طباعة
المجموعة: التفسير الميسر
الزيارات: 1681

بسم الله الرحمن الرحيم

  {الَر كِتَابٌ} أي: هذا كتاب ، كأنه يصف ما في هذه السورة ، {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} صفة له ، أي: نظمت نظما قويا محكما ، لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم ، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} كما تفصل القلائد بالفرائد ، من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا معنى معنى ما يحتاج إليها العباد ، أي: بين ولخص{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي: من عنده إحكامها وتفصيلها.

 

{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} أي: لئلا تعبدوا إلإ الله ، وفائدة إحكامها وتفصيلها ، قوله:{ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي: آمركم بالاستغفار عن الشرك ، وأحثكم على التوحيد.

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} أي: ارجعوا إلى الله من هوى أنفسكم بالطاعة والعبادة، {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} يمنحكم ما يكفيكم ، ويمنعكم ما يطغيكم ، أو يمتعكم بالعقول السليمة من الهوى ، {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى أن يتوفاكم ، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ويعطي في الآخرة كل من كان له فضل في العمل .{ وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: وإن تتولوا عن الإيمان ، {فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو يوم القيامة ، لأنه أكبر من كل عذاب في الدنيا .{ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ} إلى الجزاء ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

 

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يزورون عن الحق ، ويحرفون عن الحق ، لأن من أقبل على شىء ، استقبله بصدره ، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه .{ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} ليطلبوا الخفاء من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ازوارهم .{ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} ألا حين يأوون إلى فراشهم يتغطون بها ، أي: يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم ، كراهة لاستماع كلام الله ، كقول نوح :{ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } . وكل هذا استعارة بمعنى الإعراض عن قبول الحق ، (لعله) لأنه كالساتر نفسه عن أن يرى الحق أو يراه .{ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: لا تفاوت في علمه بين ذلك ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء ، والله مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشاء ثيابهم ونفاقهم ، فغير نافع لهم ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما فيها.

 

{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} غذائها ، وما لا تقوم إلا به من جلب ما ينفعها ، ودفع ما يهلكها في الدارين ، لتكلفه إياها ، {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} مكانها من الأرض ، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث كان مستودعها قبل الإستقرار ، من صلب أو رحم أو بيضة فيما قيل ، {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في اللوح ، يعني ذكرها مكتوب فيه مبين.

 

{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي : وما بينهما {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قيل: تعليما للتأني ، لأن الله قادر أن يخلق جميع المخلوقات وأضعافهم مضاعفات معا ، كلمح البصر أو أقرب . {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} أي: فوقه ، وفي وقوف العرش على الماء لعظمه أعظم الاعتبار لأهل الأفكار . {لِيَبْلُوَكُمْ} أي: خلق السماوات والأرض وما بينهما للممتحن فيهما ، ولم يخلق هذه الأشياء لأنفسها ، وجميع ما خلق الله من شىء من غير المتعبدين للمتعبدين ، لا لأنفسها ، ولا عبثا ولا لهوا ولا لعبا ، جل الله عن ذلك . {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أكثر شكرا ، وعنه صلى الله عليه وسلم :" أحسن عقلا ، وأروع عن محرم الله ، وأسرع في طاعة الله " ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه ، ولما شبه ذلك اختبار المختبر قال:{ لِيَبْلُوَكُمْ} أي: ليفعل بكم المبتلى لأحوالكم {لينظر} كيف تعلمون . {وَلَئِن قُلْتَ : إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ ، لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ: إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (لعله) أشاروا بهذا إلى القرآن ، {و} هو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره.

 

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} عذاب ما وعدوا به ، {إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إلى جماعة من الأوقات معلومة أو قلائل ، والمعنى : إلى حين معلوم ، { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} ما يمنعه من النزول ، استعجالا له على وجه التكذيب والاستهزاء ، {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ، وَحَاقَ بِهِم} وأحاط بهم {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} (لعله) بالعذاب الذي كانوا يستعجلون ، وإنما وضع :" يستهزءون" موضع "يستعجلون" لأن استعجالهم كان على وجه الاستهزاء.

 

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ} هو للجنس ، {مِنَّا رَحْمَةً} نعمة ، {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة ، قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ، {كَفُورٌ} عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله ، نساء له .

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} كصحة بعد سقم ، وغنى بعد عدم ، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى بالنعم إلا معتريها{كذا} .{ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أي: المصائب التي ساءتني ، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} أشر بطر ، {فَخُورٌ} على الناس بما أذاقه الله من نعمائه ، وقد شغله الفرح والفخر عن الشكر ، والفرح : لذة في القلب ، (لعله) يبتلي بها المشتهي. والفخر هو: التطاول على الناس ، بتعديل المناقب ، وذلك منهي عنه.

 

{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} في المحنة والبلاء ، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ، وشكروا في النعمة والرخاء ، وطبعوا أنفسهم للطاعة عن طبعها الأصلى ، {أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لصغائر ذنوبهم ، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} على صبرهم ، أكبر من كل أجر في الدنيا ، ولو أعطي الدنيا وما فيها أجرا ، فأجره في الآخرة أكبر على مقابلة العذاب الكبير.

 

وكانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشادا ، لأنهم لو كانوا مسترشدين ، لكانت آية واحدة مما جاء به  كافية في إرشادهم ، ومن اقتراحاتهم :{لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } ، وكانوا لا يقتدون بالقرآن ، ويتناهون به ، فكان يضيق صدره أن يلقى إليهم ما لا يقبلونه ، ويضحكون منه فيهيجه لأداء الرسالة ، وطرح مبالاة بردهم {كذا} لاستهزائهم واقتراحهم بقوله:{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك ، وهو ما يخالف هوى المشركين ، مخافة ردهم واستهزائهم به ، {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} بأن تتلوه عليهم ، ولم يقل: " ضيق" ، ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأنه عليه الصلاة والسلام كان أفسح الناس صدرا ، {أَن يَقُولُواْ} مخافة أن يقولوا:{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} ينفقه في الاستتباع ، كما تنفق الملوك من خزائنها ، {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدقه ويشهد له بالرسالة ، {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي: ليس لك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك إن ردوا أو تهاونوا ، {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يحفظك منهم ، ويحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه ، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح ، غير ملتفت إلى استكبارهم ، ولا مبال بسفههم واستهزائهم.

