بسم الله الرحمن الرحيم       

 

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } يسوُّون به الأوثان ، تقول : عدلتُ هذا بذا ، أي : ساويته ؛ والمعنى : أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلاَّ نعمة ؛ ثم الذين كفروا به يعدلون ، فيكفرون نعمته ، { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أي : حكم أجل الموت ، { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } أجل القيامة ، وقيل غير ذلك ، { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } تشكَّون .

 

{ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ، ليس مستحق للعبادة غيره ، لأن غيره خلقه وملكه ، وهو المعروف بالإلهية فيهما وفي غيرهما .   { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } فالسر : ما أكنته الصدور ، والجهر : ما ظهر من الألسن ، وما تكسبون ما عملته الجوارح .

 

{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار ؛ { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } تاركين للنظر لا يلتفتون إليه (لعله) خوفهم وتدبُّرهم في العواقب .

 

{ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ } أي : بما هو أعظم آية وأكبرها وهو القرآن ، {  فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أ] : أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزئون ، وهو القرآن ، أي : أخباره وأحواله ، يعني : سيعلمون بأي شيء استهزؤوا ، وذلك عند خروج أرواحهم ، أو يوم القيامة ، { أَلَمْ يَرَوْا } يعني : المكذبين { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } هو مدة انقضاء كُل أهل عصر ، { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } التمكين : التمليك ، أي : لم يعطوا كما أعطي من تقدَّم من البسطة في الأجسام والسعة والأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا ، { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أي : عاشوا في الخصب بين النهار والثمار ، وسقنا الغيث المدرار { فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ } ولم يغن ذلك عنهم شيئا ، لأنهم لم يريدوا به الله ؛     { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } وخلقنا من بعد هلاكهم أمة أخرى ، وفيه دلالة على أنه سبحانه لا يتعاظمه أن ينفي عالما ، وينشئ عالما آخر ، كقوله : ( ولا يخاف عقباها ) ، { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } كتابا من عند الله ، { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي : عاينوه ومسُّوه بأيديهم ، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة ، لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من الرؤية ، (لعله) فالسحر يجري على المرئي ، ولا يجري على الملموس بأيديهم . { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تعنتا وعنادا للحق بعد ظهوره لأن نور البصيرة أعماها ملازمة الهوى ، فلم يستطيعوا أن يبصروا بها الحق .

 

{ وَقَالُواْ لَوْلا } هلاَّ {  أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ؟ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ } لقضي أمر إهلاكهم ، لأنهم لآ يتبعون الحق ، ولو أُنزل عليهم ملك ، { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } لا يُنهلون بعد نزوله طرفة عين ، لأنهم لا يؤمنون عند مشاهدة تلك الآية التي لا شيء أبين منها ؛ فتقتضي الحكمة استئصالهم .

 

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا ؛ لأنهم كانوا تارة يقولون : (( لولا أنزل على محمد ملك )) ، وتارة يقولون : (( ما هذا إلاَّ بشر مثلكم ، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ))      { لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } لأرسلناه في صورة رجل ، كما كان ينزل جبريل على رسول الله عليهما السلام ، { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } لأشكلنا عليهم من أمره ، فيقولون إذا أرادوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، كما قالوا حين رأوا الآيات البينات : إن هذا إلا سحر مبين ؛ يقال : لبستُ الأمر على القوم ، البسه إذا شبَّهته عليهم ، وأشكلته عليهم ، فصار الأمر كالمغري عليهم ، كأنه استوى حجاب عن عين صورته . يروى عن ابن عباس قال : (( فرَّقوا دينهم ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، فلبس الله عليهم كما لبسوا على أنفسهم )) ، قال غيره : (( وتلبيسه على أنفسهم (لعله) هو عين التلبيس من الله لهم ، لأنهم في الحقيقة لا فاعل إلاَّ الله )) .  

 

{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } كما استهزئ بك يا محمد ، تعزية له ، {  فَحَاقَ } فأحاط         { بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به .

 

{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين ، ومعنى السير في الأرض : معناه هو التفكُّر بالقلوب في عاقبة من مضى ، وقيل : سافروا فيها ثم انظروا بأبصاركم ، وتفكروا بقلوبكم كيف كان عاقبة المكذبين .

 

{ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ } تقرير لهم ، أي : هو الله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا يقدرون أن يضيفوا شيئا منه إلى غيره ، { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } التزامها تفضُّلا وإحسانا ، أي : أوحيها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيده ، بما أنتم تعرفون به من خلق السماوات والأرض ، وقيل : أوجب الرحمة على نفسه في إمهاله عباده ليتداركوا ما فرط منهم . والمراد بالرحمة : ما يعمُّ الدارين ، ومن ذلك الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده ، بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب وإمهال الكفرة ، وذلك ترغيب منه للمتولِّين عنه إلى الإقبال عليه ، وإخبار بأنه رحيم بالعباد ، لا يعجَّل العقوبة منه تعالى ، ويقبل الإنابة والتوبة . { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بتضييع رأس مالهم ، وهو الفطرة الأصلية ، والعقل السليم ،   { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } (( الفاء )) للدلالة على أن عدم إيمانهم سبب لخسرانهم ؛ فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم ، والانهماك في التقليد ، وإغفال النظر ، أدى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع عن الإيمان .

 

{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ما سكن وتحرك فيهما ، فاكتفى بأحد الضدين ، وقيل : من السكنى حتى يعم الجميع ، ذكر في الأول السماوات والأرض ، وذكر هنا الليل والنهار ؛ فالأول يجمع المكان ، والثاني ، يجمع الزمان ، وهما ظرفان بجميع الموجودات من الأجسام والأعراض ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } يسمع كل مسموع ، ويعلم كلَّ معلوم .

 

{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } ناصرا ومعبودا ، { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } مخترعها ، وقيل عن ابن عباس : (( ما عرفت معنى الفاطر ، حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدعتها )) { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وهو يرزق ولا رازق لمرزوق غيره ، أي : المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع ، { قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لأن النبي سابق أمته في الإسلام كقوله : ( وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) فهو إمام أمته كافَّة ، والإسلام بمعنى الاستسلام . { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } والمعنى : أمرت بالإسلام ، ونهيت عن الشرك خفيَّه وجليَّه ، وصغيره وكبيره ، لأن جميع المعاصي يدخل عليه اسم الشرك بدليل قوله :  { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

{ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } الله الرحمة العظمى ، وهي النجاة من العذاب ، والفوز بالجنة ، { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } النجاة الظاهرة .

 

{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ } من مرض أو فقر أو نحوهما ؛ {  فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من غنى أو صحة أو نحوهما ؛ { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } قادر على إدامته وإزالته وغير ذلك .

 

{ وَهُوَ الْقَاهِرُ } الغالب المقتدر ، وفي القهر : زيادة معنى على القدرة ، وهو منع غيره عن بلوغ مراده ، {  فَوْقَ عِبَادِهِ } عالي عليهم بالقدرة والقهر ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ } في تدبير أموره ، {الْخَبِيرُ } العليــم .

 

{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ } أي : الله أكبر شهادة ، وفيه دليل على جواز إطلاق الشيء على الله ، لأن الشيء اسم للموجود ، ولا يُطلق على المعدوم ، والله تعالى موجود فيكون شيئا ، ولذا يقال : الله تعالى شيء لا كالأشياء ، { شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } على ما أقول ن أي : يشهد ليس بالحق ، وعليكم بالباطل ، { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } لأنذركم به با أهل مكة ، وسائر من بلغه من الأسود والأحمر ، أو من الثقلين ؛ أو لأنذركم أيها الموجودون ، ومن بلغه إلى يوم القيامة ؛ وفي الحديث : (( من بلغه القرآن ، فكأنما رأى محمد r وأقام عليه الحجة به )) لأنه معجز مخالف لكلام الآدميين ، وقيل : من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله تعالى ، أو شيء منه ، وقيل : إن المعنى ومن بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر أيضا بالقرآن ، { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى } استفهام إنكار وتبكيت ، { قُل لاَّ أَشْهَدُ } إن شهدوا {  قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } بالقول أو العمل أو النية .

 

{ وَمَنْ أَظْلَمُ } استفهام يتضمن معنى النفي ، أي : لا حد أظلم لنفسه ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبودا ، وهو من الكذب قولا أو فعلا أو اعتقادا ؛ ومن عصاه ، فكأنما قد اتخذ غيره معبودا في المعنى ، لأنه اتخذ إلهه هواه ، {  مِمَّنِ افْتَرَى } اختلق { عَلَى اللّهِ كَذِباً } فيصفه بما لا يليق به ، أو فعل فعلا يناقض الإيمان به ، {  أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } لأنه في المعنى سواء كذب على الله ، أو كذَّب بآياته ؛ لأن المكذب كاذب ، والكاذب مكذَّب ؛ وآياته : حججه الواضحات ، سواء كانت من التنزيل أو التأويل ، أو حجة العقل ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } لا سبيل لهم إلى الفلاح ، لأنهم لم يقصدوا سبيله وإنما قصدوا سبيل الظلم والهلاك .

 

{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ما كان من الشرك ، من شرك الجحود ، أو شرك الطاعة ، وهو طاعة إبليس ، وكلُّ متعبد لا يخلوا من أحد الطاعتين : إما طاعة الله فلا سبيل عليه ولا لائمة ؛ وإما طاعة الشيطان فلا سلامة له . { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ } ؟ آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ، وهو النفس والهوى والشيطان ، { الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } .

 

{ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ } كفرهم ، { إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه ، إلاَّ جحوده والتبرُّء منه ، والحلف على الانتفاء من التديُّن به ؛ أو ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا ، فسمِّي فتنة ، لأنه كذب ، ويحلفون عليه مع علمهم أنه لا ينفع عن فرط الحيرة والدهشة . كما يقولون : ( ربنا أخرجنا منها ) ، وقد أيقنوا بالخلود . والفتنة ها هنا : المعذرة . وإنما يصحُّ وقوع الكذب منهم مع اطلاعهم على حقائق الأمور ، ومعارفهم الضرورية ، لما يلحقهم من الدهش والحسرة ، من أهوال ذلك اليوم وشدائده ، والمبتلى قد ينطق بما لا ينفعه من غير رويَّة وفكر في عاقبة .

