بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده بواسطة الأمين جبريل ، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل ، ليكون للعالمين نذيرا ، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فهدى إلى التي هي أقوم من الأمور ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا .

 وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة واستهلكوا في الكفر من العمر آخره ، أبوا من الانقياد ، سيدعون ثبورا غداً في المعاد ، وسيصلون سعيرا ، أنزله بعمله للإفادة كما أراده . فأخرجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، فقرع به أسماع مسامع السرائر ، من أولي الألباب أولي النهى والبصائر ، تشويقاً أو تخويفاً أو تحذيراً ، وأودع في طي خزائن غوامض دقائق عويصات أنوار أزهاره ، ودائع مكنون لآلئ يحار حقائق مصونات أسرار أثماره ، فهدى بالكشف إلى ذلك مَن بنوره ينظر فكان بصيرا ، وحلى كمال صياغة بلاغه مطالع كلامه بحلى جمال براعة مقاطع ختامه ، فكفى به خبيراً ، وجلا بطلوع لوامع جوازم قواطع صوارم جوامع أحكامه سدف ليالي جو الجهالات تنويرا . وأبان عن معالم صراط الهدى وأماكن مغانم التقى ، ومكامن مظالم الهوى بظهور سطوع أدلة أنوار مناره ، ومجامع أسراره معاني أذكار أخباره ، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .

 وحرس أبواب مغاني سماء مباني آياته ، عن استراق شيء بالنقص أو المزيد في ذاته ، وكان المعيار الصحيح ، والمعيار النجيح محكم الآيات ، مجرداً في النظام عن الخلل في الكلام ، لا يقبل الزلل في الأحكام أو في شيء من الأحوال ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، على أنه في تأليف كلامه وعجيب نظامه لقرآنه تراكيب ألفاظه العجيبة ، وعدم تناهي معانيه الغريبة – مع شدة إجازه – قد اقتضى كون اعجازه من رام عزماً أن يعارضه نظما ، فتحدى لذلك جميع العالمين أن يأتوا بمثله ، أو سورة في صورة شكله ، وأنى لهم بذلك ولو كن بعضهم لبعض ظهيراً . والصلاة السلام على نبي الرحمة ، هادي الأمة ، محمد النبي الأمي ، الذي أراد الله بجود هالة هلاله وجوده ، في قبة سماء بهجة الدين ، من حيث أنه جعله للناس قمراًً وسراجاً منيرا ، وعلى آله المطهرين من القبائح من جميع العالمين تطهيراً .

 أما بعد :

 فقد انكشف بنور الحق البرهان ، وصار الأمر ظاهر العيان أنه لا سبيل إلى الوصول إلى الله ، والفوز في لقائه بالسعادة الأبدية ، والتنعم باللذاذات السرمدية ، إلا بوجود الرعاية ، والسير إليه في منار الهداية ، على أنوار العلم ، في عنان الحلم ، لأنه من لم يكن له نور من ربه ، فما له من نور يستدل به ، وذلك هو العلم النافع ، فالعلم هو الدليل على قصد السبيل ، إلى الملك الجليل . العلم كله القرآن وهو التنزيل ، وما بعده من العلم تفسير له وتأويل . فهو الهدى والنور ، والشفاء لما في الصدور ، من أمراض الغرور وأدواء الفجور .

 طوبى لمن كان على عرفات ادكاره واقفاً ، وبكعبة أسراره طائفاً ، فإنه العروة الوثقى ، والسبب الأوفى ، الذي من تعلق به نجا ، ومن تركه ضل وغوى ، وهلك فتردى . نعم ، ولكن على غير معرفة بتأويله ، لا يصح أن يكون تابعاً له لدليله ، حتى يكون في حقه كذلك ، كلا ، بل يخاف عليه على غير ذلك ، أن تعميه أسراره ، وتحرقه أنواره ، وتجرفه وتغرقه بحاره ، مهما يكن في عومه ذا مره ، واقتحم فخاض لجته على غره ، وإذا كان الأمر في ذا لا شك أنه هكذا ولم تكن هذه التفاسير التي على المخالفين لأهل الاستقامة في الدين لغير الحق في ذلك حاليه ، لكونها في ضلال التأويل ليست خاليه . حتى صار كأن صرف العناية إلى ذلك من أكثر العناية ، لا سيما إذا لم تجد لأهل العدل من أصحابنا تفسيراً يرجع بالحق إليه ، ويقتفي أثره فتعول عليه .

 وها نحن في هذا المنهاج ، لكثرة الطلب واللجاج ، من بعض أخواني في الله علي ، ومراجعته في ذلك إلي ، مع كوني ممن قعد به القصور ، في حضيض الضعف عن الارتقاء ، في ذروة هذا المرقى ، الشريف الباذخ ، العالي الشامخ ، المنيف .

 وها نحن في همة الشروع فيه ، لفتح مباديه ، على سبيل التوسط قصداً بين الإقلال المخل ، والإسهاب الممل ، فإن الاستيفاء لجميع معانيه ، حتى يؤتى على أقاصيه ، لا مطمع لنا فيه ، لكونه كان لوخم الإذكار وعوم الأفكار ، وغوص الأبصار في البحر ، الذي لا ساحل له ولا قعر

 وكيف لا وهو الميدان الفسيح لمجال الاعتبار ، المستوفي على الصحيح لجميع الأعمار ، قبل البلوغ إلى آخره ، ثم لا يؤتى على عابره ، هذا وإني فيه وارد من علم اللسان ، ما لا بد منه للبيان ، ومن القرآن كل معمول به وشاذ ، ليكون للقارئ عن نسبة اللحن وكالخطأ كالملاذ ، وأسميه إن من الله علي بتمامه من فضله وإكرامه ، (( مقاليد التنزيل لإدراك حقائقه بالتأويل )) .

 وأنا به سبحانه أتوسل ، وله ربي أسأل ، أن يفتح لي بابه ، وأن يهجم بي في القول والعمل على الإصابة ، وألجأ إليه ملجأ من توكل عليه ، أتضرع فأناديه ليغمرني بالإقالة من عثار الرأي وباديه ، وهو الموفق لغيره وبه التوفيق ، وهذا حين الابتداء ربِ يسر لإتمامه إنك سميع الدعاء ، فعال لما تشاء .

سورة فاتحة الكتاب وتسمى أم القرآن ، والأساس ، وفاتحة كل شيء أوله ، وأمه وأصله ، وأساسه ومبدؤه ، وما أحقها بهذا لافتتاح الكتاب بها ، وانطوائها على سياق الثناء ، على الصفات والأسماء ، الدالة على كيفية التوحيد ، وكمية التفريد ، واحتوائها على نسيج مدارج الوصول إلى الله على معارج العلم والعمل الصالح ، وكون التلمح أمر بالإقامة ، على طريق الاستقامة ، التي ليس بشيء في الوجود إلا لأجلها موجود ، مع ما اشتملت عليه من القصص وإخباراً عن حال الفريقين من المالك ، والآخر الهالك ، وما في خلال ذلك التصريح ، من خصال التلويح ، بالوعد والوعيد ، لمن لحنها ولمن ضل عن طريق الاستقامة زل ، وعلى الجملة فهي كالجملة في مبانيها ، وما عداها فكالتفصيل لمعانيها ، فهي المبدأ وذلك منها ينشأ ، وتسمى : الكافية والواقية والشافية . لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهي شفاء من كل داء ) وسورة الحمد والشكر والدعاء والصلاة ، لاشتمالها على ذلك .

  وتسمى السبع المثاني لأنها تثنى في كل صلاة ، بل في كل ركعة منها ، وتكفي الركعات السرية وحدها ، ولا يكفي غيرها عنها ، إذ كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج . ولها أسرار عظيمة حتى أنه يروى عن محمد الغزالي أنه ذكر أن فيها من الخواص ألفاظاً ظاهرة وألفاظاً باطنة ، وهي سبع آيات بالاتفاق ، مكية على الأصح ، وقيل : مكية ومدنية ، لأنها نزلت مرتين ، مرة بمكة يوم فرضت الصلاة ، ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ، لم يشذ عنها شيء من الحروف الأبجدية ، التي عليها مدار العربية إلا سبعة لا غيرها .