بسم الله الرحمن الرحيم

{سُبْحَانَ} تنزيه لله عن العدول به إلى غيره ، تقديره سبحوا لله ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قيل: أسرى بجسده ، وقيل: بروحه ، {إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} قيل: هو بيت المقدس ، وسمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار . {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} يريد بركات الدين والدنيا . {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} بعض آياتنا التي به الدالة على وحدانية الله. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} ربا يكلون إليه أمورهم ، وقيل: الكفيل ، وقيل : الكافي. {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ، إِنَّهُ كَانَ} موسى {عَبْدًا شَكُورًا} في ما يسره ويضره ، (لعله) كان إذا أناله الله نعمةحمده ، وإذا صرف عنه سوءا حمده.

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (لعله) قضاء قدر ومشيئة ، لا قضاء(لعله) أمر ، يدل على أنهم لم يهندوا بالكتاب الذي أوتي موسى. {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ولتستكبرن عن طاعة الله ، من قوله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ } والمراد به : البغي والظلم ، وغلبة المفسدين في الأرض.

{فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا} (لعله) وعد الأولى من المرتين ، {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} سلطنا عليكم {عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قيل: بعث عليهم أهل الشرك من الروم ، فأحرقوا وقتلوا ، وأحرقوا التوراة ، (لعله) عقوبة لفسادهم فيما قيل. {فَجَاسُواْ} (لعله) أي دخلوا {خِلاَلَ الدِّيَارِ} (لعله) فروجها. {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} (لعله) لأنه لا يجوز عليه الخلف.

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} أي الدولة والغلبة، (لعله) كركره: أعاد مرة بعد أخرى ، {عَلَيْهِمْ} (لعله) على الذين بعثهم عليهم ، {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (لعله) أخلف عليهم بعدما ذهب على أيدي من بعثهم عليهم. {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} مما كنتم ، وهو من ينفر مع الرجل من قومه.

{إِنْ أَحْسَنتُمْ} بعدما يسر لكم أسبابه {أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} يعني: أن الإحسان أو الإساءة مختص بأنفسهم ، لا يتعدى النفع والضر إلى غيركم ، وقيل عن علي:" ما أحسنت إلى أحد ، ولا أسأت إليه" وتلاها. {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ} (لعله) من المرتين بعثناهم ثانية ، {لِيَسُوؤُواْ} أي: هؤلاء {وُجُوهَكُمْ} بما يصيبهم ، {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} أي: يهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه.

{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى ، وانزجرتم عن المعاصي ، {وَإِنْ عُدتُّمْ} مرة ثالثة {عُدْنَا} إلى عقوبتكم ، (لعله) وكذلك في الرابعة إلى ما بعدها. {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} محبسا ومأوى. {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ} (لعله) يعني: الذي أنزل في هذه السورة أو جملته . {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} للحالة التي هي أقوم الحالات عن الاعوجاج ، وأسدها وأسلمها للدين والدنيا ، وهي توحيد الله ، والعمل بمقتضاه (لعله) بعد تدبرهم للآيات ، ويعملون بمقتضاها . {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}. {وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} (لعله) ويحتمل : يريد به التذكر بما وقع من بني إسرائيل وعليهم ، {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} في الدارين.

{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ} أي: ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، كما يدعو لهم بالخير ، أو يطلب النفع العاجل وإن قل ، بالضرر الآجل وإن جل ، {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} يتسع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ، ولا يتأنى فيه تأني المتبصر ، أو أريد بالإنسان : الكفار ، وأنه يدعوه بالعذاب استهزاء ويستعجل به ، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة ، {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} يعني أن العذاب آتيه لا محالة.

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} لتتوصلوا بياض النهار إلى التصرف في قضاء حوائجكم ، {وَلِتَعْلَمُواْ} باختلاف الجديدين ، {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} حساب الآجال ، ومواسم الأعمال ، ولو كان مثلين لما عرف الليل من النهار . {وَكُلَّ شَيْءٍ} مما تفتقرون إليه من دينكم ودنياكم {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بيناه بيانا غير ملتبس ، فأزحنا عللكم.

{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال أهل المعاني: أراد بالطائر الحظ ، وما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، وخص العنق من سائر الأعضاء ، لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما ، مما يزينه ويشينه . {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} غير مطوي ، لتتأتى له قراءته ، ويقول له:

{اقْرَأْ كَتَابَكَ} يعني: كتاب أعمالك، {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ} أي: كفى نفسك {حَسِيبًا} محاسبا. قال الحسن:" لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك" ، ليكون شاهدا لها وعليها ، لرؤية الخلائق للحقائق غير اليقين ، وإقرار المنكرين لما أنكروه.

{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: فلها ثواب الاهتداء ، وعليها وبال الضلال. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: كل نفس حاملة وزرا ، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس اخرى. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} في الدنيا أو الآخرة ، {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وما صح من أن نعذب قوما إلا بعد قيام الحجة ، (لعله) وفيه دليل على {أن الـ}الحجة السمعية لا تجب إلا بالسمع.