 

{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } بقولهم : ( ما كنا مشركين ) تبرؤوا من الشرك وكان فعلهم ، واعتدوا بالباطل { وَضَلَّ عَنْهُم } يقال : ضلت الضالَّة إذا غابت ، فلم تهتد سبيلا ، { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من آلهة .

 

{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } استماع الهائم حين تتلوا القرآن ، { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية : جمع كنان ، وهو الغطاء ، وهو ما يستر الشيء ، وهو معنى ضدِّهم عن قبول ما يستعمونه منه ،  { أَن يَفْقَهُوهُ } كراهة ، أن يفقهوه { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } ثقلا ، يمنع من السمع ، { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } يعتقدون أنها ليست بآية ، من قبل تعاميهم عنها بالهوى ، { حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } المعنى : أنه بلغ تكذيبهم الآيات ، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : { إِنْ هَذَا } ما القرآن ، أو ما رأوا من الآيات { إِلاَّ أَسَاطِيرُ    الأَوَّلِينَ } فيجعلون كلام الله أكاذيب ؛ والأساطير : الأباطيل ، وأصله : السطر ، بمعنى : الخط ؛ وقيل أسطورة ، وهي (لعله) السيرة .

 

{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } ينهون الناس عن القرآن واتباعه ، والإيمان به ، (لعله) أو عن ما رأوا من الآيات ، { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } ويبعدون عنه بأنفسهم ، فيلُّون ويُضلُّون ، { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } أي : لا يتعَّداهم الضرر ، { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : ما يعملون بإهلاكهم ، لأنهم يحسبون أنهم على شيء .

 

{ وَلَوْ تَرَىَ } ولو ترى لشاهدت أمرا عظيما ، { إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ } أو يدخلونها فيعرفون مقدار عنائها ، لرأيت أمرا مشنَّعا ؛ { فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ } إلى الدنيا ، تمنوا الردَّ إلى الدنيا ليؤمنوا ، { وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } واعدين الإيمان كأنهم قالوا : ونحن نؤمن ولا نكذب .

 

{ بَلْ } للإضراب عن الوفاء بما تمنوا ،{ بَدَا لَهُم } وقوله : ( بل ) ردٌّ لقولهم ، كقوله : ( كلا ) أي : ليس على ما قالوا : إنهم لو ردوا لآمنوا ، ( بل بدا لهم ) ظهر لهم عقوبة ، { مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } عن الناس من نفاقهم {  مِن قَبْلُ } في الدنيا ، من قبائحهم وفضائحهم ، { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار؛ {  لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } أي : كل منهم عاد إلى فعل مثل ما كان يفعله من قبل من الكفر ، لأن الطبع يقود ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فيما وعدوا من أنفسهم لانفون [ كذا ] .

 

{ وَقَالُواْ } أي : ولو ردوا لكفروا ولقالوا : {  إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } كما كانوا يقولون قبل وقوفهم على النار ؛ أو وقوفهم على النار كناية لأحوال الموت ، لأنه حين تنزع روحه يرى ما يرى من أحوال القيامة ، { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } لأنهم كانوا قبل وقوفهم على النار لم يؤمنوا بالبعث ، وهذا من أشدَّ العناد من العصاة ، لأنهم وقفوا على النار ، فلو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وقالوا : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

 

{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ } مجاز عن الجنس للتوبيخ والسؤال ، كما يُوقف العبد الجاني بين يدي سيدِّه ليعاتبه ، أو وُقفوا على جزاء ربهم ، أو عرفوه حق التعريف ، أو وقفوا على حكمه وقضائه ، وهو عند الموت ، وما بعده ، لأنهم كانوا ( إذا قيل اسجدوا للرحمن ، قالوا وما الرحمن ) { قَالَ أَلَيْسَ هَذَا } البعث والجزاء { بِالْحَقِّ } بالكائن الموجود ؛ وهذا (لعله) تعيير لهم على التكذيب للبعث ؛ { قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا } بالحق أقروا ، وأكدوا الإقرار باليمين ، { قَالَ } الله :          { فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } حكم الله عليهم بالعذاب ، بعد ما أقام عليهم الحجة ، فأقروا بها.

 

{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ } إذ فاتهم النعيم ، واستوجبوا العذاب المقيم ، ولقاء الله البعث وما يتبعه ، { حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ } أي : القيامة ، لأن مدة تأخرها مع تأبد ما بعدها كساعة ، أو جاءهم الموت في تلك الساعة { بَغْتَةً } قيل : بغتتهم الساعة بغتة ، وهو : ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته { قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا } معناه : يا حسرة احضري فهذا أوانك ، { عَلَى مَا فَرَّطْنَا } قصرنا ، { فِيهَا } في الساعة : قصرنا في شأنها ، وفي الإيمان بها ، { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ } آتاهم ، { عَلَى ظُهُورِهِمْ } خص الظهر ، لأن المعروف حمل الأثقال عليه ، كما عرف الكسب بالأيدي ، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم ؛ وقيل : إن الكافر إذا خرج من قبره ، استقبله أقبح شيء صورة ، وأخبثه ريحا ، فيقول : (( أنا عملك السيىء ، فطال ما ركبتني في الدنيا ، وأنا أركبك اليوم )) ، {  أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } لبئس شيء يحملونه ، وأفاد (( ألا )) تعظيم ما يذكر بعده ، وقيل : أي : لبئس الحمل ما حملوا .

 

 

{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي : باطل وغرور ، لا بقاء لها ؛ أي : والحياة الدنيا تعبَّر هنا بالباطل ، كما قال : ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ) (لعله) وعملها كاسمها ، جواب لقوهم : ( إن هي إلا حياتنا الدنيا ) . واللعب : ترك ما ينفع لما لا ينفع ، واللهو : الميل عن الحد إلى الهزل ؛ قيل : ما أهل الحياة الدنيا إلاَّ أهل لهو ولعب ، وقيل : وما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ، لأنها لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة ، { وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ } قُرىءَ :  ( وَلَدَارالآخرة ) على على الإضافة ، أضاف الدار على الآخرة ، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين ، كقوله : ( وحب الحصيد ) ، وقولهم : ربيع اولآَّل ، ومسجد الخليع . سميت الدنيا لدنوها ، (لعله) قيل : لدناءتها { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } دوام الآخرة وخلوص منافعها ولذاتها على الدنيا ، وقوله : ( للذين يتقون ) على أن ليس من أعمال المتقيين لعب ولهو .

 

{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } من التكذيب والأقوال الكاذبة ، {  فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } المعنى : أن تكذيبك أمر راجع إلى الله ، لأنك رسوله المصدِّق بالمعجزات ، فهم لا يكذبونك في الحقيقة ، وإنما يكذبون الله ، وتكذيب الرسل تكذيب للمرسل ، { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله ÷ ، وهو دليل على أن قوله : ( فإنهم لا يكذبونك ) ليس بنفي لتكذيبه ، { فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ } فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم ؛ { حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ } لما حكم به ، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه ، فقال : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، أنهم لهم المنصورون ، وإن جندنا لهم الغالبون ) ولا نقض لمواعيده ، { وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } بعض أنبيائهم وقصصهم ، وما ابدوا من مصابرة المشركين ؛ قيل : وكان يكبر على النبي  ÷ كفر قومه وإعراضهم ، ويحب مجيء الآيات ليسلموا فنزل :

 

{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ } شق عليك ، { إِعْرَاضُهُمْ } عن الإسلام ، { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً } منفذا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض ، حتى نطلع لهم آية يؤمنوا بها {  فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء    فَتَأْتِيَهُم } منها { بِآيَةٍ } فافعل ، والمعنى : أنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض ، أو من فوق السماء ، لأتي بها رجاء إيمانهم ، وقيل : فتأتيهم بآية أفضل مما أتيماهم به ، يريد أنه لا آية أفضل منه ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } لجعلهم يختارون الهدى ، ولكن لما علم منهم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجعلهم على ذلك ، كذا قال أبو منصور ؛ { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } بالحرص على ما لا يكون ، والجزع في مواطن الصبر ؛ فإن ذلك من دأب الجهلة .

 

ثم أخبر أن حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } إنما يجيب الذين يسمعون دعاءك إلى الإسلام بفهم وتأمل ، كما قال : ( أو ألقى السمع وهو شهيد ) ،     { وَالْمَوْتَى } أي : الكفار ، { يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا .

 

{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ } هلاَّ أنزل عليه ، { آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي : آية مما اقترحوه ، كما قال : ( أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ....) الآيات ؛ أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة ، لعدم اعتداهم بها ، { قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } بما اقترحوا ، { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } على أن الله قادر على ا، ينزل تلك الآية ، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت .

 

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } في الخلق والموت ، والاجناح إلى مدبر يدبر أمر مراشدها ، وقيل : أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض ، وقيل : أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة ، { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } يحتاجون إليه من أمر دين أو دنيا ؛ فهو مشتمل على ما يحتاجون إليه ، عبارة وإشارة ، ودلالته واقتضاء ، { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } فيجب الجزاء لكل عامل حسب عمله ، وحشر الدواب موتها فيما قيل .

 

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ } لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته ، سماعا تتأثر به نفوسهم ، { وَبُكْمٌ } لا ينطقون بالحق ، خابطون { فِي الظُّلُمَاتِ } أي : في ظلالات الجهل والحيرة والكفر ، غافلون عن تأمل ذلك والتفكُّر فيه ، { مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ } من اختار منهم الكفر ، {  وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } من اختار منهم الإيمان .

 

{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم } قل أرأيتم ، و(( الكاف )) للتأكيد ، يقول : أرأيتك إن فعلتُ كذا ماذا تفعل ؟ ، {  إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ } في الدنيا قبل الموت أو عنده ، { أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ } ؟ أي : تخصُّون آلهتكم بالدعوة ، منتصرين بها في ذلك الحين ؛ { أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ } في أن الأصنام آلهة  فادعوها لتخلصَّكم .

 

{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } بل تخصُّون بالدعاء دون الآلهة في ذلك الحين ، { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي : تدعون إلى السفه ، { إِنْ شَاء } إن أراد أن يتفضَّل عليكم { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وتتركون آلهتكم ، أولا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت .

 

{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } رسلا ، فكذبوهم ، { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } يتذَّللون ويتخشَّعون لربهم ، ويتوبون عن ذنوبهم ؛ فالنفوس تتخشَّع عند نزول الشدائد . والتضرَّع : السؤال بالتذلُّل .