 

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ، قُلْ : فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} في الحسن والجزالة ، {مُفْتَرَيَاتٍ} لما قالوا له : افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك ، وليس هو من عند الله ، أرخى معهم العنان ، وقالوا: هبوا أني اختلقته من عند نفسي ، فأتوا أنتم أيضا بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فإنكم عرب فصحاء مثلي ، تقدرون على ما اقدر عليه ، {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ} ، (لعله) من جن وإنس إلى المعاونة على نظمها ، {كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنه مفترى.

 

{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ، فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ} (لعله) وأن لا مخلوق يقدر ذلك ، وأنزل بعلم الله ، {وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} أي: أنزل ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله ، من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ، واعلموا عند ذلك : أن لا إله إلا الله وحده ، {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} متابعون الإسلام بعد هذه الحجة القاطعة ؟ ، ومن جعل الخطاب للمسلمين ، فمعناه : فأثبتوا على العلم الذي أنتم عليه ، وازدادوا يقينا على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد ، فهل أنتم مسلمون مخلصون؟.

 

{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} هو ما حرمه الله وحجره ، {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} نولهم ما تولوا ، ونخلهم وما يهوونه ، {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} نوصل إليهم ما قدرناه لهم من غير نقصان ، ولا بخس ، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق على وجه الاستدراج والإملاء .

 

{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} لأنهم لم يسلكوا غير طريقها ، {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} وحبط في الآخرة ما صنعوه في الدنيا ، ولم يكن لهم ثواب ، لأنهم لم يريدوا به الآخرة لما أرادوا به الدنيا ، وقد وفى إليهم محمد ما أرادوا ، {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} اي: كان عملهم في نفسه باطلا ، لأنه لم يعمل لغرض صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له ، ذاهب أصله وفرعه .

 

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أفمن كان على بينة لا يعقبونهم ولا يقاربونهم ، يعني: أن ما بين الفريقين تبيانا بيانا ، والبينة : البرهان من الله ، وبيان أن دين الإسلام حق ، (لعله) وهو دليل العقل ، {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} العالم المحق ، {مِّنْهُ} من القرآن ، وقيل : البينة : هو العالم المحق ، والشاهد منه : لسانه. {وَمِن قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن ، {كِتَابُ مُوسَى} وهو التوارة ، أي : ويتلو ذلك البرهان أيضا من قبل القرآن كتاب موسى ، {إَمَامًا} كتابا مؤتما به في الدين قدوة فيه ، {وَرَحْمَةً} ونعمة عظيمة على متبعيه ،{أُوْلَـئِكَ} من كان على بينة ، {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن ، {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} المتحزبين على أهل الإسلام ، {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} مصيره ومورده ، {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك {مِّنْهُ} من القرآن ، {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} لقلة نظرهم ، واختلال فكرهم.

 

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا} أي: ليس أحد أظلم منه ، وهو يعم جميع العصاة ، {أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} (لعله) قسرا فيسألهم عن أعمالهم ، {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} قيل: إنهم الملائكة ، أو الأنبياء والعلماء : {هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} لأنفسهم الكاذبين على ربهم.

 

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} يصرفون الناس عن دينهم ، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يصفونها بالأعوجاج وهي مستقيمة ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد ، كقوله :{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، {وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.

 

{أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي: ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، {وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء} من يتولهم فينصرهم منه ، ويمنعهم من عقابه . {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} بضلالهم وإضلالهم ، أو كما قال : { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ  } ليعم كل عاص ، وكقوله : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } ، {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} لتصاممهم عن الحق ، {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لتعاميهم عن آيات الله ، وإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية.

 

{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، وحيث حرموا أنفسهم الجنة ، واستحقوا العذاب بذلك ، {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب عنهم وضاع ما اشتروه ، وهو {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} بعبادة غير الله .

{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} لا جرم : أي حقا ، وقيل: بلى ، وقيل: لا محالة ، وهم أخسر من غيرهم بالإضلال.

 

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} الإخبات قيل: الخوف والإنابة ، أو الخشوع ، أو الاطمئنانية من الخبت ، وهي الأرض المطمئنة ، {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

 

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} شبه فريق الكافرين : بالأعمى والأصم ، (لعله) لأنهم لا يبصرون الحق ولا يسمعونه ، لتعاميهم ، وتصاممهم بالأهوية ، كما قال عليه السلام : (لعله) " حبك للشيء يعمي ويصم" ، وفريق المؤمنين : بالبصير والسميع ، بترك متابعتهم للهوى ، {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي: في المثل لا يستويان ، {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ؟! فتنتفعون بضرب المثل.

 

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أبين موجبات العذاب ، ووجه الخلاص ، {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .

 

{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} : يريد الأشراف ، لأنهم يملؤن القلوب هيبة ، والمجالس ابهة ، أو لأنهم ملأ بأحلام  والآراء الصائبة لظاهر الحياة الدنيا ، {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ، ووجوب الطاعة ، لأنهم نظروا إلى البشرية الظاهرة ، ولم ينظروا إلى سره الخفي الذي خصه الله به دونهم ، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أضعفنا في الرأي ، أو الجسم أو المال أو الرئاسة ، لأن نظرهم كان مقصورا على ظواهر الأمور دون حقائقها . {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: اتبعوا ظاهر الرأي ، من غير رؤية ونظر ، ولو تفكروا ما اتبعوك ، واسترذالهم لهم لما ذكرنا ، ولتأخرهم عن الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالا ، ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فكان الأشراف عندهم من له جاه ومال ، كما نرى المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم . ولقد زال عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحد من الله ، وإنما يبعده ، ولا يرفعه بل يضعه . {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} في مال ولا رأي ، ولا قوة ولا جاه ولا علم ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي : نوحا ، نوحا في الدعوة وأنتم في الإجابة ، يعني : تواطأتم على الدعوة والإجابة ، تسببا للرئاسة.

