طباعة
المجموعة: التفسير الميسر
الزيارات: 1586

بسم الله الرحمن الرحيم

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } الكتاب: إشارة إِلىَ ما تَضمنته السورة مِنَ الآيات، {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا}؟ لإنكار التعجُب {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ} ، من أفناءِ رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، قيل : كَانُوا يقولون: العجبُ أن الله لم يجد رسولا يرسله إلىَ الناس إِلا يتيمَ أبي طالب، لقوله : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } هَذَا القرآن على رجلٍ مِنَ القريتين  وذلك من فرط حماقتهم ، وقصور نظرهم عَلَى الأمور العاجلة {أَنَّ لَهُمْ }، بأَن لهُم . ومعنى : فيِ " للناس" {كَذَا} أنهم جعلوا لَهُم أُعجوبة يتعجبوب مِنْهُ ، والذي تعجبوا مِنْهُ أن يوحى إِلَى بشر ، وأن يكون رجلاً من سائرهم يرسله إِلىَ الناس ، وأن يذكّرهم بالبعث وينذِر بالنيران ، ويبشرَ بالجِنان ، وكل وَاحِد من هَذهِ الأمور ليس بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إٍِلى الأمم ، لم يكونوا إِلاّ بَشرا مثلهم ، وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيْضاً ، لأَنّ الله تعالى إِنَّمَا يختار للنبوَّة من جميع أسبابها ، والغَنِى والتقدُّم فيِ الدُّنيَا ليس من أسبابها ، والبعث للجزاء عَلَى الخير والشر هُوَ الحكمة العظمى ، فكيف يكون عجبّا ، إِنَّما العجب والمنكَر فيِ العقول تعطيل ذَلِك {قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}.أي: سابقةً وفضلاً ومنزلةً رفيعةً {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا } ، يعنون مُحَمَّدا صلى الله عليه وسلم{لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} أي: كَذِبٌ بَينٌ.

 

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } التِى{هي} أصول الممكنات {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي : استولى فقد تقدَّس الديَّان عَن المكَانَ ، والمعبود عَن الحدود ، {يُدَبِّرُ} يقضِى ويقدر عَلَى مقضي الحكة أمر الكائنات ، {الأَمْرَ} أمر الخق كلَّه ، وأمر ملكوت السَّمَاوَات والأَرْض والعرض والعرش ، ولَمَّا ذَكر عَلَى ما يدلُّ عَلَى عظمة شأنه وملكه ، مِن خلق السَّماوَات والأَرْض ، والاستواء عَلَى العرش ، أتْبَعَهَا هَذِهِ الجملة ، لزيادة الدلالة عَلَى العظمة ، وأنَّه لا يخرج مِنَ الأمور من قضائه وتقديره ، وكذلك قوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} دليل عَلَى عزه وكبريائه ، وقيل : ردٌّ لقولهم : الأصنام شفعاؤنا ، {ذَلِكُمُ }العظيم الموصوف بِمَا وُصف بِهِ.{اللّهُ رَبُّكُمْ} وَهُوَ الذِي يستحقُّ العبادة ، {فَاعْبُدُوهُ} ووحدوه وَلاَ تشركون بِهِ بعضَ خلقه مِنَ إنسان أو مَلَك أو جنًّ أو إنسٍ أو هواء أو غير ذَلِكَ مِنَ المخلوقات ،{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تدَّبَّرون فتستدلُّون بوجود المصالح والمنافع عَلَى وجود المصلح النافع.

 

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }الحقُّ هُوَ المرجع إِلَى الله ، فاستعدُّوا للقائه ، واحذروا عَن أن {627} تُلاقوه مشركين بِه شَيْاً من مخلوقاته ، {وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} للجزاء ، لقوله :{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : الحكمةُ بابتداء الحق وإعادته هُو جزاء المكَّلفين عَلَى أعمالهم ، وغير المكَّلفين خَلَقَه نفعا للمكَّلفين .{بِالْقِسْطِ} بالعدل لاَ بظلم مِنْهُ ، كُلًّ مِنْهُم عَلَى قدر عمله لقوله :{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } . {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} حارًّ ، {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

 

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} والحكمةُ:{لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ }حساب الآجال والمواقيت المقدَّرة بالسنين والشهور ، {مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ} المذكور، {إِلاَّ بِالْحَقِّ }الذِي هُوَ الحكمةُ البالغةُ ، ولم يخلقه عبثاً ، {يُفَصِّلُ }أي : يُبَينُ {الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فينتفعون بالتأمُّل فِيهَا.

 

{إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فيِ مجيء كُل واحد منها خلف الآخر ، {وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } من شىء ، {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ }خصَّهم بالذكر ، لأَنَّهُم يحذرون العاقبة ، فيدعُوهُُمُ الحذر إِلىَ النظر.

 

{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} لاَ يتوقَّعون بِهِ أصلاً ، لغفلتهم عَن التفطُّن بالحقائق ، وَلاَ يأملون حسن لقائنا ، كما يأملُه السعداء ، أو لاَ يخافون سوء لقائنا الذِى يجب أن يُخاف ، {وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا} بَدَلا مِنَ الآخِرَة ، وآثروا القيل الفاني ، عَلَى الكبير الباقي ، {وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا }وسكنوا فِيهَا سكون من لاَ يُزعج عنها ، فبنوا شديداً ، وجمعوا كثيراً ، وأَّملوا بعيداً . {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا }عَن أَدلتنا {غَافِلُونَ }لا يتفكَّرون فِيهَا. {أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

 

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يُسددُهم بسبب إيمانهم للاستقامة عَلَى سلوكِ التسديد المؤدي إِلىَ الثواب ، وفيه إضمار ، أي : يُرشدهم رَبُّهم إِلىَ جنَّته ، {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }.

 

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي : دعاؤهم ، لأَنَّ اللهمَّ تداء لله ، ومعناه : اللهمَّ إِنَّا نسبحك ، أي يدعون الله بقولهم " سبحانك اللهمَّ" تلذُّذًا بذكره لاَ عبادة ، لأَنَّ العبادة قد انحطَّت عَنْهُم ، وبقوا متنعمين بثوابها أبد الآباد ، فيَا لهَا من سعادة مَا أدوَمَهَا ، {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ }أي : يُحيي بعضهم بعضا بالسلام ، أو هُوَ تحيَّة الَملاَئِكة إيَّاهم ، أو تحيَّةُ اللَّه لَهُم ببشارةٍ لِما دعُوا أو إجابة لِمَا سُئلوا ، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } وخاتمة دُعائهم الذِي هُوَ التسبيح، {أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يقولون : الحمدلله رَب الْعَالَمين ، قيل : أوَّل كلامهم التسبيح ، وآخره التحميد ، فيبدؤون بتعظيم اللَّه وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه ، ويتكلَّمون بينهما بِمَا أرداوا ، تنبُّها لفضل التسبيح والتحميد.

