصيبه في الآخرة.

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} نجعلها هباء منثورا . {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ليس عليها ما يسترها مما كان عليها من الجبال والأشجار.{ وَحَشَرْنَاهُمْ} أي: الموتى ، {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي: فلم نترك غادرة ، ومنه الغدر: ترك الوفاء ، الغدير : ما غادره السيل.

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد ، لا يحجب أحد أحدا. شبهت حالهم بحال الجند المعرضين على السلطان.{ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: لقد بعثناكم كما أنشأكم أول مرة ، أو جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أولا ، (لعله) أو جئتمونا بلا عمل ينفع ، هو بين أبين مما تقدم ، لقوله:{ بَلْ زَعَمْتُمْ} بلسان المقال ، أو بلسان الحال {أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} وقتا لا يجاوز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث.

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} اي: صحف الأعمال {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ} خائفين{مِمَّا فِيهِ} مما قدموه من الذنوب ، خلاف المؤمنين ، فإنهم يبتهجون بما فيه ، ويفرحون ويستبشرون ، {وَيَقُولُونَ : يَا وَيْلَتَنَا} يا هلاكنا ، والويل والويلة : الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} ، لأنه مأخوذ بالصغائر والكبائر ، {إِلَّا أَحْصَاهَا ، وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} جزاء ما عملوا من الصغيرة والكبيرة ، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فيكتب عليه ما لا يعمل ، أو يزيد في عقابه المستحق عقابه ، أو يعذبه بغير جرم.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ} سجود تحية وإجلال وتعظيم ، أو سجود انقياد ، {فَسَجَدُوا ، إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} هو مستأنف ، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل:"كان من الجن". {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} خرج عما أمره به ربه من السجود ، وهو دليل على أنه كان مأمورا بالسجود مع الملائكة .{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} "الهمزة": للإنكار والتعجب ، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه الإيياء تتخذونه وذريته {أَوْلِيَاء مِن دُونِي} وتستبدلونهم بي. وكأن هذه الآية تدل على أن ليس في ذريته مطيع تجوز ولايته ، وكأن الجن من غيره ، لأن فيهم المطيع والعاصي. {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} وفي الجن أولياء وأعداء ، بدليل قوله:{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} بئس البدل من الله إبليس ، لمن استذله فأطاعه بدل طاعته ، وعبده بدل عبادته.

{مَا أَشْهَدتُّهُمْ} أي: إبليس وذريته {خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني: أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة ، وإنما يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية ، فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله:{ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأعتضد بهم في خلقها ، وأشاورهم فيه ، أي: تفردت بخلف الأشياء ، فأفردوني في العبادة ، {وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض . {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} أي: وما كنت متخذهم {عَضُدًا} أعوانا ، فوضع المضلين موضع الضمير ذما لهم بالإضلال ، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الحق ، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟!.

{وَيَوْمَ يَقُولُ} الله للكفار : {نَادُوا} ادعو بصوت عال{شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم شركاء لي ليمنعوكم من عذابي ، وأراد الجن ، وأضاف الشركاء إليه – على زعمهم – توبيخا لهم. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} مهلكا ، من وبق يبق وبوقا : إذا هلك ، أو به مصدر كالوعد ، أي: وجعلنا بينهم واديا من أودية جهنم ، هو مكان الهلاك والعذاب الشديد ، مشتركا يهلكون فيه جميعا.

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا} فأيقنوا {أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} بأعمالهم السيئة التي عملوها ، وماتوا عليها مصرين ، {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} معدلا ، انصرافا ، أو مكانا يهربون إليه.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} يحتاجون إليه، {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} أي: أكثر الأشياء التي يتأتى منه الجدل ، إن فصلتها واحدا بعد واحد ، خصومة ومماراة بالباطل ، يعني: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ، كقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } ، وقيل المراد: الكفار ، لقوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} ، و(لعله) قيل على العموم.

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى} أي هدى كان ، {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ، ِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ} تقديره: وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين ، وهي الموت ، أو الانتظار أن يأتيهم العذاب ، يعني: عذاب الآخرة {قُبُلًا} جمع قبيل ، وقيل: عيانا ، بمعنى: المقابلة ، وقيل: فجأة . وقرىء بضم(لعله) القاف والباء ، أي: أصناف عذاب.