 

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} أخبروني {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} برهان {مِّن رَّبِّيَ} وشاهد منه لصحة دعواي ، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أي : هدى ورحمة ، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} خفيت والتبست عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لوعمي على القوم دليلهم في المفازة بغير هاد ، وحقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة وتبصرة ، وجعلت (لعله) البصيرة على الأعمى عميا ، لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أنلزمكم على الاهتداء بها (لعله) إلزاما وجبرا ، {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها .

{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} على تبليغ الرسالة ، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} وذلك من دلالة النبوة ، والترك للدنيا ، والإقبال على الآخرة ، إن تفكروا في حسن السيرة وخسيسها ، وكذلك قوله:{ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} كأنه جواب لهم حين سألوا طردهم ليؤمنوا به ، أنفة من المجالسة معهم ، {إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فيشكونني إليه إن طردتهم ، { وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} تتسافهون على المؤمنين ، وتدعونهم أرذال ، أو تجهلون لقاء ربكم ، أو أنهم خير منكم .

 

{وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ} من يمنعني من انتقامه ، {إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الإيمان ليس بصواب.

 

{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ: عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ} فأدعي عليكم فضلا بالغنى ، حتى تجحدوا فضلي بقولكم : {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} ، { وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي ، وضمائر قلوبهم . { وَلاَ أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ} حتى يقولوا لي: { ما أنت إلا بشرا مثلنا} ، { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم : { لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا} في الدنيا والآخرة ، لهوانهم عليه ، مساعدة لكم ، ونزولا على هواكم . {اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ} من صدق الاعتقاد ، وإنما على قبول ظاهر إقرارهم ، إذ لا أطلع على خفي اسرارهم ، { إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إن قلت شيئا من ذلك ، (لعله) فلما علت حجته عليهم بالبرهان النير ، ودحضت حجتهم العمياء ، صمموا على المكابرة بقولهم: {قَالُواْ : يَا نُوحُ، قَدْ جَادَلْتَنَا } خاصمتنا ، { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ، فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في وعيدك.

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء} أي : ليس الإتيان بالعذاب إلي ، وإنما هو إلى من كفرتم به ، { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي : لم تقدروا لى الهرب منه ، {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي} هو إعلام الغي لتيقى ، والرشد ليقتفى ، { إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي : مقدر على عليكم الإغواء بضلالكم عن طريق الحق ، {هُوَ رَبُّكُمْ} فيقدر فيكم على قضية إرادته ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على حسب أعمالكم .

 

{أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ} بل أيقولون افتراه؟ {قُلْ :إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} إن صح أني افتريته ، فعلي عقوبة إجرامي ، أي: افترائي ، يقال: أجرم الرجل: إذا أذنب. {وَأَنَاْ بَرِيءٌ} أي: وإن لم يثبت ذلك وأنا بريء منه ، ومعنى {مِّمَّا تُجْرَمُونَ} : من إجرامكم في إسناد الافتراء ، فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.

 

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} فمن ذلك قال:{  وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا  } ، {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فلا تحزن حزن بائس مستكين ، والابتئاس :"افتعال" من البؤس ، وهو الحزن والفقر ، والمعنى : فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ، فقد حان وقت الانتقام{من} أعدائك.

 

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي:  محفوظا ، وحقيقته ملتبسا بأعيننا ، أي: بحفظنا وعلمنا عن أن تزيغ في صنعته عن الصواب، {وَوَحْيِنَا} وإنا نوحي إليك ، ونلهمك  كيف تصنع. {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} ولا تدعني في شأن قومك ، واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك ، {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} محكوم عليهم بالإغراق ، حين قضي به وجف القلم ، فلا سبيل إلى استدفاعه.

 

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} حكاية حال ماضية ، {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} ومن عمله السفينة ، وكان يعملها في البرية ، وكانوا يتضاحكون ويقولون له : يا نوح ، صرت نجارا بعدما كنت نبيا ، (لعله) وروي أنهم يقولون: يا نوح ما تصنع ؟ فيقول: أصنع بيتا يمشي على الماء ، فيضحكون منه. {قَالَ :إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ}عند رؤية الهلاك {كَمَا تَسْخَرُونَ } منا عند رؤية الفلك ، وقيل المراد بالسخرية ، الاستهجال.

 

{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يذله ، يعني به إياهم ، وهو الغرق ، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} في جهنم.

 

{حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} وهو بلوغ الكتاب أجله ، {وَفَارَ التَّنُّورُ} نبع الماء فيه ، وارتفع كالقدر يفور ، {قُلْنَا: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ} نوع {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في القصة أنه قال نوح: يا رب كيف أحمل من كل زوجين اثنين؟ فحشر إليه الحشرات ، فجعل يضرب بيديه في كل جنس ، فيقع الذكر في يده اليمنى ، والأنثى في اليسرى فيحملهما .{ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ،وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}.

{وَقَالَ :ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أي: اركبوا فيها قائلين :{بسم الله } وقت إجرائها ، ووقت إرسائها ، (لعله) وهو على معنى التوكل عليه في حال ركوبهم وقت إجرائها وإرسائها ، {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن توكل عليه في جميع أحواله.

 

{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} يريد: موج الطوفان ، وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرابه بدخول الرياح الشديدة في خلاله ، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها ، وذلك(لعله) ابتلاء وامتحان لإيمان الراكبين معه فيها ، وخاصة إذا لم تجر عادة سابقة بهم ، ولا بغيرهم .

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}عن أبيه ، وعن السفينة ، أو عن دين أبيه ،{يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} في السفينة ، أو أسلم ، {وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} في الدين والانعزال.

 

{قَالَ: سَآوِي} سألجا {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} يمنعني من الغرق ، كأنه اعتصم بمخلوق مثله ، فلم يعصمه ، {قَالَ : لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ} إلا الراحم لمن لاذ به ، وهو الله تعالى ، أي: لا عاصم اليوم إلا من اعتصم بالله .{ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ،فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} فكان في علم الله كذلك.