 

{ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي : تضرَّعوا بالتوبة ! ، ومعناه : نفي التضرُّع ، كأنه قيل : فلم يتضرَّعوا إذ جاءهم بأسنا ، ولكنه جاء بـ (( لولا )) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرُّع ؛ { وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } فكان سبب منع التضرُّع إليه قسوة قلوبهم ، { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فصاروا معجبين بأعمالهم ، أو زيَّن لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا .

 

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } من البأساء والضراء ، أي : تركوا الاتعاظ به ، ولم يزجرهم ؛ { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } من الصحة والسعة وصنوف النعم ؛ وهذا فتح استدراج ومكر ، أي : (لعله) بدلنا مكان البلاء والشدة ، الرخاء والصحة . { حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } من الخير والنعم فرحا، بمعنى الركون إليه ، والاعتماد عليه والثقة به ، والطمأنينة بوجوده ، دون وعد الله ؛         { أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً } أخذ تعذيب فجاءة ، أمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا لهم [ كذا ] ، { فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } آيسون من كل خير متحيرون ، وأصله الإطراق حُزنا لما أصابه ، ندما على ما فاته ، قال أبو عبيدة : (( المُبلس : النادم الحزين ، وأصل الإبلاس : الإطراق من الحزن والندم )) ؛ وروي عن رسول الله r : (( إذا رأيت يعطي لأحد ما يحب ، وهو مقيم على معصية ، فإنما ذلك استدراج )) ، ثم تلا : ( فلما نسوا ما ذكِّروا به .. ) الآية )) ؛ { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } هُلكوا عن آخرهم ، ولم يُترك منهم أحد ، { وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إيذان لوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجل النعم ، وأجزل القسم ؛ ثم دلَّ على قدرته ، وتوحيده بقوله :

 

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } بأن أصمَّكم وأعماكم ، فلم تسمعوا ، ولم تُبصروا عواقب ما يضرُّكم ولا ينفعكم ، { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم } فشلَّت العقول والتمييز . { مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية ، وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ، وقيل : يُبين الآيات والعلامات الدالة على التوحيد والنبوَّة ، { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } يعرضون عن الآيات بعد ظهورها ؛ والصدف : الإعراض عن الشيء .

 

{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً } بأن لم تظهر أماراته ، { أَوْ جَهْرَةً } بأن ظهرت أماراته ، {  هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } ؟ ما يهلك هلاك تعذيب وسخط ، إلاَّ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم . { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ } المؤمنين بالجنة ، { وَمُنذِرِينَ } الكافرين بالعذاب ، { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } دام على إيمانه ؛ { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من العذاب ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بفوت الثواب .

 

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ } في الدارين ، جعل العذاب ماسا كأنه حيِّ يفعل بهم ما يؤمر ، { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم ، وخروجهم عن الطاعة بالكفر .

 

{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ } أي : قسمه بين الخلق وأرزاقه ، نزل ذلك – فيما قيل –  حين اقترحوا الآيات ، وأمره أن يقول لهم : ( لا أقول لكم : عندي خزائن الله ) أي : خزائن رزقه ، فأعطيكم ما تريدون ، { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } لا أدَّعي ما يُستبعد في العقول ، أن يكون لبشر من مُلكِ خزائن الله وعلم الغيوب ، ولا أنني من جنس الملائكة ، أو أقدر على ما يقدرون عليه ، وإنما أدعي ما كان لكثير من البشر ، وهو النبوَّة والرسالة البشرية ، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } تبُّرءا من دعوى الألوهية والملكية ، وأدَّعي النبوة التي هي من كمالات البشر ،    { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مثل للعالم والجاهل ؛ { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } ؟ فلا تكونوا ضالين ، أشباه العميان .

 

{ وَأَنذِرْ بِهِ } أي : خوف بما يوحي إليك ، { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } هم المؤمنون بالبعث وما بعده ؛ وقيل : (( يخافون )) أي : يَعلمُون ، لأنَّ خوفهم إنما كان من علمهم ، { لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } يعلمون ذلك علم حقيقي ، { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فينتهون عمَّا نُهوا عنه ، وإنما نفي الشفاعة لغيره مع أن الأنبياء والأولياء يشفعون ، لأنهم لا يشفعون إلا بإذنــه .

 

{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } أثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم ، أي : عبادته ، ويواضبون عليها ، والمراد بذكر الغداة والعشي : الدوام ، أي : في [ أي ] وقت كانوا ، وعلى أي حال كانوا ، أو معناه يصلُّون صلاة الصبح والعصر ، أو الصلوات الخمس ، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فالوجه يعبر عن ذات الشيء وحقيقته ، قيل : نزلت في فقراء المسلمين . { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } إذ بواطنهم لم تطلع عليها ، {  وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } قيل : إن ذلك طعنوا في دينهم وإخلاصهم ؛ فقال : حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعدَّاك إليهم ، {  فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ    الظَّالِمِينَ } .

 

{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } ومثل ذلك الفتن العظيم ، ابتلينا الأغنياء بالفقراء ، والعلماء المحِّقين بالجهلة التاركين ، فيسخروا منهم فتكون ذلك فتنة عليهم ، { لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } أي : أنعم الله عليهم بالإيمان ، ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم الفقراء ، وإنكارا لأن يكونوا على تلك المنزلة السيئة ، وهم يقولون : إنهم من أراذلهم ؛ فردَّ الله عليهم فقال : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ؟! بمن يشكر نعمته ومن لا يشكرها .

 

{ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } الذين يؤمنون ، هم الذين يدعون ربهم ؛ وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج ، بعدما وصفهم بالمواضبة على العبادة ، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم ، أو يبلّغهم سلام الله إليهم ، ويبشرهم بسعة رحمة الله وفضله ، بعد النهي عن طردهم ، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرَّب ولا يُطرد ، ويُعزَّ ولا يُذل ، ويُبشرَّ من الله بالسلامة في الدنيا في الدُّنيا ، والرحمة في الآخرة .

 

{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } من جملة ما يقول لهم ليبشرهم بسعة رحمة الله وقبول التوبة منه ، ومعناه : وعدكم بالرحمة وعدا مؤكدا ، وقيل : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) أي : على ذاته ، لا على شيء سواه ، وقيل : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) يقول : حكم ربكم بالرحمة لمن طاعة ؛ { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً } ذنباً ، تسوء عاقبة راكبه ؛ {  بِجَهَالَةٍ } قيل : لا يعرف حلال ذلك الشيء من حرامه ، ولم تقم عليه الحجة بذلك ، فمن جهالته ركب ذلك الأمر ، { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي : طلب السؤال ، ولو بالخروج مع القدرة على ذلك ، أو دان بالسؤال مع العجز والتوبة من ذلك مع القدرة ، أو تاب في الجملة مع العجز عن التوبة منه بعينه ، ( ثم تاب من بعده ) من بعد السوء أو العمل ، وأصلح وأخلص توبته ، { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب قبل الموت .

 

{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ } آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين ، بالدلائل والعلامات والسمات ، { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } والمعنى : ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ، ونلخِّصها في صفة أحوال المجرمين : من هو مطبوع على طبعه لا تُرجى موافقته ، ومن يُرجي إسلامه ؛ ولتستوضح سبيلهم ، فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به ، أو لتحذَّره عن أن يسلكه ، فصَّلنا ذلك التفصيل .

 

{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ } أي : زُجرتُ وصُرفتُ – بأدلة العقل والسمع – عن عبادة ما تعبدون من دون الله ، وهو في المعنى يتناول كلَّ معصية لله تعالى ، بما تهواه النفس بغير الحق ، بدليل قوله : { قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ } أي : لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم ، من اتباع الهوى دون اتباع الدليل ، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال ، ومضمون الآية دليل على أنهم يعبدون هوى أنفسهم بدليل قوله : ( قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ) ، { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي : إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال { وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وما أنا من أهل الهدى ، يعني : إنكم كذلك ، وإن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق ، وسلكت طريق الهوى ، ولما نفى أن يكون الهوى متبعا ، نبه على ما يجب اتباعه بقوله :

 

{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : إني على معرفة ربي ، وإنه لا معبود سواه أي : على بينة من ربي ، أي : على بصيرة وبرهان فيما أمر ونهى ، على حجة واضحة ، { وَكَذَّبْتُم بِهِ } حيث أشركتم به غيره ، { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني : العذاب الذي استعجلوه في قوله :          ( فأمطر علينا حجارة من السماء ) ، { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } في تأخير عذابكم . { يَقُصُّ الْحَقَّ } أي : يقول الحق النافون [ كذا ] ، يقضي الحق ، أي : القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ، { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } القاضين .

 

{ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي } أي : في قدرتي وإمكاني ، { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب ، { لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } لأهلكتكم عاجلاً ، غضبا لله ، { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } بأحوالهم في الدركات .

 

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } أي : خزائن الغيب { لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } المفاتح جمع : مفتح ، وهو المفتاح ، وهي خزائن العذاب والرزق ، أو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال ، جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ، لأن المفاتح يُتوصل بها إلى ما في المخازن والمستوثق منها بالإغلاق ولإقفال ، ومن مفاتحها وكيفية فتحها توصَّل إليها ؛ فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات ، وعاجدة [ كذا ] لا يتوصَّل إليها غيره ، { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ } من النبات والدواب ،     { وَالْبَحْرِ } من الحيوان والجواهر وغيرهما ، { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } يريد ساقطة وثابتة ، يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده ، { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } قيل : هو عبارة عن كل شيء ، { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } وهو علم الله ، أو اللوح .

 

{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } أي : يقبض أنفسكم عن التصرف بالتمام في المنام ، { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } خصَّ الليل بالنوم ، والنهار بالكسب ، جريا على المعتاد ، {  ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } ثم يوقظكم في النهار ، { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى } ليوفر الآجال على الاستكمال ، { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقيل : الآية : خطاب للكفرة ، والمعنى : يلقون كالجيف بالليل ، وكاسبون للأيام بالنهار [ كذا ] ، كما قال : ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون ) وليس هم من الدين في شيء .

 

{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلاَّ بمشيئته وإرادته ، { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ، ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد ، إذا تفكروا أن صحائفهم تُعرض عليهم على رؤوس الأشهاد ؛ ويحتمل : يحفظوكم عن أن تزيغوا عن ما قدَّره الله لكم وعليكم من أمر الدين والدُّنيا ، لأنه لا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه ، ويجب الاستسلام لقهره ، والرجاء لعفوه ، والخوف من عذابه ، لأنه القاهر فوق عباده ، { حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ } (( حتى )) لغاية حفظ الأعمال ، أي : ذلك دأب الملائكة مع المكلّف مدة الحياة ، إلى أن يأتيه الممات ؛ يعني : أعوان ملك الموت ، يقبضونه بأمر ملك الموت ؛ فكان ملك الموت يؤتيه [ كذا ] ، لأنهم يقبضون عن أمره لقوله : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) . { الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } لا يجاوزون ما حُدَّ لهم بزيادة أو بنقصان .

 

{ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ } إلى حكمه وجزائه ، { مَوْلاَهُمُ } مالكهم الذي يلي أمورهم . { الْحَقِّ } الثابت ، العدل الذي لا يحكم إلاَّ بالحق . { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ } ليس [ هنالك ] حكم مع حكمه . { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } لا يشغله حساب عن حساب ، وقيل : (( الردُّ إلى من ربَّاك ، خير من البقاء مع من أذاك )) .

 

{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } من مخاوفهما وشدائدهما وأهوالهما ، { تَدْعُونَهُ  تَضَرُّعاً } معلنين الضراعة ، { وَخُفْيَةً } أي : مسرين في أنفسكم خيفة حيث كان ، { لَّئِنْ أَنجَانَا } أي : أخلصنا {  مِنْ هَـذِهِ } المحنة والظلمة ، {  لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } المطيعين لك ، والشكر : هو معرفة النعمة أنها من الله ، مع القيام بحقها .

 

{ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } غِّم وحزن ، أي : لولا فضل الله رحمته لترادفت عليهم الكروب ، والكرب : هو غاية الغم الذي يأخذ النفس ؛ {  ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } تكفرون ولا تشكرون ، يريد : أنهم يُقُّرون أن الذي يدعونه عند الشدَّة هو الذي ينجيكم ؛ ثم إن كشفها عنكم تشركون معه الأصنام ، التي قد علمتم أنها لا تضرُّ ولا تنفع .

 

قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ } هو الذي عرفتموه قادراً ، وهو الكاملُ القدرة ِ { عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون ، وعن ابن عباس : (( يريد : من فوقكم السلاطين الظلمة ، ( أو من تحت أرجلكم ) أي : من كان أسفل منكم )) . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أو يُخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى ، كلُّ فرقة منكم مشايعة لإمام ، وذك الافتراق هو عين العذاب ، ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم ، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال ، { وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ  بَعْضٍ } يقتل بعضكم بعضا ، والبأس : السيف ؛ { انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } بالوعد والوعيد ،   {  لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يتعلَّمون ، فيعلمون عواقب الأمور ، وما صرف ذلك عنهم إلاَّ رحمته التي وسعت كل شيء .

 

{ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } بالقرآن ، { وَهُوَ الْحَقُّ } أي : الصدق ، { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } بحفيظ وُكل إلى أمركم ، إنما [ أنا ] منذّر ، { لِّكُلِّ نَبَإٍ } لكُل شيء تنبأ به ؛ {  مُّسْتَقَرٌّ } وقت استقرار ،          { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } مآل العاقبة ، وفيه تهديد .

 

{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا } بالباطل ؛ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } فأعرض عن باطلهم ،       { حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } مما أباحه الله لهم ، { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } يثقل عليك القيام من مجالسهم ، (لعله) ويُحلَّيه لك ، { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } يعني : إذا جلست معهم تأسيا فقم من عندهم بعدما ذكرت ، وفيه بيان النهي واقع عن مجالستهم ؛ فلا تقعد معهم بعد الذكرى . ويجوز أن يراد : وإن أنساك الشيطانُ قبل النهي قُبح مجالستهم فلا تقعد معهم بعد أن ذكَّرك المُلهم فلا تُصغ إلى الوسواس الشيطاني .

 

{ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } الذين يخوضون في القرآن { مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن } عليهم أن يذكِّروهم { ذِكْرَى } إذا سمعوهم يخوضون ، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الخوض حياء أو خوفاً منهم ، أو من الله .

 

{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ } الذي كُلِّفوه ودُعوا إليه ، وهو دين الإسلام ، { لَعِباً وَلَهْواً } أي : بنوا أمر دينهم على التشهي ، ويدينون بما لا يعود عليهم بنفع عاجلاً وآجلاً ، واتخذوا دينهم الذي كُلفوه لعبا ولهوا ، حيث سخروا به . واللهو : (لعله) ما يُشغلُ الإنسان من هوى أو طرب . { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بظاهرها المزخرف ، حيث لم يفكِّروا في بواطنها ، وما تؤول إليه ، { وَذَكِّرْ بِهِ } وَعِظ بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } مخافة أن تسلم إلى الهلكة ، وترتهن سوء كسبها ؛ وأصل الإبسال : المنع ، وأبسله : أسمله للهلكة ، وربه إلى نفسه وكله [ كذا ] . { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ } ينصرها بالقوة ، { وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } وإن تُفد كلَّ فداء ، والعدل : الفدية ، لأن الفادي يعدل المفدي بمثله ، { لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } لا يقبل منها ؛ { أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا    كَسَبُواْ } أي : سُلّموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الزائغة ، {  لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي : ماء حارًّ ، { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } والمعنى : هُم بين ماء يتجرجر في بطونهم ، ونار تشتغل بأبدانهم .

 

{ قُلْ أَنَدْعُو } أنعبد { مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا } ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه ، { وَلاَ يَضُرُّنَا } إن تركناه ، { وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } راجعين من الإسلام إلى الشرك {  بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ } للإسلام ، وأنقذنا من عبادة الأصنام ؛ { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ } كالذي ذهبت به مردة الجن ، والعيلان في المهامه ، وهو استفعال من " من هوى في الأرض " إذا ذهب هاويا في مهاويها ، وقيل : ذهبت الشياطين بهواه وعمله ، أو استوهمته وحيَّرته ، أو زينَّت له هواه ؛ { فِي الأَرْضِ } في المهمه ، { حَيْرَانَ } استهوته تائها ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع ، [ و ] لا يهتدي إلى مخرج منه . { لَهُ } لهذا المستهوى { أَصْحَابٌ } رفقاء ، { يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } إلى أن يهدوه إلى الطريق ، { ائْتِنَا } وقد تعسّف للمهمة تابعا للجن ، لا يجيبهم ولا يأتيهم ، وهذا مبنيٌّ على أن يُقال : إن الجن تستهوي الإنسان ، والعيلان تستولي عليه ، فشبَّه به الضّالَّ عن  طريق الإسلام ، التابع لخطوات الشيطان ؛ والمسلمون يدعونه إلى الإسلام فلا يلتفت إليهم . {  قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ } وهو الإسلام { هُوَ الْهُدَىَ } وحده ، وما سواه ضلال ، { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } لنذعن وننقاد إلى حكمه وعبادته .

 

{ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } فيما أمر ونهى ، { وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ترجعون .

 

{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } بالحكمة ، { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ } أي : لا يكون شأن من السماوات والأرض ، وسائر المكونات ، إلا عن حكمة وصواب . { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ } قيل : هو القرن بِلُغة اليمن ، أو جمع صوره ، { عَالِمُ الْغَيْبِ } السر ،       { وَالشَّهَادَةِ } والعلانية ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ } الذي لا يخلق إلاَّ لحكمةٍ ، { الْخَبِيرُ } .

 

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } استفهام توبيخ ، أي : أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهة ، { إِنِّي أَرَاكَ } بعين البصيرة { وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ظاهر الضلالة .  

 

{ وَكَذَلِكَ } أي : وكما أريناه قُبح الشرك ، { نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : عجائبها وبدائعها ، وقيل : هو ربوبيتها وملكها . والملكوت أبلغ من الملك ، "والتاء" فيه للمبالغة ، وقيل : مُلكها خَلقُها الظاهر ، ومَلَكُوتها سرُّها الذي اختص لأجله ؛ فالملك يُرى بالبصر ، والملكوت يُرى بالبصيرة ، ولذلك اختص به إبراهيم وأمثاله دون غيرهم ؛ { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } لأن من تفكَّر في المخلوقات أيقن بالخالق .

 

{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي : أظلم ، { رَأَى كَوْكَباً } قيل : وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى تشابه المخلوقات ، من أحوال [ من ] ليس بإله ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن لها مُحدثا أحدثها ، ومُدبراً دبَّر طلوعها وأُفُولها ، انتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ؛ فلما رأى الكوكب الدُّري الذي كانوا يعبدونه ، { قَالَ هَـذَا رَبِّي } أي قال لهم : هذا ربي في زعمكم ؛ { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } أي : لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين .

 

{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } استعجز نفسه ، واستعان بربه في درك الحق ، فإنه لا يهتدي إليه إلاَّ بتوفيقه .

 

{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ o إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } خالصا { لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أحداً من خلقه ؛ قال أبو محمد : (( يعني : أهل الزيغ ، والاعوجاج عن الحق )) .

 

{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } في توحيد الله ، ونفي الشركاء عنه . {  قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ } في توحيده ،    { وَقَدْ هَدَانِ } إلى التوحيد ، { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } (لعله) من أصنامكم ، وينضمُّ تحت معنى هذه الآية الدنيا وما فيها ، بل يعمُّ ما سوى الخالق ، {  إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً } إلاَّ أن يقدر عليَّ أمرا ، لأنه لا حول ولا قوة إلاَّ به ، {  وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي : علم كلَّ معلوم ،      { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين القادر والعاجز .

 

{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } أي : المعنى كيف أخاف عاقبة معاص فعلتموها ولم أفعلها ، { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } حجة ، والمعنى : ما تنكرون على الآمن في موضع الأمن ، ولا تُنكرون على أنفسكم الخوف في موضع الخوف ، {  فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ } الموحدين والمشركين ، {  أَحَقُّ بِالأَمْنِ } (لعله) أنا وأهل ديني أم أنتم ؟ {  إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (لعله) التمييز بين موضع الخوف والأمن .

 

{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } (لعله) أوضح حجة الفريقين .

 

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ } بعد أن اختارها { عَلَى قَوْمِهِ } باختيارهم ما سواها ؛ { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء } نرفع من نشاء بالعلم والعقل والفهم ، { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } يفعل الأمور المحكمة ، { عَلِيمٌ } من هو أهل الحكمــــة .