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} المؤمنين ، {وَمُنذِرِينَ} الكافرين . {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} ليزيلوا ، أو يبطلوا بالجدال الحق ، وأصل الدحض: الزلق. {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} أي: ما كان من الآيات التي فرعت أفهامهم ، {وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} لأنهم إذا لم يقبلوها للمعل{كذا} فقد اتخذوها هزؤا ، لقوله:{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ }.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} من كتاب أو سنة أو إجماع ، أو حجة عقل ، وغير ذلك. {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} تولى عنها وتركها ولم يؤمن بها ، ولم يتذكر حين ذكر ، ولم يتدبر {وَنَسِيَ} عاقبة{مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي ، ولا نظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء ، لقوله: {  وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } ، ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم ، بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية ، جمع كنان: وهو الغطاء ، {أَن يَفْقَهُوهُ} يريد: أن لا يفهموه ، {وَفِي آذَانِهِمْ} العقلية {وَقْرًا} ثقلا وصمما عن استماع الحق. {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} مدة التكليف كلها ، وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم(لعله) لا يؤمنون.

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} البليغ المغفرة ، {ذُو الرَّحْمَةِ} الموصوف بالرحمة ، {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} أي: ومن رحمته ترك مؤاخذته لهم. {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} منجا وملجأ ، يقال: "وأل" إذا نجا ، و"أل إليه" إذا لجأ.

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} المراد: من تقدم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، {لَمَّا ظَلَمُوا ، وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} فضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه ، كما ضربنا لهؤلاء ، والمهلك: الإهلاك.

 

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} الذي يخدمه ويتبعه:{ لَا أَبْرَحُ} لا أزول طلبا للعلم {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر ، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أو أسير سنين طوالا ، قيل: قال موسى {لربه}:" إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه؟ ، قال: أعلم منك الخضر ، قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة ، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا ، فحيث فقدته فهو هناك". ويحتمل كان هذا من موسى قبل استنبائه ، وبعد استنبائه (لعله) تفسير لقوله:{ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعني: الألواح ، فأعلمنا الله بحاله لنقتدي به ، إن كان قبل الاستنباء أو بعده ، لقوله: { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }.

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} أي: اتخذ طريقا له من البر إلى البحر{سَرَبًا} أي: سرب فيه سربا ، يعنى: دخل فيه واستتر به.

{فَلَمَّا جَاوَزَا} مجمع البحرين ، ثم نزلا وقد سارا ما يشاء الله {قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ : آتِنَا غَدَاءنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} تعبا. {قَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} هي موضع الموعد. {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} ، ثم اعتذر فقال: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} بإلقاء الخواطر في القلب{أَنْ أَذْكُرَهُ}أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان ، {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} اتخاذا {عَجَبًا} وهوأن اثره بقي إلى حيث سار.

{قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} نطلب ، لأن ذهاب الحوت كان علما على لقاء الخضر.{ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه ، {قَصَصًا} يقصان قصصا ، أي: يتبعان آثارهما اتباعا . قال الزجاج: " القصص : اتباع الأثر".

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا} أي: الخضر ، أو غيره {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا ، وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} قيل: العلم اللدني: ما حصل للعبد بطريق الإلهام ، وقيل: علم الباطن.

{قَالَ لَهُ مُوسَى :هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؟ أي: علما ذا رشد ، أرشد به في ديني ، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم ، وإن كان قد بلغ ما بلغ منه ، ,وأن يتواضع لمن هو أعلم منه. {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أي: عن الإنكار والسؤال ، وإنما قال ذلك لأنه علم أنه يرى (لعله) منكرة ، ولا يجوز للأنبياء أن (لعله) يصبروا المنكرات ، ثم بين عذره في ترك الصبر: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }؟! نفي استطاعة الصبر معه ، على وجه التأكيد ، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها مناكر ، والرجل الصالح لا يتمالك إذا رأى ذلك ، فكيف إذا كان نبيا.

