تفسير التوبة من الذنوب:

قوله في سورة النساء(الآية: 17-18): { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ } يعني: إنما التجاوز على الله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } وكل ذنب يعمله المؤمن وهو جاهل به { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }.

 

قال: نزلت هذه الآية في المؤمنين, ثم ذكر الكفار فقال: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ } يعني: التجاوز من الله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } يعني: المعصية بجميع ما نهى الله عنه, فاستحقر من الذنوب وأصر عليها { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } عند معاينة ملك الموت من قبل أن يخرج من الدنيا { قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ } فلن تقبل توبته تلك عند ذلك, حين يرغب إلى ملك الموت وإلى الملائكة وإلى الله فيقول: { رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } (المنافقون:10) يعني: وأكن من المؤمنين, فلن تقبل توبته عند ذلك، كما لم تقبل من فرعون حين أدركه الغرق { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (يونس:90) فلم يقبل منه عند ذلك { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } يعني: الذين يتوبون عند حضور الموت من الشرك والنفاق ومن يمت كافراً { أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني: وجيعاً في الآخرة.

 

وأمر المؤمنين بالتوبة فقال(التحريم:8): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً } يعني: من جميع الذنوب, توبة صادقة, لا يحدث نفسه أن يعود إلى الذنب, وهو نادم عليه { عَسَى رَبُّكُمْ } وعسى من الله واجب { أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } يعني: ذنوبكم كلها إذا تبتم { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

 

واحتجوا بقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء:116) فثبت كل آية فيما أنزلت أنها من وعيد الله إن الله لا يخلف الميعاد وهي شديدة وليست لهم بحجة, وهي بينة لمن شفاه الله بالقرآن ثم أنزل من بعدها { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً }(النساء:122)، وقال: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ }(النساء:123) إذا أصر عليه ومات غير تائب { وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً }، ثم أنزل الله من بعدها { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً }(النساء:124).

 

فأبى أن يقبل العمل الصالح إلا بالإيمان, ولا يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح, وقال: توبة من أخذ المال أن يرده إلى أهله ثم الندامة مع التوبة والاستغفار.

 

قوله في سورة النور( الآية31): { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } يعني: من الذنوب التي أصابوها مما نهى الله عنه { جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ } من جميع الذنوب مما نهى الله عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

 

وقوله في سورة آل عمران(135-136): { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } يعني: الزنا { أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } يعني: مما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة مما لا يحل ثم { ذَكَرُوا اللَّهَ } المقام بين يديه { فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } يقول الله: { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } يعني: أنه ليس يقدر أحد أن يغفر الذنوب غيره.

 

ثم قال: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } يعني: ولم يقيموا على ما فعلوا من المعصية { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنها معصية فلا يقيمون عليها, ولكن يتوبون منها.

 

فمن تاب من ذنبه وندم { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) } لذنوبهم { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } يعني: مقيمين في الجنان لا يموتون { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } يعني: ونعم أجر التائبين من الذنوب والعاملين بما أمر الله, في الجنة.

 

وقال سورة النساء(الآية:110): { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً } يعني: إثماً { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً }.

 

قال: قال ابن مسعود: فيا بشرى بهذه الآية { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً } يعني: إثماً { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } والآية التي في السورة التي يذكر فيها آل عمران: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) } يقول الله { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } ثم قال : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } من المعصية { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنها معصية فلا يقيمون عليها ولكن يتوبون من قريب.

 

فمن تاب من ذنبه توبة نصوحاً يعني: صادقاً { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } لذنوبهم { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } يعني: ونعم أجر التائبين من الذنوب والعاملين بما أمر الله في الجنة.

قال ابن مسعود: ما شرى بهذا جم النعم.

 

قوله في سورة البقرة(الآية:222): { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } يعني: من الأحداث, ومن الاستنجاء ومن البول والغائط والجنابة.

قال: فمن أحبه الله لا يعذبه.

 

قال ابن عباس: التوبة مقبولة من كل أحد إلى يوم القيامة إذا تاب إلى الله وعمل بما أمره الله إلا من ثلاثة: إبليس رأس الكفر، وقابيل بن آدم قتل أخاه هابيل, وهو رأس الخطيئة، ومن قتل نبياً فلا توبة لهؤلاء الثلاثة.

 

قال: باب التوبة مفتوح لا يغلق عنهم حتى يموت ابن آدم، وهو مفتوح لابن آدم ما دام الروح في جسده وهو يتكلم مع الناس.

يقول الشقي المنافق: { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } (المؤمنون:99-100 ).

 

يقول الشقي: { رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }(المنافقون:10) يعني: عند معاينة ملك الموت, قبل أن يخرج من الدنيا, والخروج من الدنيا قريب.

 

ومن تاب من قبل الموت وندم تاب الله عليه, فإن الله { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ }(غافر:3) لمن عصاه، { يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ }( الشورى:25) ويحب الله التوابين, ومن أحبه الله لا يعذبه.