 

{وَقِيلَ: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ ، وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي} أمسكي ، {وَغِيضَ الْمَاء} نقص ، {وَقُضِيَ الأَمْرُ} وأنجز ما وعد الله نوحا من إهلاك قومه ، {وَاسْتَوَتْ} واستقرت{عَلَى الْجُودِيِّ} قيل: جبل بالموصل ، {وَقِيلَ : بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: سحقا لقوم نوح . أجمع أهل الفصاحة أن طاقة الشر قاصرة عن الإتيان . بمثل هذه الآية ، بعد أن فتشوا عامة كلام العرب والعجم ، فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها ، وحسن نظمها ، وتصوير الحال ، مع الإيجاز من غير إخلال.

 

{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ ، فَقَالَ : رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} وإن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، {وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أي: أعلم الحكام وأعدلهم ، إذ لا فضل لحاكم على غيره ، إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة ، ومعناه: أحكم الحاكمين ، فاعتبر واستعبر.

 

{قَالَ : يَا نُوحُ ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وفيه إيذان ، لأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأن نسيبك في دينك ، وإن كان حبشيا ، وكنت قرشيا ، {وأن} لصيقك ومن لم يكن على دينك ، وإن كان أمس أقاربك رحما ، فهو يعد بعيدا منك . قال أبو منصور:" كأن عند نوح عليه السلام أن ابنه كان على دينه ، لأنه كان ينافق ، وإلا لا يحتمل أن يقول : إن ابني من أهلي ويسأله نجاته ، وقد سبق منه النهي عن سؤال مثله ، بقوله : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} ، فكان يسأل عن الظاهر الذي عنده ، كما كان أهل النفاق يظهرون الموافقة لرسولنا ، ويضمرون الخلاف له ، ولم يعلم بذلك حتى أطلعه الله عليه ، وقوله : { ليس من أهلك} أي: من الذين وعدت النجاة لهم ، وهم المؤمنون حقيقة في السر والظاهر". {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

 

{قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي: من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأدبا بك وأتعاظا بموعظتك ، {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} ما فرط مني ، {وَتَرْحَمْنِي} بالعصمة عن العود إلى مثله {أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} .

{قِيلَ : يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا} بتحية منا ، أو سلامة من الغرق ، {وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} ، هي الخيرات النامية ، وهي في حقه العلم والعمل بمقتضى الحكمة ، {وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} أي: على أمم ناشئة ممن معك ، وهي الأمم إلى آخر الدهر ، {وَأُمَمٌ} أخرى ضالة ، {سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا بالسعة في الرزق ، والخفض في العيش ، كما قدرنا لهم بلا زيادة ولا نقصان ، {ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة ، أو في الدنيا والآخرة ، والمعنى : أن السلام منا ، والبركات عليك ، وعلى أمم المؤمنين ينشأون ممن معك ، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا ، منقلبون إلى النار ، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة . وعن محمد بن كعب:" دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر".

 

{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} يا محمد {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} أي : تلك القصة بعض أنباء الغيب ، موحاة إليك ، مجهولة عندك ، وعند قومك ، {مِن قَبْلِ هَـذَا} الإيحاء إليك ، {فَاصْبِرْ} كما صبر نوح مع طول لبثة فيهم ، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما كان لنوح وقومه ، {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} في الفوز والنصر والتوفيق والغلبة والنعمة {لِلْمُتَّقِينَ} عن المعاصي وهو حقيقة التوحيد.

 

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ} واحدا منهم {هُودًا ، قَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ} وحده ، غير مشركين به غيره ، {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} ينفعكم ولا يضركم ، في الحقيقة {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} تفترون على الله الكذب ، باتخاذكم له الأوثان له شركاء.

 

{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ، إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول ، لأن شأنهم النصيحة ، ولا يمحضها إلا حسم المطامع ، وما دام يتوهم شىء منها ، لم تنجع ولم تنفع ، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله ، وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك ، لأنه لم يسأل من أرسل إليه أجرا ، ولم يدفع عن نفسه مغرما ، ولم يطلب بذلك ولا لغيره أمرا دنيويا بلسان مقاله ، أو لسان حاله ، كان ذلك من سمات الإيمان والأمانة ، مع الذين يعقلون العلم في الناس.

 

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} أي : آمنوا به ، {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} من عبادة غيره ، {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم} في الأرزاق السماوية من دين ودنيا ، {مِّدْرَارًا} كثير الدرور ، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً} {في} القلوب ، يقدرون بها على المخرج من مضائق الأمور ، ولا يكون هذا الوعد في الحقيقة إلا لمتبعي الرسل ، لأن ذلك يعود وبالا على المكذبين ، {إِلَى قُوَّتِكُمْ} كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } ، {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه .{ مُجْرِمِينَ} مصرين على إجرامكم وآثامكم.

 

{قَالُواْ : يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} تكذيب منهم وجحود للبينة الغراء ، ولكن لتعاميهم عنها لم يبصروها ، إذ حجبهم عن رؤيتها حب الهوى. {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا} ما تهواه أنفسنا {عَن قَوْلِكَ} استجهالا منهم له ، {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما تدعوهم إليه.

 

{إِن نَّقُولُ : إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} أي: ليس لنا قول إلا هذه المقالة ، أي: إلا قولنا :" اعتراك بعض آلهتنا بسوء بجنون وخبل" ، فما انقطعت حجتهم ، وبان اغترارهم ، وظهرت رئاستهم ، وصح إصرارهم ، {قَالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ، وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ} أي: من إشراككم آلهة من دون الله ، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} من غير أن يتخلف منكم أحد ، {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} لا تمهلوني.

 

{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ، مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي: مالكها ومدبرها ، ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم ، وصفه بما يوجب التوكل عليه ، من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ، ومن كون كل دابة في قبضته وملكته ، وتحت قهره وسلطانة ، والأخذ بالناصية تمثيل لما يقدره الله للخلق وعليهم ، {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إن ربي على الحق ، ولا يخيب من رجاه ، ولا يفوته من عاداه.

 

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تتولوا ، {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة ، فلا تقصير مني ولا عذر لكم ، { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (لعله) أي: يهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ، {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} بتوليكم ، إذ لا يجوز في حكمته ذلك ، {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب علي مهيمن ، فما تخفى عليه أعمالكم وتكذيبكم ، أو من كان رقيبا على الأشياء كلها حافظا لها ، وكانت الأشياء مفتقرة إلى حفظه من المضار ، لم يضر مثله مثلكم .

