طباعة
المجموعة: التفسير الميسر
الزيارات: 1748

بسم الله الرحمن الرحيم     

 

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} " تلك " : إشارة إلى آيات السورة ، و"الكتاب المبين" السورة ، أي: تلك الآيات التى أنزلت إليك في هذه السورة ، آيات السورة الظاهرة أثرها في إعجاز العرب ، أو التي تبين لمن يدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها.

 

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (لعله) مفهوما ومحفوظا لمن تدبره وكرره ، {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا معانيه ، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا : لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ }.

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} نبين لك أحسن البيان ، والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها ، والقصص في كلام العرب: هو اتباع الأثر ، قال عزوجل : { وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ } أي: اتبعي أثره ، والله أعلم.{ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ} أي: بإيحائنا إليك هذه السورة ، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم ، والعجائب التي ليست في غيرها ، {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} عن هذه القصة ، لم تخظر ببالك ولم تقرع سمعك.

 

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ : يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} قيل: هما أبواه ، والكواكب: إخوته{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} أي: متواضعين ، {قَالَ : يَا بُنَيَّ ، لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ،فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} عرف يعقوب أن الله يصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين ، فخاف عليه حسد إخوة بتفطنه في عواقب الأمور ، أو بوحي من الله ، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة ، فيحملهم على الحسد والكيد لا محالة ، متى وجد سبيلا وسببا ، وهذا من أسبابه.

 

{وَكَذَلِكَ} ومثل ذلك الاجتباء الذي دل عليك رؤياك .{ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يصطفيك ، والاجتباء : الاصطفاء ، افتعال من اجتبيت الشيء: إذا حصلته لنفسك ، وجبين الماء : في الحوض إذا جمعته فيه ، {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} قيل: تأويل الرؤياء ، وتأويلها: عبارتها وتفسيرها ، أو تأويل أحاديث الأنبياء وكتب الله ، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإتقان الحكمة ، {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} بأن وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، أي: جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا ، ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة ، وآل يعقوب : أهله ، وهم نسله وغيرهم ، وإنما علم يعقوب أن يوسف يكون نبيا ، وإخوته أنبياء ، استدلالا بضوء الكواكب ، أو بوحي من الله تعالى ، فلذا قال:{ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} ، وبيان تفضيل يوسف على إخوته بسجود النجوم له .{ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ ، إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} يعلم من يحق له الاجتباء ، {حَكِيمٌ} بضع الأشياء مواضعها.

 

{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي: في قصتهم وحديثهم ، {آيَاتٌ} علامات ، ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شيء آية مكي{كذا} {لِّلسَّائِلِينَ} لمن سأل عن قصتهم.

 

{إِذْ قَالُواْ: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: إنه يفضلهما في  المحبة علينا ، وهما صغيران لا كفاءة فيهما ، ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه ، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما ، لفضلنا بالكثرة والعصبة عليهما ، وكأن نظرهم اقتصر على الظاهر والمنفعة الدنياوية ، فلذلك (لعله) قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وكأن نظر أبيهم في الباطن الحقيقي الديني _ لما يرى فيه من المخايل ، وبخاصة لما أعلمه برؤياه ـ تفطن في تدبير أمر الدنيا والدين ، ولو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا ، والعصبة : العشرة فصاعدا.

{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} منكورة مجهولة بعيدة عن العمران ، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}يقبل عليكم إقبالة واحدة ، لا يلتفت عنكم إلى غيركم ، والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم ، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه ، وجاز أن يراد بالوجه الذات ، كما قال:{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } ، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} .

 

{قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ : لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} في قعر البئر ، وما غاب عنه من عين الناظر ، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} بعض السائرين في الأرض ، {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} إن كان لا بد لكم من الفعل به.

{قَالُواْ : يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي: لما تخافنا عليه ، ونحن نريد له الخير ونشفق عليه ، وأرادوا بقولهم ذلك – لما عزموا على كيد يوسف – استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم ، وفيه دليل على أنه أحس منهم بما يوجب الحذر منهم عليه ، ولكن لا يغني الحذر عما قدره الله (لعله) وعلمه في خلقه.

 

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ} يتسع في أكله الفواكه وغيرها ، والرتعة: السعة ، {وَيَلْعَبْ} يرتاض لما يباح ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يناله مكروه.

{قَالَ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ، وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أنظر في ما قضاه الله وقدره لا بد من وقوعه وإمضائه ، وكأنهم صاروا مع أبيهم نازلين بمنزلة التهمة معه بالخيانة في حفظ أخيهم ، أو لما أمره بكتمان رؤياه عنهم أمن عليه منهم.

 

{قَالُواْ: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ} فعلنا به فعل المخسرين لأنفسهم .

{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ} اجتمع رأيهم جميعا على {أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ، وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} قيل: أوحي إليه في الصغر ، كما أوحي إلى عيسى ويحيى ، {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا} بما فعلوا بك ، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنك يوسف.