{قَالَ : سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا} عن الإنكار والاعتراض ، {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} لأنه مع عصيانه له لا يجب عليه تعليمه ، ومع ذلك تتنافر القلوب بينهما ، {قَالَ : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} (لعله) أي: ائتممت {بي} {فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي: فمن شرط اتباعك لي ، أنك إذا رأيت مني شيئا – وقد علمن أنه صحيح ، إلا أنه خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك – أن لا تفاتحني ، ولا تراجعني فيه ، حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا لحكمة علمها الله.

{فَانطَلَقَا} مصطحبين {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ، خَرَقَهَا ، قَالَ : أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أتيت شيئا عظيما ، من أمر الأمر ، إذا عظم . {قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} قال ابن عباس :" إنه لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ". {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أرهقه : إذا غشيه ، وأرهقه إياه : أي أغشاه ، ولا تغشنى عسرا: وهو اتباعه إياه على متابعتك ، ويسرها على الاعضاء ، وترك المناقشة.

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ ، قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} وهي الطاهرة من الذنوب ، وقيل: كان غلاما(لعله) لم يبلغ ، وقيل: كان رجلا بالغا عاصيا لله ، فكان فعله عقوبة له ، ورحمة لأبويه . قال ابن عباس :" لم يكن نبي الله يقول:{ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} (لعله) إلا وهو صبي لم يبلغ" ، { بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} ينكره الشرع.

{ قَالَ : أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ، قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ، قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا } أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق.

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} استضافا {فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا ، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} أي: يسقط ، وهذا من مجاز الكلام ، {فَأَقَامَهُ} أي: سواه {قَالَ : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: لطلبت على عملك جعلا حتى تستدفع به الضرورة.

{قَالَ : هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ : فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ، فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ، وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي: يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها ، وإن كانت معيبة تركها.

{وَأَمَّا الْغُلَامُ : فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ، فَخَشِينَا} أي: فعلمنا {أَن يُرْهِقَهُمَا} أن يفتنهما {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (لعله) بميلهما وحبهما على طغواه وكفره ، {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}.

{وَأَمَّا الْجِدَارُ : فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} (لعله) قيل: كان مالا ، وقيل: كان صحفا فيها علم ، وقيل: لوح من ذهب ، مكتوب فيه:" عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ، عجبا لمن أيقن بالحساب كيف (لعله) يغفل ، عجبا لمن أيقن (لعله) بزوال الدنيا..." ، {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} يدركا شدتهما ، {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} (لعله) وفيه دليل على أن المال الصالح للرجل الصالح ، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي: باختياري وأمري ، وإنما فعلته بأمر الله ، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (لعله) روي:"لما هم موسى بفراقه ، قال له : أوصني ، قال: لا تطلب العلم لتحدث به ، واطلبه لتعمل به ".

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} قيل: سمي ذا القرنين ، لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، {قُلْ : سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا}.

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} التمكين : تمهيد الأسباب ، {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أراده من أغراضه ، ومقاصده في ملكه ، أراد: من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ، ومحاربة الأعداء ، {سَبَبًا} طريقا موصلا إليه. {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} والسبب: ما يتوصل به إلى المقصود ، من علم ، أو قدرة ، فأراد بلوغ المغرب ، فأتبع سببا: يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق فأتبع سببا ، وأراد بلوغ السدين فأتبع سببا ، "ثم أتبع" كوفي وشامي ، الباقون بوصل الألف وتشديد التاء . عن الأصمعي:" أتبع: لحق ، واتبع: اقتفى وإن لم يلحق".

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي: منتهى العمارة نحو المغرب ، وكذا المطلع ، {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ذات حمأة ، من حمئت البئر : إذا صارت فيها الحمأة."حامية" شامي وكوفي غير حفص ، بمعنى حارة. {وَوَجَدَ عِندَهَا} عند تلك العين {قَوْمًا} عراة من الثياب ، {قُلْنَا : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} (لعله) ألهمه ذلك { إِمَّا أَن تُعَذِّبَ ، وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (لعله) أي: إليك الاختيار في أن تعصي الله فيهم ، أو تطيع.

{قَالَ : أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} أي: منكرا بالنار في القيامة ، يعني: أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم ، فذاك هو المعذب في الدارين.