 

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} أي: بفضل منا لا بعلمهم ، أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم ، {وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} كثيف.

{وَتِلْكَ عَادٌ} إشارة إلى قبورهم وآبارهم ، كأنه قال: فسيحوا في الأرض ، فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف وصف أحوالهم ، فقال ، {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} ، لأنهم إذا عصوا رسولهم ، فقد عصوا جميع رسله من الملائكة والنبيين والعلماء والمؤمنين ، ورسول الرسول رسول في هذا المعنى ، { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ  } ولا في حجة من حججه ، وجب علينا اتباعها والإيمان بها ، والتصديق بها ، فالمكذب لحجة عقلية قامت عليه من عقله ، كالمكذب لأفضل رسول من رسل الله أقام عليه الحجة بحضرته ، من مقال لسانه بشيء من كتاب الله أو أشد ، {وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} يريد رؤساءهم ، ودعائهم إلى تكذيب الرسل ، لأنهم الذين يجبرون الناس على مخالفة الرسل ، ويعاندون ربهم .ومعنى اتباع أمرهم طاعتهم.

 

{وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} لما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين ، واللعنه : الإبعاد من رحمة الله ونعمته ، فهم في غضب الله ونقمته وعذابه في الدنيا والآخرة ، ليس لهم غاية ، إلا إذا رجعوا إليه تائبين. {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ، أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ} تكرير"ألا" مع النداء على كفرهم ، والدعاء عليهم ، تهويل لأمرهم ، وبعث على الاعتبار بهم ، والحذر من مثل حالهم . والدعاء بـ"بعدا" فور هلاكهم ـ وهو دعاء بالهلاك ـ للدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له . {قَوْمِ هُودٍ} عطف بيان لعاد ، وفيه فائدة ، لأن عادا عادان ، الأولى : القديمة التي هي قوم هود ، والقصة فيهم ، والأخرى : إرم فيما قيل.

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ، قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ، هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وجعلكم عمارها بالإصلاح والطاعة ، {فَاسْتَغْفِرُوهُ} فاسألوا (لعله) مغفرته بالإيمان ، {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} مما أفسدتم وعصيتم ، {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} داني الرحمة لمن تقرب إليه بالطاعة ، {مُّجِيبٌ} لمن دعاه من الصالحين.

 

{قَالُواْ : يَا صَالِحُ ، قَدْ كُنتَ فِينَا} فيما بيننا {مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا} للسيادة والمشاورة في الأمور ، وكنا نرجو أن تدخل في ديننا ، وتوافقنا وتساعدنا على ما نحن عليه ، {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} بضد ما نرجوه منك؟ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيد ، {مُرِيبٍ} موقع في الريبة ، من أرابه : إذا أوقعه في الريبة ، وهي قلق النفس ، وانتفاء الاطمئنانية.

 

{قَالَ : يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة. أتى بحرف الشك مع أنه على يقين أنه على بينة ، لأن خطابه للجاحدين ، فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي ، وإنني نبي على الحقيقة ، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره ، {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ} من عذابه وخذلانه وإبعاده {إِنْ عَصَيْتُهُ} في تبليغ رسالته ، ومنعكم عن عبادة غيره ، {فَمَا تَزِيدُونَنِي} بقولكم:{ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}{ غَيْرَ تَخْسِيرٍ} نسبتكم إياي إلى الخسار ، أو نسبي إياكم إلى الخسران.

 

{ وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً ، فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ} أي: ليس عليكم رزقها مع أن لكم نفعها ، { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} بعقر أو نحر ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} عاجل ، إما ظاهر : فاستئصالكم بالهلاك ، وإما باطن : فلإبعاد والاستدراج ، لأن كل من عصى الله سبحانه ، فلا بد من أخذ العذابين في الدنيا (لعله) قبل الآخرة.

 

{ فَعَقَرُوهَا ، فَقَالَ : تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} من ذله وفضيحته ، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه ، { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ} القادر على تنجية أوليائه { الْعَزِيزُ} الغالب على إهلاك أعدائه.

 

{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} صيحة جبريل عليه فيما قيل ، {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ميتين {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يقيموا فيها . {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ} .

{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى} البشارة بالولد أو غيره ، {قَالُواْ : سَلاَمًا} سلموا عليه سلاما ، {قَالَ : سَلاَمٌ} أمركم سلام ، {فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قيل: مشوي بالحجارة المحماة ، والحنيذ: قيل الذي يقطر ودكه ، من حنذت الفرس ، إذا عرقته بالجلال ، كقوله: { بِعِجْلٍ سمين} .

{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} نكر وأنكر بمعنى . وكانت عادتهم أنه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا ، وإلا خافوه ، والظاهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم ، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه ، أو لتعذيب قومه ، دليل قوله:{ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أضمر منهم خيفة ، { قَالُواْ : لاَ تَخَفْ} لما عاينوا منه أمارات الخوف { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} بالهلاك.

 

{ وَامْرَأَتُهُ : قَآئِمَةٌ} قيل: وراء الستر تسمع تحاروهم ، أوعلى رؤوسهم ، { فَضَحِكَتْ} سرورا بزوال الخيفة ، أو بهلاك أهل الخبائث ، أو من غفلة قوم لوط مع قرب العذاب ، أو فحاضت ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ ، وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} (لعله) أي: من ذريته ، وهو ولد ولدها ، فسماه الله بشارة لها ، لأنها هي سبب إيجادهم .

 

{ قَالَتْ : يَا وَيْلَتَى! أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا} سمي الزوج بعلا ، لأنه قيم أجرها ، { إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أن يولد ولد من هرمين وهو استبعاد من حيث العادة.