 

{وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء} للاستتار ، والتحسر على للإعتذار ، {يَبْكُونَ} عن الأعمش : " لا تصدق باكية بعد إخوة يوسف ".

{قَالُواْ : يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} نتسابق في العدو أو في الرمي ، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ، وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} بمصدق لنا  ، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}.

{وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} ذي كذب ، {قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} عظيما ارتكبتموه ، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل ، وهو ما لا شكوى فيه ، وفيه الرضا بالقضاء ، {وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ} أي : لا يستعان بغيره في مهام الأمور ، {عَلَى} احتمال {مَا تَصِفُونَ} .

 

{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} رفقة تسير ، (لعله) وهم : القوم المسافرون ، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض ، {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} هو الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أرسل دلوه ليملأها ، {قَالَ يَا بُشْرَى} نادى البشرى ، كأنه يقول: تعالي ، أو هو اسم غلامه ، فناداه مضافا إلى نفسه ، {هَـذَا غُلاَمٌ ، وَأَسَرُّوهُ} الضمير للوارد وأصحابه ، أخفوه من الرفقة ، أو غيرهم ، {بِضَاعَةً} أي: جعلوه متاعا للتجارة ، والبضاعة : ما بضع من المال للتجارة أي: قطع ، {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.

 

{وَشَرَوْهُ} باعوه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ، قيل: حرام ، سمي بخسا ، لأنه مبخوس البركة ، وقيل ، من زيف ، وقيل ، {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قليلة تعد عدا ولا توزن ، {وَكَانُواْ فِيهِ} أي: البائعون له ، {مِنَ الزَّاهِدِينَ} ممن يرغب عما في يده فيبيعه بالثمن الناقص ، لعه لأنهم {لم} يعلموا منزلته عند الله.

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما ، أي: حسنا مرضيا بدليل قوله :{ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} . وعن الضحاك:" بطيب معاشه ، ولين رباشه ، ووطيء فراشه " ، وفيه دليل على أن تصرف ما في البيت بيدها دونه ، {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} إذا تدرب وراض الأمور ، وفهم مجاريها ، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله ، { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أو نتبناه ونقيمه مقام الولد . وقيل: كان العزيز عقيما ، وقد تفرس فيه الرشد ، {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ} أي: كما أنجيناه عطفنا عليه قلب العزيز ، {فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: كان القدر منا ، والقضاء السابق في إنجائه وتمكينه ، إلى أن يقيم العدل ويدير أمور الناس ، ويعلم معاني كتب الله وأحكامه ، فينفذها ، وليعلم من تأويل الأحاديث المبهمة المنبهة على الحوادث الكائنة ، ليستعد لها ، ويشتغل بتدبيرها قبل أن تقع ، كما أخبر الله عنه ، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} لا يمنع عما يشاء لخلقه وبخلقه وفي خلقه ، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه ما قدره الله لا محالة وقوعه.

 

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} منتهى إشداد قوته ، يصلح ما يصلح له الرجال الصالحون ، {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} حكمة ، وهو العلم مع العمل ، واجتناب ما يجهل فيه ، أو حكما بين الناس وفقها ، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: من طلاب العلم للعمل ، تنبيه على أنه كان محسنا في عمله ، متقيا في عنفوان أمره.

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} أي: طلبته لنفسها ، {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} للخلوة به ، {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} هو اسم لـ"تعال" و" أقبل" ، {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ} أعوذ بالله معاذا أي: ألوذ به ملاذا ، {إِنَّهُ رَبِّي} سندي ومالكي ، وقيل الضمير لله ، {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} حين قال لك :" أكرمي مثواه" ، فما حقه أن أخونه في أهله ، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الخائنون.

 

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} هم: عزم وفعل ، {وَهَمَّ بِهَا} هم طبع مع الامتناع ، ولا صنع للعبد في ما يخطر بالقلب ، ولا مؤاخذة عليه ، ولو كان كهمها لما مدحه الله تعالى أنه من عباده المخلصين ، {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لكان ما كان ، {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} ليتضح خلاصه وإخلاصه ، وأنه قد ثبت قدمه في المقام الأعلى ، لمجاهدة نفسه مجاهدة أولي العزم ، (لعله) ناظرا في دلائل التوحيد حتى استحق من الله الثناء ، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام حيث كان ، أي: الذين أخلصهم الله لطاعته ، وقيل: بكسرها ، أي: الذين أخلصوا دينهم لله.