 

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : هديناهم بإحسانهم ، كذلك نجزي كلَّ محسن ، كما جزينا من ذكرنا لأن جميع العباد معنا على منزلة واحدة (لعله) إذ أنزلوا في حال واحد .

 

{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ } قيل : هو إدريس ، وله اسمان ، مثل : يعقوب وإسرائيل ،      { كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ } الكاملين في الصلاح ، وهو الإتيان بما ينبغي ، والتحرر عمَّا لا ينبغي .

 

{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } على عالمي زمانهم ، باختيارهم عمل الفضائل .

 

{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } اخترناهم واصطفيناهم ، { وَهَدَيْنَاهُمْ } لما أن اختاروا الهدى { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .

 

{ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وأهل مشيئته من عباده من اختار منهم الهدى ،     { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } بشيء من المعاصي ، الذين سمَّاهم مع فضلهم وتقدُّمهم ، وما رفع لهم من الدرجات ، { لَحَبِطَ } لبطل وذهب { عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لبطلت أعمالهم ، لأن الحسنة والسيئة ضدان ، لا يستقيمان في شخص واحد كقوله : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) .

 

{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ } والحكمة أو فهم الكتاب ، { وَالنُّبُوَّةَ } وهي أعلى مراتب البشر ؛ { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } بآيات القرآن ، { هَـؤُلاء } أي : قومك ؛ { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم ، بدليل قوله : ( أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده ) ومعنى : توكيلهم بها ، أنهم وفقوا للإيمان بها ، والقيام بحقوقها ، كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهَّده ويحافظ عليه ، وفيه إيذان على أن حجة الله لا تُعدم من قائم بها ، { لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} .

{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } أي : الأنبياء الذين مرَّ ذِكرُهم ؛ { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } فاختص هداهم بالاقتداء ، ولا يقتدي إلاَّ بهم ، والمراد بـ "هداهم" طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين ، دون الشرائع والفروع والرأي والنوافل ، لأنها مختلفة ؛ فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ، ولا يمكن التأسي بهم فيها جميعا . { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } عليَّ بتبليغ الوحي والدعاء إلى التوحيد        { أَجْراً } لأنه من اللازم عليه تبليغه ، { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } ما القرآن إلاَّ عظة للجن والإنس .

 

{ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته ؛ {  إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } أنكروا الرسل وما جاءوا به ، وإنكارهم لرسالة الرسل ، إنكار في المعنى لواحدنية الله . { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } بإبداء ما تشتهونه وإخفاء ما تكرهونه ، { وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } من أمر دينكم ودنياكم ، { قُلِ اللّهُ } أي : الزم توحيده وطاعته وعبادته ؛ { ثُمَّ ذَرْهُمْ } أي : اتركهم وعبادتهم { فِي خَوْضِهِمْ } باطلهم ، { يَلْعَبُونَ } اللعب ما فيه تعب النفوس ، وعذابها في الدنيا ، مع العذاب الاكبر

 

{ وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } كثير المنافع والفوائد التي لا حدَّ لها من دين ودنيا ، { مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ما قبله من الكتب ، { وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } مكة ، وسُميت أم القرى لأنها سُرَّة الأرض وقبلة أهل القرى ، وأعظمها شأناً ، ولأن الناس يؤمونها ، { وَمَنْ حَوْلَهَا } ما سواها من أهل الأرض من المتعبدين ، { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } يثصدقون بالعاقبة ، ويخافونها وأصل الدين : خوف العاقبة ؛ { يُؤْمِنُونَ بِهِ } فإن من صدَّق بالآخرة خاف العاقبة ، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدَّبر ، حتى يؤمن بالنبي والكتاب ، { وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } خُصَّت الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين ، فمن حافظ عليها ، حافظ على أخواتها ظاهراً وباطنا .

 

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً } تأوَّل الكتاب على غير تأويله ، أو عمل بما يخالفه ، {  أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } قيل : هو مسيلمة الكذاب وأمثاله ، ويدخل في معنى هذه الآية : من جعل الوسوسة إلهاماً ، وقال : إنها حقَّ من الله لأن الإلهام يخرج في معنى الوحي ، { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } شدائده وسكراته ، من "غمرة الماء" : إذا غشيه ، (لعله) لرأيت أمرا فظيعا ، وغمرةُ كلِّ شيء : معظمة ، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء ويغطيها ؛ { وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بالعذاب والضرب ، {  أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } أي : يبسطون إليهم أيديهم ، يقولون : هاتوا أرواحكم ، أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهو عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير إمهال ، أو أخرجوها مما هي فيه من العذاب ، توبيخا لهم ؛ { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أراد وقت الإماتة ، ويعذبون به من شدة النزع ، وقيل : يعذبون بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، ويُلقى إليهم عذاب الهون بأعمالهم بدليل قوله : { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } وكأن هذا العذاب عند النزع مخصوصٌ به العصاة دون المطيعين ، لأنهم لم يعصوا فيستحقوا العذاب بسببه ، { وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } عن قبولها .

 

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى } بلا ثواب مما خوَّلوه ، لأنهم لم يريدوا به وجه الله ، { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } عراة مما خُوَّلوه ؛ وكأنهم لم ينعم عليهم بنعمة ، من حيث إنهم كفروها ولم يشكروها ، { وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ } لم يزدكم قربة ، بل زادكم بعداً وغضبا وخساراً { وَرَاء ظُهُورِكُمْ } في الدنيا لأهلها ، ولم تتزودوا منه لهذا السفر ، { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أي : ادعيتم ، {  أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء } مُعاونوكم ومناصروكم من دوننا ، وهو هواء أنفسهم وما عبدوه من دون الله ، { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أي : وقع التقطُّع بينكم ، أي : تقطع وصلكم ؛ وذلك مثل قوله : ( وتقطعت بهم الأسباب ) أي : المواصلات والبين ، { وَضَلَّ   عَنكُم } ضاع وبطل ، { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنها شفعاؤكم عند الله أو دونـــه .

 

{ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } للنَّبت ، { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } النبات من الحب ،           { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } الحي من النبات ، أو المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ،  { ذَلِكُمُ اللّهُ } المحيي الممُيت : هو الله الذي تحقُّ له الربوبية لا الأصنام ، { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } فكيف تُصرفون عنه إلى غيره ، بعد وضوح الدليل .  

  

{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ } أي : شاقُّ عمود الصبح عن سواد الليل ، { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً } يسكن فيه خلقه عن كدِّ المعيشة إلى راحة الأجسام ؛ { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً } أي : جعلهما علمي حسبان ، لأن حساب الأوقات يُعلم بدورهما وسيرهما ، ومعناه : جعل الشمس والقمر بحساب معلوم ، لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما ، {  ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } الذي قهرهما وسخّرهما { الْعَلِيمِ } بتدبيرهما وتدويرهما .

 

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } أي : خلقهما لكم لا تتقدم ولا تتأخر عن مناولهما وسيرهما ،   {  لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ظلمات الليل في البِر والبحر ؛ {  قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } بينَّاهما فصلا فصلا {  لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فإنهم المنتفعون بها .

 

{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } من آدم ، { فَمُسْتَقَرٌّ } فوق الأرض ، { وَمُسْتَوْدَعٌ } تحتها ، { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } يتفكرون ، فيسمون إلى درجة أهل الفقه .

 

{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } نبت كلِّ صنف ؛ {  فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } هو العذقُ {  دَانِيَةٌ } من المجتني قريبةٌ ، { وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } طعماً ولونا وقدراً . {  انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } إذا أخرج ثمره كيف نُخرجه ضعيفا لا ينفع به ،         { وَيَنْعِهِ } نُضجه ، أي : انظروا إلى حال نُضجه ، كيف يعود منتفعاً به ، {  إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : بالآيات على وجود القادر الحكيم وتوحيده ؛ فإن حدوث الأجناس المختلفة ، والأنواع المفننة من أصل واحد ، ونقلها من حال إلى حال ، لا يكون إلاَّ بإحداث قادر يعلم تفاصليها على ما تقتضيه حكمته ، مما يكون من أحوالها ، ولا يعوقه عن فعله ندٌّ يعارضه ، أو ضدٌّ يعانده ؛ ولذلك عقبَّه بتوبيخ من أشرك به ، والرد عليه .

 

{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ } أي : أطاعوهم فيما سوَّلوا لهم من شركهم ؛ فجعلوهم شركاء لله كما قال : ( بما أشركتمون من قبل ) . { وَخَلَقَهُمْ } وخلق الله الجن ؛ فكيف يكون المخلوقات شريكا لخالقه ، { وَخَرَقُواْ لَهُ } أي : اختلقوا ، يقال : خلق الإفك واختلقه وخرَّقه واخترقه : بمعنى ، (لعله) والتخريق هو الكذب ، { بَنِينَ } (لعله) كقول أهل الكتابين ، { وَبَنَاتٍ } كقول بعض العرب في الملائكة {  بِغَيْرِ عِلْمٍ } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب ، ولكن رميا بقول عن جهالة ، وجهلا منهم بعظمة الله { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } تنزيه له عن الشريك والولد .

 

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : مُبتدعهما لا على [ غير ] مثال سبق ، { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } من أين أن يكون له ولد { وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } ؟ والولد لا يكون إلاَّ من صاحبه ، ولا صاحبة له ، لأن الولادة من صفات الأجسام ، ومخترع الأجسام لا يكون جسما ، حتى يكون والدا ؛    { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : ما من شيء إلاَّ وهو خالقه وعالمه ، ومن كان كذلك كان غنيا عن كل شيء .

 

{ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي : من استجمعت له هذه الصفات ، كان هو الحقيق بالعبادة ؛ فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه . { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : هو مع تلك الصفات ، مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال .

 

{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } لا تُحيط به أبصار من سبق ذكرُهم ، { وَهُوَ يُدْرِكُ } لِلُطف إدراكه للمدركات { الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ } العالم بدقيق الأمور ومشكلاتها ، { الْخَبِيرُ } العليم بظواهر الأشياء وخفيَّاتها .

 

{ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } البصيرة : نور اللقب الذي به يستبصر به القلب ، كما أن البصر نور العين الذي تُبصر به ، أي : جاءكم من الوحي أو الإلهام ، والتشبيه : ما هو للقلوب كالبصائر ؛ { فَمَنْ أَبْصَرَ } الحق وآمن ؛ { فَلِنَفْسِهِ } أبصر ، وإياها نفع { وَمَنْ عَمِيَ } تعامى عنه وضل {  فَعَلَيْهَا } لا يتعدى ضرره إلى غيره ، { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم ، وأجازيكم عليه ، إنما أنا منذر ، والله هو الحفيظ عليكم .

 

{ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } كُتُب أهل الكتاب ، كما قالوا : (( أساطير     الأولين )) ، { وَلِنُبَيِّنَهُ } أي : القرآن {  لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الحق من الباطل بتفكرهم وتدبُّرهم .

{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ولا تتبع أهواءهم ، {  لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ } أي : لا يستحق العبادة إلاَّ هو ، {  وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } وما يعبدونه من دون الله .

 

{ وَلَوْ شَاء اللّهُ } إيمانهم ، { مَا أَشْرَكُواْ } بين أنهم لا يشركون على خلاف مشيئته ؛ ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ؛ ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم ، فأشركوا بمشيئته ، { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } مراعيا لأعمالهم ، مأخوذا بإحرامهم ، { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } بمسلط .

 

قيل : وكان المسلمون يسبون الآلهة ؛ فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله بقوله : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً } عدوانا { بِغَيْرِ عِلْمٍ } على جهالة بالله ، وبما يجب أن يذكر ، إذا تعرَّضوا لسب ما يدعون من دون الله ، فكأنهم في المعنى : سابين الله عدوا ، { كَذَلِكَ } مثل ذلك التزين { زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } من الأمم { عَمَلَهُمْ } أي : كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام ، وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان . ( كذلك زينا لكل أمة    عملهم ) من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه ، توفيقا وتخذيلا ؛ { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ } مصيرهم ؛ { فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيجازيهم عليه .

 

{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : حلفوا بالله بأوكد ما قدروا عليه من الإيمان ، {  لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ } مقترحة بما تهوى أنفسهم { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ } ينزَّلها كيف يشاء ؛ { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } قيل : كان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءتهم مثل تلك الآيات ، ويتمنون مجيئها ، وما يدريكم { أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بها ، يعني : أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تعلمون ذلك .

 

{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } عن قبول الحق ورؤيته ، { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } كما كانوا عند نزول آياتنا أولا ، لا يؤمنون بها ، لأنه يجب عليهم الإيمان به عند نزوله معا كلمح البصر ، فإما آمن فيوفق ، وإما كفر ، فيخذل ؛ وتقلب الأفئدة : مجاز عن الخذلان ، بدليل قوله : { ٍ وَنَذَرُهُمْ } { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وندعهم متحيرين ، لا نهديهم بهداية المؤمنين ما داموا سالكين طريق الضلال .

 

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ } كما قالوا : ( لولا أنزل علينا الملائكة ) ، {  وَكَلَّمَهُمُ    الْمَوْتَى } كما قالوا : ( فأتوا بآبائنا ) ، { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ } جمعنا { كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً } كُفلاء بصحة ما بشَّرنا به وأنذرنا ، جمع قبيل ، وهو الكفيل ؛ وقيل : قبلا ، أي : عيانا ؛ { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ } إيمانهم ، وهذا جواب لقول المؤمنين : لعلهم يؤمنون بنزول الآيات ، { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } أن هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة ، أو الذين لم يؤمنوا .

 

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً } كما جعلنا لك أعداء سببا لظهور الثبات والصبر ، وكثرة الثواب والأجر ، فلا تضجر من معاداتهم ، فليس بثابت [ كذا ] ذلك ولن يقدروا على مضرة لأحد مع توفيق الله له . { شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } ظاهرين وباطنين ، {  يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وقال u : (( قرناء السوء شرٌّ من شياطين الجن )) ، { زُخْرُفَ الْقَوْلِ } الأباطيل المموهة ، من "زخرفة" إذا زينَّة ، من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، ويدخل في ذلك قول مشحون بنفاق ؛ فظاهره كأنه نصيحة ، وباطنه خُدعة ؛ وهو قول مموه ؛ مُزيّن مُزخرف بالباطل لا معنى تحته . { غُرُوراً } خدعا وأخذا على غرة ، وهو غفلة ، يعني : هؤلاء الشياطين يزيِّنون الأعمال القبيحة لنبي آدم يغرونهم ؛ والغرور : القول الباطل . { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي : الإيحاء ، بمعنى : ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ؛ ولكنه امتحن بما يعلم أنه أجزل في الثواب ، ويتضاعف على الشياطين العذاب ، { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } عليك وعلى الله من قول ووسوسة ، فإن الله يجزيهم وينصرك .

 

{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } ولتميل إلى زُخرف القول ووسوسة الشيطان قلوب الكفار، (لعله) بالهوى والعمى ، { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم ، { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } (لعله) من الآثام بسبب الإصغاء إلى الوسوسة ، وزخرف القول ، (لعله) يحكمون بغير الله ؛ فرد الله عليهم بقوله : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } ؟ أي : قل يا محمد ، أفغير الله أطلب حاكما يحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق منا من المبطل ، { وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } أي : مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل ، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالباطل والافتراء ؛ ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق يعلم أهل الكتاب ، لتصديقه ما عندهم وموافقته له : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الشاكين فيه ، ويحتمل في ( الذين آتيناهم الكتاب ) هو القرآن ، وهم المصدَّقون به .

 

{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده ، { صِدْقاً } فيما أخبر ،            { وَعَدْلاً } فيما قضى وحكم . { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } ليس لأحد تبديل شيء من كلماته ؛ وكلماته : آياته ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .   

 

{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } عن الطريق الموصل إليه ، فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال ، لأن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة ، وفيه أنه لا عزة في معرفة الحق (لعله) بالكثرة ؛ وإنما الاعتبار بالحجة . {  إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } يريد دينهم الذي هم عليه ظنٌّ وهوى ، لم يبنوه على بصيرة ، والظن : خلاف العلم ،   { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يقدرون أنهم على شيء [كذا] ، والخرص : هو القول بالغيب ، وهو أخو الظن .

 

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } من هو أهل للضلالة ؛ { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : يعلم الضالِّين من المهتدين .

 

{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } فإن الإيمان يقتضي استباحة ما أحله الله ، واجتناب ما حرمه .

 

{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } بين لكم { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } مما لم يحرم ، { إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } يحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلُّق بشريعة ، أو يقودونهم لما تهواه أنفسهم من الباطل ، { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } الذين يجاوزون الحلال إلى الحرام ، ويعتدون (لعله) الحدود .

 

{ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } ما بالجوارح والقلب ، { إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ } الظاهر أو الباطن ، { سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } اقترف : اكتسب ، والذنب أتاه وفعله .

 

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } عند الذبح ، { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } والفسق في ذلك [ ذِكـرُ] اسم غير الله ؛ { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ } من المنافقين والكافرين ،                { لِيُجَادِلُوكُمْ } وذلك ليستعينوا بهم على إضلالكم ، { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في معصية ، {  إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأن من اتبع غير الله في دينه ، فقد أشرك به ، فإنه يدخل في تأويل هذه الآية جميع من عصى الله ، كان شركه بجحود أو نفاق .

 

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } أي : كافرا فهديناه ، لأن الإيمان حياة القلوب ، وجميع العصاة أموات في الحقيقة ، وإن كانوا أحياء في الظاهر ، فهي حياة وحمية ، لأنه لم يتزود للحياة الأبدية ، وحياة الدنيا ليست بحياة ، إذ يعقبها الفناء ؛ إلا المؤمنين ، فإنهم أحياء في الحياة وبعد الموت ، وجميع الخلق المُتعبدين يُخلقون أحياء ، لأنهم خُلقوا على الفطرة والدين القيم ، لكن يُمتُون أنفسهم باقترافهم المعاصي ، { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } مستضيئا به فيما يعمل ويعتقد ويقول ، { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } كمن صفته في الظلمات خابط فيها ، { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } لا يفارقها ، ولا يتخلص منها ، {  كَذَلِكَ } أي : كما زُين للمؤمن إيمانه ، { زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيحسبون أنهم يحسنون صنعا .

 

{ وَكَذَلِكَ } وكما جعلنا في مكة صناديد ليمكروا فيها ، { جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } من القرى ،  {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } ليتجبروا على الناس فيها ، ويعملوا المعاصي ، وخص الأكابر – وهم الرؤساء – لأن ما فيهم من الرئاسة والسعة ، أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم ، دليله : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) ثم سلَّى رسوله r ، ووعد له بالنصرة ، بقوله : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } لأن مكرهم يحيق بهم ، لا يتعدَّاهم ، (لعله) كان غيرهم يمكر بهم ، { وَمَا يَشْعُرُونَ } أنه يحيق بهم ، ما يقول لو مكر بك (لعله) ماكر وأنت لا تشعر أنه يمكر بك ، أتسلم من عاقبة مكره بك ؟ (لعله) كان غيرهم يمكر بهم .

 

{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ } أي : الأكابر ، { آيَةٌ } من القرآن والعقل ، { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ } أي : يُوحى إلينا من الآيات مثلما أوحي إلى الأنبياء ، فأعلم الله تعالى أنه أعلم بمن يصلح للنبوة فقال : { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } يعلم موضع رسالته .            { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ } من أكابرها ، { صَغَارٌ } ذلٌّ ، وهو أن تذله ماصيه وتخزيه في الدنيا مع أهل الدين [ كذا ] . { عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدارين ، { بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } في الــدنيـــا .

 

{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } يُوسعه ويُنور قلبه ، قال u : (( إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قيل : وما علامة ذلك ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله )) ، { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } بالغا في الضيق ، يعني : يجعل قلبه ضيقا ، حتى لا يدخله الإيمان ، حتى إذا سمع ذكر الله ، اشمأز قلبه ، وإذا ذكر شيء من عبادة الأوثان ارتاح قلبه ، {  كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } كأنه كلف أن يصعد إلى السماء ، إذا دُعي إلى الإسلام من ضيق صدره ، يعني : يشقُّ عليه الإيمان ، كما يشقُّ عليه صعود السماء ، وأصل الصعود المشقة ، ومنه : ( سأرهقه صعودا ) أي : عقبة شاقة ، والمعنى : كأنما يزاول أمرا غير ممكن ، لأن صعود السماء مثل فيما يبعد من الاستطاعة ، وتضيق عنه المقدرة ، { كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ } اللعنة في الدنيا ، والعذاب في العقبى ، { عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } إيمان حقيقي .

 

{ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ } طريقة الذي اقتضته الحكمة ، وسنته في شرح صدر من أراد هدايته ، وجعله ضيقا لمن أراد إضلاله . ومستقيما عن الاعوجاج ، لأنه لا يعوجه باطل ، ومعناه : وهذا طريق ربك وعادته في التوفيق والخذلان ، { مُسْتَقِيماً } عادلاً مطردا لا اعوجاج فيه ،   {  قَدْ فَصَّلْنَا } بيَّنَّا ، { الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون .

 

{ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ } دار السلامة من كل كدر وآفة ، وهي الجنة ، لأن كلَّ من دخلها سلم من البلايا والرزايا ، { عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } محبهم وناصرهم على أعدائهم ، أو متولِّيهم بجزاء ما كانوا يعملون ، { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بأعمالهم .

 

{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ } أي : من إغوائهم وإضلالهم ، {  وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ } الذين أطاعوهم : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي : استمتع الإنس بالشياطين ، حيث دلُّوهم على الشهوات ، وعلى أسباب التوصل إليها ، واستمتع الجنُّ بالإنس ، حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم ، { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا } يعنون يوم البعث ؛ وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين ، واتباع الهوى ، والتكذيب بالبعث ، والتحسُّر على حالهم ، { قَالَ } الله : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } منزلكم ، { خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } قبل الدخول ، كأنه قيل : النار مثواكم أبدا ، إلاَّ ما أمهلكم في الدنيا قبل الموت . وقيل : ( إلاَّ ما شاء الله ) من أوقات حشرهم من قبورهم ووقت محاسبتهم ، { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } بأعمالهم ؛ فيجزي كلاً على (لعله) وفق عمله .

 

{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً } أي : ومثل ذلك نولَّي بعض الظالمين بعضا ، نخلِّيهم حتى يتولّى بعضهم بعضا ، يترأس بعضهم على بعض ، {  بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بسبب كسبهم

 

ثم يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } بقيام الدليل من سول أو رسول الرسول ، كما قال : ( ولو إلى قومهم منذرين ) ، { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } يقرؤون كتبي ؛ هذا حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله ، وإقرارهم بأن حجة الله لازمة لهم ، { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا } بوجوب الحجة علينا ، وتبليغ الرسل إلينا ، { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } لعله بظاهرها المليح لأنهم لم يتفكروا في عواقبها القبيحة ، { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } ذمٌّ لهم على سوء نظرهم ، وخطإ رأيهم ، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المجدبة [كذا] ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية ، حتى كانت عاقبة أمرهم أن اضطرهم إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلّد ، تحذيرا للسامعين من مثل حالهم .

 

{ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى } أي : أهلها ، { بِظُلْمٍ } معاملة من يريد ظلمهم ، { وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } المعنى : لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ، بسبب ظلم أقدموا عليه ، أو ظالما ، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب ، لكان ظلما ، وهو متعال عنه .

 

{ وَلِكُلٍّ } من المكلفين ، {  دَرَجَاتٌ } منازل ، { مِّمَّا عَمِلُواْ } من جزاء أعمالهم ، أي : مراتب من أعمالهم على حسب ما يستحقونه ؛ وقيل : أراد (لعله) درجات ، ودركات من جزاء أعمالهم ، فغلّب منازل أهل الجنة ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فلا يخفى عليه مقاديره .

 

{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ } عن عباده وعبادتهم ، { ذُو الرَّحْمَةِ } عليهم بالتكليف ، تكميلا لهم ، لنحييهم الحياة الأبدية ، خلافا لبقية الحيوانات ، وتمهيل عُصاتهم لعلهم يرجعون قبل الممات . {  إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها الظلمة ، { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ } من الخلق المطيع ، {  كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } من أولاد قوم آخرين ، لم يكونوا على مثل صفتكم .

 

{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } لكائن لا محالة ، { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين ، كقولهم : من مات فات .

 

 { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } يحتمل : اعملوا على تمكينكم من أمركم ، وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، {  إِنِّي عَامِلٌ } على مكانتي التي أنا عليها ، أي : اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي ، فإني ثابت على الإسلام على مصابرتكم ، وهو أمر تهديد ووعيد ، دليله قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أينا تكون له العاقبة المحمودة ، { مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ } أي : فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة ، وعاقبة الدار : العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها ، وهذا طريق لطيف الإنذار ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم يسلكوا طريق الفلاح (لعله) معناه : لا يسعد الظالمون .

 

{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ } أي : خلق ، { مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً } أي : وللأصنام نصيبا ، فاكتفى بدلالة قوله : { فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا } بزعمهم ، والله لم يأمرهم بذلك ، ولا شرع لهم تلك القسمة ، { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ } أي : لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان ، والتصدق على المساكين ؛ وسمي الأوثان شركاؤهم ، لأنهم أشركوهم في أموالهم وفي أنعامهم ، { وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ } قيل : كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله ، وأشياء منها لآلهتهم ، فإذا أرادوا ما جعلوه لله زاكيا ناميا ، رجعوا فجعلوه للأصنام ، وإذا زكى ما جعلوه للأصنام تركوه لها ؛ وقالوا بأن الله غنيٌّ ، وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم بها على الله ؛ وفي قوله : ( مما ذرأ ) إشارة إلى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي ، لأنه هو الذي ذرأه ، ثم ذم صنيعهم بقوله :  { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } في إيثارهم آلهتهم على الله ، وعملهم على ما لم يشرع لهم . 

 

{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } كما زيَّين لهم ، { قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } قيل : شياطينهم زينوا وحسنوا لهم . سميت الشياطين شركاء ، لأنهم أطاعوهم في معصية الله ،      { لِيُرْدُوهُمْ } ليُهلكوهم بالإغواء ، { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } وليخلطوا عليهم ، ويُشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل ؛ { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ } وفيه دليل أن الكائنات كلها بمشيئة الله ، { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أمره أن يعتزلهم ، وما يفترونه .

 

{ وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ } للأوثان ، { حِجْرٌ } حرام ؛ كانوا إذا عينَّوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : { لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ } الرجال دون النساء ، والزعم : قول باطن يشوبه الكذب ، { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } قيل : هي البحائر والسوائب والحوامي ، { وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا } حين الذبح ، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام ،        { افْتِرَاء عَلَيْهِ } أي : قسَّموا أنعامهم قسم حجرٍ لا يركب ، وقسم لا يذكر عليها اسم الله ، ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه ، { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }  .

 

{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما وُلد منها حياًّ فهو خالص للذكور لا يأكل منها الإناث ؛ وما وُلد ميتا ، اشترك فيه الذكور والإناث ؛ { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } وإن يكن ما في بطونها ميتة {  فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء } فيه سواء ؛ { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم ، { إِنَّهُ حِكِيمٌ } في جزائهم { عَلِيمٌ } باعتقادهــم .

 

{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ } كانوا يَئِدون بناتهم مخافة السبي والفقر ، { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفَّة أحلامهم وجهلهم ، بأن الله هو رازق أولادهم لا هم ؛ { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ } من البحائر والسوائب وغيرها { افْتِرَاء عَلَى اللّهِ } أنه قد حرّم ذلك ، { قَدْ ضَلُّواْ } عن الهدى ،    { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } إلى الصواب .

 

{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } قيل : المعروش ما رُفع ، وغير المعروش ما ترك ، { وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً } في اللون والطعم والحجم والرائحة ، { أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } يريد به ما كان يتصدَّق به يوم الحصاد ، لا الزكاة المقدَّرة ، وقيل : الزكاة ؛ والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليهتم به حتى لا يؤخر عن وقت الأداء ، وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقية [كذا] { وَلاَ تُسْرِفُواْ } بإعطاء الكل ، وتضييع العيال ، { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } المتجاوزين للحدود

 

{ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } ما يحمل الثقل ، وما يفرش للذبح ، والحمولة : الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش : للصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم ، لأنها دانية من الأرض ، مثل الفرش المفروش عليها ، { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } أي : ما أحل الله لكم منها ، ولا تحرموها كما في الجاهلية ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } طُرُقه في التحليل والتحريم والنفاق والشرك ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة .

 

{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } زوجين اثنين يريد الذكر والأنثى ، والواحد إذا كان معه غيره من جنسه : سمي كلُّ واحد منهما زوجا ، وهما زوجان بدليل قوله : ( خلق الزوجين الذكر والأنثى ) ويدلُّ عليه ( ثمانية أزواج ) ثم فسرّها بقوله : ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) . ( ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ } للإنكار ، والمراد بالذكرين : الذكر من الضأن ، والذكر من المعز ؛ وبالأثنيين : الأنثى من الضأن ، والأنثى من المعز ؛ والمعنى : إنكار أن يحرم الله من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئا من ذكورها وإناثها ، ولا مما تحمل الإناث ، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة وإناثها طورا ، وأولادها كيفما كانت ذكورا أو إناثا ، ومختلطة تارة ، وكانوا يقولون : قد حرّمها الله ، فأنكر ذلك عليهم . ويروى عن رسول الله r أنه قال لبعض المشركين : (( إنكم قد حرمتم أصنافا من الغنم على غير أصل ، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها ؛ فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى ؟ )) فسكتوا وتحيَّروا ، ثم قال : (( فلو جاء هذا التحريم بسبب الذكورة وجب أن يحرَّم الذكور ، وإن كان بسبب الأنوثة وجب أن يحرَّم جميع الإناث ، وإن كان باشتمال الرحم عليه ، فينبغي أن يحرَّم الكلُّ ، لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى ؛ فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس والسادس ، أو بالبعض دون البعض فمن أين ؟ )) . { نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ } من جهة الله ، يدُّل على تحريم ما حرَّمتم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أن الله حرَّمـــه .

 

{ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ } منهما { حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ } منهما { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا } ؟ يعني: أن شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم ؟ { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، { لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ما داموا مصرين عليه ، غير نازعين عنه بتوبة .

