بسم الله الرحمن الرحيم     

 

{الَر كِتَابٌ} أي: هذا كتاب ، يعني : السورة والجملة التي هي .. {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ} بدعائك إياهم  ، {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الضلالة إلى الهدى {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بتيسيره وتسهيله ، من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب ، وذلك ما يمنحهم من التوفيق ، {إِلَى صِرَاطِ} بدل من "النور" {الْعَزِيزِ} الغالب بالانتقام ، {الْحَمِيدِ} المحمود على الإنعام .

 

{اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} خلقا وملكا ، {وَوَيْلٌ} وهو نقيض النجاة {لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} لعله في الدارين.

{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} يختارون ويؤثرون {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} طاعته ، {وَيَبْغُونَهَا} أصله: ويبغون لها ، {عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} عن الهدى ، ولو استحب الحياة الدنيا على الآخرة بحرف واحد من دين الله ، وهو أن يترك له أمرا مما أمره به ، أو يرتكب له نهيا مما نهاه عنه ، فقد آثر الحياة الدنيا (لعله) على موافقة حكم الله في ذلك الحرف ، وصد نفسه عن سلوك سبيل الله وعوج سبيل الله المستقيمة . (لعله) ومن سلك باعوجاجه هو عنها وزينت له سبيله العوجاء بهواه وعمائه ، وظن أنها مستقيمة ، وهو يمشي إليها مكبا على وجهه ، كما قال:{ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء} منزلته التي كان عليها ، { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }.

 

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إلا متكلما بلغتهم ليفهموا عنه ، {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ما هو مبعوث به وله ، لئلا يكون لهم حجة على الله ، وأن يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به ، فإن قلت: إن رسولنا عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس جميعا بقوله :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } بل إلى الثقلين ، قلنا : نزوله بجميع الألسنة ، أو وبواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، فإن الترجمة تنوب عن ذلك ، وكان لسان قومه أولى بالتعبير ، لأنهم أقدر على التعبير ، {فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء} من آثر (لعله) أسباب الضلال ، {وَيَهْدِي مَن يَشَاء} من آثر أسباب الاهتداء ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يغلب على مشيئته {الْحَكِيمُ} لا يخذل إلا من خذل نفسه ، وإذا لم تكن حجة لجني ولا لعجمي في مخالفة الحق بالعرب الذين أنزل الكتاب بلغتهم ، لأن إنزاله على كافة الثقلين – من الجن والإنس ، والعرب والعجم ، والحضر والبدو ، والذين شاهدوا الرسول ، والذين غابوا عن الرسول في حياته ، أو حدثوا بعد وفاته إلى يوم القيامة – واحد ، لأنه مرسول إليهم كافة بقوله: {  قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } والجن داخلون في جميع ما خاطب الله به الناس.

 

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا ، أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ} وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، أو بأيام الإنعام ، أوبأيام الحساب والجزاء . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} (لعله) على البلايا ، {شَكُورٍ} على العطايا.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ : اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} لتشكروها ، {إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} يتركونهن أحياء للخدمة ، {وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} الإشارة إلى العذاب ، والبلاء : المحنة ، وإلى الإنجاء ، والبلاء: النعمة ، { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }.

 

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أي: أذن ربكم إيذانا بليغا تنتقي عنده الشكوك والشبهات . {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} نعمة إلى نعمة ، فالشكر: " قيد الموجود ، وصيد المفقود" ، وإذا سمعت النعمة نعمة الشكر تأهبت للمزيد {كذا}. وقال ابن عباس :" لئن شكرتم بالجد في الطاعة ليزيدنكم بالجد في المثوبة" ، {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} لمن كفر نعمتي ، أما في الدنيا فسلب النعم ، وأما في العقبى فتوالي النقم.

 

{وَقَالَ مُوسَى: إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وإن لم يحمده الحامدون.

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ} والمعنى: أنهم من الكثرة لا يعلم عددهم إلا الله ، وروي أنه عليه السلام قال عند نزول هذه الآية :" كذب النسابون".

{جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الواضحات ، {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} ، أي: أخذوا أناملهم بأسنانهم ، أو عضوا عليها تغيظا ، {وَقَالُواْ: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} من الإيمان بالله والتوحيد له ، {مُرِيبٍ} موقع في الريبة.

 

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى ؟ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} لا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوة دوننا ، {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} ، أي: يتبعون أهواءهم بغير الحق ، ولا يعتقدون فيما بينهم دينا ولا إسلاما ، {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة بينة ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، وإنما أرادوا بالسطان المبين : آية قد اقترحوها تعنتا وتواريا عن الحق.

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} في الحق تسليم لقولهم: إنهم بشر مثلهم ، {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} بالإيمان والنبوة والرسالة والعلم . {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} جواب لقولهم :" فأتونا بسلطان مبين " ، والمعنى : أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ، ولا في استطاعتنا ، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله ، {وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم.

 

ألا ترى إلى قوله:{ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ} أي: وأي عذر لنا في أن لا نتكل على الله ، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} ، وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين .

قال أبو تراب:" التوكل : طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والشكر عند العطاء ، والصبر على البلاء " ، {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} ، أي: (لعله) صمموا على الصبر على أذاهم ، وأن لا يعرجوا على سلوك طريقتهم إلى رضى مولاهم ، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي: فليثبت المتوكلون على توكلهم.

 

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ : لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ} من ديارنا ، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي: ليكونن أحد الأمرين : إخراجكم ، أو عودكم ، وهكذا عادة المختلفين في الدين . {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ : لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} أي: أرض الظالمين ، وديارهم . في الحديث :" من آذى جاره ورثه الله داره" ،  {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} بالجزاء.

 

{وَاسْتَفْتَحُواْ} واستنصروا الله على أعدائهم بالدعاء والمجاهدة ، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} وخسر كل متكبر بطر{عَنِيدٍ} مجانب للحق ، معناه فنصروا وظفروا وخاب كل جبار عنيد ، وهم قومهم.

{مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} من بين يديه وهو على شفيرها {وَيُسْقَى} تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى {مِن مَّاء صَدِيدٍ} ماء يسيل من جلود أهل النار.

{يَتَجَرَّعُهُ} يشربه جرعة جرعة لمرارته وحرارته {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة؟! كقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي: لم يقرب من رؤيتها ، فكيف يراها؟! ، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي: أسباب الموت من كل جهة ، أو من كل مكان من جسده ، حتى أصول شعره وإبهام رجليه ، وقيل: يأتيه الموت من قدامه وورائه ويمينه وشماله ، وهذا تفظيع لما يصيبه من الآلام ، أي: لو كان ثمة موت لكان منها مهلكا ، {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} فيستريح ، لأنه لو كان هنالك موت لكان نعمة لأهل النار ، لأنه أسرع انقضاء من العذاب المؤبد ، {وَمِن وَرَآئِهِ} ومن بين يديه {عَذَابٌ غَلِيظٌ} ، أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ ، وقيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الإجساد ، وقيل" العذاب الغليظ " : الخلود في النار.

 

{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة ، {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أعمال الكفرة ، المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام ، وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وأداء الفرائض ، والتوسل بالوسائل وحسن (لعله) الأخلاق للناس ، شبهها في حبوطها لبنائها على غير أساس ، وهو استكمال الطاعة برماد طيرته الريح العاصف ، {لاَّ يَقْدِرُونَ} يوم القيامة {مِمَّا كَسَبُواْ} من أعمالهم {عَلَى شَيْءٍ} أي: لا يرون له أثرا من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير في الجو بالريح على شيء ، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الثواب.

 

{أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم الخطاب لكل أحد ، {أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ} بالحكمة لأمر عظيم لو علمتم ، لا عبثا ولا لعبا . {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} إن عصيتم ، {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أطوع ، أي: قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر ، اعلم بأنه قادر على إعدام الموجود ، وإيجاد المعدوم ، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.

