تفسير ما أمر الله من الأمر بالمعروف والنهـي عن المنكر :

 

قوله في سورة لقمان :

([وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ] لاِبْنِهِ[ وَهُوَ يَعِظُهُ] يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) يعني : أتم الصلاة .

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ثم قال :

(وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) يعني : في أمرهما .

يقول : إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر فأصابك في ذلك أذى أو شدة فاصبر عليه (إِنَّ ذَلِكَ) يعني : هذا الصبر على الأذى في الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر.

(مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يعني : من حق الأمور التي أمر الله بها .

ثم قال : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) .

يقول : لا تعرض بوجهك عن فقراء المسلمين تكبراً ( ولا تمش في الأرض مرحاً ) يعني : بالخيلاء والعظمة .

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) يعني : كل بطر مرح فخور في نعمة الله ولا يشكر .

وقوله في سورة بين إسرائيل : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) يعني : بالخيلاء والعظمة .

(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) قال لقمان لأبنه :

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) يعني : لا تخيل ولا تنظر حيث لا ينبغي .

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) يعني : واخفض من صوتك عند الملا .

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) يعني : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير .

يا بني : أحب من أحبّ الله ، وابغض من أبغض الله ، وحبب نفسك إلى الناس ، ولا تبغض نفسك على أحد من الناس واعط الحق من نفسك ، وإن سمعت ما تكره وأتي إليك بعض ما لا تحب فأصبر نفسك على ذلك وأكرهها فأنك على الهوان قادر ، يا بني : اطف الشر وافش الخير .

( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ولا تحلف بالكذب ولا تشهد بالزور . [ ولا تكن ] ذا لسانين وذا وجهين ، ولا تجر بكل ريح مثل السفينة التي تجري في البحر بكل ريح ، إنه من علامات النفاق ولكن استقم على سبيل واحد .

يا بني : لا تمار السفهاء ، ولا تجالس المستهزئين ولا تهم في هم الخاطئين . يا بني : جالس أهل الذكر والفقه والعلم بأمر الله ، وليكونوا هو إخوانك وخلطاؤك .

يا بني الضحك طرف من الجهل ، وبعض الحياء طرف من الدين والسكوت بين الخزانة .

يا بني : عليك بالصمت إلاّ في ذكر الله ، فإن في اللسان عاقبة الخطايا .

وقد كان يقال : إنما الكلام في ثلاث :

إما تذكر ربك ، أو تأمر بضيعتك ، أو تسأل عن شيء فتخبر به ، واعلم ما صمت سلمت ، فعوّد لسانك الصمت عن كثير الكلام ، فإن فيه مع ذلك حلماً ووقاراً ، فإذا أكثرت الصمت قل الكذب ، وأعلم يا بني أن المصيبة باب الإثم ، والسكينة واللسان باب القلب ، فإذا ضعيت الباب دخل من لا تريد أن يدخل ، وخرج من لا تريد أن يخرج

فإذا حفظت الباب حفظت الخزانة كلها ، واستوثق لسانك بتلاوة القرآن ، واشغله بالحكمة عن قول الزور والرفث والبهتان .

يا بني : إنه من حفظ لسانه فقد أكرم نفسه ، فإن اللسان يكرم به المرء ويهان ، ومن حفظ لسانه فقد أكرم نفسه ومن سلط لسانه فقد أضاع نفسه ، ومن كف لسانه ويده ونفسه عن الناس ، فقد أصاب حظ نفسه ، فإن باللسان ترفع وتضع ، وتكرم وتهين ، فإذا حفظت لسانك أكرمت نفسك ، وإنك إن أهنتها لم تكرم على أحد بعدك ، وكنت على الهواء قادراً .

يا بني : لا تأمر الناس بالبر وتنسى نفسك ، فإن مثل ذلك المصباح الذي يضئ للناس ويحرق نفسه .

يا بني : إن دعاء الجار ، وبكاء اليتم ، وصوت المسكين المستضعف المظلوم يصعد إلى السماء .

يا بني : إن الله يطلب الظالم أينما كان ، ويأخذ للضعيف المظلوم من شدة الظالم فلا تكونن ظلماً ، فإنه قال الله :

(أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). ولم يلعن الله مؤمناً .

يا بني : لا تجازي المسيء بسوء عمله ، ولكن كِلُه إلى الله فهو يجازيه .