 

{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ} تسابقا إليه ، هي للطلب ، وهو للهرب ، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} من خلفه ، فانقد ، أي: انشق حيث هرب منها إلى الباب ، وتبعته لتمنعه ، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} صادفاه مقبلا ، فلما رأته احتالت لتبرئة ساحتها عند خروها من الريبة ولتخويف يوسف طمعا في أن يواطئها خفية منها ومن مكرها ، حيث {قَالَتْ : مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا ، إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: ليس جزاءه إلا السجن أو عذاب أليم : وهو الضرب بالسياط ، ولم تصرح بذكر يوسف ، وأنه أراد بها سوءا ، لأنها قصدت العموم ، أي: كل من أراد بأهلك سوءا لحقه كذلك ، لأن ذلك أبلغ فيما قصدت من تخويف يوسف ، ولما عرضت للسجن والعذاب دفع عن نفسه.

 

{قَالَ : هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} ، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من أهلها ، لتكون أوجب للحجة ، وأوثق لبراءة يوسف ، قيل: كان صبيا في المهد ، وسمى قوله شهادة ، لأنه أدى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف ، وبطل قولها ، {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} كأن الشهادة قياس نظري.

 

{فَلَمَّا رَأَى} سيدها {قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} ، وعلم براءة يوسف بإلهام عقلي ، أو بحجة الشهادة ، {قَالَ: إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} لأنهن ألطف كيدا وأعظم حيلة.

{يُوسُفُ} حذف منه حرف النداء ، {وهو} منادى قريب مفاطن للحديث ، وفيه تقريب له وتلطيف لمحله ، {أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا} الأمر واكتمه ولا تحدث به ، ثم أقبل لامرأته فقال:{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} .

 

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ :امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي: خرق حبه شغاف قلبها ، حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف: حجاب القلب ، أو جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب ، وقيل: قلبها حبه حتى لا تعقل سواه ، {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} في خطإ ، وبعد بين عن طريق المحجة.

 

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن ، وقولهن:" امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني". ويسمى الاغتياب : مكرا لا في خفية وحال غيبة ، كما يخفي الماكر مكره ، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} دعتهن ، {وَأَعْتَدَتْ} هيأت {لَهُنَّ مُتَّكَأً} ما يتكئن عليه من نمارق ، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا} ، قيل : كانوا لا يأكلون في ذلك الزمان إلا بالسكاكين ، {وَقَالَتِ :اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}عظمنه {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها {وَقُلْنَ :حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} نفين عنه البشرية لغرابة جماله ، وأثبتن له الملكية ، وثبتن بها الحكم ، لما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان.

 

{قَالَتْ : فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (لعله) بالافتتان به ، قبل أن تنظرن إلى صورته ، {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} (لعله) إقرارا بما فعلت ، {فَاسَتَعْصَمَ} بالعروة الوثقى عن النزول في المهاوي ، {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ، وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.

 

{قَالَ : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، قيل: افتتنت كل واحدة به ، فدعته إلى نفسها سرا ، فالتجأ إلى ربه ، وقال:" رب نزول السجن والضيق أحب إلى من السعة وركوب المعصية " ، {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} فزع منه إلى الله في طلب العصمة ، {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إليهن ، والصبوة : الميل إلى الهوى ، {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} من الذين لا يعملون بما يعلمون ، لأن من لاجدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء وهو من السفها.

 

{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ، فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّْ} ما دعونه إليه ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بدعوات الملجين إليه.

{ثُمَّ بَدَا لَهُم} أي: ظهر لهم رأي شيطاني ، {مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} وهي (لعله) الشواهد على براءته ، {لَيَسْجُنُنَّهُ} لإبلاء عذر الحال {كذا} ، وإرخاء الستر على القيل والقال ، {حَتَّى حِينٍ}.

 

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ: إِنِّي أَرَانِي} أي: في المنام {أَعْصِرُ خَمْرًا} عنبا. {وَقَالَ الآخَرُ :إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

 

{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} ماهيته وكيفيته ،{قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك ، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنهما ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ، ويصفه لهما ويقول:" اليوم يأتيكما طعام من صفته كذا وكذا ، فيكون كذلك ". وجعل ذلك تخلصا أن يذكر لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ، ويزينه لهما ويقبح إليهما الشرك ، (لعله) ويكون ذلك أدعى مما سألاه ، لأن ذلك أمر دنياوي ، وأمر التوحيد يصلح أمر الدارين ، وفيه : أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم ، فوصف نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه ، لم يكن من باب التزكية ، {ذَلِكُمَا} إشارة لهما إلى التأويل ، {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} ولم أقله عن تكهن وتنجم ، {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي: علمني ذلك ، لأني رفضت ملة أولئك.

 

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} وهي الملة الحنيفية ، يذكر الآباء ليريهما أنه من بيت النبوة ، وليقوي رغبتهما في اتباع قوله ، {مَا كَانَ لَنَا} ما صح لنا معشر الأنبياء {أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ} من صنم أو شيطان أو نفس أو هوى ، {ذَلِكَ} التوحيد { مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} (لعله) ، أي: ليس ممنوعا أحد من الناس فضله ، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} نعمته وفضله ، فينتفعوا بهما ، كما ينتفع بذلك من شكر ، وإعلام أن ليس لأحد فضل على غيره ، إلا بسبب علمه كما قال:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ولا ينتبهون أنهم مشركون هالكون .