{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا} يبرزون يوم القيامة من قبورهم ، لأمر الله ومحاسبته ، ومعنى بروزهم لله – والله تعالى (لعله) لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له _ ولكن كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم ، وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية ، وأخرجوا من قبورهم لحساب الله وحكمه وجزائه.

 

{فَقَالَ الضُّعَفَاء} في الرأي ، وهم السفلة والأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} وهم السادة والرؤساء ، الذين استغووهم ، وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم ، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} تابعين ، {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ}؟ فهل تقدرون على دفع شيء مما نحن فيه؟ كأنه قيل: فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء ، الذي هو عذاب الله ، {قَالُواْ} لهم {لَوْ هَدَانَا اللّهُ} إلى الإيمان في الدنيا ، {لَهَدَيْنَاكُمْ} إليه ، {سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} مهرب.

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} حكم بالجنة والنار لأهليهما ، وكان قوله على سياق قول الذين ... الخطاب من الشيطان جواب لأهل النار إذا سألوه أن يغني عنهم من عذاب الله من شيء ، كما سأل الضعفاء الذين استكبروا ، {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى بما وعد ، {وَوَعَدتُّكُمْ} بأن لا بعث ولا حساب ، {فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} من تسلط واقتدار {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} لكني دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي في تزييني ، {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} فأسرعتم إجابتي ، {فَلاَ تَلُومُونِي} ، لأن من تجرد للعداوة لا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح ، مع أن الله قال لكم : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } ، {وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان ، ولا جبر ولا سلطان ، {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثكم ، {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بمغشي ، أي: لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه ، والإصراخ: الإغاثه . {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} ، أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم ، أي: في الدنيا ، لقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } ، ومعنى كفره بإشراكهم إياه : تبرؤه منه ، واستنكاره له ، كقوله: { إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} ، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة غير الله ، وهذا آخر قول الشيطان ، وقوله : {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قول الله عزوجل ، وقيل: هو من تمام قول إبليس ، وإنما حكى الله عزوجل ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون لطفا للسامعين.

 

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} من كل نقص وآفة.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً} أي: وصفه وبينه ، {كَلِمَةً طَيِّبَةً} لقائلها : هي كلمة الحق وقول الصدق ، {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي: في الأرض ، ضارب بعروقه فيها ، {وَفَرْعُهَا} وأعلاها ورأسها {فِي السَّمَاء} . والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد ، أصلها تصديق بالجنان ، وفرعها إقرار باللسان ، وأكلها عمل الأركان ، والشجرة : هي النخلة فيما قيل.

 

{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} تعطي ثمرها كل وقت لأن الموحد منعم على أي حال كان ، وفي أي حين كان ، (لعله) لو اعتبرت أحواله ، {بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكر وتصوير للمعاني.

 

{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} لقائلها ، هي كلمة الكفر ، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} قيل: إنها شجرة الحنظل ، {اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ} استؤصلت جثتها ، وحقيقة الاجتثاث : أخذ الجثة كلها ، وهو في مقابلة: أصلها ، {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} استقرار ، يقال: قر الشيء قرارا ، كقولك ثبت ثباتا ، شبه بها القول (لعله) الذي لم يعضد بحجة ، فهو داحض غير ثابت.

{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} بالجزاء {كذا} ، أي: يديمهم عليه ، {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ، وهو قول الحق {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} حتى إذا فتنوا (لعله) على دينهم لم يزلوا ، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود ، {وَفِي الآخِرَةِ} عند البعث ، {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} ، فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم أول شيء ، وهم في الآخرة أضل وأزل ، {وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين.

 

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا} لأنهم وضعوا مكان شكرها كفرا ، كأنهم غيروا الشكر(لعله) بالكفر ، حتى استحالت النعمة نقمة في حقهم ، وهذا عام لجميع الكافرين ، لأن جمع الخلق إما شاكر للنعمة ، وهو الذي يتوصل بها إلى النعمة الإبدية ، وإما كافر لها ، فهو في عذاب الله وغضبه في الدنيا والآخرة ، {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ} الذين تابعوهم على الكفر {دَارَ الْبَوَارِ} دار الهلاك. {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} وبئس المقر جهنم.