 

{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ} أصله ولو يعجل اللَّه الشرَّ تعجيلُه لَهُمُ الخيرَ ، فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لَهُمُ الخير ، إشعاراً بسرعةِ إجابته لَهُم ، والمراد : أهل مكَّة أو غيرهم ، كقولهم: {  فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء } ، أي ، ولو عجَّلنا لهم الشرَّ الذِي دعوا بهِ كما نعجلُ لَهُمُ الخير ، ونجيبهم إِلَيْهِ ، {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لأُميتوا وأهلكوا ، ولكن { فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ} شِركِهم وضلالتهم إلى مضي آجالهم ، وذلك هُوََ الخذلان بعينه ، كأنَّه قيل : وَلاَ يُعجل لَهُمُ الشرَّ ، وَلاَ يقضى إِلَيْهِم أجلهم ، فنذرهم أي : نمهلهم فيِ طغيانهم ، ونفيض عَلَيْهِمُ النعمة مَعَ طغيانهم ، إلزاما للحجَّة عليهم. {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ} أصابه {الضُّرُّ ، دَعَانَا} لإزالته ، {لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا} وفائدة ذكر هَذِهِ الأحوال ، أنَّ المضرور لاَ يزال داعيا لاَ يَفتر عَن الدعاء ، حتَّى يزول عَنْهُ الضرُّ ، فهو يدعو اللَّه فيِ حالاته كلِّها بلسان مقاله أو لسان حاله. {فَلَمَّا كَشَفْنَا} فرَّجنا {عَنْهُ ضُرَّهُ ، مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} أي : استمرَّ عَلَى طريقته الأوللى قبلَ مس الضر ، ونسيَ حال الجهد ، كأن لم يكن مِنْهُ ، وفيه ذَلِكَ . {كَذَلِكَ} مثل ذَلِكَ التزين ، {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} للمجاوزين الحدَّ عَلَى الكفر{مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} مِنَ الانهماك فيِ الشهوات ، والإعراض عَن العبادات ، وترك للآيات.

 

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ}أشركوا ، {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: مَا استقام {لهم} أن يؤمنوا لفساد استعدادهم ، وخذلان اللَّه لَهُم ، وعلمه بأنَّهم يموتون عَلَى كفرهم . {كَذَلِكَ} مِثلُ ذَلِكَ الجزاء ، يعني : الإهلاك ، {نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} وَهُوَ وعيد لمن نزل بتلك المنزلة.

 

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم} ، الخطاب للذين بُعثَ إِلَيْهِم  مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، أي : استخلفناكم فيِ الأرض بعد القرون المهلكة ، {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي : للنظر أتعلمون خيرا أو شراًّ ، فنعاملكم عَلَى حسب عملكم.

 

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} للراسخين فيِ العلم ، أو لمن عداهم ، {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} لمَّا عاظهم مَا فيِ القرآن من ذم عبادة الأوثان ، والوعيد لأهل الطغيان : {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا} يوافق غرضنا ، {أَوْ بَدِّلْهُ} كلُّ من لاَ يرجو لقاء اللَّه إِذَا قامت عليه الحجَّة سعى{كذا} مِنَ الذِينَ لَوَى عُنُقه ، إِلاَّ ما وافق هواه. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي} مَا يستقيم لي{أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي} من قبلِ نفسي ، فأكون عبدا لها لاَ للَّه تعالى. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي: لاَ أتَّبع إِلاَّ وحي اللَّه ، من غير زيادة وَلاَ نقصان وَلاَ تبديل ، خالفَ هوى النفس أو وافقها ، لأَنَّ الذِي أتيت بِهِ من عند اللَّه لاَ من عندي ، {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} إن اختلقت شَيْاً من عند نفسي بما تهواه ، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} حينمَا نلقى فِيهِ الموت ، أو يوم القيامة.

 

{قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني: أنَّ تلاوته  ليست إلاَّ بمشيئة اللَّه ، وإظهاره أمرا عجيبا خارجا عَن العادات ، وَهُوَ أن يخرج رجل أُميٌّ لم يتعلّم ، ولم يشاهد العلماءَ ، فيقرأ عَلَيْكم كِتَاباً فصيحا يغلب كلَّ كلامٍ فصيحٍ ، ويعلو عَلَى كُل منثور ومنظوم ، ومشحونا بعلوم الأصول والفروع ، والإخبار عَن الغيوب التِى لاَ يعلمها إِلاَّ اللَّه ، {وَلاَ أَدْرَاكُم بهِ} وَلاَ أعلَمَكم اللَّه بالقرآن عَلَى لساني ، {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ} من قبل نزول القرآن ، أي: فقد أقمت فيما بينكم مدَّة ، ولم تعرفوني متعاطيا شَيْئاً من نحوه ، وَلاَ قدت عليه ، ولاَ كنت متواصفا بعلم وبيان ، فتتَّهموني باختراعه ، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}! فتعلمون أنَّه ليس إلاَّ من عند اللّه.

 

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} فزعم أَنَّ للَّه شريكا ، إِن خالف فيما تعبَّده به ، أو كذَّب بآياته بالقرآن ، او شَيْء من تأويله ، وفيه بيان أنَّ الكاذب عَلَى اللَّه والمكذَّبَ بِآيَاتِه فيِ الكفر سواء. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} من دون اللَّه ، لأَنَّهُم لم يسلكوا طريق الفلاح.

 

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} إن تركوا عبادتها ، {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} إن عَبَدُوها . {وَيَقُولُونَ : هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} أي: فيِ أمر الدُّنْيَا والآخِرَة.{ قُلْ} : يا محمَّد ، {أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ} أتخبرون الله ، {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} ، ثُمَّ نزَّه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزَّه ذاته عَن أن يكون لَهُ شريك.

