تفسير ما كان الله شدد على المسلمين في قتال المشركين ثم رخص لهم :

قوله في سورة الأنفال :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) يعني : يوم بدر .

(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) كناية عن الفرار .

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) يعني : يوم بدر خاصة .

(إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ ) يعني : مستطرداً ، يريد الكرة على المشركين .

(أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ ) يعني : أو متجاوزاً إلى أصحابه من غير هزيمة ، فمن انهزم يومئذ حتى يجاوز صف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هارباً (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) يعني : فقد استوجب غضب الله .

(وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فكان هذا يوم بدر خاصة ن كأن الله شدد على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين ، وهو قتال قاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين من أهل مكة .

قال أبو الحواري :

من قتل مدبراً مولياً عن القتال ، فليس يقول : إنه شهيد ، ولقد يقال : إن الآية التي في سورة الأنفال محكمة ليست بمنسوخة ( ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) . وقال في آية أخرى :

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) يعني : يقاتلوا مائتين من المشركين .

(وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا ) يعني : يقاتلوا .

(أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) . فكان جعل الله على المسلمين يوم بدر أن يقاتل الرجلُ منهم عشرةً من المشركين ليقطع دابراهم ، فلما هزم الله المشركين يوم بدر وقطع دابرهم ، خفف على المسلمين بعد ذلك فنزلت : (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) يعني : يعد قتال بدر .

(وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا) يعني : يقاتلون (مِائَتَيْنِ) من المشركين .

([وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا] أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) تعالى .

(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني: من المسلمين ، في النصر لهم . فجعل يوم بدر على الرجل الواحد من المسلمين أن يقاتل رجلين من المشركين ، ونزلت بعد قتال بدر بسنة في أمر قتال أحد ، في سورة آل عمران حين انهزم المسلمون يوم أحد حين التقى الجمعان جمع المسلمين وجمع المشركين ، فانهزم المسلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم وثمانية عشر رجلاً فقال :

( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ) حين تركوا المراكز وعصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للرماة يوم أحد لا تبرحوا مكانكم ، فترك بعضهم المركز . (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) حين لم يعاقبهم فيستأصلهم جميعاً .

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [ حَلِيمٌ]) . فلم يجعل لمن انهزم يوم أحد بعد قتال بدر النار كما جعل يوم بدر ، وهذه ، رخصة بعد التشريد .

قال : وانهزم المسلمون يوم حنين فذلك قوله :

( إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) . منهزمين عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، فلم يجعل الله لهم النار ، فهذا بعد قتال أحد .

قال : ومن قتل اليوم في الجهاد مقبلاً أو مدبراً فله الجنة وهو شهيد إذا كان موافقاً للسنة ، ولكن سبق المقُبل المدبر إلى الجنة .

قال : وانهزم على عهد عمر بن الخطاب رحمه الله ، جيش من المسلمين بالشام ، فقتل عامتهم وعمر يومئذٍ بالمدينة ، فقال : رحمهم الله ليتني كنت معهم .

قال : فينبغي للمسلمين اليوم أن يقاتلوا الضّعف من المشركين إلى يوم القيامة ، فمن أعطى بيده من غير عذر حتى أسره المشركون إذا كانوا مثل المؤمنين ، فإنه لا يفادى من بيت المال ، إلاّ أن يفدي الأسير بنفسه من ماله . وإن كانوا أكثر من الضعّف فإنه يفادى من بيت المال .

عن أبي قتادة : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه سلم فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله محتسباً مقبلاً غير مدبر أيكفر الله خطاياي ؟

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن قتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر الله خطاياك إلا الدّين ، كذلك قال لي جبريل عليه السلام ..)) .

قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الزحفان صار النبي صلى الله عليه وسلم على فرسه بين الصفيّن ، المسلمين والمشركين ، يحض الناس على القتال ، حتى إذا بالغ في الأمرين في الاجتهاد والجهاد فاشتاق الناس إلى الحمل على العدو ناشدهم الله : لا تحملوا حتى يحمل هو ، فيدعو الله بيديه كلتيهما ن قد رفعهما إلى الله ، فإذا فرغ من الدعاء قال :

اللهم أنت مولانا ولا مولى لهم ، اللهم إياك نعبد ، ولا يعبدونك ، ونشكرك ويكفرونك . اللهم أيدنا بنصرك ، وأمددنا بملائكتك يضربون وجوههم وأدبارهم وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . أهيا شرا هياً ، يا حي يا قيوم ن دعوتك باسمك الحي القيوم ، فيحمل الناس على أثره ، فهو أول من يخالطهم صلى الله عليه وسلم .

 

تفسير قســمة الغنيمة من فيء المشــركين من أهل الحــرب :

 

قوله في السورة التي يذكر فيها الأنفال :

(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) يعني: الضيف النازل عليكم .

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ) وكان المسلمون إذا غنموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا خمسه ، فجعلوا ذلك الخمس الواحد أربعة أرباع ، فربع لله وللرسول ولقرابة النبي صلى الله عليه وسلم .

وكان للنبي صلى الله عليه وسلم مثل نصيب رجل من القرابة ن والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل ويعمدون إلى التي بقيت فيقسموها على المسلمين ، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيب القرابة فجعل يعمل به في سبيل الله ، فانطلق علي بن أبي طالب إليه يطلب نصيب القرابة .

فقال له أبو بكر رحمه الله ن سمعت عائشة تقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( عن النبي صلى الله عليه سلم لا يورث )) .

فانطلق إلى عائشة قال : أأنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث )) ؟ قالت : نعم .

فرضي بذلك علي بن أبي طالب ، فجعل أبو بكر وعمر يحملون به في سبيل الله ، وبقي نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل .

 

تفسـير مـن يغل في الغنيمة :

 

قوله في السورة التي يذكر فيها آل عمران :

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني : يغل ما أفاء الله على المسلمين من فيء المشركين قليلاً أو كثيراً ( يأت بما غل يوم القيامة ) قد حمله في عنقه .

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) يعني : كل بارٍ وفاجر ( بما كسبت ) يعني : بما عملت من خير أو شر .

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يعني : في أعمالهم ، ثم قال :

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ) فلم يغلل الغنيمة .

(كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) كمن استوجب سخطاً من الله في الغلول ، فقال : ليسوا سواء ، ثم بيّن مستقرها فقال للذي يغل .

(وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يعني : مصير أهل الغلول .

ثم ذكر مستقر من لا يغل فقال :

( [هُمْ ] دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) بصير بمن يغل منكم ومن لم يغلل .

عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً قال :

أيما عبد يأتي يوم القيامة وعلى عنقه جمل له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة لها أعار ، أو بغل أو فرس له حمحمة .. اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ؟

[ فقالوا : هل لرجل أن يحمل على عنقه جملاً ؟ !

فقال : أرأيتم من كان طوله مسيرة شهر ، ورأسه مثل الأقرع ، وهو جبل بالشام ، وحدقته مثل حراء ، وفخذه مثل ورمان ، هل يستطيع في حمل ذلك ؟

قالوا : نعم ومائة معه ..] .