 

{ قَالُواْ : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} قدرته وحكمته ، (لعله) معناه لا تعجبي ، وإنما أنكرت الملائكة تعجبها ، لأنها كانت في الآيات ، ومهبط المعجزات ، والآمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في بيت غير النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، ولكن أكثر الناس في بلادة من الأمور الإلهية الخارقة للعادات ، { رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ن ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة ، فلست بمكان عجب ، وهو كلام مستأنف علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : إياك والتعجب ، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة ، متكاثرة من الله عليكم ، وكيف لا تكون رحمته وبركاته عليكم متكاثرة ، وكانوا سبا لإيجاد إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته.{ إِنَّهُ حَمِيدٌ} محمود بتعجيل النعم ، { مَّجِيدٌ} ظاهر الكرم بتأجيل النقم ، واصل المجد الرفعة.

 

{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الفزع ، وهو ما أوجس من الخيفة حيث أنكر أضيافه ، { وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى} بالولد . سمي بشارة له ، لأنه يرتفع به علو درجات ، { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} في معناهم ، أي: لما اطمأن قلبه بعد الخوف ، وملى سرورا بسبب البشرى فرغ للمجادلة ، والمعنى : يجادل رسلنا ، ومجادلته إياهم أنهم قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ، قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا ، قَالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } . وغير ذلك مما يخص قوم لوط ، لأنه قال: { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (ولعله) بتأخير العذاب عنهم ، رجاء إسلامهم . { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} غير عجول على كل من أساء إليه ، أو كثير الاحتمال عمن آذاه ، { أَوَّاهٌ} كثير التأوه من خوف الله ، { مُّنِيبٌ} تائب رجاع إلى الله ، وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة ، والرحمة تبين أن ذلك مما حمله على المجادلة فيهم ، رجاء أن يرفع عنهم العذاب ، ويمهلوا لعلهم يحدثون توبة.

 

{يَا إِبْرَاهِيمُ ، أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الجدال ، وإن كانت الرحمة ديدنك ، فترك المجادلة أفضل من قبل {إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ} أي: قضاءه وحكمه(لعله) وانقضاء الأجل ، لأن لكل أجل كتاب ، {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} فلا يرد بجدال.

 

{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا} لما أتوه وراى هيأتهم وجمالهم ، {سِيءَ بِهِمْ} أحزن ، لأنه حسب أنهم إنس ، فخاف عليهم خبث قومه ، وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم ، {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} تمييز ، أي: وضاق بمكانهم صدره ، وهو كناية عن شدة نفتاالاض للعجز عن مدافعة المكروه ، والاحتيال فيه ، (لعله) كأن يده صارت قصييرة ، {وَقَالَ : هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } شديد.

{ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يسرعون ، كأنما يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه ، {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ومن قبل ذلك (لعله) الوقت ، كانوا يعملون الفواحش ، حتى مرنوا عليها ، وقل عندهم استقباحها ، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء (لعله) فلما علم مرادهم فيهم ، {قَالَ : يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي} فتزوجوهن ، أراد أن يقي أضيافه ببناته ، وذلك غاية الكرم ، {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أحل وازكى لنفوسكم ، لغلمة الشهوات ، (لعله) ليدفعهم بمثل ما هم فاعلوه ، {فَاتَّقُواْ اللّهَ} بإيثار ما أحله على ما حرمه ، {وَلاَ تُخْزُونِ} ولا تهينوني ، ولا تفضحون ، {فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}؟ أي: رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل ، والكف عن السيء.

 

{قَالُواْ :لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} حاجة ، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}.

{قَالَ : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ، أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} المعنى: لو قويت عليكم بنفسي ، أو آويت إلى قوي أستند إليه وأمتنع به ، فيحميني منكم ، فشبه القوي العزيز بالركن من الجبل في شدته ومنعته ، فلما رأت الملائكة كثرت المجادلة بينه وبينهم فيهم ، {قَالُواْ : يَا لُوطُ} إنا ركنك الشديد ، {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ، لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} طائفة منه ، {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} بقلبه إلى ما خلف ، ولا ينظر إلى ما وراءه أو لا يلتفت منكم أحد ، {إِلاَّ امْرَأَتَكَ ، إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؟!.

 

{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ، جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} اي: جلعنا الغالب مغلوبا ، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} متتابع ، أو مجموع معد للعذاب.

{مُّسَوَّمَةً} أي: معلمة للعذاب ، قيل: مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به ، {عِندَ رَبِّكَ} في خزائنه أو حكمه ، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} لا تفوتهم.

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} هو اسم مدينتهم ، أو اسم جدهم . {قَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ، وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ، إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ} بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون .{ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} مهلك من قوله:{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ  } ، وأصله من إحاطة العدو ، والمراد : عذاب الاستئصال في الدنيا ، أو عذاب الآخرة.

 

{وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل ، نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول ، لزيادة الترغيب فيه ، وجىء به مقتدا بالقسط الذي ليكن الإيفاء على وجه العدل والسوية ، من غير زيادة ولا نقصان .{ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} البخس: النقص ، قيل: كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون ، وينضم إليه بخس جميع الأشياء ، حتى عدم الإقرار بالإنصاف عند المحاجة .{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} العثي والعيث: أشد الفساد ، نحو السرقة والغارة ، وقطع السبيل.

 

{بَقِيَّةُ اللّهِ} ما يبقي لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم ، {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  } بشرط أن تؤمنوا ، نعم ، بقية الله خير للكفرة أيضا ، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف ، إلا أن فائدتها تظهر مع الإيمان بحصول الثواب ، مع النجاة من العقاب ، ولا يظهر مع عدمه ، لانغماس صاحبها في غمرات الكفر ، وفي ذلك تعظيم للإيمان ، وتنبيه على جلالة شأنه ، أو المراد إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم ، وأنصح به إياكم ، {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} بوكيل لنعمه عليكم ، فاحفظوها وراعوها حق رعايتها.

 

{قَالُواْ: يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ، أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} كان شعيب كثير الصلوات ، وكان قومه يقولون له: ما تستفيد بهذا ، فكان يقول :"إنها تأمر بالمحاسن ، وتنهى عن القبائح " ، فقالوا له على وجه الاستهزاء : صلواتك تأمرك بترك عبادة ما كان يعبد آباؤنا ، وأن نترك التبسط في أموالنا بما نشاء من إيفاء ونقص ، وجاز أن تكون الصلاة آمرة مجازا ، كما سماها الله ناهية مجازا. { إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} السفيه الضال ، والعرب تصف الشىء بضده ، وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء ، وقيل : معناه الحليم الرشيد بزعمك ، وقيل: هو على الصحة ، على سبيل الإقرار ، أي: أنك فينا حليم رشيد ، ولكن لا تقدر على ما نقدر عليه.