 

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} يا ساكني السجن ، كقوله: { أصحاب النار} ، {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} (لعله) وهي الأهوية المتجاذبة لصاحبها ، {خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يريد التفرق في العدد والتكاثر ، أي: أن تكون أرباب شتى ، يستعبدكما هذا ، ويستعبدكما هذا ، خير لكما أم يكون لكما رب واحد قهار ، لا يغلب ولا يشارك في الربوبية ، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ، ولعبادة الأصنام المتفرقين على قدر الأهوية ، ولا بد للعبد أن يعبد إما ربا واحدا يؤول نفع عبادته إليه ، وإما أن يعبد أربابا متفرقين ، أي: يتبع هوى نفسه بغير حق ، ثم يرجع وبال عبادته عليه ، كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } .

 

{مَا تَعْبُدُونَ} خطاب لهما ، ولمن كان على دينهما ، {مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أي: سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ، باسم أو معنى أو شبه ، ثم عكفتم على عبادتها ، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء لا مسميات تحتها ، ومعنى { سَمَّيْتُمُوهَا} : سميتم بها آلهة معبودة مستحقة للعبادة من دون الله بزعمكم ، (لعله) وهي أمثال تمثلوها في قلوبهم صورا ليست بشيء ولكنها كالخيال لا يثمر نفعا بل عذابا ، { مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا} بتسميتها { مِن سُلْطَانٍ} حجة ، { إِنِ الْحُكْمُ} في أمر العبادة والدين ، { إِلاَّ لِلّهِ} ، ثم بين ما حكم به فقال:{ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} وتخلعوا ما سواه ، { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الثابت المستقيم ، الذي دلت عليه البراهين ، { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد وإن جهل ، إذا أمكن له العلم بطريقة.

 

{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} أي: يعود إلى عمله ، { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ} ، ولما سمع الخباز صلبه قال: ما رأيت شيئا ، فقال يوسف: { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما إلى ما يجر إليه من التأويل ، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر.

{ وَقَالَ: لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} الظان: هو يوسف عليه السلام ، إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي ، أو يكون الظن بمعنى اليقين ، { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} صفني عند الملك بصفتي ، وقص عليه قصتي لعله يخصني من هذا الحال ، { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ} فأنسى الشرابي { ذِكْرَ رَبِّهِ} أن يذكره لربه ، أو فأنسى يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره . وفي الحديث :" رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك لما لبث في السجن بضع سنين ، { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} ، اي: سبعا عن الجمهور ، وهو ما بين الثلاث إلى التسع .

 

{ وَقَالَ الْمَلِكُ : إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ، وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} لما دنى فرج يوسف ، رأى الملك رؤيا عجيبة هالته ، فاستفتى في تعبيرها ، فقال: { يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} حقيقة تعبير رؤيا: ذكر عاقبتها ، وآخر أمرها ، كما تقول عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر (لعله) عرضه ، وهو عبره ، ونحوه اولت الرؤيا ، إذا ذكرت مآل عاقبتها.

 

{ قَالُواْ: أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي هي: أضغاث أحلام أي: تخاليطها وأباطيلها ، وما يكون منها من حديث نفس ، أو وسوسة شيطان ، وأصل الأضغاث: ما جمع من أخلاط النبات ، { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} أرادوا بالأحلام : المنامات الباطلة ، إنما التأويل للمنامات الصحيحة ، أو اعترفوا بقصور علمهم ، وأنهم ليسوا بتأويل الأحلام بنحارير.

 

{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا} من القتل { مِنْهُمَا} من صاحبي السجن ، { وَادَّكَرَ} (بالدال) ، هو الفصح ، وأصله: اذتكر ، وقيل: وادكر معناه : تذكر يوسف ، وما شاهد منه ، { بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد مدة طويلة : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ ، فَأَرْسِلُونِ} فابعثوني إليه لأسأله.

{ يُوسُفُ ، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} البليغ في الصدق ، { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.

{ قَالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} على عادتكم المستمرة ، { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} كيلا يأكله السوس ، { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} تحرزون وتخبئون لبذر الزراعة ، (لعله) أي: يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن.

 

{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} العنب والزيتون والسمسم ، فيتخذون الأشربة والأدهان .

{ وَقَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ ،فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ} ليخلصه من السجن ، { قَالَ :ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} الملك ، { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، إنما تثبت وتأنى في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة ، ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن بضع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير ، وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها . وعنه عليه الصلاة والسلام :" لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له ، سئل عن البقرات ، ولو كنت مكانه ما أخبرته ، حتى أشترط أن يخبروني (لعله) يخرجوني ، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول ، قال: ارجع إلى ربك ، ولو كنت مكانه ، ولبثت في السجن ما لبثت ، لأسرعت الإجابة ، وبادرتهم الباب ، ولما ابتغيت القدر ، وإنه كان لحليما ذا أناة ".ومن كرمه وحسن أدبه أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به ، وتسببت فيه من السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن ، { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي: أن كيدهن عظيم.

