تفسير في الـدّين والكتـابة فيه :

 

قوله : في سورة البقرة :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ ) يعني : بين البائع والمشتري ( كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) . يقول : يعدل بينهما في كتابة ، ولا يزيد على المطلوب ، ولا ينقص من حق الطالب .

ثم قال : ( وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه ُ) به الكتابة ويترك غيره . ( فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ) يعني : المطلوب .

يقول : يملل [ ما عليه ] من الحق على الكاتب .

ثم خوّف الله المطلوب فقال :

(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) يقول: ولا ينقص من حق الطالب شيئاً، ثم قال :

( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ) يعني : المطلوب ( سَفِيها ) جاهلاً بالإملاء (أَوْ ضَعِيفاً) يعني : عاجزا أو خرسا ، أو رجلاً فيه حمق (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ ) يعني : لا يحسن (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) ما عليه لعيّه فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) يعني : فليملل ولي حقه بالعدل ، يعني : الطالب ولا يزيد شيئا .

ثم قال : (وَاسْتَشْهِدُوا) يعني : على حقكم .

(شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) يعني : مسلمين أحرار.

( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ) يقول : لا تشهدوا على حقكم إلا مرضيّاً يحفظ الشهادة ، ثم قال :

( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) يقول : أن تنسى أحدى المرأتين للشهادة (فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) يعني : يذكرها التي حفظت شهادتها .

قال : ( وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا) يعني : فلا تملوا ( أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ) يعني : أن تكتبوا قليل الحق أو كثيره (إِلَى أَجَلِهِ) لأن الكتابة إحصاء للأجل والمال .

( ذَلِكُمْ) يعني : الكتابة (أَقْسَطُ) يعني : أعدل (عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ) يعني : وأصوب (لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) .

يقول : وأجدر ألا تشكوا في الحق والأجل والشهادة إذا كان مكتوبا ، ثم استثنى ورخص فقال :

( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ) ليس فيها أجل .

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) يعني : في التجارة الحاضرة .

(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم) يقول : فأشهدوا على حقكم على كل حال .

ويقال : من لم يشهد على حقه ن فذهب حقه لم يؤجر على ذلك الحق .

ثم قال : ( وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يقول : ولا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة عند البيع ولهما حاجة مهمة ، فيشغلهما عن حاجتهما ، يضارهما بذلك وهو يجد غيرها ، فيقول لهما : قد أمركما الله بالكتابة لي ، وبالشهادة لي ، فليتركهما لحاجتهما ، وليلتمس غيرهما .

ثم قال : ( وَإِنْ تَفْعَلُوا) يعني : تضاروا الكاتب والشاهد وما نهيتم عنه (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي إثم لكم ، ثم خوفهم فقال : (وَاتَّقُوا اللَّه) يعني : ولا تعصوه فيهما ([ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) يعني : من أعمالكم (عَلِيمٌ) .

 

قال أبو الحواري : إن التجارة الحاضرة مثل ما يتبايعه الناس في الأسواق من البقول وأشباه ذلك من المتاع .

ثم ذكر المسافر الذي لا يقدر على كتابة الدّين فقال :

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً ) يعني : بم تقدروا على كتابة الدين في السفر

( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) يعني : فليرتهن الذي له الحق من المطلوب ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) يقول : إن كان أمن الذي عليه الحق فلم يرتهن منه في السفر للثقة وحسن ظنه به ( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ )

يقول : يؤدي الحق الذي عليه إلى صاحبه .

ثم رجع إلى الشهداء فقال (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) عند الحكام .

يقول : من شهد على حق فليقمها على وجهها عند الحكام كما كانت ( وَمَنْ يَكْتُمْهَا ) يعني : الشهادة فلا يشهد بها إذا دعى لها ( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ) يعني : من كتمان الشهادة وإقامتها ( عَلِيمٌ) .

وقال في سورة النساء :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) يعني : قوامين بالعدل ( شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يقول : ولو كان عليك حق فأقر به على نفسك ( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) يعني : أو على الوالدين أو على الأقربين فاشهدوا عليهم بالحق وقل الحق وإن كان مراً (إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) يعني : فالله أولى بالغني والفقير من غيره (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى) يعني : في الشهادات ( أَنْ تَعْدِلُوا) يعني : أن تعدلوا عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا) يعني : التحريف باللسان في الشهادة ، يلجلج بها لسانه فلا يقيمها ، ليبطل شهادة (أَوْ تُعْرِضُوا ) يعني : تعرضوا فلا تشهدوا بها ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ) يعني : من كتمان الشهادة وإقامتها (خَبِيراً) .

وقال في سورة الأنعام :

( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) يقول : ولو كان على قرابتك فقل عليه الحق .

عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :

(( إن عامة ما يكب الناس على وجوههم في جنهم ألسنتهم ، وإياك والكذب فإنه مفسد للقلب محبط للعمل ، وإذا ذكرت الحق والصدق نجوت )) .

وقال : من انتظر معسرا بدين يكتب له بكل يوم نفقه .

وقوله في سورة البقرة :

(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) يقول : فأجله إلى أن يوسر عليه ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) فمن تصدق بدين له على معسر فهو أعظم لأجره (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .

ومن لم يتصدق عليه لم يأثم ، ومن حبس معسرا في السجن فهو آثم ، يقول الله

( فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) .

ومن كان عنده ما يستطيع أن يؤدي عن دينه فلم يفعل كتب ظالما .

وقال : لا تجوز شهادة العبد المسلم ولا المملوك في القربى ولا شهادة المشرك على المسلم . وتجوز شهادة المسلم الحر على هؤلاء .

قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( البينة على المدعي واليمين على من أنكره)).

 

تفسيـــر ما أمـر الله من المكاتبة :

 

قوله في سورة النور :

( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ) يعني : يطلبون المكاتبة .

( مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يعني : من المملوكين .

( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) يعني : مالاً ووفاءً للمال وصلاحاً في دينهم .

( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) .

قال : أمر الله المؤمنين [ أن يعينوا في مكاتبة الرقاب ] . وقال : أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه إن استطاع فهذا خيراً له . فهو تعليم من الله ، وليس بفريضة ، ولكن له أجر عظيم .

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( المكاتب ما دام عليه من الثمن مكاتبه ، فإنه عجز فليس عليه الرد إلى الرق )).

قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الولاء لمن أعتق )) . وهو حر يوم كتابته .