 

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} متَّفقين عَلَى ملَّةٍ وَاحِدَة من غير أن يختلفوا بَيْنَهُم ، {فَاخْتَلَفُواْ} فصاروا مِلَلا.{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} وَهُوَ تأخير الحكم بَيْنَهُمُ إلىَ يوم القيامة ، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} حين اختلافهم {فيما} هم {فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيما اختلفوا فِيهِ ، وتبرَّأَ المحقُّ مِنَ المبطل مشاهدة وعيانا ، ولكن سبَّق كلمته لحكمة ، وَهُوَ: أنَّ هَذِهِ الدار دار تكليف ، وتلك دارُ ثواب وعقاب.

 

{وَيَقُولُونَ:  لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} مِنَ الآيات التِى اقترحوها ، { فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ} أي: هُوَ المختصُّ بعلم الغيب ، فهو العالم بالصارف عَن إنزال الآيات المقترحة لاَ غير. {فَانْتَظِرُواْ} نزول مَا اقترحتموه ، {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} بِمَا يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات. {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ} وَهُوَ أَنُتم ، عامٌّ لجنس الناس ، {رحمة} رحمةً وحِصنا ونحوهما ، {مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ ، إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} بدفعها وإنكارها ، والمكر: إخفاء الكيد.{ قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} ولم يصفهم بسرعة المكر ، لأَنَّ كلمة المفاجآت دلَّت عَلَى ذَلِكَ ، كأنَّه قَالَ: وإذا رحمناهم من بعد ضرَّاء فاجؤوا وقوع المكر منهم ، وسَارَعوا إليه قبل أَن يغسلوا{كَذَا} رؤوسهم من مس الضرَّاء. {إِنَّ رُسُلَنَا} يعني: الحفظة{يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} إعلام بأَنَّ مَا تظُّنون خافيا لاَ يخفى عَلَى الله ، وَهُوَ منتقم منكم.

 

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يجعلكم قادرين عَلَى قطعهما بالأرجل والدواب ، والفلك الجارية . ويخلق فيكم {الأمور} الداعية إٍِلَى السير. {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُواْ بِهَا} لِلَينها وإستقامتها ، {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} شديدةُ الهبوب ، {وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} مِنَ البحر، {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أهلكوا ، جعل إحاطة العدو مَثَلا فيِ الهلاك.{ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من غير إشراك بِهِ ، لأَّنَّهُم لاَ يدعون حينئذ معه غيره ، يقولون: {لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ} الأهوال ، {لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لنعمتك ، مؤمنين بك.

 

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ} يُفسدون فِيهَا {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي : بالباطل. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} أي: ظلمكم يرجع عليكم . {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: بغيكم كمتاع الحياة الدَّنيَا ، ويضمحلُّ ويبقى وبالُه عليكم ، {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فنجزيكم بِهِ ، ونجازيكُم عليه ، وقد ضرب الله تعالى للدنيا مثلا ، لأَنَّ الأشياء يظهرُ سرُّها وحقيقتها بالمثل ، فقال:

 

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} حالها العجيبة في سرعة نُقصٍِها ، وذهاب نعمتها بعد إقبالها ، وإعتزاز البأس بها ، وذلك مَثلُّ لجميع مَا خوله العبد مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ سريع الذهاب ، لأَنَّهُ إذا بقيَ لك لم يبق لَهُ ، {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي: فاشتبك بسببه حتَّى خالط بعضه بعض ،{مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} مٍِنَ الحبوب والثمار والبقول ، {وَالأَنْعَامُ} يعني: الحشيش. {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أظهرت زينتها بالنباتات ، واختلاف ألونه ، {وَازَّيَّنَتْ} وتزيَّنت بهِ وأظهرت حسنها عند إقبالها ، وأخفت عواقبها عَن أبنائها ، {وَظَنَّ أَهْلُهَا} الطامحون إِلَيْها {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} كأنَّهم ظافرون بها ، {أَتَاهَا أَمْرُنَا} عذابنا ، وَهُوَ ضرب زرعها ببعض العاهات ، بعد أمنهم واستيقانهم أنَّه قد سَلِمَ ، وأنَّه واصل إِلَيْهِم ومنتَفَعٌ بِهِ {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا} فجعلنا زرعها {حصيدا} شبيها بِمَا يُجَذٌ مٍِنَ الزرع ، وفطعه واستئصاله ، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} يعني : صارت كأن لم تكن ، وَمَا حصلوا منها إِلاَّ الجزاء .{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فينتفعون بضرب الأمثال ، وَهَذَا مٍِنَ التسلية ، شبَّه حال الدنُّيَا فيِ سرعةِ نقصها ، وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأَرْض في جفافه وذهابه حطاما ، بعدما الْتَفَّ وتكاثف وزيَّن الأَرْض بِخُضرته ، وَلَمَّا وصف الدُّنْيَا ، وقلَّة انتفاعها ، وسرعة ذهابها ، وكثرة آفاتها ، رغَّب فيِ عمل الآخِرَة فقال:

{وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} عَن الفناء والذهاب ، يعني: الجنَّة ، وَقِيلَ: السلام هُوَ الله تعالى ، وداره: الجنّة ، يدعو عباده إِلَى جنَّته ببعث الرسل ، ونصبِ الأدلَّة ، وقيل ، سُميَت الجنَّة دار السلام لأَنَّ من دخلها سَلِمَ مِنَ الآفات ، {وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .

 

{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى} المثوبة الحسنى وهي الجنَّة ، {وزيادة} قيل الرضوان .{ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} وَلاَ يغشاها{قتر} غَبَرة ، {وَلاَ ذِلَّةٌ} وَلاَ أثر هوان ، والمعني : وَلاَ تُرهقهم مَا يرهق أهل النار . من آثار أصحابنا : " وعن قول الله :{ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} فقد قيل: لاَ يرهقهم لاَ يغشاهم ، والقتر : الكسوف ، والذلَّة : الكآبة". {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

{وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ} فنون {كَذَا} الشرك أو النفاق ، {جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ذلَّة وهوان ، {مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ } من عقابه {من عاصم} أي: لاَ يعصمهم أحد من سخطه وعقابه ، {أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} أي: جُعل عليها غطاءٌ من سواد الليل ، لفرط سوادها وظلمتها ، {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

 

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الكفَّار وآلهتهم ، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أيَّ شرك كَانَ ، {مَكَانَكُمْ} أي: إِلزموا مكانكم لاَ تبرحوا ، {أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ ، فَزَيَّلْنَا} ففرَّقنا{بَيْنَهُمْ} وقطعنا قرناءهم ، والوصل التِى كَاَنت بَيْنهُم في الدُّنْيَا يُواصلون بها أُلفَتَهُم .{ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم} من عبدوه من دون الله :{ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} إِنَّما كُنتُم تعبدون الشياطين فيِ الحقيقة ، من حيث أمروكم أن تتَّخذوا لله أندادا فأطعتموهم ، فيقولون: بلى كُنَّا نعبدكم ، فتقول الأصنام : إِنَّمَا كُنتُم تعبدون أهويتكم ، لقوله:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } .{ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} مَا  كُنَّا عَت عبادتكم إِلاَّ غافلين.