 

{ قَالَ :مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}هل وجدتن منه ميلا إليكن؟{قُلْنَ :حَاشَ لِلّهِ} تعجبا من قدرته على خلق عفيف مثله ، {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ .قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ :الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر واستقر ، {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله:{هي راودتني عن نفسي} ، ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على أنفسهن ، لأنه لم يتعلق بشيء مما قرف به.

 

ثم رجع الرسول إلى يوسف ، وأخبره بكلام النسوة ، وإقرار امرأة العزيز وشهادتها على نفسها ، فقال يوسف :{ ذَلِكَ} أي امتناعي من الخروج ، والتثبت لظهور البراءة ، {لِيَعْلَمَ} العزيز {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ، أو ليعلم الملك أني لم أخن العزيز ، {وَأَنَّ اللّهَ} وليعلم أن الله {لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا يسدده ، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها ، وأمانة زوجها ، ثم أراد أن يتواضع لله ، ويهضم نفسه لئلا{يكون} لها مزكيا ، وليبين أن ما فيه من الأمانة بتوفيق الله.

 

{وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي} من الزلل ، إلا أن يعصم الله ، {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} من حيث أنها بالطبع مائلة إلى الشهوات ، فتهم بها ، ويجب استعمال القوى والجوارح في أمرها كل الأوقات ، {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} يعني: أن طبعها وديدنها الأمر بالسوء ، ولا تأمر بخير ، ولكن رحمة ربي التي تنبه على ذكر الله بمقاومة العقل لها ، ما دام غالبا ، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ} لمن كف نفسه عن المكروه ، {رَّحِيمٌ} لمن طهرها وزكاها ، ولجمها عن إرادتها.

 

{وَقَالَ الْمَلِكُ : ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أجعله خالصا لنفسي . {فَلَمَّا كَلَّمَهُ}وشاهد منه ما لم يحتسب ، {قَالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ } ذو مكانة ومنزلة ، {أَمِينٌ} على كل شيء.

 

{قَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ} أمين ، أحفظ ما تستحفظنيه ، {عَلِيمٌ} عالم بوجوه التصرف . وصف نفسه بالأمانة والكفاية ، وهما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله ، وإقامة الحق وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلبه ابتغاء وجه الله ، لا لحب الملك والدنيا ، وفيه دليل على أن يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر ، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة ، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ، ودفع الظلم إلا بتمكن الملك الكافر أو الفاسق ، فله أن يستظهر به . وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يتعرض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له.

 

{وَكَذَلِكَ} ومثل ذلك التمكين الظاهر {مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} ، التمكين : الإقتدار وإعطاء المكنة ، {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} أي: كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ، لم يمنع منه لاستيلائه عليها ، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا في الدنيا ، من الملك والغنى وغيرهما ، من النعم{مَن نَّشَاء} ، من اقتضت الحكمة أن يشاء له ذلك ، {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} في الدنيا {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} المكرهات ، قيل: إن المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، كما أن الفاجر يعذب بذنوبه في الدنيا والآخرة ، وإن نالته مسرة ظاهرة في الدنيا ، فذلك غرور واستدراج.

 

{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ، فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي: عرفهم يوسف ولم يعرفوه.

{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أعطى كل واحد حمل بعير ، {قَالَ :ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ، أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} كان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم ، {و}رغبهم بهذا الكلام على الرجوع إليه.

 

{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} فلا أبيعكم طعاما ، {وَلاَ تَقْرَبُونِ} (لعله) ولا تغشون دراي. {قَالُواْ : سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنخادعه عنه ونحتال ، حتى ننتزعه من يده ، {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}.

 

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} أي: لغلمانه الكيالين{اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} أوعيتهم ، {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} ، يعرفون حق ردها ، وحق التكرم بإعطاء البدلين ، {إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ} ، وفرغوا رحالهم ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا.

 

{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} بالطعام ، وأخبروه بما فعل ، {قَالُواْ : يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} نرفع المانع من الكيل ، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عن المركوه.

 

{قَالَ : هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ}؟ وقد قلتم في يوسف:" وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ، { فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

 

{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ : يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} "ما" للنفي ، أي: ما نبغي في القول ، ولا نتجاوز الحق وأمانته شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان ، { هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ،وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا ، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} .

 

{ قَالَ : لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ} ، والمعنى : حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله ، أراد أن يحلفوا له بالله ، وإنما جعل الحلف بالله موثقا منه ، لأن الحلف به مما تؤكد به العهود ، { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ، إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا ، فلم تطيقوا الإتيان به ، { فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ :اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ}من طلب الموثق وإعطائه{وَكِيلٌ} رقيب ، مطلع.