{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي: عمل ما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى} أي: فله الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة ، (لعله) أي: التوفيق والثواب ، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي: ذا يسر ، أي: يأمره باليسر لا بالعسر.

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: (لعله) سلك طريقا ومنازل {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ، وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا} أي: أبنية ، وقيل: الستر : اللباس . {كَذَلِكَ} أي: أمر ذي القرنين كذلك ، أي: كما وصفناه آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، مجيبا لدين الله . وهكذا يجب على كل مسلم بما بلغ إليه طوله وحوله وقوته وقدرته من إحياء دين الله وإماتة البدع ، {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} من الجنود والآلات والأسباب {خُبْرًا} أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك ، أي: كما بلغ مغربها ، أو يطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم ، يعني: أنهم كفرة مثلهم ، وحكمهم {مثل حكمهم} في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم.

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} سلك طريقا ، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بين الجبلين : وهما جبلان {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} من ورائهما {قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} فإن قيل: كيف قالوا وهم لا يفقهون قولا؟ قيل: كلم عنهم مترجم ، ويحتمل لا يكادون يفقهون قولا حقا ، ويعضد ذلك ما بعده.

{قَالُوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} جعلا نخرجه من أموالنا {عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ : مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار(لعله) والعلم ، خير مما تبذلون لي من الخراج ، فلا حاجة لي إليه ، {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} بعملة وصناع يحسنون البناء والعمل بالآلات ، {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} حاجزا حصينا موثقا ، والردم: أكبر من السد على ما قيل.

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ{ قطع الحديد ، والزبرة: القطعة الكبيرة ، قيل: حفر للأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، بينهما الحطب والفحم ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ حى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمي ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، وصار جبلا صلدا . وبعد ما بين السدين يعلمه الله ، ومن أعلمه من خلقه . {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} جانبي الجبلين ، لأنهما يتصادفان ، أي: يتقابلان ، {قَالَ: انفُخُوا} أي: قال ذو القرنين للعملة: انفخوا في الحديد ، {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} أي: صار الحديد المنفوخ كالنار ، {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ} أصب {عَلَيْهِ قِطْرًا} نحاسا مذابا ، لأنه يقطر.

{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} أن يعلوه {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي: لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ، ولا نقب لصلابته.

{قَالَ : هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أي: هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده ، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته ، {فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي} فإذا دنا مجيء القيامة ، وشارف إتيانها {جَعَلَهُ دَكَّاء} مبسوطا مسوى بالأرض ، وكل ما انبسط بعد ارتفاع ، فقد اندك. "دكاء" كوفي ، أي: أرض مستوية ، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} آخر قول ذي القرنين.

{وَتَرَكْنَا} وجعلنا {بَعْضَهُمْ} بعض الخلق {يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ} يختلط {فِي بَعْضٍ} أي: يضطربون ويختلطون ، إنسهم وجنهم ، حيارى سكارى لا يسلكون طريقا ، ولا يهتدون سبيلا ، وهذا وصف للعاصين من الخليقة ، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد ، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} لقيام الساعة ، {فَجَمَعْنَاهُمْ} أي: جميع الخلائق للثواب والعقاب {جَمْعًا} في صعيد واحد.

{وَعَرَضْنَا} وأبرزنا {جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} أظهرناها لهم ، فرأوها وشاهدوها عيانا.

{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} أعين بصائرهم ، وسميت أعينا على قدر أهويتهم ، لأن الهوى ظلمة تمنع نور البصيرة ، فيكون كالغطاء المانع عن التبصرة لحقائق الأشياء ، فكانت(لعله) البصيرة تبصر الغطاء ولا تبصر الشيء كالذي غطاه ، فإذا خالف العبد الهوى في شيء من الأشياء الدنيوية ارتفع الحجاب عن ذلك الشيء ، وأبصر بنور بصيرته الحق ، وإن اتبع هواه في ذلك الشيء ، تراكمت الظلمة على عين البصيرة ، فلا تقدر أن تستبصر عاقبة الأمر . {فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي} الغطاء : هو الحجاب الذي ذكرناه ، والذكر : هو حقيقة الأمر وسره. {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي: وكانوا صما عنه ، بل أبلغ من الصم ، إذ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء كأنهم أصميت ، فلا استطاعة بهم للسمع.