 

{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ} تُختَبَر وتَذُوق{مَّا أَسْلَفَتْ} مِنَ العمل ، فتعرف كيف هُوَ ، أقبيح أم حسن.{ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} ربهم الصادق {في} ربوبيَّته ، لأَنَّهُم كَانُوا يَتَوَلَّون مَا ليس لربوبيتَّه حقيقة ، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وضاع عَنْهُم مَا كَانُوا يَدَّعُون أنَّهم شركاء لله.

{قُلْ : مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} من يستطيع خلقهما وتسويتهما عَلَى الحد الذِى سُويَا عليه مِنَ الفطرة العجيبة ، أو من يحميهما مِنَ الآفات مَعَ كثرتهما فيِ المدد الطوال ، وهما لطيفان يُوذِيهما أدنى شىء. {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي: الحيوان والفرخ والزرع والمؤمن والعالم مِنَ النطفة والبيضة والحب ، والكافر والجاهل وعكسها ، {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ومن يلي تدبير أمر العالم. {فَسَيَقُولُونَ : اللّهُ } فسيجيبونك عند سؤالك أنَّ القادر عَلَى هَذِهِ هُوَ الله ، {فقل} لَهُم:{ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الشركَ فيِ العبوديَّةِ  ، إذَا اعترفتم لَهُ بالربوبيَّة.

 

{فذلكم الله} أي: مَن هَذِهِ قُدرته: الله {رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الثابت ربوبيَّته ثباتا لاَ ريب فِيهِ ، لمن حقَّق النظر.{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} أي: لاَ واسطة بين الحق والضلال، فمن يخطىء الحقَّ وقع فيِ الضلال ، ومن سلم مِنَ الضلال كَانَ عَلَى الحق.{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} عَن الحق إِلىَ الضلال ، وعن التوحيد إِلىَ الشرك.

 

{ كذلك} مِثل ذَلِكَ الحق ، {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} كما حقَّت الربوبيَّة لله حقَّت  كلمة رَبكَ{عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ} تَمرَّدوا فيِ كفرهم ، {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: حقَّ عَلَيْهِم كلمة الله أنَّ إيمانهم غير كائن.

 

{قُلْ : هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ} من نطفة ، {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، فإن أجابوك ، وَإلاَّ{ قل: اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تُصرَفُونَ عَن قصد السبيلِ.

{قُلْ : هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم} يعني: الأوثان ، { مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}يرشد إليه، {قل: اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} والمعني: أنَّ الله وحده هُوَ الذِي يهدي للحق ، بمَا رَكَّب فيِ المكلَّفين مِنَ العقول ، وأعطاهم مِنَ التمكين للنظر فيِ الدلالة التِى نصبها لَهُم ، وبما وفَّقهم وألهمهم ، وَوَقفَهم عَلَى الشرائع بإرسال الرسل ، فهل من شركائكم التِى جعلتم أندادا لله أحدٌ يهدي إِلَى الحق؟ ثُمَّ مَثَّلَ هدايةَ الله ثُمَّ قَالّ:{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ} بالإِتبَاع ، أم الذِي لاَ يَهِدي ، أي : لاَ يهتدي بنفسه ، أو لاَ يهدي غيرَه إِلاَّ أن يَهديِه الله ، {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تقضون لأنفسكم بالباطل ، حيث تزعمون أنَّهم أندادا لله.

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} بغير دليل فيِ عامَّة أمورهم الدُّنْيَاويَّة والأخرويَّة ، لأَنَّهُم لا يتبَّعون إِلاَّ الوهميَّات مِنَ الأمور دون الحقائق .{ إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ} أي : لاَ يقوم مقام العلم(لعلَّه) الثابتِ الذِي لاَ يزول {شَيْئًا: إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من اتباعِ الظن ، وترك الحق.

 

{وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ} مَا صحَّ وَمَا استقام أن يكون مثله فيٍِ علو أمره وإعجازه مفترى ، {وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو ما تقدمه من الكتب المنزله ، {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} وتبيين ما كتب وفرض من  الأحكام والشرائع ، {لاَ رَيْبَ فِيهِ} عند أهل الحق ، {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} .

{أَمْ يَقُولُونَ:افْتَرَاهُ قُلْ}إن كان الأمر كما تزعمون :{فأتو} أنتم {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أي: شبيهة به في البلاغة وحسن النظم ، فأنتم مثلي في العزيمة .{ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم} كم شركائكم{مِّن دُونِ اللّهِ} (لعله) ومع ذلك فاستعينوا بمن أضلكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنه افتراه.

 

{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع ، قبل أن يفقهوه كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم .{كذلك} مثل ذلك التكذيب ، {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ويجوز أن يكون {وَلَمَّا يَأْتِيهِمْ تَأْوِيلُهُ} ولم يأتهم بعد ، تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} مآل أمرهم.

 

{وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} (لعله) أي: سيؤمن به ، {وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} لفرط غباوته ، وقلة تدبره . {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} .

{وَإِن كَذَّبُوكَ} وإن تموا على تكذيبك ، وأيست منهم بعد أن قامت عليهم الحجة ، {فَقُل: لِّي عَمَلِي ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} لا تؤاخذون بعملي ولا أواخذ بعملكم ، {أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} فكل مؤاخذ بعمله.

 

{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ولكنهم لا يعملون ولا يعقلون. {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أتطمع أنك تقدر على إسماع الصوت الصم ، فإذا اجتمع سلب العقل والسمع فقد (لعله) فسد الأمر.

 

{وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق ، وأعلام النبوة ، ولكنهم لا يصدقون .{ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو أنضم إلى فقد البصر فقد البصيرة ، لأن الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد يفهم ، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء ، يعني: أن في الناس من أن لا يقبلوا{كذا} ولا يصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر ، وقد أعمى الله قلوبهم فلا يبصرون شيئا من (لعله) الهدى.