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} أي: أهلها ، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} متنعميها وجبابرتها بالطاعة ، {فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي: خرجوا عن الأمر ، {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ} قوم {نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا}.

{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء} لا ما شاؤوه ، {لِمَن نُّرِيدُ} (لعله) لأنه لا تزيده إرادته هو شيئا من الرزق ، ولا تدفع عنه شيئا من الضر ، بل تورثه خذلانا في الدنيا وعذابا في الآخرة ، وترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ، ولا يعطون إلا البعض ، فاجتمع عليهم فقر الدنيا والآخرة ، والمؤمن بالعكس. {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} مطرودا مبعودا من رحمة الله.

{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي: ما تستحق من السعي ، ويعمل لها لما قدر له منها ، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مصدق لله في وعده ووعيده ، {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} مقبولا عند الله ، مثابا عليه. عن بعض السلف:" من لم يكن معه ثلاث ، لم ينفعه عمله: إيمان ثابت ، ونية صادقة، وعمل موافق " ، وتلا الآية.

{كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء} أي: من أراد العاجلة أو الآخرة ، {مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} أي: مضت سنته على أن من أراد العاجلة يسر له أساها ومن أراد (لعله) الآخرة . {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} (لعله) أي: جعل أن يختاروا ما يشاؤوا ، (لعله) من الإرادتين ، (لعله) لقوله: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } ، ثم قال: {وَمَا َشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }.

{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (لعله) أي: بين من يسرت له أعمال الدنيا وأسبابها ، وبين من يسرت له أعمال الآخرة وأسبابها ، عدلا منه لهؤلاء ، وفضلا لهؤلاء ، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} من تفضيل الدنيا . وتراهم في الدنيا ، فمنهم من يمشي على أم رأسه مكبا على وجهه ، ومنهم من يطير في ساعته مرتقيا إلى أعالي الدرجات مسيرة الآف ، وكل ذلك تفضل من الله تعالى على بعض خلقه ، وعدل منه لبعض ، وتفضيلهم في الآخرة أكبر من هذا كما قال ، لأن هذا تفضيل بالأعمال ، وذلك بالجزاء ، وقيس ما بينهما إن{كان} لك قلب سليم.

ثم حض النبي صلى الله عليه وسلم على طلب الآخرة بقوله:{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ} وذلك مع أهل المعاني: اكتساب السيئة بعد قيام الحجة عليه بها ، {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا} مستحق الذم ، غير محمود مع الله ومع أهل دينه ، والذم: نقيض المدح ، {مَّخْذُولاً} لا ترقي إلى الخير درجة ، ولا تتخطى نحو السلامة خطوة ، كبلتك خطيئتك.

{وَقَضَى رَبُّكَ} وحكم حكما مقطوعا به ، {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي: لا تعبدوا مع شيطانا ولا نفسا ولا هوى ولا خلقا ، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وأحسنوا بهما إحسانا ، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} لانهما في حال الكبر يتسارع إليهما الضعف ، و{هما} إلى الإحسان أحوج. {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ، فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ : أُفٍّ} عند التضجر منهما ، فما دونه من العقوق ، {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما عما يتعاطيانه من المباح ، والنهر والنهي أخوان ، { وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر ، {قَوْلاً كَرِيمًا} جميلا لينا كما يقتضيه حسن الأدب ، وفائدة المعنى: أنهما إذا صارا كلا على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وعياله ، وذلك أشق عليه ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما حسن الخلق ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذره  منهما: أف ، فضلا عما يزيد عليه ، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما ، حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لا يرخص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر ، ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية ، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك ، وتربيتهما لك إن كانا صالحين.

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} لما في ضمائركم من التوحيد والإحسان بالوالدين ، وبعكس ذلك ، {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} غير مفسدين ، (لعله) معتقدين في أنفسكم أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات. {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} الأواب: الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة.

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} كما يجب بالشرع والعقل ، وكل واحد منهم له حق غير حق الآخر ، {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي: وآت هؤلاء حقوقهم الواجبة عليك ، {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} ، التبذير : تفريط المال في غير الحل والمحل ، وقد قيل : " كل نفقة في غير حق الله فهي تبذير". وإن قلت: وليجتهد المريد حتى (لعله) لا يميل إلى طرق التقتير والتبذير ، ويعلم الله منه سلامته منهما.

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} أمثالهم في الشرارة والتجاوز في الحدود ، وهو غاية المذمة ، وأنه لا أشر من الشيطان ، أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم ، لأنهم يطيعونهم في ما يأمرونهم به من التبذير والإسراف ، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} فما ينبغي أن يطاع ، لأنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد إن سألوك رزقا وأنت معدم ، {ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك ، {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} فقل لهم: رزقنا الله وإياكم من فضله.