 

{وَقَالَ: يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ، وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} ، قيل: خاف عليهم العين لجلالة أمرهم ، وقيل: أحب أن لا يطن بهم أعداؤهم ، فلا يحتالون لإهلاكهم ، {وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ} ، أي: إن كان أراد بكن سوءا لم ينفعكم ، ولم يدفع عنكم ما اشرت به عليكم ، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ،عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} التوكل تفويض الأمر إليه.

 

{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ} أي: شيئا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم ، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله ، وتضاعف المصيبة على أبيهم {إِلاَّ حَاجَةً} أي: ولكن حاجة ، {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهو شفقته عليهم ، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعني قوله:" وَمَا أُغْنِي عَنكُم" ، وعلمه بأن: "القدر لا يغني عنه الحذر" { لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه ، { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم ، أي: لم يطلبوا العلم ليعلموا ، ولذلك رفعوا بدرجات بطلبهم العلم على من لم يطلب.

 

{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضمه إليه ، { قَالَ : إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بناء ، فلما مضى قال: الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير.

 

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} هيأ أسبابهم ، وأوفى الكيل لهم { جَعَلَ السِّقَايَةَ} قيل: هي مشربة يسقى بها ، وهي: الصواع ، { فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} ثم نادى مناد ، آذنه: أي أعلمه ، وأذن: أكثر الإعلام ، ومنه المؤذن ، لكثرة ذلك منه . روي أنههم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ، ثم أمر بهم فأدركوا ، ثم قيل: لهم { أَيَّتُهَا الْعِيرُ} هي الإبل التي عليها الأحمال ، لأنها تعير ، أي: تذهب وتجيء ، والمراد : أصحاب العير ، { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} كناية عن سرقتهم إياه من أبيه.

{ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم: مَّاذَا تَفْقِدُونَ؟ قَالُواْ :نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ،، وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقول المؤذن : وأنا بحمل البعير كفيل أوذيه إلى من جاء به ، وأراد : وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله ، وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل.

{ قَالُواْ : تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} استشدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم ، قيل: لأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مشددة لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد من أهل السوق ، أو أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رواحلهم ، { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} .

{ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ، قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} أي: جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، قيل: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة ، فلذلك استفتوا في جزائه . وقولهم { فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقرير للحكم ، أي: فإن السارق نفسه هو جزاؤه لا غير ، { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي: السراق بالاسترقاق.

{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} نفيا للتهمة حتى بلغ وعاءه ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ ،كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} الكيد من الخلق: الحيلة ، ومن الله : التدبير بالحق ، وقيل: كدنا ألهمنا ، { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي: في حكمه ، تفسير للكيد وبيان له ، لأن الحكم في دين الملك للسارق أن يغرم مثلي(لعله) ما أخذه ، لا أن يستعبد ، { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ} أي: ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه ، { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي: هو الله عزوجل.

{ قَالُواْ :إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} أرادوا (لعله) يوسف ، { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} أي: مقالتهم : إنه سرق ، كأنه لم يسمعها { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ، قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} تقولون.

{ قَالُواْ : يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} في السن ، أو في القدر { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} بدله على وجه الاسترهان والاستعباد ، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: من عادتك الإحسان فاجر على عادتك ولا تغيرها.

{ قَالَ :مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ ،إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} ولم يقل: من سرق ، تحرزا من الكذب ، { إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ} وذلك ، لأنه وجب على قضية فتواكم ، أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده ، فلو أخذنا غيره كان ظلما في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم؟

{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ} يئسوا ، وزيادة السين والتاء للمبالغة ، كما مر في "استعصم" ، { مِنْهُ خَلَصُواْ} انفردوا عن الناس خالصين{ نَجِيًّا} ذوي نجوى ، { قَالَ كَبِيرُهُمْ} في السن أو العقل:{ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ، وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي: قصرتم في شأنه ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} فلن أفارق أرض مصر ، { حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الانصراف ، { أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي} برد أخي إلي أو بخروجي ، أو بالموت ، أو بقتالهم ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} لأنه لا يحكم إلا بالعدل.

{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ، فَقُولُواْ :يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} ، وقرىء: سرق ، أي: نسب إلى السرقة ، { وَمَا شَهِدْنَا} عليه بالسرقة ، { إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} يعني: ما قلنا هذا إلا بما علمنا ، أي: ما كانت منا شهادة بشيء قطعا ، إلا بما علمنا ، وليست هذه شهادة منا ، إنما هو خبر عن صنيعه بزعمهم ، { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} وما علمنا ، اي: قلنا : ونحفظ أخانا ، وما لنا إلى حفظه من سبيل.