 

{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} ، لأنه في جميع أفعاله متفضل وعادل ، لا ينصر عاصيا ، ولا  يخذل مطيعا ، {وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال ، كما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} في قبورهم ، وقيل: في الدنيا {إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} ، لأن الماضي في حقهم كأن لم يكن ، استقصروا (لعله) المدة لهول ما {.....} ، وإنما هم كأنهم أبناء ساعتهم ،  وكذلك تعاقب أحوالهم في الدنيا بالخير والشر ، كأن الماضي بهم لم يكن .{ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بعضهم بعضا. {دْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ} قد اشتروا التجارة البائرة ، فخسروا ، وتعاموا عن التجارة التى لن تبور ، والمراد بالخسران خسران النفس ، ولا شىء أعظم منه. {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} للتجارة التى لن تبور.

 

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب ، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل عذابهم ، {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} مطلع عليهم ومجازيهم.

 

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ، ويدعوهم إلى دين الحق .{ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ} بالبينات ، فكذبوه ولم يتبعوه ، {قُضِيَ بَيْنَهُم} بين النبي ومكذبيه {بالقسط} ، فأنجى الرسل ، وعذب المكذبون ، أو ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضي بينهم .{ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا يعذب أحدا بغير ذنبه ، وإنما قال:{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي: من العذاب، {فإذا} استعجلوا بما وعدوا به من العذاب نزل.

{وَيَقُولُونَ : مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ} استبعادا له واستهزاء به ، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أن العذاب نازل ، وهو خطاب منهم للنبي والمؤمنين.

 

{قُل : لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم، {إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} أي: ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ،  فكيف أملك لكم الضرر ، وجلب العذاب .{ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ ، فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} لكل أمة وقت معلوم للعذاب ، مكتوب في اللوح ، فإذا جاء وقت عذابهم ، لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون.

 

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} الذي تستعجلونه {بياتا} وقت بيات، وهو الليل ، وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون ، {أو نهارا} وأنتم مشتغلون ، مستعجلون بطلب المعاش والكسب. {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أي: من العذاب ، والمعنى : أن العذاب كله مكروه ، وليس شىء منه بوجوب الاستعجال.

 

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} العذاب بالموت ،{آمَنْتُم بِهِ} لأن كل نفس تؤمن بما كفرت في ذلك الحين ، ولكن لا ينفعها الإيمان حين ذلك {آلآنَ} آمنتم به {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي: بالعذاب تكذيبا واستهزاء.

 

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ : ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} أي: يوم القيامة ، أو لأن ذلك مقدمة ، ,وأيام التعبد قد انقضت ، والتوبة قد أغلقت ، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ؟!

{وَيَسْتَنبِئُونَكَ} ويستخبرونك ، فيقولون ، {أَحَقٌّ هُوَ} هو استفهام على وجه الإنكار والاستهزاء .{ قُلْ: إِي وَرَبِّي} نعم والله { إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين العذاب ، وهو لاحق بكم لا محالة إن خالفتموه.

 

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ} ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها ، {لاَفْتَدَتْ بِهِ} لجعلته فدية لها ، {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} ، لأنهم بهتوا لما عاينوا مما لم يخشوهش من فظاعة الأمر وهوله. {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} بين الظالمين والمظلومين ، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من جزاء أعمالهم شيئا.

 

{أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فكيف يقبل الفداء ، وما فيهما ملكه.{ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ} كائن ، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لقصور عقلهم ، إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، وفي الحقيقة لا يعلمون شيئا لظاهر الآية :{ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإلى حسابه وجزائه في المرجع ، فيخاف ويرجى.

 

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي : قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، والموعظة التى تدعو إلى كل مرغوب ، وتزجر عن كل موهوب ، كما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب ، وزاجر عن كل موهوب ، إذ الأمر يقتضي حسن المأمور ، فيكون مرغوبا ، وهو يقتضي النهي عن ضده وهو القبيح ، وعلى هذا في النهي.{ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ} من العقائد الفاسدة ، والصدر موضع القلب{وَهُدًى} من الضلالة ، {وَرَحْمَةٌ} من العذاب {لِّلْمُؤْمِنِينَ} لمن آمن به منكم.

 

{قُلْ : بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}وهو ما علموه وعملوا به.{ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} . في الحديث:" من هداه الله للإسلام ، وعلمه القرآن ، ثم شكا الفائت ، كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه". {هُوَ} أي : ما آتاهم الله من العلم والعمل بما فيه{خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} للدنيا ، لأنه حطام زائل ضار ليس بنافع ، وذلك يتناول كل ما جمع لغير الله ، وعلى غير المأمور به.

 

{قُلْ: أَرَأَيْتُم} فأخبروني {مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} فبعضتوه ، وقلتم : هذا حلال وهذا حرام ، بلا حجة .{ قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ} في التحريم ، {أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} ، الآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل من الأحكام ، وباعثة على وجود الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شىء: جائز أو غير جائز على سبيل القطع بدين ، إلا بعد الإيقان ، وإلا فهم مفتر على الديان.

 

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} أي شىء ظنهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: أي شىء ظن المفترون في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه ، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره.{ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} حيث أنعم عليهم بالعقل ، ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام ، وهذا يتناول كل من يروم التعبد من الخليقة ، وليس مضنونا به عن أحد إلا من يأباه ، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه.

 

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أي: ما تكون في أمر. والخطاب ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو عام لجميع المؤمنين لقوله:{ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} ، لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن كل جزء منه قرآن .{ وَلاَ تَعْمَلُونَ} أنتم جميعا{ مِنْ عَمَلٍ} تعميم للخطاب بعد تخصيصه ، {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} شاهدين رقباء نحصي عليكم ولكم . خوفهم بما عرفهم من اطلاعه عليهم في جميع أحوالهم.{ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تخوضون  فيه ، من أفاض في الأمر ، إذا اندفع فيه ، {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} وما يبعد ، وما يغيب {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} وزن نملة ، أو هباء {فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} أي: في الوجود والإمكان ، {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يعني: اللوح المحفوظ ، أو في علمه تبارك وتعالى.

 

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ} هم الذين يتولونه بالطاعة ، ويتولاهم بالكرامة ، أو هم الذين تولى هداهم بالبرهان الذي أتاهم ، فتولو القيام بحقه ، والرحمة لخلقه ، أو هم المتحابون في الله على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، أو هم المؤمنون المتقون { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إذا خاف العصاة ، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حزن العصاة.