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء} كلا إنهم لا يكونون لهم أولياء ، وإن اتخذوهم هم أولياء ، (لعله) ويعني: بـ"أولياء": الشياطين ، أطاعوه من دون الله ، وقيل: الأصنام ، وقيل: الأهوية ، وهو أصح ما قيل. فإنهم لا يضرون إن تركوا عبادتهم ، ولا ينفعون إن عبدوهم بظنهم . {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} هو ما يقام للنزيل ، وهو الضيف ونحوه ، { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.

{قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ} أخسر من كل خاسر {أَعْمَالًا ؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ } ضاع وبطل ، يعني: الذين أتبعوا أنفسهم في عمل ، (لعله) يرجون به فضلا ونوالا ، فنالوا به هلاكا {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (لعله) لعجبهم بأعمالهم ، واعتمادهم الحق بغير دليل من الدليل ، ويحتمل هذا المتدينين خاصة ، ويحتمل في جميع الكافرين لعموم الآية ، وهو قوله:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} فلا يكون لهم وزن ومقدار ، لأنهم عصاة ، فلا تقوم منهم طاعة . {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ، وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} أي: جزاؤهم جهنم ، بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } تحولا إلى غيرها رضى بما أعطوا ، أي: لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع إلى أغراضهم مما هم فيه وعليه ، وهذا غاية الوصف ، لأن الإنسان وإن كان في الدنيا في أعم نعيم ، فهو طامح الطرف إلى أرفع منه.

{قُل : لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} قال أبو عبيدة:" المراد : ما يكتب به " ، أي: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته ، وكان البحر مدادا لها {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} بمثل البحر {مَدَدًا} لنفد أيضا ، والكلمات غير نافدة ، وقيل: قال حيي ابن أخطب:" في كتابكم { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } ، ثم تقرؤن: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } " فنزلت ، يعني: أن ذلك خير كثير ، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.

{قُلْ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: يوحى إلى أنه إله واحد ، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ} فمن كان يأمل حسن لقاء ربه ، وأن يلقاه لقاء رضى وقبول ، أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه ، والمراد باللقاء : القدوم على جزاء الأعمال ، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} خالصا ، لا يريد به إلا وجه ربه ، ولا يخلط به غيره ، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} نهى عن الشرك جليه وخفيه ، وعن الرياء . قال عليه الصلاة والسلام :" اتقوا الشرك الأصغر" قالوا:" وما الشرك الأصغر؟" قال:"الرياء".

وأرجو أنه يوجد عن أبي عبدالله محمد بن روح بن عربي أنه قال:" إن الشرك يتصرف على ثلاثة وجوه: فشرك جحود ، وشرك طاعة ، وشرك رياء . فأما شرك الجحود : فهو الإشراك بالله ، يعني: الذي يعدل به غيره ، فكل من جحد الله ، أو عبد معه إلها آخر ، ، وشك فيه ، أو شك في رسوله ، أو جحد بما جاء به ، فهو مشرك يلحقه اسم الشرك . وأما شرك الطاعة: فهو طاعة الشيطان ، وهو قوله: {  فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } ، فدخل عليهما في طاعة الشيطان والشرك ، من غير عبادة ، يعبد الشيطان من دون الله ، كذلك قوله:{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } ، وقوله:{ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } ، وقوله: { أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ، فعبادته هاهنا طاعة الشيطان ، فقد عبده من حيث لا يعلم ، وهذ الشرك شرك الرياء ، ويلحقه اسم النفاق ، ولا يلحقه اسم الجحود ، كذلك شرك الرياء إنما هو شرك يلحقه اسم النفاق ، ولا يلحقه اسم الجحود ، وهو قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، فدخل عليه الشرك من حيث لا يعلم ، إذا أشرك في عبادة ربه غيره" انتهى كلامه . أحببت أن أنقل منه ما سألتنيه ، وقد حذفت منه طلبا للاختصار ، وسأكتبه على المعنى:" قال الغزالي: والإخلاص يضاده الإشراك ، فمن ليس مخلصا فهو مشرك ، إلا أن الشرك درجات ، والإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية".