طباعة
المجموعة: التفسير الميسر
الزيارات: 1586

بسم الله الرحمن الرحيم     

 { الــم* اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ } تقديره لا إله في الوجود لأهل العبادة إلاَّ هو { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } القائم على كلِّ الموجودات ، { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } القرآن { بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما قبله ، { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ } قبل القرآن ، { هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } المفرَّق بين الحقِّ والباطل ، { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } ذو عقوبة شديدة ، { إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } .

 

{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } أي : صوركم لنفسه وعبادته [كذا] ، { لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } في تدبيره .

 

{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } ظاهرة عبارتها لا تحتمل معاني ، وإنما تحتمل معنىً واحداً ، { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } مبيَّنات مفصلات ، وسميت محكمات من الإحكام ، كأنه أحكمها ، فمنع الخلق من التصرف فيها ، لظهورها ووضوح معناها ، وهن أصل الكتاب لُتحمل المتشابهات عليها وتردَّ إليها ؛ { وَأُخَرُ } وآيات أُخر { مُتَشَابِهَاتٌ } مشتبهات محتملات لمعاني ، ومثال ذلك : ( الرحمن على العرش استوى ) فالاستواء يكون بمعنى : الجلوس ، وبمعنى : القدرة والاستيلاء ، ولا يجوز الأول على الله بدليل المحكم وهو قوله : ( ليس كمثلِه شيءٌ ) وإنما لم يكن كلُّ القرآن مُحكما لما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحقِّ والمتنزلزل ، وبين المجتهد في الطلب والمقصِّر ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه وردِّه إلى المحكم من الفوائد الجليَّة والعلوم الجمَّة ، ونيل الدرجات عند الله تعالى .    

 

{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي : ميل عن الحقِّ وهذا لاتِّباع الباطل ؛ { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ   مِنْهُ } فيتعلمون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع بتأويل الضلال ، ولا يطابقه حكم    { ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضُّلوهم ؛ قيل عن مجاهد إنه قال : ابتغاء الشبهات واللبس . { وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ } وطلب أن يؤوِّلوه التأويل الذي يشتهونه ، وكأنهم يريدون أن يكونوا متمسِّكين بالكتاب ، وتابعين لهوى الأنفس ، وكلُّ من عصى الله بتأويل ضلال لحقته هذه الصفة .  

 

{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } أي : لا يهتدي إلي تأويله الحقِّ الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله ؛    { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } والذين رسخوا ، أي : ثبتوا فيه وتمكنوا وعضُّوا فيه بضرس قاطع . قال : الواسطيُّ : << هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب ، وفي سرِّ السرِّ ، يعرفهم ما عرَّفهم ، وخاضوا بحر العلم بالفهم لطلب الزيادة ، فانكشف لهم – من مذخور الخزائن والمخزون – تحت كُلَّ حرف وآية من الفهم والعجائب [بـ] النظر ، فاستخرجوا الدُّرر والجواهر ، ونطوا بالحكمـة >> .

 

{ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم ، واعتقاد الحقِّـيـَّة بلا تكييف ( يقولون آمنا به ) ، أي : بالمتشابه والمحكم ، { كُلٌّ } من متشابهه ومحكمه { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وقولهم هذا وإيمانهم به يدلُّ على علمهم بتأويله ، وكلُّ من كان سالماً في دينه ولم ينقص إيمانه بشيء من الظلم فهو من الراسخين في العلم ، وإن كان فوق كلِّ ذي علم عليم . { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } أصحاب العقول ، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التَّأمُّـل .

 

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } لا تُمِلها عن الحقِّ ، بخلق الميل في القلوب { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } للإيمان { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } رحمة بعد رحمة من عندك بالتوفيق والتثبيت ، { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } تعطي بلا استحقاق ، { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ } أي : تجمعهم لحساب يوم الجزاء ، { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } لا شك في إثباته ، {  إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } لأنَّ الإلهية تنافي خلف الميعاد .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ } من عذابه { شَيْئاً } لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى مثل المؤمنين ، وإنما أرادوا بها زينة وتكاثرا في الأموال والأولاد ؛   { وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } حطبـها .

 

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } الدَّأبُّ : مصدر ، دأب في العمل إذا أكدح [كذا] فيه ، فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ، تقديره : دأبَ هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق ، كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم ، والمعنى : لن تغني عنهُم مثل ما لم تغن عن آل فرعون ، { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } تفسير لدأبهم مما فعلوا ، أو فعل بهم ، كأنه جواب لمن يسأل عن حلهم ؛       { فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ } بسبب ذنوبهم ، وأخذُه إيَّاهم هلاكهم بغضب وعقوبة . { وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } في الدارين لمن عصـاه .

 

{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ } من الجِهِنَّام : وهي بئر عميقة العقر .          { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } المستقرُّ جهنَّـم .

 

{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } أ ي: بيان ، { فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وهم المـؤمنون ،      {  وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ } يرى المشركون المُسلمين مثلي المشركين ألفا ، ومثلي عدد المُسلمين ستمائة ونيفا وعشرين ، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ، ليهابوهم ويجتنبوا عن قتالهم ، وكأن ذلك مددٌ من الله لهم ، كما أمدهم بالملائكة ، { رَأْيَ الْعَيْنِ } يعني : رؤية ظاهره مكشوفة ، وذلك من قدرة الله سبحانه أن يريهم القليل كثيرا ، مثل رأي العين ، ليقضي الله [أمره] وينفذ فيهم مشيئته . { وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ } كما أيد المُسلمين بتكثيرهم في عين العدو ؛ { إِنَّ فِي ذَلِكَ } في تكثير القليل ، وتعظيم الحقير وبالعكس ، { لَعِبْرَةً } لعظـة { لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } لذوي البصائر .

 

{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } الشهوة : تَوقَان النفس إلى الشيء ، والشهوة : مستزذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ، وأزيد عليها بقوله : { مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } المرجع ، فيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة ؛ ثم زهدَّهم في الدنيا وقال : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ } من الذي تقدم ، معناه : أُخبركم بعمل خير من السعي لما تقدم . { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } الله بترك ما زُين للناس مما جرمه الله عليهم . { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } ؛ { الَّذِينَ يَقُولُونَ } بلسان مقالهم وحالهم : { رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .

 

{ الصَّابِرِينَ } على المصائب والطاعات ، {  وَالصَّادِقِينَ } قولاً بإخبار الحق ، وفعلاً بإحكام العمل ونيةً بإمضاء العـزم ، { وَالْقَانِتِينَ } المطيعين ، { وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} .

 

{ شَهِدَ اللّهُ } أي : علم { أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } علموا أنه :{ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ } قيما بالعدل فيما قسم وقضى ، وقدَّر من الأرزاق والآجال ، والأمر والنهي ، والثواب والعقاب ؛ { لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فوافق علمهم علمه في ذلك . 

 

{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } أي : الاستسلام والانقياد والطاعة له من عبيده ، وعليهم ؛ { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ } أي : أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلافهم إنما تركوا الإسلام وهو التوحيد ؛ { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : ما كان ذلك الاختلاف إلا حسدا بينهم ، وطلبا للرئاسة وحظوظ الدنيا ، واستتباع كل فريق أناسا . { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ } بحججه ودلائله ، { فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } سريع المجازاة في الدنيا ، وبالنار في العقبى .   

 

{ فَإنْ حَآجُّوكَ } جادلوك في أنَّ دين الله الإسلام ؛ { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ } أي : أخلصت نفسي وجملتي لله وحده ، لم أجعل فيها لغيره شركا ، بأن أعبده وأدعوه ولا أدعوا إلها معه ، يعني : أن ديني دين التوحيد ، وهو الدين القيم الذي ثبت عندكم صحته كما ثبت عندي ، وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ؛ { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } أي : أسلمت أنا ومن اتبعني . { وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ } والذين لا كتاب لهم ، وقيل إنهم العرب ، { أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ } فإن انقادوا وأذعنوا (لعله) واستسلموا لأمر الله على ما يوافق طبع النفوس ، أو يخالفها ؛ { فَقَدِ اهْتَدَواْ } فقد أصابوا الرشد ، حيث خرجوا من الظلال إلى الهدى . { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ } أي : ليس عليك هداهم ، وإنما عليك إبلاغهم ، { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } فيجازيهم على كفرهـم .       

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } والقتل : هو معروف ، ويخرج من معناه ، التبُّرؤ من الذين يأمُرُونهم بالقسط ومعاداتهم ، كما قيل : البراءة من المؤمن كقتلـه ؛ { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .

 

{ أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } إحباطها في الدنيا عدم التوفيق للخير ، وفي الآخرة بعدم الثواب ؛ { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } يمنعونهم من عذابـه .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } بقيام حجة تقوم عليهم من كتاب من كتب الله ؛       { يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } .

 

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي : ذلك التولِّي بسبب تسهيلهم على أنفسهم من العقاب ، وطمعهم في الخروج من النار بعد قلائل ، { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } قد غرَّ الشيطان لعنه الله أكثر الخلق ، بافترائهم الكذب بألسنتهم وقلوبهم ، بما خُيل إليهم من الأماني الكاذبة ، واعتقدوا أنهم ينجون من عذاب الله وينعمون بالثواب من قبل استحقاقهم ذلك من قبل ما عملوه من الأعمال ، وأنفقوا من أموال ، وأتعبوا فيه الأبدان ، مع تعديهم لأكثر الحدود ، ولعلهم أصغوا إلى المتشابه من الكتاب ولم يبنوا دينهم على أم الكتاب وأصول الدين ، تساهلا لموافقة الشهوات وارتكاب الشبهات . { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } جزاء ما كسبت ، وفي ذلك وعد لمن أطاع ، ووعيد لمن عصى ؛ { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة في سيئاتهم ونقصان من حسناتهـــم .

 

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أصل ملك الدارين : القلوب السليمة فمن رُزِقها فقد أوتي الملك الحقيقيَّ ، ومن حرمها بسوء كسبه فقد أذلَّه ، ولم يعزَّه بانتزاعها منه وإن كان له من الملك الوهمي نصيب ، بدليل قوله في الآية : ( بيدك الخير ) ، { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء } قال بأن يكون لك بك ومعك بين يديك ؛ { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يعرف الخلقُ عدده ومقداره ، وإن كان معلوما عند الله .

 

{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء } نُهوا أن يوالوا الكافرين ، لقربة بينهم { مِن دُوْنِ  الْمُؤْمِنِينَ } يعني : أن لكم في موالاة المُؤمنين مندوحة ، أي : سعة عن موالاة الكافرين ، فلا تؤثروهم عليهم ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } ومن يوالي الكفرة ، فليس من ولاية الله في شيء ، يعني : أنه منسلخ عن ولاية الله رأسا ، لأن موالاة الولي ، وموالاة عدوه متنافيان ، فلا تستحق من الله شيئا في الدنيا ولا في الآخرة ، إلاَّ الاستدراج في الدنيا ، وعذاب النار في الآخرة ، وقيل : ليس من دين الله في شيء . {  إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه ، وهذه رخصة في موالاتهم عند الخوف ، والمراد بهذه الموالاة : المخالفة الظاهرة ، والقلبُ مطمئنٌّ بالعداوة . { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } أي : ذاته ، فلا تتعرضوا لسخطه بالمخالفة ، وهذا وعدٌ شديد . { وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } أي : مصيركم إليه ، والعذاب مُعدٌّ لديه لمن خالــف .

 

{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } أي : والذي عملته من سوء تودُّ لو تباعد ما بينها وبينه ، { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ُ} لتكونوا على بال منه ، لا تغفلون عنه وعن ما تعبَّدكم به طرفة عين . { وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } .

 

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } المحبة : ميل النفس إلى الشيء لكمال إدراك فيه ، بحيث يحملها على ما تقربه إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلاَّ لله ، وأن كلَّ ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره ، فهو من الله وبالله وإلى الله ، لم يكن حبُّه إلاَّ لله وفي الله ، وذلك تقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقرُّبه ، فذلك فُسرت المحبة : بإرادة الطاعة ، وجعلت ملتزمة لإتباع الرسول في عبادته ، والحرص على مطاوعته ، ( يحببكم الله ) ومعنى حب الله لعباده : هو كشف الحجاب عن قلوبهم ، حتى يروا صفاته وأفعاله بقلوبهم ، وإلى تمكينه إياه من القرب منه ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وعد غفران الذنوب بإتباع الرسول ، { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ } هي علامة المحبة ؛ {  فإِن تَوَلَّوْاْ }أعرضوا عن قبول الطاعة ، { فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } لا يحبهم وهم في غضبه وبغضه وسخطه وعداوته ، لا يزالون على ذلك في الدنيا ولا في الآخرة إلاَّ من تاب .

 

{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى } اختار ، " افتعل " من الصفوة : وهي الخالص من كل شيء ؛ { آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } على عالمي زمانهم . { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 

{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ } أوجبت ، { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } أ ي : متقا أو مخلصَا لله ، مفرَّغا للعبادة ، وكلما أخلص فهو محرَّر ، يقال : حرَّرت العبد ، إذا عتقته وخلَّصته عن الرق ؛ { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .

 

{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها ، والله أعلم بالشيء الذي وضعت ، وما علق به من عظائم الأمور . { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } أجيرهـا ، {  وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .

 

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } قبل الله مريم ، ورضي بها في النذر ، {  بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } مجاز عن التربية الحسنة . قال ابن عطاء : << ما كانت ثمرته مثل عيسى ؛ فذلك أحسن النبات >> ، ويحتمل ( أنبتها نباتا حسنا ) أ ي : حسَّن خلقَـها ، وهذا هو النبات الحقيقي ؛ { وَكَفَّلَهَا } ضمِن القيام بأمرها ، وقيل : كلفَها الله ، { زَكَرِيَّا } أي : جعله كافلاً لها وضامنا لمصالحها ، ليتوفَّر لهُ الثواب بكفالتها وتربيتها . { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } يحتمل ها هنا الرزق أن يكون من المأكول ، ويحتمل أن يكون علما وحكمة من غير تعليم معلَّم .  {  قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا } ؟ من أني لك هذا الرزق ؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ } وإن كان أتاها ذلك الرزق بسبب ، فليس للأسباب مع أهل التحقيق معنى ؛ فذلك قالت : << هو من عندالله >> {  إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقديــر.

 

{ هُنَالِكَ } في ذلك المكان ، لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ، ومنزلها رغِب أن يكون له ذُرِية طيبة ، { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } الطيب من الناس ما طاب عمله ، { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } .

 

{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } قال ابن عطاء : << ما فتح الله على عبده حالة سنيَّة إلاَّ بإتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ، ولزوم المحاريب >> . { أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ } بآيـةٍ {  مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً } هو الذي يسود قومه ، أي ك يفوقهم في الشرف والعلم والعبادة ، وقيل : السيد إذا جاد بالمكوَّنين عوضا بالمكون ؛ { وَحَصُوراً  } مبالغة في حبس النفس عن الشهوات والملاهي ، وقيل : إنه مرَّ بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : << ما للعب خُلقت >> وقيل : هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصرا لنفسه ، ومنعا لها من الشهوات .    { وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }  .

 

{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } استعظام للقدرة لا تشكك ، { وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } من الأفعال الخارقة للعادة .

 

{ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ } أن لا تقدر على كلام الناس ، { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } الإشارة بعضو ، أو إنما خص تكليمُ الناس ، ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم ، خاصة مع إبقاء قدرته على التكلَّم بذكر الله ولذا قال : { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} يعني : بالتسبيح ، صلاة الفرائض ، أو دُمْ فِي كل وقتك .

 

{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ } اختارك بشارة لها ، { وَطَهَّرَكِ  } مما يستقذر منه الأفعال والأقوال والنيات ؛ { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } .

 

{ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } أديمي الطاعة ، { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : ولتكن صلاتك مع المصلين في الجماعة ، وانظمي نفسك في جملة المصلَّين ، وكوني في عدادهـم .

 

{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ } يعني : أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلاَّ بالوحي ،      { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } معناه : محاضرا معهم ، { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } أزلامهم ، وهي قدحهم التي طرحوها في النهر مقترعين ، وهي الأقلام التي كانوا يكتبون التوراة بها ، اختاروها للقُرعة تبرُّكا بها ، { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } مِن عدَم الكافل لهـا ، { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في شأنها ، تنافسا في التكفُّل بهـا .

 

{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } بآيـة { اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً } ذا جاه وقدر ، لأنه إمام المتقين { فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } لأن كلَّ من أطاع الله ، فهو وجيه في الدينا والآخرة ؛ لكن للعاملين درجات على قدر الأعمال ، { وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } .

 

{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ } ، { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }  .

 

{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } تـلاوة وتـأويلاً ، { وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } ، { وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي : أقدِّر لكم شيئا مثل صورة الطير ، { فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ } الذي وُلد أعمى ، { والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ } .

 

{ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } إقرار بالعبودية ، ونفي للربوبيـَّة عن نفسه . { هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } يؤدي صاحبة إلى النعيم المقيم .

 

{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } علم منهم كفرا لا شبهة فيه ، كعلم ما يدرك بالحواس ؛ { قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ } ؟ من ينصرني إلى إظهار دينه ؟ { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } حواريُّ الرجل : صفوته وخالصته ، قيل : سمُّوا بذلك لنقاء قلوبهم ، ويقال للنساء الحصر : الحوريَّات ، لنظافتهنَّ وخلوص ألوانهن ؛ { نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ } أعوان دينه ، { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .

 

{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } مع الذين يشهدون لك بالواحد نية ، أو يشهدون للناس وعليهم على حسب أعمالهم ، ويتلك النيات والأقوال والأعمال صاروا حواريين .

 

{ وَمَكَرُواْ } أي : كفار بني إسرائيل الذين ، الذين أحس منهم الكفر . { وَمَكَرَ اللّهُ } أي : جازاهم على مكرهم ، ولا يجوز إضافة المكر إلى الله إلاَّ على معنى الجزاء ، لأنه مذموم عند الخلق ، وعلى هذا الخداع والاستهزاء أقوى ؛ { وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أقوى المجازين ، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقـب . 

 

{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أي : مستوفي أجلك ؛ ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومُميِّتك حتف أنفك ، لا قتلا بأيديهم ، { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } رافعك لطاعتي ، إلى درجة الكرامة ، { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من عملهم ، { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } بالحجَّة البالغة ؛ وعد من الله (لعله) لكلِّ مؤمن . { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .

 

{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا } بكلِّ ما يسوؤهم ويسرهم فيها ، لأنه لا ثواب لهم فيه ، خلاف سعى المؤمنين . { وَالآخِرَةِ } بعذاب النار ، { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } يدفع عنهم ذلك .

 

{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } على كسبهم ومتاعبهم ؛ فيبسيهم الجزاء تعبهم ، خلاف الكافرين ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } .

 

{ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } القرآن ، لأنه لا ينطق إلاَّ بالحكمة . { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } الشاكين .

 

{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ } نجمع {  نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ } قيل : تتضرع في الدعاء ؛ وقيل : ثم نبتهل ، أي : نتباهل بأن نقول : بهلة الله على الكاذب منا ومنكم ؛ والبهلة بالضم والفتح : اللعنة ، بهلة الله : لعنهُ وأبعده من رحمته ، وقولك : أبهلة إذا أهمله ؛ {  فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } .

 

{ إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } الذين يعبدون غير الله ، ويدعون الناس إلى غير عبادة الله .

 

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء } أي : مستوية مستقيمة ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ } وما يراد من العباد إلاَّ هذه الكلمة ، قولاً وعملا ونية ، { وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ } أي : لا يطيع بعضنا بعضا على غير طاعة الله ؛ { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا : بأنا مسلمون دونكم .

 

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } قيل : زعم كلُّ فريق من اليهود والنصارى أنه كان منهم ، وجادلوا رسول الله والمؤمنين فيه ؛ فقيل لهم : إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول الإنجيل ؛ فكيف يكون إبراهيم لم يحدث إلاَّ من بعده بأزمنة { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .

 

{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } مما نطق به التوراة والإنجيل ؛ { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ } لم يذكر في كتابكم من دين إبراهيم ، { وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .

 

{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } أي : ما كان على دين أحد الملتين ، { وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً } مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم ، { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .

 

{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } إن أخصهم به وأقربهم منــه {  لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } في زمانه وبعده ؛ { وَهَـذَا النَّبِيُّ } خصوصا ، خصَّ بالذكر لخصوصيته بالفضل ، { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } من أمته مدحا لهم وإلحاقا به ، وإن كانوا دونه في الدرجة . { وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } متولّي أمورهم وناصرهم .

 

{ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } وما يعود وبال الإضلال إلاَّ عليهم ، لأن العذاب يضاعف عليهم بضلالهم وإضلالهم ، { وَمَا يَشْعُرُونَ } أنهم يُضلون أنفسهم

 

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } بالتوراة والإنجيل ، وكفرهم بها لأنهم لا يؤمنون بما نطقت به ، من صحة نبوة رسول الله e وغيرها . { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } تعلمون ذلك .

 

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } ؟ تخلطون الإيمان بالكفر ، أي : تسترونه به ، من لبس الشيء : إذا استتر به ، ومن لبس الحق بالباطل جوزي بإلباس الباطل بالحق لقوله : ( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) فلذلك لا يعلمون ضلالهم . { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أ ي: لا يظهرونه بالقول ولا بالعمل ؛ { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه حقٌ .

 

{ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } فيما بينهم : { آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : القرآن ، على من آمن ، { وَجْهَ النَّهَارِ } أي : أوله ، {  وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل المسلمين يقولون : ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم ، إلاَّ لأمر تبيَّن لهم ؛ فيرجعون برجوعكم .

 

{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وهذا لسان كلِّ أمـة إن نطقت بمقالها أو بحالها . { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } أي : ولا تظهروا إيمانكم ، فإن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، إلاَّ لأهل دينكم دون غيره ؛ أراد أسروا تصديقكم بأنَّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله ، مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلاَّ إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام ، {  أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } ولا يؤمنوا لغير أتباعكم ؛ إن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة بالحقِّ ، ويغالبونكم عند الله بالحجَّة . { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .

 

{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } بالإسلام { مَن يَشَاءُ } من يعلم أنه من أهليته ، { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } يؤتى كلَّ ذي فضل فضله . { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } من خوفه على نفسه من تباعته ، { وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } من استخفافه بأمر الله فيه ؛ { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } إلاَّ مدَّة دوامك عليه قائما على رأسه ملازما له ؛ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أ ي: تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) أي : لا يتطرق إثم ولا ذمٌّ في شأن الأميِّيِّن ، يعنون الذين ليسوا من أهل كتابهم ؛ فكأنهم صاروا في حقهم لا يعملون شيئا ، لمَّا عدموا المعرفة بكتابهم . { وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } بادعائهم إن ذلك في كتابهم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : أنهم كاذبون .

 

{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } نفيا لقولهم ورداً لما نفوه ؛ { فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } يستبدلون { بِعَهْدِ اللّهِ } بما عاهدوه عليه من الإيمان . { وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } متاع الدنيا ، { أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ } أي : نصيب ، { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ } أي : لا يلهمهم الخير ، بإعراضهم عما يدلُّهم الملهم ، أو لا يعطيهم كتابهم بيمينهم ، { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } نظر رحمة ، { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } ولا يطهِّرهم من أدناس ما تدنسوا به من أقذار الذنوب؛ والمعنى : لا يغفر لهم ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدارين .

 

{ وَإِنَّ مِنْهُمْ } من أهل الكتاب { لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ } يقبلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحَّرف ، والمراد : تحريفهم  { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من التوراة ، { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } وليس هو منه . { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ } أي : هو حق ، { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ } لأنه أمر هوى . { وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

 

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ } ما يصح منه ذلك ، ولكن يصح منه أن يقول : { وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } أي : ولكن يقول : كونوا علماء حكماء ، والربانيين معلَّمين عاملين ، { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ    تَدْرُسُونَ } بسبب كونهم عالمين ، وبسبب كونهم دارسين للعلم ، كانت الربَّانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله ، مسببة عن العلم والدارسة ؛ وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ؛ فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنِّقه بمنظرها ، ولا تنفعه بثمرتها ؛ وقيل معنى يدرسون : يدرسونه على الناس ، كقوله : ( لتقرأه على الناس ) .

 

{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } معناه : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ونصَّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس أن يكونوا عبادا له ؛ ويأمركم { أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } ؟

 

{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } قيل : هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين ، وقيل : أولاد النبيين . { لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } للكتاب الذي معكم ، { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } أي : الرسول ، وقيل : هو محمد r . { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي } قبلتم عهدي ؟ وسمي إصرا لأنه مما يؤصر ، أي : يشدُّ ويعقل ، والإصر : العهد الثقيل . { قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا } فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، { وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ   الشَّاهِدِينَ } وأنا على ذلكم من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين ، وهذا توكيد عليهم وتحذيرا من الرجوع ، إذا علموا بشاهدة الله عليهم .

 

{ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } الميثاق والتوكيد ، ونقض العهد بعد قبوله ، والإعراض عن الإيمان بالنبي الجائي ؛ { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } المتمرِّدون الخارجون من الإيمان إلى الكفر .

 

{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ } خضع وانقياد { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أفتعرفون عن الجمِّ الغفير ، وكلهم اسلموا له ، وأنتم كلكم خلقه . { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } في الإيمان بهم كلهم ، كما فعلت اليهود والنصارى . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } موحدون مخلصون أنفسنا له ، لا نجعل له شريكا في عبادتنا

 

{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً } يعني : التوحيد ، وإسلام الوجه لله ؛ {  فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } أي : كلُّ ما يفعل لغير الله فهو مردود على فاعله ، { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } من الذين خسروا الدارين .

{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ } بقيام الحجج أي : لا يصح أن يهديهم بعد ما تولوا عن البينات ، ما داموا متولِّين . { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ما داموا مختارين الكفر .

 

{ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ } أي : عقوبتهم ، { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } المطيعين والعاصين ، { خَالِدِينَ فِيهَا } في اللعنة ، { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : جزاؤهم الإبعاد من الله والملائكة والناس أجمعين ، أي : ليس لهم في الحقيقة ناصر من دون الله إلى شيء ينفعهم ، وإنما أمورهم التي هم عليها أمور وهمية .

 

{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } الكفـر ، { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهم لا لمن سواهم ، بدليل قوله :

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } عند البأس ؛ { وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } طريق الهدى ، { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } .

 

{ لَن تَنَالُواْ الْبِرّ } لم تبلغوا حقيقة البر ، ولن تكونوا أبرارا ، أو لن تنالوا برَّ الله وهو ثوابه ورضاه ؛ { حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } حتى تكون نفقتكم من أموالكم ومحابكم التي تحبونها وتؤثرونها . قال الواسطي ُّ : << الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب ، وإلى الرب بالتخلي عن الكونين ، والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلاَّ بإحراج المحبوب >> . { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } وذلك عام فيها تبسطه اليد من خير وشر .

 

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : كلُّ أنواع الطعام ، والمعنى : المطاعم كلُّها لم تزل حلالا لنبي إسرائيل من قيل إنزال التوراة وتحريم ما حرَّم عليهم منها لظلمهم وبغيهم . { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } قيل : لحوم الإبل وألبانها ، وكان أحب الطعام إليه ، {  قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أمر بأن يحاجهم ويسكنهم بما هو ناطق به ، وما هم مقرُّون به ، من أن تحريم ما حرم عليهم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم ، لا تحريم قديم كما يدَّعونه .

 

{ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ، ولا يلتفتون إلى البينات .

 

{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه ، حتى تتخلّصوا من اليهودية التي ورَّطتكم في فساد دينكم ودنياكم ، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وتحريم الطيبات التي أحلَّها لإبراهيم ومن اتبَّعه ؛ وإنما دعاهم إلى أتباع ملة إبراهيم لأن في أتباع ملة إبراهيم أتباعه . { حَنِيفاً } مائلا عن الأديان الباطلة . { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } برَّأه الله من كل الشرك جليا كان أو خفيا .

 

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } جعل متعبدا لهم ، سبق جميع البيوت الموضوعة للتعبُّد لله . { لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } كثير الخير ، لما يحصل للحاج والمعتمر من الثواب . { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } لأنه قبلتهم ومتعبَّدهم .

 

{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ } علامات واضحات ، كانحراف الطيور عن مواراة البيت على مدى الإعصار [كذا] . { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .

 

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } ، { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ } الصدُّ : المنع ، وقيل : لم تصرفون عن دين الله . { عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ } عن دين حق ، علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها ؛ { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة ، { وَأَنتُمْ شُهَدَاء } أنها سبيل الله التي لا يصدُّ عنها ، إلاَّ ضالٌّ مضلَّ . { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وعيد لكل صادٍّ عن دين الله .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } فرقة منهم ، كأنهم فرق متعادُّون كلُّها في النار ، بدليل قوله : { يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } .

 

{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم .     { وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ } ومن يتمسَّك بدينه ويمتنع به ، أو يلتجئ إليه في مجامع أموره ؛ { فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى النعمة الأبدية .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } هو القيام بالواجب ، والاجتناب عن المحارم ، وقيل : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويُذكر ولا ينسى ، ونحو قوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) أي : بالغوا في التقوى ، حتى لا تتركوا من المستطاع شيئا . { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أمر بالثبات على الطاعة ، حتى يدركهم الموت وهم على حال الإسلام .

 

{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ } تمسكوا بالقرآن ، لقوله u : << حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم >> . { جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي : لا تفعلوا ما يكون عليه التفرَّق ، ويزول بسببه الاجتماع ، وهو أمر بالتعاون على البر والتقوى ، ومن فرَّق عن الاجتماع يهوي ، أو يعمى فلن يحظَّ إلاَّ حظَّه ، ولن يضَّر إلاَّ نفسه ؛ ثم ذكّرهم بنعمة الاجتماع فقال :

 

{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } كانوا في الجاهلية بينهم العداوة والحروب ، وهو من العذاب الأدنى ، وهو سرُّ الافتراق ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وقذف في قلوبهم المحبة ؛ فتحابوا وصاروا إخوانا متعاونين على الشيطان وحزبه ، وذلك سرُّ الاجتماع . { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ } وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر لأن كُلَّ من عمل معصية ، فهو على شفا حفرة من النار ، لأنه ليس بينها وبينه إلاَّ الموت ، ولا يدري متى وصوله ، وإذا مات وقع فيها ؛ { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بها .

 

{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } بما استحسنه الشرع والعقل ، وعدٌ من الله ، إذ لا تخلوا الأرض من قائم بحجة الله ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } عما استقبحه الشرع والعقل . { وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } هم الأخصاء بالفلاح الكامل ، قال u : << من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ؛ فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة أوليائه ، وخليفة كتابه >> . { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ } بالعداوة كأهل الكتاب وغيرهم ، { وَاخْتَلَفُوا } في الديانة ، { مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ } الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق ؛ فلم يتمسكوا بها . { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الدنيا بتعاديهم ، وسائر عذاب الله لهم ، وفي الآخرة بجهنم .

 

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } يقال لهــم : { أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } .

 

{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

 

{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً } فيأخذ أحدا بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، وقال : { لِّلْعَالَمِينَ } على معنى : ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه ، ولا يتصوَّر منه الظلم للعالم ، لأنه كلُّه خلقه وملكه للعالمين ، أي : لا يعاملهم معاملة من يريد ظلمهم . { وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ  الأُمُورُ } فيجازي كلاًّ على حسن جنس عمله وقدره .

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كأنه قيل : وجدتم خير أمَّة ، أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمَّة ،         { أُخْرِجَتْ } أظهرت { لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم } لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه ، لأنهم إنما آثروا دينهم عن دين الإسلام حبا للرئاسة ، واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من الرئاسة والأتباع وحظوظ الدُّنيا مع الفوز بما وعدوه على الأيمان به من إيتاء الأجر مرتين . { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } وهم الأقلَّون ، { وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } .

 

{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } إلاَّ ضررا مقتصرا على أذى ، بمعنى : طعن في الدين ، أو تهديد ونحو ذلك . { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ } بثبات عزائمكم ، وعدم ثبات عزائمهم ؛ {  ثُمَّ لاَ  يُنصَرُونَ } .

 

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ } وجُدوا ، {  إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ } إلاَّ معتصمين بحبل من الله ، وهو رحمته الواسعة يجمع الخلق ، { وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } والحبل العهد والذمة ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في كل حال ، إلاَّ في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين ، أن لا عزَّ لهم قطٌ ، إلاَّ هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة ، لما قبلوه من الحرية . { وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ } استوجبوه ، { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله ، { الْمَسْكَنَةُ } الفقر ، أو خوفه ، لأن الفقر مع اليسار هو الفقر بعينه .      { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : ذلك كائن عليهم بسبب كفرهم . {  ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } لأن المعصية تقتضي إلى معاصي ما لم ينزع العاصي منها .

 

{ لَيْسُواْ سَوَاء } ليس أهل الكتاب مستوين ، { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } جماعة مستقيمة عادلة ، { يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ } للتَّفهُّم والتدبُّر والتفكر ، { آنَاء اللَّيْلِ } ساعاته ، { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ينقادون ويذعنون لما تقتضيه الآيات المتلوَّه .

 

{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي   الْخَيْرَاتِ } تفسير لما أثمرت لهم التلاوة ، لأن العلم أوَّلاً والعمل ثانيا . { وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } الذين صلحت أحوالهم حكما من الله لهم بالثناء والصلاح . { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } وإن قلَّ { فَلَن يُكْفَرُوْهُ } فلن تحرموا جزاءه ، { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } بشارة للمتقين بجزيل الثواب ؛ ثم أخذ في صفة ضدهم فقال :

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ } من عذابه { شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

 

{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في المفاخر والمكارم ، وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس ، وما يتقربون به إلى الله مع كفرهم ؛ {  كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } برد شديد { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } بعدما أتعبوا في تأسيسه أنفسهم ، وأنفقوا في عمارته أموالهم . {  وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ظلموها حيث لم يأتوا بها على الوجه الذي يُستحقُّ به الثواب .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } بطانة الرجل : خصيصته وصفيه ، شبه ببطانة الثوب ، كما يقال : فلان شعاري ، وفي الحديث << الأنصار شعار ، والناس دثار >> . { مِّن دُونِكُمْ } من دون أبناء جنسكم وهم المؤمنون ؛ وكل من اتخذ من دونه بطانة فسوف تنكشف له عداوته منه ، إذا خالفه فيما لا يهواه ، ولو بعد حين ، تصديقا لكتاب الله ، { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } لا يُقصرون في فساد دينكم ، والخبال : الفساد . { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي : تمنوَّا أن يضُّروكم في دينكم أشد الضرر وأبلغه . {  قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء } أي : ظهرت أمارة العداوة { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم ، أن ينفلت من أنفسهم ما يُعلم به بغضهم للمسلمين ، مع التفرُّس لما يقتضيه مضمون كلامهم ، تصريحا وتلويحا لأن " كل إناء بما فيه يرشح " والنفس مجبولة على النطق بما في ضميرها . { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ } من البغض لكم { أَكْبَرُ } مما بدا . {  قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } الدالَّة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، والدلالة على صفة أعدائكم . { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ما بيَّن لكم بالتفكُّر والتدبُّر .

 

{ هَاأَنتُمْ } ها أنتم "ها" تنبيه و "أنتم " كناية للمخاطبين ، { أُوْلاء } يريد أنتم أيها المؤمنون .    { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بيان لخطئهم في محبتهم لمن يبغضهم . { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } أي : كتابهم ، أو كتابكم ، {  وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا } نفاقا ، { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } من أجله تأسُّفا وتحسُّرا ، حيث لم يجدوا إلى التشفِّي ، وعض الأنامل عبارة من شدة الغيظ ، وهذا من مجاري الأمثال ، وإن لم يكن عضٌّ . {  قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاء عليهم بدوام الغيظ عليهم ، وزياته إلى الموت ، فيضاعف قوَّة الإسلام وأهله ، حتى يهلكون به .