ثم وصفهم فقال:{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الشرك والنفاق جليهما وخفيهما.{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير موضع من كتابه ، وهي نعمتهم المعجلة في الحياة الدنيا ، وهم يتسلون بالعاقبة الباقية ، كما يتسلى أهل الدنيا بالعاجلة الفانية ، وشتان ما بينهما.{ وَفِي الآخِرَةِ} هي الجنة. {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} لا تغيير لأقواله ، ولا اختلاف لمواعيده.{ ذَلِكَ} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ينالون الفوز العظيم في الدنيا قبل الآخرة بدليل هذه الآية ، وهو نعيم معجل للأنفس الروحانية ، كما لضدهم عذاب أليم معجل في الدنيا. فهؤلاء خلقوا للعذاب فهم في العذاب دائمون في الدنيا والآخرة ، وهؤلاء خلقوا للنعيم فهم في النعيم دائمون في الدنيا والآخرة ، وكل ذلك عدل من الله تعالى لهؤلاء ، وفضل منه لهؤلاء.{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }.

 

{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} تكذيبهم وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك.{ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ} إن الغلبة والقهر في ملكة الله ، لا يملك أحد شيئا منها ، لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم.{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي  } {جَمِيعًا ، هُوَ السَّمِيعُ} لما يقولون ، { العليم} بما يدبرون ويعزمون عليه ، وهو مكافيهم بذلك.

{أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ} يعني: العقلاء ، وهم الملائكة والثقلان ، وخصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له ، وفي ملكته ، ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون له شريكا فيها فما وراءهم ممن لا يعقل أحق أن لا يكون له ندا وشريكا.{ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء} " ما" نافية ، أي: وما يتبعون حقيقة الشركاء ، وإن كانوا يسمونها شركاء ، لأن شركة الله في الربوبية محال ، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} إلا ظنهم الفاسد أنهم شركاء.{ وَإِنْ هُمْ} ما هم {إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يقدرون (لعله) في أنفسهم أن يكون{لله} شركاء تقديرا باطلا.

 

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} تنبيه على كمال قدرته ، وعظم نعمته المتوحد بها هو ، ليدلهم بها على تفرده باستحقاق العبادة .{ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} لتبصروا فيه مطالب أرزاقكم الدينية والدنياوية.{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع مدكر معتبر.

 

{قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} تنزيه له عن اتخاذ الولد ، وتعجب بهم من كلمتهم الحمقاء.{ هُوَ الْغَنِيُّ} علة لنفي الولد ، لأنه إنما يطلب الولد ضعيف ليتقوى به ، أو فقير ليستعين به ، أو ذليل ليتشرف به ، والكل أمارة الحاجة ، فمن كان غنيا غير محتاج كان الولد عنه منفيا.{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } ملكا ، ولا تجتمع النبوة معه.{ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا} ما عندكم من حجة بهذا القول،{أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وعيد لمن قال بما لا يعلم ، (لعله) وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل له ، (لعله) فهو جهالة.

 

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} قولا وفعلا أو اعتقادا{لاَ يُفْلِحُونَ} أي: لا ينجون من النار ، ولا يفوزون بالجنة ، ولكن {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أي: افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا ، حيث يقيمون به رئاستهم في الكفر ، ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر عليه ، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

 

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} خبره مع قومه ، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ، يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم}عظم وثقل ، كقوله:{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } .{ مَّقَامِي} مكاني ، يعني: نفسه ، أو قيامي ومكثي بين أظهركم ، {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ} بقيام حججه ، {فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ} أي: فوضت أمري إليه. {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} من أجمع الأمر ، إذا نواه وعزمع عليه.{ وَشُرَكَاءكُمْ} أي: مع شركائكم، {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} مستورا ، واجعلوه ظاهرا مكشوفا ، {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} ذلك الأمر الذي تريدون بي ، أي: أدوا إلى ما هو حق عندكم من هلاكي ، كما يقضي الرجل غريمه ، واصنعوا ما أمكنكم ، {وَلاَ تُنظِرُونِ} ولا تهملوني.

{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي ، {فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} يوجب التولي ، أو سألتكم من أجر ففاتني ذلك بتوليتكم ، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} وهو التواب الذي يثيبني به في الآخرة ، أي: ما نصحتكم إلا لله لغرض من أغراض الدنيا ، وفيه دلالة منه أخذ الأجر على تعليم العلام اللازم ، لأن تبليغ الأنبياء لازم عليهم إلى أممهم ، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} من المستسلمين لأوامره ونواهيه.

 

{فَكَذَّبُوهُ} فداموا على تكذيبه ، {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} يخلفون المغرقين.{ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} هو تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذر عن مثله ، وتسلية له {صلى الله عليه وسلم}.{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} فما استقام لهم أن يؤمنوا {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} بسبب تعودهم تكذيب الحق.{ كَذَلِكَ نَطْبَعُ} مثل ذلك الطبع{عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} بخذلانهم ، لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف ، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله ، وكسب العبد.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ} عن قبولها ، وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن قبولها ، {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} يتعاطون الجرائم من الآثام.

 

{فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} فلما عرفوا أنه هو الحق ، وأنه من عند الله ، {قَالُواْ} لحبهم الشهوات :{ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} لكذب بين ، وهم يعلمون أن الحق أبعد شىء من السحر.

{قَالَ مُوسَى : أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ، قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } لتصرفنا ، واللفت والفلت أخوان.{ عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} من عبادة الأصنام أو هو (لعله) عبادة أهويتنا ، لقوله:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } . {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء} أي: الملك ، لأن الملوك موصوفون بالتكبر على الناس باستتباعهم ، {فِي الأَرْضِ} بالتصرف فيها ، وفي أهلها ، {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين فيما جئتما به ، فلم يتبعوا رئاستهم ، (لعله) ورفض هواهم بملازمة الحق.

 

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ : ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} ليقوى بهم ئاسته. {فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ ، قَالَ لَهُم مُّوسَى: أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ، فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى: مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ} أي: الذي جئتم به هو السحر ، لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من الآيات.{ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ} يظهر بطلانه.{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} لا يثبته بل يدمره.{ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ} ويثبته {بِكَلِمَاتِهِ} بآياته ، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

 

{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} من شيعته ، {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} يرجع {الضمير} إلى فرعون ، بمعنى : آل فرعون ، {أَن يَفْتِنَهُمْ} يريد أن يعذبهم فرعون.{ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} لغالب فيها قاهر ، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} في الظلم والفساد ، وفي الكبر ، وفي العتو في إدعائه الربوبية.{ وَقَالَ مُوسَى: يَا قَوْمِ} لما رأى خوف المؤمنين به ، {إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ} صدقتم به وبآياته ، {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون ، لأن من شرط الإيمان بالله التوكل عليه ، {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} شرط في التوكل الإسلام ، وهو أن يسلموا نفوسهم لله ، أن يجعلوها له سالمة خالصة ، لا حظ للشيطان فيها ، لأن التوكل لا يكون مع التخليط.

 

{فَقَالُواْ:عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا} إنما قالوا ذلك ، لأن القوم كانوا مخلصين ، لا جرم أن لله قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم ، وأهلك من كانوا يخافونه ، وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه فعليه برفض التخليط للاخلاص {كذا}.{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} موضع فتنة لهم ، أي: عذاب يعذبوننا ، أو يفتنوننا عن ديننا ، أي: يضلوننا ، والفاتن: المضل عن الحق.{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} من كيدهم ، ومن شؤم عداوتهم.

 

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تبوأ المكان: اتخذه مباءة ، كقولك: توطنه ، إذا اتخذه وطنا ، والمعنى : اجعلا بمصر بيوتا من بيوته مباءة لقومكما ، ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه ، {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي : مصلى ، ولعلهم كانوا في أول الأمر مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم ، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المسلمون على ذلك في أول الإسلام بمكة ، ويحتمل أمره لهما أن يتبوءا بمصر بيوتا أي: يجعلا بها مساجد ، والمساجد: هي بيوت ، كما قال:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } الآية.{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} في بيوتكم إشارة إلى" تبوءا" {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .

 

{وَقَالَ مُوسَى : رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً} هي ما يتزين به من لباس وحلي وفرش وأثاث ، وغير ذلك ، {وَأَمْوَالاً} بقرا ونعما ، وضيعة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} أي: يستعينوا بذلك على الضلالة {عَن سَبِيلِكَ} أي: طاعتك.{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي: أهلكها ، وأذهب آثارها ، لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك . والطمس: المحق والإهلاك ، وكل من كانت معه أموال مكنوزة مستغن عنها ، ليس له في ادخارها نية إلا التكاثر ، فهي كالمطموس عليها ، بل هي أضر عليه ، لأنه يعاني جمعها وحفظها ، لا يزال معذبا بها ، {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} اطبع على قلوبهم ، واجعلها قاسية ، {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} عذاب الموت ، وإنما دعا لهم بهذا لما أيس من إيمانهم ، أو علم بالوحي أنهم لا يؤمنون ، فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون ، فلا يسع له أن يدعو بهذا الدعاء ، لأنه أرسل إليهم ليدعوهم إلى الإيمان ، وهو كقول نوح:{ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا   }.

 

{قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} والمعني: أن دعاءكما مستجاب ، وما طلبتما كائن في وقته ، {فَاسْتَقِيمَا} أي: على الحق ، ولا يميل بكم الشيطان عن الحق إلى الهوى .{ وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ولا تتبعان طريق الجهلة {الذين} لا يعلمون إلإ ظاهرا من الحياة الدنيا. والاستقامة مع اتباع سبيل الذين لا يعلمون لا تستقيم أبدا.

 

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} أي: جاوزناهم في البحر ، حتى بلغوا البر حافظين لهم ، {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} ليهلكهم ، {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لأن كل مخالف في شىء من دين الله ، فحين يدركه الموت يتوب مما خالف فيه الحق في ذلك الحين ، ولا تنفع التوبة حين ذلك ، لأن التعبد قد انقطع وأقبل الجزاء.

 

{آلآنَ} أي: تؤمن الساعة ، في وقت الاضطرار ، وتركت وقت الأختيار ، وما كان يدعى إلا إلى ذلك ، ولو علم الله فيه خيرا ، ومنه خيرا لقالها قبل ذلك .{ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (لعله) الماضي من عمرك الذي عمرته ، {وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} من الضالين المضلين.

 

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} لمن وراءه من الناس ، أن تظهر عبوديته ، وأن ما كان يدعى من الربوبية فهو محال ، وأنه مع ما كان فيه من عظم الملك ، آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه.{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} لا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون.

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} أي: أنزلنا{بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} وهو كقوله: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } . {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} من الأعمال الصالحة والأرزاق الواسعة، لما أطاعوا واستقاموا.{ فَمَا اخْتَلَفُواْ} في دينهم {حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ} فكان الاختلاف بينهم بعد قيام الحجة .{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيجازي كلا على قدر عمله ، ويميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.

 

{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} لما قدم بني إسرائيل وهم قراء الكتاب ، وصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في التوارة والإنجيل ، وهم أبناؤهم ، أراد أن يحقق علمهم بصحة القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويبالغ في ذلك ، فقال: فإن وقع لك شك، فرضا وتقديرا ، وسبيل من خالجته شبهة أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، أو بمباحثة العلماء ، كأنه قال له: فاسأل أهل الكتاب ، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلا عن غيرك ، والمراد: وصف الأخبار بالرسوخ في العلم بصحةما أنزل إلى رسول الله ، لا وصف رسول الله بالشك فيه. ثم قال:{ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أي: ثبت عندك بالآيات الواضحة، والبراهين اللائحة أن ما أتاك هو الحق الذي لا مجال فيه للشك، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين.

 

{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ} بشىء من حججه ، {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك ، والتكذيب بآيات الله ، أو هو على طريقة التهييج ، كقوله:{ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ  }. ، أو معناه : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم يقينا بمعاينة إحياء الموتى.

 

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} لعنته إياهم ، إذ ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح ، وقيل: كلمة ربك قوله:"  ". {لاَ يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أي: كل آية من آيات الله ، لأن الآية التى أتتهم مثل الآيات التي لم تأتهم ، لأنه قيل :" من لم ينفعه قليل الحكمة ، ضره كثيرها ، وزاده عشوة وصمما وبكما" ، {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي: عند الموت ، فيؤمنون ولكن لا ينفعهم ، لأن التعبد قد ارتفع.

{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} فهلا كانت قرية واحدة من القرى أهلكناها ، تابت عن الكفر ،  وحصلت الإيمان قبل المعاينة ولم تؤخره ، كما أخر فرعون وأمثاله إلى أن أخذوا بمخنقهم .{ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأن يقبل الله منها لوقوعه في وقت الاختيار ، {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} كأنه قال: ما آمن من أهل قرية من أهل القرى العاصية ، فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ، {لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وهو مكشوف عن كل مؤمن ، وحال بكل كافر ، بدليل هذه الآية .{ وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} إلى آجالهم ، وكل من آمن إيمانا حقيقيا قبل التغرغر يكشف عنه العذاب في الحياة الدنيا ، ومتع متاعا طيبا إلى الموت ، لأن العذاب من الله في الدنيا والآخرة لا يستحقه إلا من سبق منه ذنب ، عقوبة له من الله ، ومن سبق منه الإحسان لا يكون جزاؤه إلا الإحسان من الله له في الدنيا والآخرة.