 

{قَالَ:يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي، وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} يعني: النبوة والرسالة ، تقديره :" فهل يسع لي مع هذه الأنعام الجامعة للسعادات الروحانية والجسمانية ، أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه" ، وهو اعتذار منه (لعله) المألوف ، والنهي عن دين الآباء . {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني: أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها ، لأستبد بها. { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} ما أريد إلا إصلاح أحوالكم في الدنيا والآخرة ، بموعظتي ونصيحتي وأمري ونهيي طول استطاعتي ، ما دمت متمكنا لا آلو فيه جهدي. والتنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة: أهمها وأعلاها : حق الله تعالى ، وثانيها: حق النفس ، وثالثها: حق الناس ، قال غيره: والمراعاة لأداء حقوق الناس ، إنما ذلك من شروط مراعاة حقوق النفس ، إذا كانت من الفرائض اللازمة له عليهم. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما أعمل ، إلا بمعونته وتأييده ، (لعله) والتوفيق : تسهيل سبيل الخير.{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت ، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع في السراء والضراء.

 

{وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {شِقَاقِي} خلافي في إصابة العذاب ، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} كأنه لم يتحقق هلاك قومه من الله بعد ، بل متحقق أنهم يعذبون إن لم يؤمنوا .{ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} فهم أقرب الهالكين منكم ، أو في المكان ، فمنازلهم قريبة منكم ، أو فيما يستحق به الهلاك.

 

{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} يحب المؤمنين ، ويفعل بهم من اللطف والكرامة ما يفعل البليغ المودة لمن يوده.

{قَالُواْ: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} أي: لا نفهم صحة ما تقول (لعله) كوجوب التوحيد ، ونفي التنديد ، وإلا كيف لا يفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا منك مكروها ، وقيل: كان ضرير البصر .{ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} ولولا عشيرتك لقتلناك بالرجم ، وهو شر قتله ، وكان في منعة من قومه ، وكان رهطه من أهل ملتهم ، فلذلك أظهر الميل إليهم والإكرام لهم .{ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي: لا تعزعلينا ، وإنما يعز علينا رهطك.

 

ولذلك{قَالَ} في جوابهم :{ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ} أمكان رهطي أهيب عندكم من الله ، فأولى بكم أن تتحاملوا عن قتلي من سطوة الله وغضبه ، {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} أي : نبذتم أمر الله وراء ظهوركم ، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قد أحاط بأعمالكم علما.

 

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: قارين على جهتكم وطريقتكم التي أنتم عاكفون عليها ، من الشرك والنفاق والشنآن لي ، { إِنِّي عَامِلٌ} بمكاني {فسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} فسوف تعلمون أينا يأتيه العذاب ويخزيه ، أي: يفضحه ، وأينا هو كاذب ، {وَارْتَقِبُواْ} العاقبة ، {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر لها.

 

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} قيل: صاح بهم جبريل فخرجت أرواحهم ، أو أتتهم صيحة من السماء فأهلكتهم ، {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ميتين بصيحة واحدة.

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يكونوا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين ، {أَلاَ بُعْدًا} هلاكا {لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ} هلكت{ثَمُودُ} .

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} حجة بينة {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ} أي: الملأ {أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} هو تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره وهو ضلال مبين ، وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلكم ، وجاهر بالظلم والشر الذي لا يصدر إلا من سلطان ظلوم ، وذلك بمعزل عن الإلهية ، ومن ذلك أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين ، وعلموا أن مع موسى الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد ، أو المراد ، وما أمره بصالح حميد (لعله) حميد العاقبة.

 

قوله:{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يتقدمهم وهم يتبعونه كما كان في الدنيا {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أدخلهم فيها ، لأن كل إمام يأتم به مأمومه في الدنيا والآخرة ، كان إمام هدى إو ضلال.{ وَبِئْسَ الْوِرْدُ} المورد{الْمَوْرُودُ} الذي ورده.

 

{وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً} أي: أبعدوا في هذه الدنيا من التوفيق والرحمة ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} يلعنون أيضا ، {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} بئس العطاء المعطى ، وذلك أنه ترادفت عليهم لعنتان.

{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ} باق على ساقه ، {وَحَصِيدٌ} عافي الأثر ، كالزرع الذي ذرته الرياح.

 

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بمعاملتنا إياهم ، أو بإهلاكنا إياهم ، {وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بارتكاب ما به أهلكوا ، {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ } ، لأنهم ليسوا من الله في شيء لما عبدوا غيره ، ولم تغن عنه آلهتهم التي عكفوا على عبادتها من دون الله ، لما استحقوا العذاب منه. {لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ} عذابه(لعله) لما تحقق الحق زهق الباطل ، {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} تخسير ، بمعنى النزول في الهلاك ، يعني: وما أفادتهم عبادة غير الله شيئا ، بل أهلكتهم.

 

{وَكَذَلِكَ} ومثل ذلك الأخذ{أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} أي: أهلها، وماذا على القرى{كذا} ، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} لجميع من ظلم نفسه ، كما قال:{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } الآية .{ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ} مؤلم{شَدِيدٌ} صعب على المأخوذ ، وهذا تحذير لكل نفس ظالمة ، فعلى كل ظالم أن يبادر{إلى} التوبة ، ولا يغتر بالإمهال.

 

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما قص ، {لآيَةً} لعبرة {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} أي: اعتقد صحته ووجوده ووصوله.{ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} وأنهم لا ينفكون منه ، يجمعون للحساب والجزاء ، {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي: يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد.

{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانتهاء مدة معدودة ، التي صيرناها لبقاء الدنيا.

 

{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي: لا يشفع أحد إلا بإذنه ، {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} هو أول نهيق الحمار ، {وَشَهِيقٌ} هو آخره إذا ردده في جوفه ، وقيل: الزفير: الصوت الشديد ، والشهيق ، الصوت الضعيف ، وقيل: الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر.