{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أي: أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة ، { وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} وأصحاب العير ، وهي القافلة ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولنا ، فرجعوا إلى أبيهم ، فقالوا له ما قال لهم أخوهم . فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولا يعمله بمكانه ، وحبس أخاه مع علمه بشدة وجده عليه ، وفيه معنى العقوق ، قيل: عمل ذلك بأمر الله ليزيد في بلاء يعقوب ، فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدرجة بآبائه الماضين.

{ قَالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} ، زينت { أَمْرًا} أي: حمل أخيكم إلى مصر لطلب نفع عاجل ، وقيل: فتواهم أن السارق يسترق ، { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} بيوسف وأخيه وكبيرهم ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحالي في الحزن { الْحَكِيمُ} الذي لم يبتل عباده إلا لحكمة.

{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} وأعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به ، {وَقَالَ : يَا أَسَفَى} يا حزنا {عَلَى يُوسُفَ} ، والأسف أشد الحزن ، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} إذ أكثر الاسعتبار ، محقت العبرة سواد العين ، وقلبته إلى بياض كدر ، قيل: قد عمي بصره ، وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفا ، {مِنَ الْحُزْنِ} أي: كان الحزن سبب البكاء ، ويجوز للنبي أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ، لأن الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الحزن ، {فَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر (لعله) ما يسوءهم . مأخوذ من كظم السقاء إذا شده على ما ملئه ، وقيل: يردد حزنه في جوفه ، ولم يقل إلا خيرا.

{قَالُواْ: تَالله تَفْتَأُ} أي: لا تزال{تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} قيل: الحرض: الذي أذابه هم أو مرض ، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} الميتين.

{قَالَ : إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} البث: أصعب الأمر الذي لا يصبر عليه صاحبه ، فيبثه على الناس أي: ينشره ، أي: لا يشكو إلى أحد منكم ومن غيركم ، وإنما أشكو إلى ربي ، داعيا له وملتجئا إليه ، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأعلم من رحمته أنه يأتيني بالفرح من حيث لا أحتسب.

{يَا بَنِيَّ ، اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} فتعرفوا منهما ، وتطلبوا خبرهما ، {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} ولا تقنطوا من رحمة الله وفرجه ، وقرىء "روح الله" اي: من رحمته التي يحيي بها العباد ، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} لأن من آمن يعلم أنه متقلب في رحمة الله ونعمته ، وأما الكافر فلا يعرف رحمته ، ولا (لعله) نعمته ، ولا تقلبه فيهما ، فييأس من رحمته ويطمع فيما سواه.

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ ، قَالُواْ: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} (لعله) الهزال من الشدة والجوع ، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي: قليلة رديئة كاسدة في ثمن الطعام ، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} الذي{هو} حقنا ، {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} وتفضل علينا بالمسامحة ، أو زدنا على حقنا ، أو هب لنا أخانا ، {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.

{قَالَ : هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} ؟! أنتم في حد السفه.

{قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ؟قَالَ :أَنَاْ يُوسُفُ،وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا} بالألفة بعد الفرقة. ذكر نعمة الله بالسلامة والكرامة ، ولم يبدأ بالملامة ، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} الفحشاء ، {وَيِصْبِرْ} على الابتلاء ، لأن الصبر من غير تقوى مغرم ، {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قيل: من يتق مولاه ، ويصبر على بلواه ، لا يضيع أجره في دنياه وعقباه.

{قَالُواْ : تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا} اختارك ، وفضلك علينا ، بالعمل والحلم والتقوى والصبر ، {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} اعترافا منهم له بالزلة .

{قَالَ : لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} لا تعيير عليكم {يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ} ، لأن التائب لا ذنب عليه ، {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (لعله) فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب.

{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا، وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (لعله) أحسن إليهم بعدما أساءوا إليه.

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} من بيوت مصر {قَالَ أَبُوهُمْ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} (لعله) كأنه ألقي إليه مخايل الرخاء ، {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} تسفهوني ، لولا تفنيدكم ، أي: لصدقتموني . والفند : الخطأ في القول والرأي.

{قَالُواْ : تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} لفي خطئك القديم من ذكرك يوسف ، {و}لاتنساه ، والضلال:هو الذهاب عن طريق الصواب ، فإن عندهم أن يوسف قد مات ، وبظنونية {كذا} قد تهيج بذكره.

{فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ} المبشر بيوسف {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ، قَالَ : أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} يعني قوله:{ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} ، أو قوله:{ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} ، { إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} علمه الله من حقائق الأمور ما لا يعلمون ، فكيف لا ، وهم يقولون :{ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} ، { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، وقد لاح الدليل أنهم أخطؤوا ما قالوه فيه ، ووسموه به ، وقد أضاء لهم عرفان الحقيقة وما توسمه يعقوب عليه السلام ، فقد انكشف قناع ما قد غم عليهم بتعاميهم عنه ، (لعله) من حبه ليوسف ، وذكره له ، (لعله) وحقت حقيقته ، { قَالُواْ: يَا أَبَانَا ، اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} ومن حق المعترف بذنبه أني يصفح عنه ، ويسأل له المغفرة.