يا بني : إذا صمت فاغسل وجهك ، وادهن رأسك ، وارفع صوتك عند الملأ حتى لا يعلمون أنك صائم ، فإن إلهك الذي تعمل له في السر هو يجزيك في العلانية . فإن الصيام لو لم يكن منه شيء إلا أنه مقطعة لكثيرمن الشهوات والخطايا لحقيق أن يسارع فيه ، واستكثر منه . فإنك لا تزال في عبادة حسنة ما دمت صائماً ، وإن كنت راقداً ، أو ضيعتك .

وقد ذكر أن الله تبارك وتعالى يقول (( الصيام لي وأنا أجزي به )) .

وكان يقال : (( إن الصيام جُنة من النار يوم القيامة )) .

فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك وجوارحك كلها من الخطايا ، فإن ذلك من أفضل الصيام .

يا بني : ضع مالك عند من لا يضيعه لك ويضعفّه لك ، ولا تدفنه فتأكله الأرض ويذهب به من لا يحمدك عليه .

يا بني : سارع في الصدقة ما استطعت مما قل أو كثر ، فإن الصدقة لو لم يكن فيها شيء إلا أنها تعين بمواعد الله فيها لكنت حقيقاً أن تسارع فيها ، بل أنها فكاك رقبتك من النار ، وغسول الخطايا ، فإن ذلك من أفضل العمل .

وكان يضرب مثلها كمثل رجل طلب بدم ، فأخذه أهل المقتول ، فلما أخذوه افتدى منهم بماله فلم يزل يعطي قليلاً ة كثيراً حتى عتق وهي مخشعة للقلب فأسرها ما استطعت .

وضعها بالذي افترض عليك من الحق ، واعلم أن كل نفقة من غير الحق فهي تبذير وإن قلّت ، وقد قال الله :

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) .

( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) .

يا بني : استيقن بالموت فإنك ميت ، ولا تشمت أحداً بالموت فإنك ميت لا محالة ، وحاسب نفسك قبل أن تدعا إلى الحساب ، يقول الله :

(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .

يا بني : لا تنظر إلى من هو فوقك ، ولا نحقر من هو دونك ، ولا تكن فظاً غليظاً فيزدريك الناس ويزهدوا فيك ، ولا تكن حلواً فتبتلع ، ولا مُراً فتلفظ ، ولا تكن جباراً فتهان وتقمأ ، ولا تكن عزيزاً فتهان وتشقى .

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)

يا بني : لا تكتم الشهادة ، ولا تحابي بها ذوي قرابة ولا إلى أحد من الناس فتأثم وتندم وتحشر يوم القيامة ، إنك قد علمت أن الويل للمكذبين .

يا بني : لا تفرح بالغنى ، ولا تقنط بالفقر ، ولا تحزن في البلاء ، ولا تفرح في الرجاء ، فإن الذهب ينقى بالنار ، والعبد الصالح ينقى بالبلاء والأذى .

يا بني : لكل زمان رجال ، ولكل مقام مقال ، ولكل امرئ هوى ، ولا تكن حزيناً خاذلاً بلسانك ، ضعيفاً عاجزاً بعملك .

يا بني : أخفض جناحك للمؤمنين ، وكن لليتيم كالأب الرحيم ، وكن للأرملة كالزوج العطوف ، ولا تحسد المؤمنين ، ولا تغبط الظالم .

يا بني : احتفظ من الصديق ، ولا تأمن من العدو ، واستبشر بالفقير إذا جاءك ، وارفده من نوافلك ، وارزقه مما رزقك فإن كفيله العلي الوفي الذي لا يجحدك حقك ولا يظلمك به ، فأربح الربح ، وأفضل التجارة الذي يربح من كل [حسنة] عشرة أمثالها .

يا بني : لا تكن كالسارق دينه بزكاة ماله ، وأعط زكاة مالك فإنها فريضة عليك ، كما لا تصلح اليمين إلا بالشمال ، كذلك لا تصلح الصلاة إلا بالزكاة ، فإذا أزاد الله مالك ، فاحتسب فيه الأجر فاعمل للآخرة .

يا بني : اجتنب هؤلاء الكلمات التي نفخ بها إبليس في آدم ، فإنك إذا اجتنبتهن فإن باب الجنة لك مفتوح .

أولهن : البغي والاعتداء ، والله لا يحب المعتدين ولا أصحاب الهوى .

قال : (فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)

واللفظ السوء يا بني ، والحقد والنميمة والحسد ، الذي حسد إبليس آدم فهلك ، وقابيل لهابيل فحسد فقتل قابيل هابيل من شدة الحسد .

يا بني : والبغي ، والشح ، والفخر ، والكبرياء ، والجفاء ، والفتور ، والغفلة ، والسآمة ، والكسل ، والآثام كلها فيه .

يا بني : ما أحسن الإيمان ، واليقين ، والحكمة ، والبيان ، وما أسوأ الشك ، والريبة ، والبهتان .

يا بني : ما أحسن السمع والطاعة ، والجمال بالطاعة ، وما أسوأ الفرقة والفتنة والمعصية ، وما أحسن العلم ، والحلم ، والعقل ، والرأي واللب ، وما أسوأ الجهل ، والفجور ، واللؤم ، وما أحسن الغنى ، واليقين ، والصحة ، والسكينة ، والوقار ، وما أسوأ الكفر ، والفجور ، والنسيان .

يا بني : إن الله اصطفى الخلفاء واختارهم على أن يعملوا بالحق ويأخذوا بكتاب الله ، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يسخط على من اختار الله على البشر ، ومن يعص الله يخذله ، ومن يصارع نفسه يصارعه الله ، ومن يتمنى الفتنة فهو منافق فلا تصاحبه ولا تجالسه .

يا بني : إني أبغضت أربعة ، وكرهت لنفسي ثلاثة ، وعجبت من شيخ زان ، ومسكين فخور ، وغني ظلوم ، وأعمى كذوب ، فهؤلاء الأربعة .

والثلاثة : في رجل إذا وعد أخلف ، وإذا حدث كذب ، وإذا أؤتمن خان فهو منافق ، ومن رجل غير محتاج يسأل الناس إلحافا ، ولا يعلم أن الأرواح تقبض ، والأجساد تدفن ، والأموال تفنى .

يا بني : عجبت من رجل يريد أن يبلغ من الشرف ما قد أدرك أمثاله من قبله ، ويريد أن يتزين بما قد أقبح أمثاله من قبله ، ويريد أن يتحمل بالأمر الذي قد افتضح من عمل به ، ويريد أن يُذكر بالخير ، والشر من خليقته ، ويريد أن يُذكر بالمعروف ، والفحش من أمره ، ويريد أن يعد من أهل الصلاح ، وهو مفسد ، ويريد أن يتفقه وهو أعمى من قبله ، ويريد أن أن يعيب الرجال ، والعيب متلطخ به ، ويريد أن يذكر مع أهل الحق ، وهو مقيم في باطله ، وهو يظن أنه يقتدي بالهدى ، وهو جائر عن سبيله ، ويريد أن يحمد ، والذم محفوف به ، ويريد أن يعد من الأبرار، والفجور محيط به .

يا بني : إن من علامات المراء ، إذا تغّيب فجر ، وإذا حضر تبزر ، وإذا أراد باطلاً استتر ، وإذا فعل خيراً فجر ، وتكسّل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان عنده أحد ، ويحرص أن يحمد على كل أمره .

يا بني : إن من علامات النفاق ، بهن يبين نفاقه :

توافق الدين علانيته ، وتخالف سريرته ، حسن قوله ، سيء فعله .

ومن علامات المذنب ، بهن تبين ذنوبه :

حسن وعده ، سيء تحوله ، مختلف أمره ، مختلط عقله .

ومن علامات الأحمق ، بهن يبين حمقه :

إن علم لم يتعلم ، وإن ترك غشم ، وإن قيل له لم يفقه ، وإن أساء لم يندم .

ومن علامات الفاسق ، بهن يبين فسقه :

إن قدر طغى ، وإن ذل بغى ، وإن ذل سعى إلى الفجور سعياً .

ومن علامات القنوط ، بهن يبين قنوطه :

سيء ظنه ، دائم ندمه ، كثير سخطه ، شديد حرصه .

ومن علامات الظالم ، بهن يبين ظلمه :

إن كان هو المظلوم سأل أن يعدل عليه ، وإن كان هو الظالم إذا دعى إلى العدل كره ذلك ، وإن كان له الحق استوفى ، وإن كان عليه الحق أنقصه .

وقوله في سورة المائدة :

(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) يعني : البر على الطاعة ( والتقوى ) يعني : على ترك المعصية .

( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) يعني : على الظلم .

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .

قال : أنكر المنكر ثلاث :

إما أن تفعل إن قدرت عليه ، أو تقول ، فإن لم تقدر عليه فأنكره بقلبك وذلك أضعف الإنكار .

وذلك عن عبدالله بن مسعود قال :

هلك أيضاً من لم يعرف المعروف معروفاً ، والمنكر منكراً .

يعني : من لم يعرف المنكر ، وينكر المنكر بقلبه .