 

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ} بحيث لا يشذ منهم أحد ، {جَمِيعًا} مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه . أخبر عن كمال قدرته ونفوذ مشيئته ، أنه لو يشاء لآمن من في الأرض كلهم ، ولكنه شاء أن يؤمن به من علم منه اختيار الإيمان به ، وشاء الكفر ممن علم أنه يختار الكفر ولا يؤمن به ، وهو مشيئة علم وقضاء وقدر ، لا مشيئة أمر وجبر جل الله عن ذلك.{ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} بما لا يشاء الله ، والدليل على أن خلاف المشيئة مستحيل ، لا يمكن تحصيله بالإكراه عليه ، فضلا عن الحث والتحريض عليه{قوله}:{حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: ليس مشيئة الإكراه والجبر في الإيمان ، إنما ذلك إلى الله تعالى فاسد ، لأن الإيمان فعل العبد ، وفعله ما يحصل بقدرته ، ولا يتحقق ذلك بدون الاختيار . وتأويله عندنا : أن الله لو أعطاهم لآمنوا كلهم عن الاختيار ، ولكن علم منهم أنهم لا يؤمنون ، فلم يعطهم ذلك ، وهو التوفيق. عن ابن عباس:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يؤمن جميع الناس، (لعله) ويبايعوه على الهدي ، فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من (لعله) سبق له منن الله السعادة في الأزل وهو{....}".

 

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} بمشيئته ، أو بقضائه ، أو بتوفيقه وتيسيره ،{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} الكفر ، لأنه يرجسهم ،{عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} لا ينتفعون بعقولهم.

 

{قُلِ : انظُرُواْ} نظر استدلال واعتبار {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من الآيات والعبر، استدلالا لكمال قدرته ، وذلك{بـ}ـتقصى جميع الكائنات ، لأنها دالة على وحدانية الله تبارك وتعالى ، وشاهدة له بالألوهية ، وشاهدة على نفسها بالعجز والفناء ، وكلها حجج ، إلزاما للقبول أو للترك ، وأنموذجا للسعادة والشقاء ، وإنها جنة معجلة لأهل الجنة ، ونار معجلة لأهل النار ، {ونادى} بلسان الحال ، { } بلسان حالهم ، { نَعَمْ. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ، وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ  } . {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} في علمه وحكمه.

 

{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ}( لعله) من مكذبي الأمم مثل وقائعهم ، ونزول بأس الله بهم ، إذ لا يستحقون في الحقائق غيره.{ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} ذلك ، أو فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين إهلاككم.

 

{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} كأنه قيل: نهلك الأمم ، ثم ننجي رسلنا على حكاية الأحوال الماضية .{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ومن آمن معه ، {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا} في الحقيقة لا يمكن ولا يتأتى خلافه ، لأنه ينافي الحكمة الإلهية .{ نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك الكافرين.

{قُلْ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الخطاب لجميع من أرسل إليهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم {إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} وصحته وصفته وتأصيله ، فهذا ديني فاسمعوا وصفه ، ثم وصف دينه فقال:{ فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ} أي: الأصنام ، أو الشيطان ، أو الأهوية . وفي الحقيقة إنهم يعبدون أهويتهم ، {وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} فهذا خاصة ديني اعتقادا وعملا ، (لعله) وتركا ، فاعرضوها على العقل الصرف ، وانظروا فيه بعين الإنصاف لتعلموا صحته ، وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم ، وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد.{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: أن الله أمرني بذلك ، بما ركب في من العقل ، وبما أوحي إلي في كتابه.

 

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: استقم مقبلا بوجهك ، أي: بقلبك وجوارحك على ما أمرك الله به ، ولا تلتفت عنه يمينا ولا شمالا ، فإنه الصراط المستقيم ، وما سواه ففيه المهاوي والمغاوي.{ حَنِيفًا} مائلا عن كل دين.{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نهي له عن جلي الشرك وخفية ، وذلك يقتضى جميع المعاصي.

 

{وَلاَ تَدْعُ} أي: ولا تعبد ، لأن الدعاء ها هنا العبادة ، {مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ} إن دعوته ، {وَلاَ يَضُرُّكَ} إن أهملته ، {فَإِن فَعَلْتَ} ، فإن دعوت شيئا من دون الله ، أي: عبدت غير الله ، {فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، وهو يقتضى جميع معاصي الله.

 

{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} ولا شىء أضر من المعصية ، {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} وهي طاعة الله ، لأنه ليس بعدها خير ، {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} فلا راد لمراده ، وهو صفة المستحق للعبادة ، {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} قطع بهذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه ، والتوكل إلا عليه ، {وَهُوَ الْغَفُورُ } المكفر بالبلاء ، { الرَّحِيمُ} المعافي بالعطاء ، أتبع النهي عن عبادة الأوثان ، ووصفها ، لأنها لا تضر ولا تنفع ، والله عزوجل المستحق للعبادة ، إن أصابك بضر ، لم يقدر على كشفه إلا هو وحده ، وإن أرادك بخير لم يرد أحد غير ما يريده لك من الفضل والإحسان ، وهو الحقيق إذا بان توجه إليه العبادة (لعله) ورفض دونها {كذا}.

 

{قُلْ :يَا أَيُّهَا النَّاسُ} والجن داخلون في هذا الخطاب ، {قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ} في هذه السورة ، أو في جميع القرآن ، {مِن رَّبِّكُمْ ، فَمَنِ اهْتَدَى} اختار الهدى واتبع الحق ، {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فما نفع باختياره إلا نفسه ، {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ومن آثر الضلال ، فما ضر إلا نفسه ، {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} بحفيظ ، موكول إلى أمركم.

 

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} من وحي رسول أو إلهام ، {وَاصْبِرْ} أمره بالصبر على اتباع ما يوحى إليه ، لأنه لا يبلغ إلا به ، {حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ} بوصول أجلك ، أو بينك وبين من خالفك ، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} إذ لا يمكن الخطأ في حكمه ، لاطلاعه على السرائر ، اطلاعه على الظواهر.