قرئ بكسر الهمزة والكسر أكثر ، وقلبها بعض القراء هاء والأول أشهر . وكان هذا لما تصفح ألواح صفحات عالم الشهادة على الوحدانية ، وتلمح معاني الصفات الإلهية ، تجلى من له من لوائح الغيب ، أنوار أسرار الحق على الحقيقة ، فعلم يقيناً أنه المستحق لأن يحمد ويسبح ويوحد ويطاع فيعبد ، هو لا غيره .

 فقال تحت الاستعانة والامتثال ، والتضرع في الخدمة والابتهال على التخصيص ، إياك نعبد لا غيرك ، ثم استدل بأنوار البرهان على معارج العرفان ، فرقى بها إلى مدارج أسرار العيان ، فأدهشه عن ملاحظة الأكوان ، حتى غاب عن الجنس في جناب القدس ، وفنى في أحواله عن مشاهدة أعماله ، وعمى عن الخلق بشهود الملك الحق ، وانطوى في شهوده عن دائرة وجوده ، فقال : (( وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) على أداء شكرك والقيام بحقوقك وأمرك ، بل في المهمات كلها هرباً من اللجأ إلى غيره وتبرؤاً من الحول والقوة والطول ، والإقرار بالعجز عن نفسه وعلى غيره من أبناء جنسه . وللمولى بالقدرة لما أيقن أنه لا طاقة له على النهوض بأعبائها إلا به لا غيره ، ترك الالتفات إلى غيره وأقبل عليه بالكلية حين لم يبق فيه لغيره بقية ، لأن (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) : مقام الإخلاص في العبادة ، ((وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) : مقام الصدق في الإرادة . فالأول لله والثاني بالله ، والضمير في الكاف المتصل ثابت فيها من المتكلم للمخاطب المكلَم ، والله معكم أين ما كنتم ، والكسر له لحن تفسد به الصلاة .

 وكأنه في نفس الخطاب دليل على تقديم العلم على العمل ، لقوله إياك صادر عن معرفة به مزايلة الاضطراب قربة فيه ، ثم قفى بقوله : نعبد لما نظر إليه بعين اليقين فعرفه بالإلهية ، ونفسه وأمثاله بالعبودية ، فكان وجود العلم يستدعى وجود العمل ، فالعلم إمام ، والعمل حيث إنه من هداياه وجزيل عطاياه ، بل ولكون هذه الخصلة سبب الوصلة ، ذلك لئلا يكون فيه شوب لغيره ، فإنه لا يقبل الشركة .

 وكون التكرير له فيما قيل للتنبيه على أن العبادات لا يمكن القيام بها ، والثاني لمريدها . إلا بالمعونة من الله . فهي في الحقيقة منه إليه ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

  وقيل في الواو إنها للحال ، أي نعبدك مستعينين بك ، وكأنه يحتمل في الفعلين أن يكون إيرادهما بلفظ الجمع تفخيماً لشأن المخلصين ، وسعي العابدين ، ومناجاة المضطرين ، وسؤال المبتلين . أو أنه أراد به نفسه وجماعة المؤمنين ، تبركاً بهم ورجاء أن تعم الإجابة بذكرهم والتوسل بهم .

 وقراءة النون منها بالكسر على لغة تميم ، والفتح أظهر وبتقديم العبادة على الاستعانة في النص عليها استدل أن طلب الحاجة المرادة مقدمة عن العبادة أدعى إلى الإجابة .

 والعبادة أنواع ، وأي شيء أطيع الله به فهو منها ، وكأنها في الجملة تدور على أربعة أركان لقاعدتين ، هما : العلم ، والعمل ، لا يشذ شيء منها عنهما ، لكن العلم على ضربين : بالله وبأمر الله ، العمل على وجهين ، ظاهر وباطن .

 وكل واحد منهما على قسمين : فعل وترك .

 ثم كل واحد منهما أيضاً على حالين : فرص ونفل .

 والفرض على معنيين : أداء اللوازم واجتناب المحارم .

  وتلخيص معاني ذلك يستدعي مجلدات ثم لا يستقصى إذ لا ينحصر فيحصى . والاستعانة روم المعونة على تحصيل المراد من جلب أو دفع ، أو ما كان من المطالب أقران الاختيارية والاضطرارية . وتفصيل كل شيء منهما يذكر على حدة في التنوع لها ما لا يدخل تحت الحصر جزماً ، ولكن الجامع لها أمران ، لا بد أن يكون المطلوب دنياوياً أو أخراوياً ، ميزان ذلك ما كان لله فأخراوي ، وما كان للنفس أو الشيطان فدنياوي .

  وقد نص الشرع على الكثير من ذلك في بيانه عن أهل العلم من المسلمين ، وهي في الحقيقة استمداد والمعونة إمداد ، وحصولها من وجهين في الجملة إما لواسطة أو غيرها ، ويكون من حسب ما جرى من سنة الله ، هذا في أشياء والأخر في أخرى . وفي الجنس الواحد منها كذلك ، مرة بتوسط ومرة بغير توسط ، (( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا )) ( الأحزاب : 62 ) والوسائط ما لا تحصى ، ولكنها لا بد من أن تكون روحانية أو جسمانية ، وليس الفاعل لشيء على الحقيقة إلا الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء قدير .