{ قَالَ : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} معنى دخلوهم عليه قبل دخولهم مصر: أنه حين استقبلهم نزل بهم في مضرب أو قصر كان له ثمة ، فدخلوا عليه وهم إليه أبوبه.

{وَقَالَ} لهم بعد ذلك:{ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} تصديق لرؤياه ، حيث قال:{ يَا أَبتِ ، إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (لعله) ، وذلك قيل: لما دخل مصر وجلس مجلسه ، واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه ، فرفعهما على السرير.{ وَخَرُّواْ لَهُ} يعني الإخوة والأبوين ، { سُجَّدًا}: وكانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة ، كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ، وقيل: سنة للتعظيم في ذلك الوقت أن يسجد للمعظم ، وقيل: بمعنى الخضوع ،{ وَقَالَ :يَا أَبَتِ ، هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} اي: صادقة ، { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ، وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} من البادية ، لأنهم كانوا أصحاب مواشي ينتقلون في المياه والمناجع ، وما ضر البدو من كان مستقيما على طاعة الله ، وربما فيه السلامة والفراغ.{ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي:أفسد بيننا وأغرى ، { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء} أي: لطيف التدبير { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} الذي يفعل كل شىء في وقته على وجه يقتضي الحكمة. روي أن يعقوب عليه السلام قال ليوسف عليه السلام:"لم لم تكتب إلي ، وأنا على سبع مراحل منك"؟ قال:" أمرني جبريل بالتوقف" ، فسأله ، {فـ}قال جبريل :" أمرني الله بذلك ، لقولك:" وأخاف أن يأكله الذئب". قال: فهلا خافني !، والله أعلم بالغيب.

{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ} أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي ، { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} طلب للوفاة على حال الإسلام ، { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.

{ ذَلِكَ} إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، { مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} لدى بني يعقوب ، { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} عزموا على ما هموا به ، من إلقاء يوسف في البئر ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بيوسف ، يخفون له الغوائل.

{ وَمَا} كان { أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم ، { بِمُؤْمِنِينَ} لعنادهم وتصاممهم على الكفر.

{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} على التبليغ ، أو على القرآن ، { مِنْ أَجْرٍ} جعل { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}.

{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ} من علامة ودلالة على صفات الخالق وتوحيده ، { فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يشاهدونها بقيام الحجة عليهم بها ، { وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} لاستنكافهم عن قبولها ، لأنهم لا يعتبرون بها ، ولا يتفكرون ، لأن الهوى قد ملكهم وغلبهم.

{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} أي شرك كان ، وهو ضد الإيمان الخالص.

{ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ} عقوبة تغشاهم وتشملهم ، { مِّنْ عَذَابِ اللّهِ} يحتمل: الموت ، أو ما يتألمون به في الدنيا ، { أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانها.

{ قُلْ : هَـذِهِ سَبِيلِي} هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، { أَدْعُو إِلَى اللّهِ} أي: دينه ،{ عَلَى بَصِيرَةٍ} حجة واضحة غير عمياء ، { أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، ويدعو إليها من اتبعني ، { وَسُبْحَانَ اللّهِ} وأنزهه من الشركاء الظاهرين والمستترين ، { وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الشرك الجلي والخفي.

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} لا ملائكة ، { نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} لأنهم أعلم وأحلم ، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء ، { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}؟ من المكذبين الرسل عليهم السلام ، { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ} الشرك جليه وخفيه ، وآمنوا بالله حقا وصدقا ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفلا تعتبرون فتعقلون ذلك.

{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} أيسوا من إيمان القوم ، { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} وأيقن الرسل أنهم قد كذبوهم قومهم ، { جَاءهُمْ نَصْرُنَا} للرسل ورسلهم ، فجاءة من غير احتساب ، { فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء} أي: الرسل ورسلهم ومن تبعهم ، { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عقوبتنا ، أو أخذناهم بالهلاك ، { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} .

{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} في قصص الأنبياء وأممهم ، { عِبْرَةٌ} (لعله) معتبر ، { لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} لا غيرهم ، { مَا كَانَ} (لعله) القرآن ، { حَدِيثًا يُفْتَرَى ، وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، ولكن كان تصديق الكتب التي تقدمته ، { وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى} من الضلالة ، { وَرَحْمَةً} من العذاب ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله وأنبيائه . قال أبو منصور : " من ذكر قصة يوسف وإخوته تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى قريش ، كأنه يقول : إن إخوة يوسف مع موافقتهم إياه في الدين ، والأخوة في النسب، عملوا به ما عملوا من الكيد والمكر لمخالفتهم إياه في بعض (لعله) الحق ، وصبر على ذلك ، فأنت مع مخالفتهم إياك في الدين أحرى أن تصبر على أذاهم".