 

{وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا} أمثالا في العبادة أو في التسمية ، {لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ، قُلْ : تَمَتَّعُواْ} بعبادة آلهتكم متاع الحياة الدنيا. قال ذو النون : "التمتع: أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته ". {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} لأن الكافر يتمتع بنعمة الله في الدنيا وتنقطع عنه في الآخرة ،

فلا توصله إلى النعيم الدائم ، بل تكون سبب عذابه في الآخرة ، فلذلك يعذبه الله بها في الحياة الدنيا ، كما قال:{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }.

 

{قُل لِّعِبَادِيَ} وقيل: بسكون الياء ، خصهم بالإضافة إليه تشريفا ، {الَّذِينَ آمَنُواْ : يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}.

{اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} إن شكرتموه ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} دائمين أصلا ، (لعله) للأرض والنبات والأبدان ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يتعاقبان خلفة ، لمعاشكم وسباتكم ومعادكم.

 

{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} لعل سؤالهم له بلسان الحال ، وذلك أنهم لا يصلحون إلا به ، لأنه هو خالقهم وأعلم منهم بأنفسهم وإمدادهم ، وما لا بد لهم منه ، ودليل ذلك قوله ، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا  } ، فكيف سألوه ما لا يعلمونه ؟ ولكن الله خلق خلقه ، وخلق لهم جميع ما لابد لهم منه في علمه تبارك وتعالى ، علموه أو جهلوه ، فكأنهم سألوه ما لا بد لهم منه . {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} لا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها ، إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال ، وأما على التفصيل فلا يعلمه إلا الله ، {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ} يظلم النعمة بإغفال شكرها ، لأن جميع طباع نفسه ظلم وكفر ، {كَفَّارٌ} لجميع نعم الله التي ذكرت ، والتي لم تذكر ، لأن جميع النعم خلقت لأجله ، وخلق هو أن يطيع الله بشكره للنعم كلها ، فإذا أطاع الله وشكرها استغفرت له موافقة لخالقها ، وإذا كفرها لعنته بأمر الله ، لأنها مطيعة غير عاصية.

 

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا ، وَاجْنُبْنِي} وبعدني ، أي: ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها ، {وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} وهي: كل ما عبد من دون الله ، من شيطان أو نفس أو هوى ، أو صنم حجر أو خشب أو غير ذلك ، لكنه يبعد في القلوب عن إبراهيم وبنيه وأمثالهم عليهم السلام أن يتخذوا أصناما آلهة من خشب أو حجر أو جماد من دون الله ، ولكن الخوف من أهوية النفوس ، لأنها أضلت كثيرا من الناس ، ولم يكن ثم ضلالة إلا منها ، كما قيل شعرا:

                لولا الهوى ما هوى في النار إنسان

 

{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} جعلن مضلات على طريق التسبب ، لأن الناس ضلوا بسببهن ، وكأنهن أضللنهم ، {فَمَن تَبِعَنِي} على ما أنا عليه {فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: هو بعضي ، لفرط اختصاصه ، {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب من معصيته.

 

{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} بعض أولادي {بِوَادٍ} هو وادي مكة {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} لا يصلح الزرع ، {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} ، أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك ، وكذلك قد أسكن الله خلقه في أرضه ليوحدوه ويعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا ، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} تسرع إليهم ، وتطير نحوهم شوقا ، {وتكون} سببا لأرزاقهم ، قيل: ولو قال:" أفئدة الناس" ، لزاحمتكم فارس والروم والترك {و} الهند ،ولكنه قال: { أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ} وهم المسلمون ، { وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} مع سكناهم واديا ما فيه شيء منها ، بأن يجلب إليهم من البلاد الشاسعة ، { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} النعمة ولا يكفرون.

 

{ رَبَّنَا} النداء المكرر دليله: التضرع والإلجاء إلى الله ، { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} ، لأنه العالم علما ذاتيا ، تستوي نسبته إلى كل معلوم ، { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} ، المعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم بنا منا بأنفسنا ، فلا حاجة بنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك ، وافتقار إلى رحمتك.

