تفسير ما أمـر الله به المسلمين مـن وفاء العهد فيما بينهم وبين المشركين وغيرهم :

 

قوله في سورة المائدة :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

يعني : أوفوا بالعهود التي بينكم وبين الناس .

 

وقوله في سورة بني إسرائيل :

( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) يعني : العهد الذي بينكم وبين الناس .

( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) يعني ك يسأل الله عن نقضها .

 

وقوله في سورة الأنعام :

( وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) يعني : العهود التي بينكم وبين الناس .

 

تفسير ناقـــــض العهـــــــد :

 

قوله في سورة النحل :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) يعني : فيما بينكم وبين الناس أهل الشرك في أهل الحرب وغيره ، قال :

( وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ) يعني : العهد ( بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) يعني : بعد تعظيمها وتشديدها .

( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) يعني : شهيداً في أمر العهد . (وَلا تَكُونُوا) في نقض العهد

(كَالَّتِي) بمنزلة التي (نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) يعني : نقضت غزلها من بعد ما أبرمته ، وكذلك أبرم العهد ثم ينقضه .

(تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ) يعني : العهد (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) يعني : منكراً أو خديعة ليدخل العلة فيستحل به نقض العهد .

(أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) يعني : أن يكون قوم أكثر من قوم فينقضون العهد من أجل كثرتهم .

(إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) .

ثم قال : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ َ) يعني : للمسلمين والمشركين .

(أُمَّةً وَاحِدَةً ) يعني : ملة الإسلام وحدها .

(وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ) عن دينه ، وهم مشركون .

(وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يعني : المسلمين .

(وَلَتُسْأَلُنّ) يوم القيامة (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .

ثم ضرب مثلاً آخر لناقض العهد ففال :

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ) يعني : منكراً وخديعة ليدخل العلة فيستحل به نقض العهد .

(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) يقول : إن ناقض العهد يزل في دينه كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة .

(وَتَذُوقُوا السُّوءَ) يعني : العقوبة .

(بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يعني : عن طاعة الله وميثاقه للمشركين من أهل الحرب وغيرهم ، ثم حّرفها فينقض العهد فإنه ينصب له يوم القيامة لواء يعرف به عند ظهره فيقال : هذه غدرة فلان .

قال : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) .

فمن أعطي من المؤمنين العهد فهو جائز إذا كان العهد عدلاً ، لأن المؤمنين الأحرار دماؤهم كلهم سواء .

(( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم يعقد عليه أولهم ويرد عليهم أفضلهم )) . فيسأل عن ذلك ، والمؤمنون الأحرار دماؤهم كلهم سواء في القصاص ، وهم يد قوية على غيرهم يسعى بذمتهم أدناهم [ويرد على أقصاهم ] أن يعطى العهد أدنا رجل من المسلمين فهو جائز إذا كان العهد عدلاً ، يعقد عليهم ، ولهم ، ويرد عليهم أفضلهم .

إذا لم يكن عدلاً فلا يجبره ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، وهما سواء في القصاص والدّية .

وقال : الإيمان ، إيمان تصديق ، وإيمان عمل .

والتقوى : حقيقة الإيمان ، وحقيقة : العمل .

قال الله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم .

(وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فكان إيمانهم بما أنزل على محمد العمل بطاعة الله ، وطاعة رسوله .

وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ )

وقال : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا

خَالِدُونَ) .

وإنما الإيمان اسم أُلحِقَ بأسماء الله ، والإسلام كذلك ، الله المؤمن المهيمن وهو السلام .

ولا يجزي بالنار من لقي الله واسم الإيمان له ثابت .

وقال : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) .

وقال : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) .

وقال : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ) .

وقال : (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) .

فبرأ الله المؤمنين يوم القيامة من الخزي والذل والخوف والسوء .

وقال : ( إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) .

وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) .

وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) .

فمن زعم أن الله يسوّد وجه المؤمن يوم القيامة ، أو ترهقهم ذلة فلم يشفه الله بالقرآن .

قال : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .

وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) .

فسل من خاصمك من أهل البدع والباطل ، أرأيتم هذا المؤمن الذي تزعمون أن الله يدخله النار ، ما لونه في النار ؟ وما طعامه في النار ؟ وما شرابه ؟ وما لباسه ؟ وما فراشه ؟ وما حيلته ؟ وما منزلته في النار ؟ فإن الله قد بنى منازل لأهل النار فقال الله : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) .

فسلهم عن هذا الذي يدخل في النار من أهل القبلة ، هل تقطع لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد ؟

أم أدخلوا النار وأطعموا من الطعام الذي يطعمه الله أهل الجنة والشراب الذي سقاه الله أهل الجنة ، والمنازل والمسكن والفرش والأزواج واللباس والثمار ، والسُرر المصفوفة ، والآنية من ذهب وفضة ، والكرامة التي أنزل الله بها أهل الجنة ؟ فذلك قوله :

( تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) .

( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) . وإنها لا تحيط بمؤمن .

( لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) .

وقول الله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سَوَاءً] مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) . وذلك قول الله : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي [تَبْغِي] حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .

وسألهم عن الفئة التي بغت ، وأبت أن تفيء إلى أمر الله ، فأمر الله بقتالها من حيث خرجت عن أمر الله ، فإن قالوا : في أمر الشيطان صدقوا ، وإن قالوا : في أمر الله كذبوا ، إنما في أمر الله الذين يقاتلون في طاعة الله ، وهم أولياء الله وإنما في أمر الشيطان من يقاتل في طاعة الشيطان .

فإن الله قال لقوم :

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) .

وكيف يرجون الجنة ؟

وقال : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .

فالفئة الباغية من حزب الشيطان ، والفئة التي قاتلت ابتغاء مرضاة الله هي حزب الله ، وقال الله :

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) .

والفئة الباغية هي حزب من حزب الشيطان ، قال الله :

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) . ومن لا يحبه الله فليس في ولايته ، إنما دخل في ولاية إبليس .

قال الله : ( فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ) .

وقد برئ الله من ولاية الله (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) .

قال الله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .

فخلصت لهم الطيبات من الرزق ( قل هي للذين آمنوا ) . من لقي الله مؤمناً يوم القيامة .

 

تفسير ما أمر الله المؤمنين أن يفعلوا مع نقض العهد من المشركين :

 

قوله في سورة البقرة :

(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقبلوا إلى مكة محرمين بعمرة ، وذلك قبل أن يفتح مكة بعد غزوة الحديبية بسنة .

وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وبين المشركين شرط ، فخاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يفي لهم المشركون بشرطهم وكره المسلمون القتال في البلد الحرام ، فنزلت : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) 0

يعني : فمن قاتلكم من المشركين في الحرم ( فاعتدوا عليه في الحرم ، ( بمثل ما اعتدى عليكم ) .

( وَاتَّقُوا اللَّهَ) يعني : المؤمنين يحذرهم .

يقول : فلا تبدؤهم بالقتال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . في النصر لهم يخبرهم أنه ناصرهم .