{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (لعله) أي: لا تمسك عن النفقة في الحق كالمغلول يه ، لا يقدر على مدها ، {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} هذا تمثيل لمنع الشحيح ،وإعطاء المسرف ، أو بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} فتصير ملوما عند الله ، لأن المسرف غير مرضي عنده وعند نفسك إذا احتجت ، فندمت على ما فعلت ، {مَّحْسُورًا} أسفا منقطعا بك لا شيء عندك ، من حسره السفر : إذا أثر فيه أثرا بليغا ، أو عاريا، من حسر رأسه . وقال قتاده:" محسورا: نادما على فرط منك". {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } بمصالحهم.

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ} قتلهم أولادهم ، أودهم{كذا} بناتهم ، خشية {إِمْلاقٍ} خوف فقر ، {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم، إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا} إثما عظيما.

{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} وهو نهي عن الزنا ودواعيه ، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} معصية مجاوزة حد الشرع والعقل ، {وَسَاء سَبِيلاً} وبئس طريقا طريقه.

{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} وحقها إلا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس ، {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (لعله) حجة واضحة على قاتل وليه ، فإن شاء قتل وإن شاء عفا ، {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} ما حد له ، {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه وتثميره ، {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} حتى يستوي رجلا حافظا لماله عن التضييع ، {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} بأوامر الله ونواهيه ، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} مع الله.

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} المعتدل ، {ذَلِكَ خَيْرٌ} في الدنيا ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبة ، وهو تفعيل من آل: إذا رجع ، وهو ما يؤول إليه.

{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولا تتبع ما لا تعلم ، أي: لا تقل: رأيت وما رأيت. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} قيل: يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده ، وإذا سئل عن هذه سئل عن غيرها ، وقيل: يسأل السمع والبصر والفؤاد عما دخل المرء.

{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} أي: بطرا وكبرا وخيلاء ، {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ} بمرحك ، {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} أي: لن تبلغها بكبرك حتى تبلغ آخرها ، معناه: أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا ، كمن يريد خرق الأرض ، ومطاولة الجبال ، لا يحصل على شيء ، وقيل: ذكر ذلك ، لأن من مشى مختالا يمشي مرة على عقبه ومرة على صدور قدميه ، فقيل: إنك لن تخرق الأرض بعقبيك ، ولن تبلغ الجبال إن مشيت على صدرو قدميك. يروى عن أبي هريرة أنه قال:" ما رأيت أحدا أسرع مشيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنما تطوى له الأرض ، وإنا لنجهد أنفسنا ، وإنه لغير مكترث "، {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}.

{ذَلِكَ}إشارة إلى ما تقدم من قوله:{ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى هذه الغاية ، {مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} مما يحكم العقل بصحته ، وتصلح النفس بعمله ، (لعله) لأن كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو حكمة. {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} مطرودا من الرحمة . عن ابن عباس :" هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى أولها:{لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ} ، وآخرها:{ مَّدْحُورًا}". ولقد جعلت فاتحتها وخاتمتها: النهي عن الشرك ، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمه ، وإن بذ فيها الحكماء ، وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم ، وهم عن دين الله أضل من الغنم.

ثم خاطب الذين قالوا:" الملائكة بنات الله " بقوله:{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} الهمزة للإنكار ، يعنى: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء ، بأفضل الأولاد وهم البنون ، {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا} واتخذ أدناهم منزلة ، وهم الإناث ، وهذا خلاف الحكمة ، وما عليه مقولكم ، فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها ، وتكون أردأها وأدونها للسادات. {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} حيث أضفتم عليه الأولاد وهي من خواص الأجسام ، ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} عن الحق. {قُل: لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ ، إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة كما يفعل المكوك(لعله الملوك) مع بعضهم بعض. وكل من عصى الله بمثقال ذرة ، فقد بارزه بالمحاربة.

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا} أي: تعاليا ، والمراد: البراءة من ذلك والنزاهة ، {كَبِيرًا} ، وصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} قيل: إن من شيء جماد وحي إلا يسبح بحمده ، حتى صرير النبات ونقيض السعف. وقال مجاهد:" كل الأشياء تسبح لله صبيا أو جمادا ، وتسبيحها:" سبحان الله وبحمده". وقال أهل المعاني: تسبيح السماوات والأرض والجمادات ، وسائر الحيوانات سوى العقلاء : تذللها لخالقها ، {وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (لعله) لاختلاف اللغات ، أو لتغير الإدراك ، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} عن جهل العباد. {غَفُورًا} لمن تاب.

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} حجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به. قال قتادة:" هو الأكنة ". والمستور بمعنى : الساتر ، وقيل: مستورا عن أعين الناس فيما يرونه بالبصر الظاهر.

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} جمع كنان ، وهو الذي يستر الشيء ، {أَن يَفْقَهُوهُ} كراهة أن يفقهوه ، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} ثقلا يمنع عن الاستماع ، {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أي: وحدته ، {وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ} رجعوا على أعقابهم {نُفُورًا} اي: يحبون أن تذكر معهم آلهتهم ، لأنهم يشركون به ، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا ، والمعنى في ذلك: إذا أمرتهم باستقامة ، والإخلاص لله وحده ، وأن لا يكون نصيب لهوى أنفسهم أبوا واستكبروا.

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي: يستمعون هازئين لاعبين ، لا متبينين للبيان ، {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ، إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ: إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} مطلوبا{كذا} مخدوعا ، وقيل: مصروفا عن الحق ، وقيل: رجل له سحر ، والسحر : الزينة ، أي: أنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب ، وقيل: سحر فجن.

{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ} الأشباه ، قالوا: ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ، {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} وصولا إلى طريق الجنة ، وهي طريق الحق ، لأنهم ضلوا في جميع ذلك من يطلب في التيه يسلكه ، فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع.

{وَقَالُواْ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} ترابا وحطاما ، {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل: كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} استشعروا في قلوبكم أنكم حجارة أو حديد في الشدة والقوة ، {أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قيل: السماوات والأرض ، وقيل: الموت ، فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، {فَسَيَقُولُونَ: مَن يُعِيدُنَا؟قُلِ :الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والمعنى : أنكم تستعبدون أن يجدد الله خلقكم ، {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} فسيحركونها تعجبا واستهزاء ، {وَيَقُولُونَ : مَتَى هُوَ؟} أي: البعث ، استبعادا له ونقيا ، {قُلْ :عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} أي: هو قريب ، و"عسى" للوجوب.

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} قيل عن ابن عباس:"بامره" ، وقيل: مقرين بأنه خالقهم ، (لعله) من حيث لا ينفعهم . {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} في الدنيا ، أو في القبر.

{وَقُل لِّعِبَادِي : يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ولا تخاشنوا في القول {إِنَّ} في المخاشنة {الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يلقي بينهم العداوة والبغضاء ، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} أي: يضر في الدنيا والآخرة .

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بالهداية والتوفيق ، {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بالخذلان ، أي: يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ، ولا يقولوا لهم: إنكم من أهل النار ، وإنكم معذبون ، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظا لأعمالهم ، موكولا إليك أمرهم ، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا.

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وبأحوالهم ، وبما يستأهل كل واحد منهم. {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ} بالترقي إلى درجات القرب منا ، {عَلَى بَعْضٍ، وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} دلالة على وجه تفضيله ، وقد علم الله منه أنه مستأهل إلى ذلك الحال.

{قُلِ :ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم} أنهم آلهتكم {مِّن دُونِهِ} من دون الله ، وهو كل ما آثره العبد من شهوات نفسه المحجورة عليه على أمر الله ونهيه ، {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} أي: ادعوهم وهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر ، من مرض أو فقر أو عذاب ، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر.

{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} أي: يدعونهم آلهة ،يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، يعني الذين يدعوهم المشركون آلهة. قال ابن عباس:" عيسى وأمه ، وعزيرا والملائكة ". {يَبْتَغُونَ} ، أي: يطلبون {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} أي: القربة ، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال الزجاج:" أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله ويتقرب إليه بالعمل الصالح ". {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم عباد الله؟ ، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} حقيقا بأن يحذره كل واحد ، من ملك مقرب أو نبي مرسل ، فضلا عن غيرهم.

{وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} بعذاب غير مستأصل ، {كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} استعير المنع لترك إرسال الآيات ، والمعنى : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين ، والمراد"بالآيات": التي اقترحتها قريش ، من قلب الصفا ذهبا ، ومن إحياء الموتى ، وغير ذلك ، وسنة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ، ثم لم يؤمن ، أن يعاجل بعذاب الاستئصال ، والمعنى : وما منعنا أن إرسال ما يقترحونه من الآيات ، إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم في المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك ،وعذبوا العذاب المستأصل ، وقد حكمنا أن نؤخر أمر من يبعث إليهم إلى يوم القيامة . ثم ذكر من تلك الآيات _ التي اقترحها الأولون ، ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا – واحدة ، وهي ناقة صالح ، لأن آثار هلاكهم قريبة ، وقال الله فيهم : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } ، لأن هذه الأمة هي آخر الأمم ، وليس أمة بعد أن استؤصلوا ، والله أعلم بتأويل كتابه. {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} (لعله) باقتراحهم ، {مُبْصِرَةً} أنه بينة . {فَظَلَمُواْ بِهَا} فكفروا بها ، {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ} أي: العبر والدلالات ، {إِلاَّ تَخْوِيفًا} للعباد (لعله) ليؤمنوا.

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ : إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} فليس لهم مفر عن تقديره ، {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} بما يشاء من آياته ، أي: هم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته ، فهو حافظك ، ومانعك منهم ، فلا تهمهم {كذا} ، وامض فيما أمرتك به من تبليغ الرسالة . والرؤيا التي أراه الله إياها : قيل ما أراه في ليلة المعراج من العجائب والآيات ، قيل: هي رؤيا عين ، وقيل: رآه بروحه دون بدنه . {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، فإنهم حين سمعوا بقوله: { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ } جعلوها سخرية ، وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ، ثم يقول ينبت فيها الشجر ، وما قدروا الله خق قدره إذ قالوا ذلك، فإنه لا يمتنع أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار ، كيف و{قد} خلق الله من الشجر نارا فلا تحرقها ، وترى النعامة تبتلع الجمر فلا يضرها ، فجاز أن يخلق الله في النار شجرة لاتحرقها . والمعنى: أن الآيات إنما ترسل تخويفا للعباد ، {وَنُخَوِّفُهُمْ} بمخاوف الدنيا والآخرة ، {فَمَا يَزِيدُهُمْ} التخويف{إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات ؟ فإذا قلت: ليس في القرآن ذكر لعن شجرة الزقوم ، قلت: معناه: المعلون آكلها ، وهو من كفر بالله ، لأنه قال: { فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } ، فوصفت بلعن أهلها على المجاز ، ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة ، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة .

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ: اسْجُدُواْ لآدَمَ ، فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ : أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ؟ قَالَ : أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي: فضلته وكرمته علي ، (لعله) لما علم إبليس أن الكرامة الحقيقية هي صحة الاستقامة على التوحيد ، توعد على ذريته أن ينزلهم عن رتبة ما كرموا به عليه إلى أسفل سافلين ، بقوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} لأستأصلنهم بإغوائهم ، (لعله) ولأستولينهم ، بمعنى: أتولاهم ، {إَلاَّ قَلِيلاً} وهم المخلصون ، وإنما علم الملعون ذلك ، لأنه رآه أنه خلق شهواني ، فجميع أحواله الظاهرة والباطنة ، وأفعاله وأقواله شهوانية.

{قَالَ : اذْهَبْ} أي: امض لِشأنك الذي اخترته ، خذلانا وتخلية ، {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ، وَاسْتَفْزِزْ} استزل واستخف ، استفزه ، أي استخفه ، والفز: الخفيف ، {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} بالوسوسة والدعاء إلى معصية الله ، {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} اجمع وضج بهم ، من الجلبة والحشر ، أي: احشر عليهم . قال مقاتل: " استعن عليهم بركبان خيلك ومشاتهم" ، والخيل له خيل{كذا} ، ورجل من الجن والإنس ، وذلك استعارة ، أي: اقضي ما يستطاع في طلب الأمور الخيل والرجل ، وقيل: يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال ، {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} قال الزجاج:" كل معصية في مال وولد فإبليس شريكهم ". {وَعِدْهُمْ} المواعيد الكاذبة ، الدينية والدنيوية ، ومن ذلك ما يعدهم بالغفران مع الإصرار ، وبقبول الطاعة مع المعاصي ، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} وهو تزين الخطإ بما يوهم أنه صواب.

{إِنَّ عِبَادِي} الصالحين {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} لأنه ليس سلطان إلا من يجعل له سبيلا من ذات نفسه ، وهو إعانة المخلوق نفسه إلى ما يدعوه من شهواتها ، {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} لهم ، أي: حافظا لهم عنك.

{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} يجري ويسير {لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أي: خوف الغرق ، {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} ذهب عن أوهامكم كل من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده ، فإنكم لا تذكرون إلا سواه ، أو ضل من تدعون من آلهة عن إعانتكم ، ولكن الله وحده هو الذي ترجونه ، {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عن الإخلاص بعد الخلاص ، {وَكَانَ الإِنْسَانُ} أي: جنس الإنسانية {كَفُورًا} للنعم.

{أَفَأَمِنتُمْ} الهمزة للإنكار ، تقديره :" أنجوتم فأمنتم " ، (لعله) فحملكم ذلك على الإعراض ، {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} والمعنى: أن يخسف جانب البر ، أي: يقلبه وأنتم عليه ، والحاصل أن الجوانب كلها في قدرته سواء ، وله في كل جانب برا وبحرا سبب من أسباب الهلاك ليس ... . فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب ، والحالات كلها ، {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} هي الريح التي تحصب ، أي: ترمي بالحصباء ، يعني: أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء ، {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} مانعا يصرف عنكم ذلك.

{أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى ، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} أي: أم أمنتم أن يقوي دواعيكم ، ويوفر حوائجكم ، ويهيىء أسبابكم ، إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه ، فأعرضتم ، فينتقم منكم بأن يرسل عليكم {قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ} وهي الريح التي لها قصيف ، وهو: الصوت الشديد ، أو هو الكاسر للفلك ، {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} بكفرانكم النعمة ، وهو إعراضكم حين نجاكم ، {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} مطالبا ، من قوله: { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أي مطالبة.

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} بالعقل ، والنطق ، والحظ ، والصورة الحسنة ، والقامة المعتدلة ، وتدبير أمر المعاش والمعاد ، وتسخير المخلوقات . قال الواسطي: " معناه : بأن سخرنا لهم الكون وما فيه ، لئلا يكونوا في تسخير شيء ، ويتفرغوا إلى عبادة ربهم". {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} باللذيذات ، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ، لأنه خلق الكل لهم ، وخلقهم لنفسه ولعبادته ، وأن يوحدوه ويطيعوه ، فيثيبهم الثواب الأبدي.

{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين ، أو كتاب أو دين ، وقيل: بأعمالهم ، وقيل: بكتابهم الذي فيه أعمالهم بدليل سياق الآية ، وقيل: بإمام زمانهم ، (لعله) الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى . {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء ، ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم بشمالهم اكتفاء بقوله:

{وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى} عما يرى من قدرتي في مصنوعاتي ، وهو يتناول عمى البصيرة في الدنيا، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ} من عمى الآخرة وهو غيب عنه {كذا} ، {أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} من الأعمى ، أي: أضل طريقا ، وقيل: الإشارة في هذه راجعة إلى النعم التي عددها عزوجل في هذه الآيات من قوله: {يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ....} إلى قوله:{... تَفْضِيلاً} ، يقول: من كان في هذه النعم قد عاينها أعمى ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.

{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} المعنى: أن الشان قاربوا أن يفتنوك ، أي: يخدعوك فاتنين { عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} بالقول أو الفعل ، { وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي: وإن اتبعت مرادهم لاتخذوك خليلا ، ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي.

{ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا ، { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إلى مكرهم { شَيْئًا قَلِيلاً} والشيء القليل مما يخاف منه ، لأنه من خفيات المعاصي ودقائقها ، ولا يميزه إلا الراسخون في العلم. { إِذاً} لو ركنت إليهم في أقل شيء من خفيات الكبائر ، لأن الصغائر مغفورة للعبد إن كان مجتنبا للكبائر ، بقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا } . { لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، أي: لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات ، أي: أضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ، وقيل: الضعف من العذاب سمي ضعفا لتضاعف الإثم فيه. { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} مانعا لك يمنع من عذابنا عنك ، وفي هذه الآية تحذير عظيم يحمل المؤمن على الرسوخ في العلم ، والحذر من الشيطان الرجيم ، ومن شباكه ومكايده الدقيقة الملتبسة بالحق.

{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجوك بعداوتهم ومكرهم ، {مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا،وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} بعدك ، {إِلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ، وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } .

{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لزوالها ، , وأصل الدلوك : الميل . {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاة الفجر ، سميت قرآنا ، وهو القراءة فيها لكونها ركنا ، كما سميت : ركوعا وسجودا ، أو سميت قرآنا لطول قراءتها . والغسق: ظلمة أول الليل. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قيل: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء ، وهو في آخر ديوان الليل ،وأول ديوان النهار.

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ} أي: قم بعد نومك ، والتهجد لا يكون إلا بعد النوم. {بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} عبادة زائدة لك على الصلوات ، والتهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد ، والمعنى: أن التهجد زيد لك على الصلاة المفروضة عنيمة لك ، {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.

{وَقُل : رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} قيل: أدخلني في طاعتك (لعله) صادقا ، وأخرجني من معاصيك صادقا ، ويحتمل فيه: أدخلني في الأمور صادقا ، وأخرجني منها صادقا ، أي: بنية وإخلاص لمرضاتك ، وأخرجني مخرج صدق ، {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} حجة تنصرني على من خالفني ، وينصرني من اتبعني.

{وَقُلْ : جَاء الْحَقُّ} ظهر وثبت، {وَزَهَقَ} ذهب وهلك {الْبَاطِلُ} الشرك ، لأن الشرك يخنس عند ظهور الحق عليه ، وهو التوحيد . {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} مضمحلا عند مجيء الحق ، لأنهما ضدان لا يجتمعان في حال ، مثل النور والظلمة.

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} لأمراض القلوب ، وأهوية النفوس ، لأنهما من دعوة إبليس ، ولا تأثير لها عند قبول الحق. {وَرَحْمَةٌ} وتفريج للكروب ، وتطهير للعيوب ، وتكفير للذنوب ، {لِّلْمُؤْمِنِينَ} لا لغيرهم . في الحديث:" من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه للله" . {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} ضلالا لتكذيبهم به ، قيل: زيادة الخسار للظالم من حيث أن كل آية تنزل ، يقع منه لها تكذيب ، فيزداد عليه بذلك خسران.

{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ} بالصحة والسعة ، {أَعْرَضَ} عن ذكر الله ، أو أنعمنا عليه بالقرآن وتأويله ، {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء: أن يوليه عرض وجهه ، والنائي بالجانب أن يلوي عنه عنقه ، ويوليه ظهره ، أو أراد الاستكبار ، لأن ذلك من عادة المستكبرين ، وقيل: ناء بجانبه ، أي: تباعد عنا بنفسه ، أي: ترك التقرب (لعله) إلى الله تعالى. {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} ضد الخير والنعمة ، {كَانَ يَؤُوسًا} شديد اليأس من روح الله.

{قُلْ :كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، وقيل: على نيته ، ومجاز الآية: كل يعمل على على ما يشتهيه ، كما يقال في المثل:" كل امرىء يشبهه فعله" ، {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} أوضح طريقا.

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ، قُلِ : الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من الأمر الذي يعلمه ربي. الجمهور : على أنه الروح الذي في الحيوان ، سألوه عن حقيقته ، فأخبر أنه من أمر الله ، أي: مما استأثر بعلمه . وعن أبي يزيد :" لقد مضى النبي وما يعلم من الروح ، وقد عجزت الأقاويل عن إدارك ذاتيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه". والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدارك معرفة مخلوق مجاور له ، ليدل على أنه عن إدارك خالقه أعجز ، وقوله: { مِنْ أَمْرِ رَبِّي} دليل على خلق الروح ، فكان هذا جوابا . {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قال أبو سعيد العماني:" قد قيل: فيما يروى أنه لما كان من أمر موسى والخضر وإذا الافتراق ، نزل عليهما طير من السماء إلى البحر أو إلى الأرض فأخذ بمنقاره من البحر أوالأرض ، فقال الخضر لموسى: أتعرف يا موسى ما هذا الطير ؟ أو ما يراد به؟ قال: موسى لا أعرف ذلك ، قال: هذا أرسل إلينا ليعرفنا ، أو يعلمنا أن جميع علم ما خلق الله من أهل الأرض وغيرهم ، مع علم الله مثل ما احتمل بمنقاره من البحر ، ولا نبلغ ذلك" ، هكذا عندي على معنى الرواية ، لا على اللفظ.

{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} المعنى: ولئن شئنا ذهبنا بالقرآن ، ومحوناه عن الصدور والمصاحف ، فلم نترك له أثر . وقال بعض أهل المعاني: المعنى : أنه إذا خالف الذي أوحي إليه بحرف واحد من الدين ، فقد أذهب عنه ما أوحي إليه. ولو بقي في صدره فلا ينفعه ، إذ حقيقة العلم هو العمل ، وما يدل على هذا المعنى قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} يعينك وينصرك منا. {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قيل: هذا استثناء منقطع ، معناه: لكن لا يشاء ذلك ، رحمة من ربك ، {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} لأن فضل القرآن كبير.

{قُل: لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } معينا ، أي: لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل القرآن في بلاغته ، وحسن نظمه وتأليفه ، لعجزوا عن الإتيان بمثله. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} رددنا وكررنا {لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} من كل معنى ، هو كالمثل في غرابته وحسنه ، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} جحودا وتواريا ، كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورا.

ولما تبين إعجاز القرآن ، وانضمت إليه المعجزات الأخر ، ولزمتهم الحجة وغلبوا ، اقترحوا الآيات ، فعل المبهوت المحجوج المتحير ، {وَقَالُواْ : لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نصدقك {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا} عينا غزيرة ، من شأنها أن تنبع الماء لا تنقطع ، نقول: من نبع الماء. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا} وسطها {تَفْجِيرًا ، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} أي: قطعا ، {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} كفيلا ، أي: يكفلون بما تقول ، وقيل: ضامنا ، وقيل، هو جميع القبيلة ، أي: بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، وقيل: عيانا ، أي: نراهم مقابلة.

{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}ذهب ، وهو أصل الزينة وأغلاها ، {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء} تصعد إليها ، {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} من السماء فيه تصديقك {نَّقْرَؤُهُ ، قُلْ : سُبْحَانَ رَبِّي} تعجب من اقتراحهم عليه، {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} أي: أنا رسول كسائر الرسل ، بشر مثلهم ، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات ، فليس أمر الآيات إلي إنما هو إلى الله.

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ} أي: وما منعهم الإيمان بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم: {أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً}؟أي: إلإ شبهة تمكنت في صدروهم ، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر ، فاستوت حجابا على عين البصيرة ، فلم تبصر الحق.

{قُل : لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ} على أقدامهم كما يمشي الإنس ، ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء ، فيسمعوا من أهلها ، ويعلم ما يجب علمه ، {مُطْمَئِنِّينَ} أي: ساكنين في الأرض قارين ، {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم} من جنسهم ، لأن القلب إلى الجنس أميل منه إلى غير الجنس ، {مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً} يعلمهم من الله الخير ، ويهديهم المراشد ، فأما الإنس فإنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة ، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم.

{قُلْ :كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} على أن بلغت ما أرسلت به إليكم ، وإنكم كذبتم وعاندتم ، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ} المنذرين والمنذرين {خَبِيرًا بَصِيرًا} .

{وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} أي: من فقه الله لقبول ما كان من الهدى ، فهو المهتدي عند الله ، {وَمَن يُضْلِلْ} أي: ومن يخذله ولم يعصمه، {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ} أي: أنصارا ، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي: يسحبون عليها {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ، ويتصامون عن استماعه ، فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما تقر به أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، ولا ينطقون ما يقبل منهم ، {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} طفىء لهبها {زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} توقدا.

{ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} بحججنا {وَقَالُواْ : أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} ؟ فأجابهم الله : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} من الإنس ، {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ، فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا}.

{قُل : لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} رحمة رزقه ، وسائر نعمه على خلقه ، {إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ} أي: لبخلتم خشية أن يفنيه(لعله) الإنفاق ، {وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا} بخيلا.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ، فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ ، فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ : إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} سحرت فخولط عقلك ، وقيل: مخدوعا ، وقيل: مصروفا عن الحق ، وقيل: ساحر ، فوضع المفعول موضع الفاعل ، وقيل: معطي السحر بهذه العجائب التي تفعلها من سحرك.

{قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء} الآيات ، {إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} أي: بينات مكشوفات ، ولكنك معاند ، ونحوه: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } ثم قارع ظنه بظنه ، بقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} كأنه قيل: إن ظننتني مسحورا ، فأنا أظنك مثبورا ، وظني أصح من ظنك ، لأن له أمارة ظاهرة، وهي إنكارك (لعله) ما عرفت صحته ، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها ، وأما ظنك فكذب(لعله) ومكابرة .وقال الفراء: " مثبورا:مصروفا عن الخير ، ومن قولهم: ما ثبرك عن هذا ، أي: ما منعك وصرفك ". وقيل: ملعونا.

{فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم} يخرجهم{مِّنَ الأَرْضِ} أرض مصر ، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل ، {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} فحاق بهم مكرهم . {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : اسْكُنُواْ الأَرْضَ ، فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} جميعا مختلطين إياكم وإياهم ، ثم يحكم بينكم ، ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم . واللفيف: الجماعات من قبائل شتى.

{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي: فصلناه ، أو فرقنا فيه الحق من الباطل ، وقيل: نزلناه، نحو ما لم ينزل مرة واحدة{كذا} ، بدليل قراءة ابن عباس على ما يوجد عنه :{ فَرَقْنَاهُ} بالتشديد . وقيل: بالتخفيف ، أي: فصلناه.

{ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} على تؤدة وتثبت ، ليخلص لهم سره . { وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} على حسب الحوادث.

{ قُلْ : آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} أي: اختاروا لأنفسكم النعيم المقيم ، أو العذاب الأليم ، ثم علل بقوله: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أي: التوراة من قبل القرآن ، { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن ، أو العلم الذي أوتوه { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} أي: يسقطون على الأذقان . قال ابن عباس:" أراد بها الآخرة"{كذا}.

{ وَيَقُولُونَ :سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} لقوله: { آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} أي: أعرض عنهم، فإنهم إن لم يؤمنوا ولم يصدقوا فإن {أناسا} خير منهم ، وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب ، قد آمنوا به وصدقوا. { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} ومعنى الخرور للذقن: السقوط على الوجه ، وإنما خص الذقن ، لأنه أقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض عند السجود ، { وَيَزِيدُهُمْ} أي: القرآن { خُشُوعًا} خضوعا ، ولين قلب ، ورطوبة عين. ومعنى الخشوع : الانقياد لله(لعله) عن عادته التي ألفها طبعه ، كما يقال: خشع الغصن من الشجرة.

{ قُلِ : ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ} قيل : لما سمعه أبو جهل يقول: " يا الله يا رحمن" ، قال:" إنه نهينا أن نعبد إلهين ، وهو يدعو إلها آخر" ، نزلت. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا:" إنك لتقل ذكر الرحمن ، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم " ، فنزلت . والدعاء: بمعنى التسمية ، لا بمعنى النداء.

"أو": للتخيير، أي: سموا بهذا الاسم أو بهذا ، أو اذكروا إما هذا وإما هذا ، { أَيًّا مَّا تَدْعُواْ} أي هذين الاسمين ذكرتم وسميتم ، { فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} الضمير في في"فله" يرجع إلى ذات الله تعالى. قوله:{ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} ، لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منهما ، ومعنى كونها أحسن الأسماء ، أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم.

{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} كأنه يخرج في المعنى لا تراء بصلاتك الناس ، { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي: لا تتركها حياء من الناس ، والله أعلم بتأويل كتابه ، وقيل: غير ذلك ، { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} اقصد بها وجه الله ، واجعل الناس كالعدم حضورا (لعله حضروا) او غابوا ، أو معناه: ولا تجهر بصلاتك كلها ، ولا تخافت بها كلها ، وابتغ بين ذلك سبيلا ، بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النهار ، قيل: لأنها عجمى.

{ وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ، وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما زعم المشركون ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ} أي: لم يذل فيحتاج إلى ناصر ، { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} وعظمه ، وصفه بأنه أكبر بأن يكون له ولد أو شريك.