 

{ الْحَمْدُ لِلّهِ} أي: المستحق للحمد وإن لم يحمده حامد ، { الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } عبادتي . { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} للجزاء.

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} تسلية للمظلوم ، وتهديد للظالم ، { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} أبصارهم لا تقر في أماكنها من هول ما ترى.

 

{ مُهْطِعِينَ} مسرعين إلى الداعي ، { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} رافعيها ، { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} ، أي: لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، فهي شاخصة ، قد شغلهم ما بين أيديهم . { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} صفر من الخير ، لا تعي شيئا ، من الخوف ، وحقيقة المعنى: أن العقول زائلة عن أماكنها ، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم.

 

{ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} عند قبض أرواحهم ، أو يوم القيامة ، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ : رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} أي: أمهلنا إلى حد قريب نتدارك ما فرطنا فيه ، من إجابة دعوتك واتباع رسلك، فيقال لهم : {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} المعنى: أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت ، ولعلهم أقسموا بطرا وغرورا ، إذ دل عليه حالهم حيث بنوا شديدا ، وأملوا بعيدا ، وقيل: أقسمتم أنكم إذا متم لا تبعثون ، كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ } ، ويحتمل أنهم أقسموا في الحياة الدنيا أنهم مالهم من زوال عن الطاعة ثم عصوا ، والله أعلم بتأويل كتابه.

 

{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر أي: أقروا فيها واطمأنوا ، طيبي النفوس ، سائرين بسيرة من قبلهم من الظلم والفساد ، لا يحدثونها بما وقع على الأولين ، فكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا ، {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ} بالأخبار والمشاهدة ، {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} ، أي: أهلكناهم وانتقمنا منهم ، {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} ، أي: صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم.

 

{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} أي: مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ، وفنوا عليه أعمارهم ، وأشغلوا به دهرهم ، وهو ما تهواه نفوسهم من تأييد الكفر وبطلان الإسلام ، {وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ} ، أي:جزاء مكرهم ، أو وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون ، {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} وهو معنى قوله: { وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا  ، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } لتحطم الماكر أن لو يأذن الله لها ، وقيل: إن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه ، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا ، وقيل: التقدير وإن وقع مكرهم لزوال أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فعبر (لعله) عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجبال لعظم شأنه ، {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} ، معنى قوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} ، {إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ} غالب لا يماكر ، {ذُو انْتِقَامٍ} لأوليائه من أعدائه.

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ} قرن بعضهم مع بعض ، أو مع الشياطين ، أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين {فِي الأَصْفَادِ} ، المعنى: مقرنين مصفدين ، والأصفاد: القيود والأغلال.

 

{سَرَابِيلُهُم} قمصهم {مِّن قَطِرَانٍ} هو ما يتحلب من شجر يسمى: الأبهل ، فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحره وحدته ، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فيطلى به جلود أهل النار ، يعني يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ، فيجتمع عليهم لذع القطران ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ونتن الريح ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ،  وكل ما وعده الله أو أوعد به في الآخرة فبينه وبين ما يشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عنده إلا الأسامي {و}المسميات ثمة ، نعوذ بالله من سخطه وعذابه. وقيل: القطران نحاس مذاب بلغ حره أناه ، {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} تعلوها باشتعالها ، وخص الوجه ، لأنه أعز موضع في ظاهر البدن ، كالقلب في باطنه ، ولذا قال: { تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ }.

 

{لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من خير وشر ، {إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحاسب جميع العباد في أسرع من لمح البصر.

{هَـذَا} أي: هذا القرآن ، ما ذكره في هذه السورة ، {بَلاَغٌ} أي: تبليغ وعظة لهم ، {لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} لأنهم إذا خافوا ما أنذورا به دعتهم المخافة إلى النظر ، حتى يتوصلوا إلى التوحيد لأن الحسنة أم الخير كله ، بل أقول إذا(لعله) وجدوا اخافوا . {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذوو العقول لا غيرهم.