 

{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} أي: مدة دوام السماوات والأرض ، والمراد: سماوات الآخرة وأرضها ، وهي دائمة مخلوقة للأبد ، والدليل على أن لها سماوات وأرضا ، قوله:{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } ، وقيل: ما دام فوق وتحت ، لأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم ، إما سماء أو عرش ، كل ما أظلك فهو سماء ، أو هو عبارة عن التأبيد ، ونفي الانقطاع ، كقول العرب:" ما لاح كوكب". {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} من الفريقين ، من تعميرهم في الدنيا ، واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث ، قبل مصيرهم إلى النار، يعني: هم خالدون فيهما إلا هذا المقدار ، {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}.

{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع ، ولكنه ممتد إلى غير نهاية.

 

{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء} أي: فلا تشك بعدما أنزل من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم ، لما أصاب أمثالهم قبلهم ، تسلية لرسول الله ، وعده بالانتقام منهم ، ووعيد لهم ، ثم قال:{ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} يريد أن حالهم في العبادة مثل حال آبائهم ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم ، وسينزل بهم مثله ، وإعلام أنهم مقلدون وأن أكثر الخلق على غير عبادة الله .{ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب ، أو من الرزق ، فيكون تأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه من أعمالهم ، على مقتضى الحكمة .{ غَيْرَ مَنقُوصٍ} (لعله) على مقتضى عملهم ، أو أراد أرزاقهم التي قدرت لهم.

 

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} آمن به قوم ، وكفر به آخرون ، كما اختلف في القرآن ، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بعد آجالهم ، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بإهلاك من كذب ، وسلامة من أسلهم ، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من القرآن والعذاب {مُرِيبٍ} من أراب الرجل: إذا كان ذا ريبة.

 

{وَإِنَّ كُـلاًّ} أي: جميع المختلفين ، {لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي: جزاء أعمالهم ، {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} فاستقم استقامة ، مثل الاستقامة التي أمرت بها ، غير عادل عنها ، {وَمَن تَابَ مَعَكَ ، وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تخرجوا عن حدود الله ، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو مجازيكم ، فاتقوه ، قيل: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كانـ{نت} أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال:" شيبتني هود".

 

{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} اي: لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم ، وفيما يدعونكم إليه ، وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك فما ظنك بالظلم نفسه والانهماك فيه ، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه ، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} وقيل: الركون إليهم الرضى بكفرهم . عن الحسن:" جعل الله الدين بين لاءين : ولا تطغوا ولا تركنوا . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من دعا لظلم بالبقاء ، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه". {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء} أي: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة ، ومعناه: وما لكم من دون الله من أولياء يقدرون على منعكم من عذابه ، {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} لا ينصركم هو ، لأنه حكم بتعذيبكم ، ولا تنصركم آلهتكم من عذابه.

 

{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} غدوة وعشية ، {وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} وساعات من الليل ، جمع زلفة : وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من أزلفة : إذا قربه.{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} أي: الصلوات يذهبن بالصغائر ، لما بينهن ، ما اجتنب العبد الكبائر ، {ذَلِكَ ذِكْرَى} أي: الصلوات ذكرى {لِلذَّاكِرِينَ} لا لغيرهم.

 

{وَاصْبِرْ} على عبادة الله ، {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الموحدين الله .

{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ} أي: فهلا كان من القرون التي أهلكناها {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أولو فضل وخير ، وسمى الفضل والجودة بقية ، لأن الرجل يستبقي مما ينفعه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل ، ويقال: فلان من بقية القوم ، أي: من خيارهم ، ومنه قولهم:" في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا".{يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} عجب محمد عليه الصلاة والسلام وأمته أنه لم يكن في الأمم التى ذكر الله إهلاكم في هذه السورة جماعة من أولي العقل والذين ينهون غيرهم عن الكفر والمعاصي ، من غير الرسل وتابعيهم ، كما قال:" من المستثنين" ، {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع ، أي: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون ، نهوا عن الفساد وسائرهم ناركون للنهي.{ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: التاركون للنهي عن المنكر ، {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي: اتبعوا ما عرفوا فيه من التنعم والتترف من حب الرئاسة والثروة ، وطلب أسباب المعيشة والمال والجاه ، ورفضوا الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر وراء ظهورهم ، {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}  اعتراض وحكم عليهم بأنهم قوم مجرمون.

 

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أي: لا يصح في الحكمة أن يهلك الله القرى التي ذكرها ، وقصها في هذه السورة وغيرها ظالما لها ، {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} تنزيها لذاته عن الظلم.

 

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} يأتمون بإمام واحد ، {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بعضهم على الحق ، وبعضهم على الباطل.

{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا ناسا عصمهم الله عن الاختلاف في الدين ، فاتفقوا على دين الحق ولم يختلفوا فيه ، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: ولما هم عليه من الاختلاف ، وقيل: للذين خلقهم ، وقيل: محصول الاية: أهل الباطل مختلفون ، وأهل الحق متفقون ، فخلق أهل الحق للاتفاق ، وأهل الباطل للاختلاف .{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} وهي قوله للملائكة:{ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لعلمه بكثرة من يختار الباطل(لعله) منهما.

 

{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: ما نقص الذي قصصناه عليك ، إلا لتثبيت فؤادك(لعله) على الإيمان ، لا لعبا ولا لهوا ولا عبثا ، {وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ} أي: في هذه السورة ، أو في هذه الأنباء المقتصة ، ما هو حق ، {وَمَوْعِظَةٌ} تزجر عن المخالفة ، {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه ، لأن تكاثر الأدلة ، اثبت للقلب.

 

{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها {إِنَّا عَامِلُونَ} على مكانتنا.

 

{وَانتَظِرُوا} بنا الدوائر ، {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله تعالى من النقم النازلة بأمثالكم.

 

{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لا يخفى عليه ما يجري فيها ، فلا تخفى عليه أعمالكم .{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك ، فيهلكهم وينجيك، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك وكافلك ، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: أنت وهم على تغليب المخاطب ، قيل: خاتمة التوارة هذه الآية.