 

{ ِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ذاتها ، أي : حقيقتها ، أو النية التي تخفي على الحفظة (لعله) الكاتبين .    

 

{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } بيان لتناهي عداوتهم إلى حد الحسد ، مما نالهم من خير ومنفعة ، وشمتوا بما أصابهم من ضرَّ وشدَّة ، وذلك طمع كل عدو والمسُّ مستعار للإصابة ؛ { وَإِن تَصْبِرُواْ } على عداوتهم أو على مساوئ التكليف ، { وَتَتَّقُواْ } موالاتهم ، أو ما حرم الله عليكم . { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } بحفظ الله وفضله . { إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } لا ينسى منه شيئا ، ولا ينفلت عليه منه شيء لإحاطته به . { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ } تنزلهم {  مَقَاعِدَ } أي : مراصد { لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فلم تكتف بالمؤمنين من دون سياسته وحده .

 

{ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } (لعلها) همة طبع لا همة فعل ، كما قال : ( وهمَّ بها ) حين همَّت به ، لأنها لو كانت عزيمة لما ثبتت معها (لعله) الولاية ، لأنه قال : { وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } فلم يخرجهما من ولايته ، ولو كانا اعتقدا الإفشال لما ثبتا على ولاية الله . { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أمرهم سبحانه بأن لا يتوكلوا إلاَّ عليه ، ولا يفوضوا أمرهم إلاَّ إليه .

 

{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ } بما أمدكم به من الملائكة ، وبتقوية قلوبكم ، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، وذلك تذكير ببعض ما أفادهم التوكَّل . { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } أقـلاَّء . {  فَاتَّقُواْ اللّهَ } في الثبـات ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ما أنعم عليكم بتقواكم ونصره .

 

{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } إنكارا أن لا يكفيهم ذلك . { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا } من ساعتهم هذه ، {  يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } معلَّمين ، { وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ } وما جعل إمدادكم بالملائكة ، {  إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ } إلاَّ بشارة لكم بالنصر ، يحتمل أنهم يرونهم بدليل هذه الآية ، ويحتمل أنهم لا يرونهم بدليل قوله : ( بجنود لم تروها ) وهذه البشارة قول الرسول u لهم ،    { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ } ولتسكن إليه من الخوف . { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ } لا من العُدَّة والعدد ، يعني : لا تخيلوا [كذا] بالنصر على الملائكة والجند ، وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد ، وإنما أمدَّهم ووعد لهم بشارة لهم ، وربطا على قلوبهم ، كقول إبراهيم : ( قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) . { الْعَزِيزِ } الذي لا يغالب في أقضيته ، { الْحَكِيمِ } الذي ينصر ويخذل ، بوسط وبغير وسط ، على مقتضى الحكمة والمصلحة .

 

{ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ليقبض منهم بقتل بعض وأسر آخرين ، وقيل : ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر . { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أو يخرِّبهم ، والكبت : الهلاك وردُّ العدوِّ بغيظه .   { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } خاسرين ، لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون .

 

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } اعتراض ، {  أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ } المعنى : أن الله مالك أمرهم إما أن يهلكهم أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا ، وإنما أنت مأمور بإنذارهم وجهادهم . {  فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } قد استحقوا التعذيب بظلمهم ، { وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } خلقا وملكا . { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } لمن تاب ، { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } لمن أصرَّ . { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } راجين الفلاح ، { وَاتَّقُواْ } ما يقود صاحبه من الفعل للمناهي ، والترك للأوامر ، إلى { النَّارَ } بامتثال الأمر ،  { الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } بالتحرَّر من متابعتهم ، وتعاطي أفعالهم .

 

{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ } لكي ، { تُرْحَمُونَ } .

 

{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة : الإقبال على ما يستحق به المغفرة ، كالإسلام والتوبة والإخلاص . { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } أي : عرضها كعرضها ، وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة ، على طريقة التمثيل ، لأنه دون الطول . وعن ابن عباس : << كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض >> . { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .

 

{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء } في الأحوال كلِّها ؛ { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } الممسكين الغيظ عن الإمضاء في وقت وجوبه ، يقال : كظم القربة : إذا ملأها وشدَّ فاها ، ومنه كظم الغيظ : وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ، ولا يظهر له أثرا ، والغيظ يوقد حرارة القلب من الغضب ، { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه ، { وَاللّهُ يُحِبُّ  الْمُحْسِنِينَ } عن الثوري : << الإحسان : أن يحسن إلى المسيء ؛ فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة >> .

 

{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } أي : ركبوا كبيرة ، { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } بارتكاب صغيره ،        { ذَكَرُواْ اللّهَ } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم . وقال محبوب بن رحيل : << إنه سمع مشايخه المُسلمين يقولون في هذه الآية : ( ذكروا الله ) يقولون : عظُم الله عندهم ، وجلَّ في نفوسهم أن يقيموا على حرام طرفة عين ، ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعملون ) >> ؛       { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } فتابوا عنها لقبحها نادمين ، { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ } فيه تطيبٌ لنفوس العباد ، وتنشيط بالتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب ، وإشعار بأن الذنوب – وإن جلّت – فإن عفوه أجلَّ . { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ } ولم يقيموا على قبح أفعالهم ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } مع قيام الحجة عليهم بذلك ، ولن يهلك على الله في دينه معنا إلاَّ مصرٌّ على ذنبه ، قادر على الخروج منه بعينه ، فلم يخرج منه ، لأنَّ التوبة في الجملة مما لا يقدر على الوصول إلى عمله ، كالتوبة من الشيء لعينه ، والتوبة من الذنب كمن لا ذنب له ، والعاجز عن الشيء معذور عنه .

 

{ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .

 

{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } ما سنه في أمم المكذَّبين من وقائعه ، { فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } فتعتبروا بها ، { هَـذَا } أي ك القرآن { بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى } أي : إرشاد إلى التوحيد ، { وَمَوْعِظَةٌ } ترغيب وترهيب {  لِّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك .

 

{ وَلاَ تَهِنُوا } ولا تضعفوا عن الجهاد والمجاهدة ، { وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } وحالكم أنكم أعلى منهم ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : ولا تهنوا إن صح إيمانكم ، يعني : أن صحة الإيمان توجب قوة القلب ، والثقة بوعد الله ، وقلّة المبالات بأعدائه ، وإن أديل عليه ، بدليل قوله :

 

{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } أي : جراحة ؛ {  فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } أي : إن نالوا منكم ؛ فقد نلتم منهم قبله ؛ ثم لم يُضعف ذلك قلوبهم ، ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال ؛ فأنتم أولى أن لا تضعفوا ، ( فإنَّهُمْ يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ) ، { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا } نصرفها { بَيْنَ النَّاسِ } أي : نصرَّف ما فيها من النعم والنقم . { وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : نداولها بضروب من التدبير ، وليعلم الله المؤمنين ، مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم ، كما عملهم قبل الوجود ، { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الناس ، كما قال : ( لتكونوا شهداء على الناس ) ، والشاهد لا يكون إلاَّ محقا ، أو للقتل في سبيله ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله ، وهم المنافقون والكافرون .

 

{ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } التمحيص : التطهير والتصفية من خبائث الكفر ، { وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } ويهلكهم ؛ يعني : إن كانت الدولة على المؤمنين ، فللاستشهاد والتحميص والمتييز وغير ذلك ، مما هو صلاح لهم ، وإن كان على الكافرين ، فلمحقهم ومحو آثارهم .

 

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ } أي : لا تحسبوا ، { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ } أي : ولم يعلم الله { الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } أي : ولمَّا يجاهدوا ؛ وفيه ضروب من التوقُّع ، { وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : قيل مجاهدتكم وصبركم .

 

{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أي : تتمنون ملاقاة العدو للجهاد ؛ يعني : كنتم تتمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته ؛ { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي : رأيتموه معاينين ، مشاهدين له ، حين قتل إخوانكم بين أيديكم ، وشارفتم أن تُقتلوا ، وهذا توبيخ لهم تمنَّيتهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله بإلحاحهم عليه ؛ ثم انهزامهم عنه .

 

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } فسيخلوا كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسَّكين بدينهم بعد خلوِّهم ؛ فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوِّه لأن المقصود من بعث الرسل تبليغ الرسالة ، وإلزام الحجَّة لا وجوده بين أظهر قومه ؛ { أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } الذين لم ينقلبوا ، وسمّاهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا .

 

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : يعلمه ، أو بأن يأذن لملك الموت في قبض روحه ؛ والمعنى : أن موت الأنفس محال أن يكون إلاَّ بمشيئة الله ؛ وفيه تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدوِّ ؛ وإعلام بأن الحذر لا ينفع ، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله ، وإن خاض المهالك واقتحم المعارك ، { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } لا ينسخه إلاَّ وصول أجله ، {  وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } ميسَّر لمن يريده ؛ { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } ميسَّر لمن يريده ويحتمل ( ( نؤته منها ) أي : من الدنيا ما قدرناه له ، ولا ينقص ذلك ، إرادته وعمله وسعيه كان للدنيا أو للآخرة ؛ بل يجزي كما قال : { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } .

 

{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : ربَّانيون ، { فَمَا وَهَنُواْ } فما فتروا عند قتل نبيِّهم ، أو قتل بعضهم { لِمَا أَصَابَهُمْ } من الشدائد { فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ } بسبب ما أصيبوا عن الجهاد ، { وَمَا اسْتَكَانُواْ } وما خضعوا لعدوهم ، { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } على جهاد الكافرين ، أو على مشاقِّ التكليف .

 

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } وما كان قولهم مع ثباتهم وقوَّتهم ، في الدين وكونهم ربَّانيين ، إلاَّ هذا القول ، وهو إضافة الذنوب ولإسراف على أنفسهم هضما لها ، وإضافة ما أصابهم إلى سوء أعمالهم والاستغناء عنها ، ثم طلب التثبُّت في مواطن الحرب ، والنصر على العدوِّ ، { وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } تجاوزنا حدَّ العبودية ، { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } على دينك ، {  وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } من جنِّ وإنس .

 

{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } تيسير أسبابها للطاعة ، {  وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } المغفرة والجنة ؛ فخصَّ بالحسن دلالة على فضله وتقدُّمه وأنه هو المعتدُّ عنده . { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } لا غيرهم .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } يرجعوكم إلى الكفر ،        { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } الدنيا والآخرة ؛ { بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ } متوليِّ أموركم وناصركم ؛ فاستغنوا عن نصرة غيره ، {  وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } .

 

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } الخوف ، والشيطان يلقي في قلوب المؤمنين الخوف ، لقوله تعالى : ( الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ..... ) إلى تمامها . { بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ } بسبب إشراكهم ، أي شرك كان ؛ { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } حجَّة ، وهو اتباع الشيطان ونظرهم إلى الأسباب ؛ فإن من لا ينظر إلى الأسباب يجعل الله في قلبه الثبات .          { وَمَأْوَاهُمُ } ومرجعهم { النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } .

 

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم } تقتلونهم ، وقيل : حسَّه : أبطل حسَّه بالقتل ، { بِإِذْنِهِ } بأمره وعلمه ؛ {  حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } أي ك اختلفتم ، { وَعَصَيْتُم } أمر نبييكم ، بترككم المركز ، أو اشتغالكم بالغنيمة ، { مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر وقهر الكفار ، { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين تركوا لمركز لطلب الغنيمة ، {  وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } وهم الثابتون على الطاعة ، { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي : كفَّ معونته عنكم فغلبوكم ؛ { لِيَبْتَلِيَكُمْ } ليمحِّص صبركم على المصائب ، وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر ، لأنه يجازي على ما يعمله العبد ، لا على ما يعمله منه ؛ { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } حيث ندمتم على ما فرط منكم ،  { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } بالعفو عنهم وقبول توبتهم ، أو هو متفضَّل عليهم في جميع الأحوال ، سواء أديل بهم ، أو أديل عليهم ، لأن الابتلاء رحمة ، كما أن النصرة رحمة .

 

{ إِذْ تُصْعِدُونَ }تبالغون في الذهاب ، صعيد الأرض ، والإصعاد : الذهاب في الأرض ؛ {  وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ } ولا تلتفتون ، وهو عبارة عن غاية انهزامهم ، وخوف عدوِّهم ؛ { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ } يقول : إلي عباد الله .. إلي عباد الله .. أنا رسول الله ، من يكرُّ فله الجنة . {  فِي  أُخْرَاكُمْ } ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة ، { فَأَثَابَكُمْ } فجازاكم الله { غُمَّاً } حين صرفكم عنهم ، وابتلاكم {  بِغَمٍّ } بسبب غمٍّ أذقتموه رسول الله بعصيانكم أمره ، أو غمَّا بعد غمٍّ ، وغمًّا متصلاً بغمٍّ ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله ، والجروح والقتل ، وظفر المشركين ، وفوتِ الغنيمة والنصر ، {  لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } لتعتادوا على تجرُّع الغموم ؛ فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، { وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ } ولا على مصيب من المضارِّ ، { وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } علم بعملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهذا ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية .

 

{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين ، وأنزل عنهم الخوف الذي كان بهم ، حتى يُعشُوا وغلبهم النوم ؛ والأصل : << أنزل عليكم نعاسا ذا أمنة >> إذ النعاس ليس هو الأمن . {  يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ } هم أهل الصدق واليقين ، { وَطَآئِفَةٌ } هم المنافقون { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ } ما بهم إلاَّ همُّ أنفسهم ، وخلاصها الجسد[ي] ... البهيمية لا الروحانية ، لأنه ما خُلق إلا للاهتمام للنفس (لعله) الروحانية ، كما قال : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ، وقد أيضا ذمًّا لهم : ( فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) ؛ لا همَّ الدين ، ولا همَّ رسول الله والمسلمين . {  يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } غير الظنِّ الحقِّ ، الذي يجب أن يظن به ، وهو أن لا ينصر محمدا { ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } الظن المختص بالملة الجاهلية ، وكلُّ من حقق ظنَّا على غير صحة فهو من ظن الجاهلية المنهي عنه ؛ أو ظنَّ أهل الجاهلية ، أي : لا يظنُّ مثل ذلك الظن إلاَّ أهل الشرك الجاهلون بالله .

 

{ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قطٌ ، يعنون : النصر والغلبة على العدو. {  قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } أي : الغلبة الحقيقة لله وأوليائه ، ( فإن حزب الله هم الغالبون ) {  يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } خوفا من السيف { يَقُولُونَ } في أنفسهم ، أو بعضهم لبعضٍ منكرين لقولك لهم : ( إن الأمر كلَّه لله ) { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ } من { شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } أي : لو كان كما قال محمد : إن الأمر كلَّه لله ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غُلبنا قطُّ .

 

 

{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ } أي : من علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة ، وكتب ذلك في اللوح ، لم يكن بدٌّ من وجوده ، ولو قعدتم في بيوتكم { لَبَرَزَ } من بينكم { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } إلى مصارعهم ، ليكون ما آته يكون ، والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون ؛ لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ؛ وإن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم ، كما قال : { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ، ويمحص ما في قلوبهم ، ويظهر سرائرها من الإخلاص أو النفاق . { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قبل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد ، وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء ، وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } جمع المُسلمين والكافرين ، { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ } دعاهم إلى الذلة ، وحملهم عليها ببعض ما كسبوا ، ( استزلَّهم الشيطان ) : طلب زلتهم ودعاهم إلى الزلل ، { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من ذنوبهم ، والمعنى : أن الذين آمنوا يوم أحد كان السبب في انهزامهم ، أنهم كانوا أطاعوا الشيطان ؛ فاقترفوا ذنوبا ، فذلك منعتهم التأييد والتوفيق في تقوية القلوب حتى تولوا ، وقال الحسن : << استزلهم بقبول ما زُيَّن لهم من الهزيمة >> ، وقوله : ( ببعض ما اكتسبوا ) مثل قوله : ( ويعفوا عن كثير ) . { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } غفر لهم بعدما استغفروا . { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } في النسب ، أو النفاق ، {  إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ } سافروا فيها للتجارة أو غيرها ، { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } جمع غاز ، وأصابهم موت أو قتل ، {  لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : لا يكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده ، ( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) خاصة ، ويصون منه قلوبكم ، والحسرة : الندامة على فوت محبوب . { وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } ردٌّ لقولهم : إن الأسباب تقطع الآجال . { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على حسب أعمالكم .

 

{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } المجموع الفائت ، لأنه لم يكن جمعه الله . { وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } لإلى معبودكم الذي توجهتم إليه وبذلتم مهجتكم لوجهه . 

 

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } << ما >> مزيدة للتوكيد والدلالة على أن اللينة لهم ما كان إلاَّ برحمة من الله ، ومعنى الرحمة ربطة على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطُّف بهم . { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً } جافيا ، { غَلِيظَ الْقَلْبِ } قاسية ، {  لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } لتفرقوا عنك ، حتى لا يبقى حولك أحد منهم ؛ {  فَاعْفُ عَنْهُمْ } ما كان منهم مما يختص بك ، { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } فيما يختص بحق الله إذا تابوا ، إتماما للشفقة عليهم ،  { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } في أمر الحرب ونحوه ، مما لم ينزل عليك فيه وحي ، تطيبا لنفوسهم وترويحا لقلوبهم ورفعا لأقدارهم ، وكشفا للآراء الصائبة ، وهضما للنفس على الاستبداد ، وطلبا لعلم ما لم يعلمه الله [و] وفي الحديث : << ما تشاور قوم قط ، إلاَّ هدوا لأرشد أمرهم >> . وعن أبي هريرة : << ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من الصحابة >> ؛ ومعنى شاورت فلانا : أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي ، وفيه دلالة على جواز الاجتهاد ، وبيان أن القياس حجة ، وعلى أن الإحاطة بالعلم محال ، وكل واحد من الخلق يخصه بعلم لم يخص به الآخر ، وإن كان أفضل منه وأعلم منه بغيره . {  فَإِذَا عَزَمْتَ } فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى ، { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } في إمضاء أمرك على الأرشد ، لا على المشورة . {  إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } عليه ، والتوكل : الاعتماد على الله ، وتفويض الأمر إليه . وقال ذو النون : << خلع الأرباب ، وقطع الأسباب >> .