 

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ } أي : في ذلك الوقت ، أو في وحي القرآن ، لأن وحي السنة قد حرَّم غيره في بعض الرأي ، { مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } مهراقا سائلا ، قيل : ما جُرح من الحيوان وهي أحياء ، { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } إنما سَّمي ما ذبح على الصنم فسقا ، لتوغله في الفسق ، { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله ، { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } قيل : كلَّ ذي ظفر ، كلَّ ذي مخلب وحافر ، وسمي ؛ وقيل : كلُّ ذي ظُفر أي : ما له إصبع من دابَّة أو طائر ، ويدخل فيه الإبل والنعام . { وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } أي : لم يحرم من البقر والغنم إلاَّ الشحوم ، {  إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } إلاَّ ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة ، { أَوِ الْحَوَايَا } أو ما اشتمل على الأمعاء ، واحدة : حوية ، { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } وهو الإلية أو المخ ، { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } .

 

{ فَإِن كَذَّبُوكَ } فيما أوحينا إليك من هذا ، {  فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } فلا تغتروا بإهماله ، وذو رحمة واسعة لمن أطاعة ، وذو بأس شديد لمن كذَّب وكذب ، لأنه قال : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } .

 

{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } إخبار بما سيولونه : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ولكن شاء ، فهذا عذرنا ، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم ، وتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله ، ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ؛ فعيرهم الله بذلك من حيث إنه لم يجبرهم بذلك ، ولو ثبت الجبر لبطل العقاب والثواب ولم يكن ثم اختبار ، ولو كان كذلك لكان العقاب والثواب على فعله لا على فعالهم ، كلا ، بل ليس عذر لعاصي ، وقد قال : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } أي : كتكذيبهم إياك كان تكذيب المتقدمين رسلهم ، وتشبَّثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك ، { حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } حتى ذاقوا (لعله) تحسَّوا الموت ، { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم ، حتى يصحَّ الاحتجاج به فيما قلتم : إن الله جبركم على فعالكم ، {  فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فتظهروه وتبينوه لنا ؛ {  إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } تكذبون على الله وفيه دليل على المنع باتباع الظن سيما في الأصول .

 

{ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } عليكم بأوامر ونواهيه ، ولا حجة لكم على الله بمشيئته ، { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .

 

{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } هاتوهم ، { الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا } هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ، ودعواهم أن الله أمرهم به ، والشهداء : يعني قدوتهم فيه ، استحقرهم ليُلزمهم الحجة ، ويُظهر بانقطاعهم ضلالتهم ، وأنه لا مستمسك لهم كم يقلدهم ، ولذلك قيل : الشهداء بالإضافة ، ووصفهم بما تقتضي العهدة بهم ، { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } فلا تسلَّم لهم ما شهدوا به ، ولا تصدقهم ، لأنه إذا سلّم لهم فكأنه شهد معهم بمثل شهادتهم ، وكان واحدا منهم ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } لأن المكذَّب بآيات الله متبع للهوى ، إذ لو يتبع الدليل لم يكن إلاَّ مصدقا بالآيات موحدا لله ، { وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } هم المشركون ، { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } يجعلون له عديلا .

 

{ قُلْ } للذين حرَّموا الحرث والأنعام : { تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } (لعله) حقا يقينا ، لا ظنا ولا كذبا كما تزعمون ، { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } وهو يقتضي ترك جميع المعاصي لله ، وإيجاب الطاعة له ، {  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } والدلالة على ترك الإساءة في شأنها غير كافٍ ، بخلاف غيرهما ؛ فكيف إذا لم يحسن وأساء . { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ } من أجل فقر ، { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العبيد على مواليهم . { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } جميع المعاصي الظاهرة ، { وَمَا بَطَنَ } يعمُّ جميع المعاصي الباطنة ؛ { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .

 

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وهي حفظُة وإصلاحه ، { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } حتى يبلغ قواه وعقله ، ويستوي رجلا كاملا حافظا للمال غير أبله فيه ، { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } بالتسوية والعدل ويدخل في ذلك المعاملة بين الله والخلق ، وبين الخلق في بعضهم بعض ، {  لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إلاَّ طاقتها أو دينها ، {  وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } فاصدقوا وهو يقتضي التَّكلّم بالقول الحق ومجانبة الكذب ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ } أي : ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع ، { أَوْفُواْ ذَلِكُمْ } أي : ما مرَّ ، { وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : (لعله) أمركم به لتعظوا ، قال ابن عباس : (( هذه الآيات محكمات في جميع الكتب ، لم ينخهنَّ شيء ، وهنَّ محرَّمات على بني آدم كلُّهم ، وهنَّ (لعله) أمُّ الكتاب لأعلى من سواهم ، من عمل بهنَّ دخل الجنة ، ومن تركهنَّ دخل النار )) .

 

{ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } أي : ما ذكر من قوله : ( قل : تعالوا ...) هو صراطه المستقيم ، {  فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } الأديان المختلفة ، أو الطرق التابعة للهوى ؛ فإن مُقتضى الحجة واحد ، ومُقتضى الهوى مُتعدد لاختلاف الطبائع والعادات ، { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } عن طراطه المستقيم ، { ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } التفرق عن الحق والضلال . ذكر أولا (( تعقلون )) ثم (( تذكرون )) ثم (( تتقون )) لأنهم إذا عقلوا تفكروا فتذكروا ، أي : اتعظوا ، فاتقوا المحارم .

 

{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً } للكرامة والنعمة ، { عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ } على من أحسن القيام به ، { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم ،        { وَهُدًى } وهدى عن الضلالة ، { وَرَحْمَةً } من العذاب ، { لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدقون .

 

{ وَهَـذَا } أي : القرآن ، {  كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } كثير الخير ، { فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ } مخالفته ،  { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .

 

{ أَن تَقُولُواْ } لئلا تقولوا : {  إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } أهل التوراة وأهل الإنجيل ، { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } عن تلاوة كتبهم ، { لَغَافِلِينَ } لا علم لنا بشيء من ذلك ؛ إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد u ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزل على الطائفتين من قبلنا ، وكنا غافلين عما فيها .

 

{ أَوْ تَقُولُواْ } أو كراهة أن تقولوا : { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } بحدة أذهاننا ، وثقابة أفهامنا ، وغزارة حفظنا ، أي : لو أنزل علينا كما أنزل على اليهود والنصارى لكنا خيرا منهم ؛ { فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } إن صدقتم فيما كنتم تعدُّون من أنفسكم ، فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع ، { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } لمن تأمله وعمل به ، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ } بعدما عرف صدقها وصحتها ، { وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : أعرض عنها ، { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ } وهو النهاية في النكاية { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } بإعراضهم .

 

{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي : أقمنا حجج الوحدانية ، وثبوت الرسالة ، وأبطلنا ما يعتقدون من الضلالة ، فما ينظرون في ترك الإيمان بعدها { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ } لقبض أرواحهم ، { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أي : أمره ، وهو العذاب ، أو القيامة ، {  أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } أي : أشراط الساعة ، {  يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } قيل : هي المشركة التي تؤمن ، { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } أي : توبة ؛ قيل : النفس المنافقة إن لم تتب قبل ذلك الحين ، فلا تنفعها التوبة حين وقوع النزع . قال أبو سعيد في تأويل هذه الآية : (( فإذا جاء أمر الله العبد بالهلاك ونزل به أمر الهلاك ببعض آيات الله التي يُعاين بها أمر الموت ، والانتقال من أمر الدنيا إلى أمر الآخرة ، ذهب حكم العمل في الدنيا وحصل أمر ما هو عليه في الآخرة )) . ومعي أنه قيل : (لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ) أنه المشرك الذي لم يكن آمن فلا ينفعه إيمانه حين ذلك . (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) أنه المقُّر بالإيمان ، (لعله) المصر على شيء من العصيان على صغير أو كبير لم يتب منه حتى عاين آيات الله أو بعض آياته . { قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } بكــم .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } بدَّدوه فأمنوا ببعض وكفروا ببعض . { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقا ، كلُّ فرقة تشيع أمامها . { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي : أنت منهم بريء ، وهم برآء منك ، يقول : إني فعلت لك كذا ، ولسن مني ولسن منك ، أي : كلُّ واحد منا بريء من صاحبه . { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } فيجازيهم عليه .

 

{ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } تقديره : عشر حسنات أمثالها ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة ، وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة دون التحديد . { وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } من السوء { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقص الثواب وزيادة العقاب .

 

{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً } لا عوج له ، لأن العوج ينافي الحقَّ ، لأنه كاللعب واللهو ، والله لا يأمر به ؛ ولا يفعله أهل الحق . { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الشرك الخفي والجلي . ومن كان كذلك كان مخلصا خالصا لله دينه وحياته ومماته ، ولذلك قال :

 

{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } قيل : النسك : الذبيحة في الحج والعمرة ، وقيل : جملة الحج ، وقيل : جملة الدين . { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } وما أنا عليه في حياتي ، أقيمُ عليه وأثبتُ إلى أن أموت عليه من الإيمان والطاعة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية ، والتدبير والبشارة [كذا] ، { لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } خالص لوجهه لا شريك له في شيء من ذلك ، أي : لا أعمل شيئا لغيره .

 

{ وَبِذَلِكَ } الإخلاص { أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } لأن إسلام كل نبيٍّّ متقدم على أمته .

 

{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً } جواب عن دعائهم له إلى عبادة أهوية أنفسهم ، والهمزة للإنكار ، أي : منكر أطلب ربا غيره . { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } وكلُّ من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره . { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } جواب عن قولهم : ( اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ) . { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } بتبين الرشد من الغي ، والمحقِّ من المبطل .

 

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } لأن بعض الخلق يخلف بعضا ، وهكذا سنة الله في خلقه ، وكلُّ من جاء من بعد من مضى يخلفُه فيما يعمل ، فهو خليفة له . { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ } في الشرف والرزق والعلم وغير ذلك . { دَرَجَاتٍ } لا لعبا ولا عبثا ولكن { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } فيما أعطاكم من نعمة الجاه والمال والعلم وقوة الأجسام والغرائز ، فينظر كيف تشكرون تلك النعم . { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ } في الدنيا والآخرة لمن كفر نعمته . { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن قام بشكرها . ووصف العقاب بالسرعة لأن الخذلان يحيط بالكافر حين الكفر لا قبل ولا بعد ، فجدير أن يحذر ؛ أو لأن ما هو آت قريب ، ( وما أمر الساعة إلاَّ كلمح البصر أو أقـربُ ) .