{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } إنما يدرك نصرا الله ، من تبرأ من حوله وقوته ، واعتصم بربه وقدرته ، { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ } من بعد خذلانه إياكم ؛ هذا تنبيه على أن الأمر كله لله ، وعلى وجوب التوكل عليه ، {  وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وليخُصَّ المؤمنون ربهم بالتوكل عليه ، والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولا رزق إلا من لدنه . وقيل : حقيقة التوكل : أن لا تعصي الله من أجل رزقك ، ولا تطلب لنفسك ناصرا غيره ، ولا لعملك شاهدا غيره ؛ ولأن إيمانه يقتضي ذلك .

 

{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } يعني أن النبوة تنافي الغلول ، روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله أخذها ، فنزلت : {  وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : يأت بالشيء الذي غلَّه ، أو بمثله حاملاً على ظهره ، أو يأت بما احتمل من وباله . { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } يعطي جزاؤها وافيا ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جزاء على قدر كسبه .

 

{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ } أي : رضاء الله { كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

 

{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ } هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات ، أو ذو درجات ، والمعنى : تفاوت منازل المثابين منهم ، ومنازل المعاقبين أو التفاوت بين الثواب والعقاب ، { واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } عالم بأعمالهم ودرجاتها ، فيجازيهم على حسبها .

 

{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ } على من آمن مع رسول الله من قومه ، وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه لا غير ؛ { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } من جنسهم ، عربيا مثلهم ، والمنة في ذلك من حيث أنه إذا كان منهم كان اللسان واحدا ؛ فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه . وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ؛ فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه . { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } م دنس الطباع وسوء العقائد ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } مبعثه الرسول ، { لَفِي ضَلالٍ } عمى وجهالة ، { مُّبِينٍ } ظاهر لا شبه [ فيه ] ، ولكن لا يبين ظهور إلا بعد التعليم .

 

{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ } يريد ما أصابهم يوم أحد ، { قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا } يوم بدر ، { قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا } من أين هذا ؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } من قبل اختياركم وكسبكم ، { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } جمعكم وجمع المشركين ، { فَبِإِذْنِ اللّهِ } بعلمه وقضائه ،      { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } .

 

{ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } وهو كائن ليميز المؤمنين من المنافقين ، وليظهر إيمان هؤلاء ، { وَقِيلَ لَهُمْ } للمنافقين : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : جاهدوا للآخرة كما يجاهد المؤمنين ، { ِ أَوِ ادْفَعُواْ } أي : قاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، إن لم تقاتلوا للآخرة ، { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } أي ك لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتَّبعناكم ؛ يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس لشيء ولا يقال لمثله : قتال ، إنما هو إلقاء النفس في التهلكة . { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } يعني : أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك ، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ؛ فلما انخلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا بان تباعدهم بذلك عن الإيمان المظنون بهم ، واقتربوا من الكفر ؛ أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم من قلوبهم بانشغالها بضده . { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } من النفاق .

 

{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } في النسب أو في الدين ، { وَقَعَدُواْ } وقعد هؤلاء القائلون عن الجهاد :   { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله r والقعود ، { قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } بأن الحذر يغني عن القدر .

 

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في الجهاد ، وفي إحياء دين الله ، ويخرج في جميع طاعة الله تعالى ، { أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } قيل أحياء في الدين ، وقيل : في الذكر ، وقيل : يرزقون مثل [ما] يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون ؛ وهو تأكيد لكونهم أحياء ، وصف حالهم التي هم عليها من التنعُّم برزق الله تعالى فيما قيل ؛ والله أعلم بحقيقة حالهم .  

 

{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } وهو التوفيق في الشهادة ، وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم ، من كونهم أحياء مقربين ، يروى عن النبي r : << لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي في قناديل من ذهب معلّقة في ظلِّ العرش >> .

 

{  وَيَسْتَبْشِرُونَ } ويفرحون ، { بِالَّذِينَ } بإخوانهم المجاهدين الذين { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يُقتلوا ، فيلحقوا بهم { مِّنْ خَلْفِهِمْ } يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم ، من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا ، على مناهج الدين والجهاد ، ولعلهم أنهم إذا استشهدوا أو لحقوا بهم ، نالوا من الكرامة ما نالوا هم ، وهم قد تقدموهم . { َلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } المعنى : أنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة ، وحال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم إذا ماتوا أو قتلوا ، كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور ، وحزن فوات محبوب . والآية تدُّل على الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مُدرِك بذاته لا يفنى بخراب البدن ؛ ولا يوقف عليه إدراكه وتألمُّه والتذاذه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون .

 

{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } يسُّرون بما أنعم الله عليهم ، وبما تفضَّل عليهم من زيادة الكرامة ، { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } بل يوفَّر عليهم .

 

{ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } الجرح ، { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .

 

{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } اطمئنا نية وإيقانا ،      { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } كافينا الله ، أي : الذي يكفينا الله ، يقال : حسبه الشيء إذا كفاه ، وهو بمعنى : المحسب . { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } نعم الموكول إليه هو .

 

{ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ } وهو السلامة ، وحذر العدو منهم ، { وَفَضْلٍ } وهو الربح في التجارة ، { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوٍّ ، { وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ } بحربهم وخروجهم إلى وجه العدو ، على إثر تثبيطه ، { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } قد تفضَّل بالتوفيق فيما فعلوا .

 

{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ } المنافقين { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي : أولياءه ، { وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأن الإيمان به يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره .

 

{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً } يعني : أنهم لا يضرَّون لمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ، وما وبال ذلك عائدا على غيرهم ... بقوله : { يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ } أي ك نصيبا من الثواب ، { وَلَهُمْ } بدل الثواب ، { عَذَابٌ عَظِيمٌ } وذلك أبلغ ما ضرَّ به الإنسان نفسه .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ } أي : استبدلوا به ، { لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

 

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي : إنما نملي لهم ليزدادوا إنما على إثمهم في الآخرة ، وليس لهم فيه منفعة في الدنيا ، ولا خير في الآخرة ، بل ليتضاعف عليهم العذاب بتسببه في الدنيا بمزاولتهم له ، وجمعهم إياه ، لأنه ما زاد على الكفاية ، فهو زيادة عذاب في الدنيا والآخرة في حق العاصين ؛ وكذلك سعيهم لما لا بد لهم منه ، أعني : العاصين هو عذاب لهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم لم يؤجروا به لأن أعمالهم محبوطة .

 

{ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من اختلاط المؤمنين الخَّلص والمنافقين ، { حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } قيل : الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره . والمعنى : لا يترككم مختلطين ، لا يعرف مخلصكم ومنافقكم حتى يمَّيز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه ، وبإخباره إلى أحوالكم ، أو بالتكاليف الشَّاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلاَّ الخَّلص المخلصون منكم ؛ كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر بواطنكم ويظهر ما على عقائدكم . { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } وما كان الله ليؤتي أحدا منكم علم الغيوب ، فلا يتوَّهم عند إخبار الرسول من نفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطَّلع على ما في القلوب اطلاع الله ، فيخبر عن كفرها وإيمانها ، { وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ } أي : ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه من يخبره أن في الغيب كذا ، وأن فلانا في قلبه نفاق ، وأن فلانا في قلبه إخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله ، لا من جهة نفسه . { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } بصفة الإخلاص ، ويحتمل في تأويل هذه الآية ، أي : لا يكون المؤمنون كلُّهم علماء بدين الله ، ولكن يختص من عباده ، رسلا وعلماء بدينه ؛ فإذا بلغتهم حجة من حجج الله ، من رسول الله أو نبي أو عالم أو جاهل فيما لا يسع جهله أو حجة عقل ، فواجب على المؤمنين الإيمان بها والتصديق لها . { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } النفاق ، { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .

 

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } من علم ومال أو مهجة نفس أو غريزة عقل ، { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } لأن أحوالهم ستزول عنهم ، ويبقى عليهم وبال البخل . { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } تفسيرا لقوله : ( بل هو شرٌ لهم ) أي : سيجعل ما منعوه عن الحق طوقا في أعناقهم ؛ كما جاء في الحديث : << من منع زكاة ماله يصير حية ذكرا أقرع له نابان ، فيطوَّق في عنقه فينهشه ويدفعه إلى النار >> . { وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } وله ما فيهما مما يتوارثه من مال وغيره ؛ فما لهم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه في سبيله ، { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

 

{ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } قيل : قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى : ( من الذي يقرض الله قرضا حسنا ) وقالوا إن إله محمدا يستقرض منا ، فنحن إذن أغنياء وهو فقير . ومعنى سماع الله له أنه لم يخف عليه ، وأنه أعد له كفافة من العقاب . { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .

 

{ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } أمرنا في التوراة وأوصانا { أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } أي : نقرب قرباناً ، فتنزل نار من السماء فتأكله ؛ فإن جئتنا به صدقناك ، والقربان : كلُّ ما يتقرب العبد به من نسك أو غيره ، قد حرم الله على بني إسرائيل زكاة أموالهم ولم يحلها لغنيٍّ ولا فقير منهم ، وإنما كا[نوا] يخرجون زكاة أموالهم ويجمعونها ، ثم تنزل عليها نار من السماء فتأكلها ؛ وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله ، لأن أكل النار القربان سبب الإيمان المرسول الآتي به ، لكونه معجزة ؛ فهو إذن وسائر المعجزات سواء . وكانت القرابين والغنائم لا تحلُّ لبني إسرائيل ، وكانوا إذا قربوا أو غنموا غنيمة ، جاءت نار بيضاء من السماء بلا دخان ، ولها دويٌّ ووجيف فتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة .

 

{  قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } بالمعجزات سوى القربان ، { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } أي : بالقربان ، يعني : قد جاء أسلافكم الذين أنتم على ملتهم ، وراضون بفعلهم ؛ {  فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي : كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا ، فلم لم تؤمنوا بالذين أتوا به ؟ ولم قتلتموهم {  إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم .

 

{ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } فإن كذبك اليهود فلا يهولنك ، فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك ، { جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ } بالمعجزات الظاهرات ، { وَالزُّبُرِ } جمع زبور ، من الزبر : مثل رسول ورُسل . { وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } المضيء عند الله ، فيكون ذلك علامة القبول ، وإذا لم تقبل بقيت على حالها وعند المؤمنين .

 

{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } وعد ووعيد للمصدق والمكذب . { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : تُعطون ثواب أعمالكم على كمال يوم القيامة ؛ فإن الدنيا ليست بدار جزاء . { فَمَن زُحْزِحَ } بُعد { عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } ظفر بالخير ، وقيل : فقد حصل له الفوز المطلق ، المتناول لكُل ما يقارنه ، ولا غاية للفوز وراء الجناة من سخط الرب ، وعذاب النيران ، ونيل رضى الله ونعيم الجنان. { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } ( ولذاتها وشهواتها إلاَّ متاع الغرور والخداع الذي لا حقيقة له وهو المتاع الرديء الذي يدلس به على طالبه حتى يشتريه ، حتى يتبين له رداءته ؛ والشيطان هو المدلس الغرور ) . { إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } شبَّه الدنيا بالمتاع الذي يُدلس به على المستام ، ويُغُّر حتى يشتريه ثم ينكشف له فساده ورداءته ، فيراه عين اليقين ، والشيطان هو المُدلس الغرور ، وعن سعيد بن جبير : << إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع        بلاغ >> . ، وعن الحسن : << كخضرة النبات ، ولعب النبات ، لا حاصل لها >> . وقال قتادة : << هي متاع متروكة ، ويوشك أن يضمحلَّ بأهلها >> .

 

{ لَتُبْلَوُنّ } لتختبُّرن { فِي أَمْوَالِكُمْ } بالإنفاق في سبيل الله ، وبما يقع فيها من الآفات ،                { وَأَنفُسِكُمْ } بالقتل والأسر والجراح ، والفرائض البدنية الظاهرة والباطنة ، وما يرد عليها من أنواع العلل والمصائب والمخاوف ، ووسواس الشيطان ، { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } يعني : اليهود والنصارى ، {  وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } كالطعن في الدين ، وصدّ من أراد الإيمان ، وتخطئة من آمن ، والسخرية والاستهزاء والهمز واللمز والاستخفاف ونحو ذلك . { وَإِن تَصْبِرُواْ } على ما ابتليتم به وعلى المكافاة بمثل ما فعل فيكم ، { وَتَتَّقُواْ } مخالفة أمر الله {  فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } مرجو الأمور وواجباتها ، وقال عطاء : << من حقيقة الإيمان >> . خوطب المؤمنون بذلك ليعلمهم أن الدنيا ذات عيوب ، وليوطّنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها ، حتى إذا لقوها وهم مستعدُّون لا يرهقه من تصيبه الشدة منهم بغتة فينكرها . ثم بين لهم إيجاب التعليم إن أجنح إليه فقال :

 

{ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم ، ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه ، والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الإعداد ؛ وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبنوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد ، من تسهيل على الظلمة وتطُّيب لنفوسهم ، والجر منفعة أو دفع مغرم أو لنحلِّ بالعلم ، وفي الحديث : << من كتم علما [عن] أهله ألجم بلجام من نار >> وذلك إذا احتج إليه ؛ وقيل : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا .      { وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .

 

{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ } فعلموا ، وقيل : أعطوا على قراءة : << آتوا >> ،           {  وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } قيل : من النفاق من إذا مُدح بشيء ليس فيه فأعجبه ، { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ } بمنجاة منه ، {  وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } روي أن رسول الله r سأل اليهود عن شيء مما في التوراة ، فكتموا الحق وأخبروه بخلافه ، وأروه أنهم صدقوا واستحمدوا وفرحوا بما فعلوا ، فأطلع الله ورسوله على ذلك ، وسلاَّه بما أنزل من وعيدهم ، أي : لا تحسبنَّ اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدلِّيهم عليك ، ويُحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب ، وقيل : هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان الذي للمسلمين وتوصُّلهم بذلك إلى أغراضهم ، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة . وفيه وعيد لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ، ويحبُّ أن يحمده الناس بما ليس فيه ، ويروى عن النبيr  قال : << لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى لا يحب أن يحمده أحد على العمل لله >> .  

 

{ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ } لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر ، { لِّأُوْلِي الألْبَابِ } لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر ، فيرى أن العرض المحدث في الجوهر يدلُّ على حدوث الجواهر ، لأن كل جوهر لا ينفك عن عرض حادث ، وما لا يخلوا عن الحادث فهو حادث ثم حدوثها يدلُّ على محدثِها وحسنُ صنعها يدلُّ على علمه ، وإتقانه يدلُّ على حكمته ، وبقاؤه يدلُّ على قدرته . قال u : << ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها >> .

 

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } قيل : هذا في الصلاة قياما عند القدرة ، وقعودا – قاعدين – عند العجز عن القيام ، وعلى جنوبهم عند العجز عن القيام والقعود . { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ممل يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها ، وما دبر فيها – مما تكلُّ الأفهام عن إدراك بعض عجائبه – على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه . وقال u : << لا عبادة كالتفكر >> ، وقيل : << الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب الخشية وما حلَّيت القلوب الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكر >> . { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } والمعنى : ما خلقته عبثا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة ، من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ، ودليلاً يدُّله على معرفتك ، ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية إن أطاعك ، ويستحقُّ العقاب إن عصاك . { سُبْحَانَكَ } تنزيها لك عن الوصف بخلق الباطل ، { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } كأنهم قالوا ما خلقت الخلق إلاَّ ليعبدوك ، ويوحدوك ثم ليعادوا للجزاء إما للثواب وإما للعقاب .

 

{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أهنته أو أهلكته أو فضحته ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ينصرونهم من عذابك .

 

{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } هو الرسول u ، أو القرآن ، أو كلُّ دليل كان من حجَّة العقل أو غيره {  يُنَادِي لِلإِيمَانِ } لأجل الإيمان { أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } كبائرنا ، {  وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } صغائرنا ، { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار } مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في جملتهم .

 

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } كأنهم سألوه التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ،   {  وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .

 

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } بسبب إيمانهم بالله ، { وَقَاتَلُواْ } جاهدوا         { وَقُتِلُواْ } واستشهدوا ، {  لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : لا يقدر على الثواب الحقيقي غيره .

 

{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ }والمعنى : لا ينظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظَّ وصحة الأبدان وقوَّتها ، ولا تغترَّ بظاهر ما ترى من تبسُّطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم ، { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } قليل من جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب ، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه ، وكلُّ زائل قليل ، وروي أنه u قال : << ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم >> . { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } وساء ما مهدَّوا لأنفسهم .

 

{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً } النزل : ما يقال للنَّازل ، {  مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } مما ينقلب فيه الفجَّار من القليل الزائل ، أي : لا بقاء لتمتُّعهم ، لكن ذلك للذين اتقوا .

 

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن ، { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من الكتابين ، { خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } دنيا فانية ، { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } لنفوذ علمه في كلِّ شيء .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ } على الدين وتكاليفه ، ولا تدعوه لشدةٍ ولا رخاء ؛ والصبر : حبس النفس عن المكروه ، { وَصَابِرُواْ } أعداء من جنٍّ وإنس على الجهاد ، لا تكونوا أقل منهم صبرا ، { وَرَابِطُواْ } أنفسكم على الطاعة كما قال عليه السلام : "من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة" ، وقيل : داوموا واثبتوا ، { وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } واتقوه بالتبُّرءُ عمَّا سواه ، لكي تفلحوا غاية الفلاح ، واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاث المرتبة التي هي : الصبر على مضض الطاعات ، ومصابرة النفس في رفض العادات ، ومرابطة الشر على جناب الحق ، لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة .