تفسير ما حرم الله من قتل النفس بغير حق :

قوله في السورة التي يذكر فيها الأنعام(الآية:151):

{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } إلى قوله { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } يعني: خشية الفقر.

 

وقوله في السورة التي يذكر فيها بنو إسرائيل( الآية31): { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }.

قال: { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } يعني : الزنا { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } يعني: العلانية , وما بطن, يعني: السريرة .

 

ثم قال { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } يعني : نفس المؤمن التي حرم الله قتلها إلا بالحق , يعني : إلا بالقصاص , وما يوجب عليه القتل { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }(الأنعام:151).

 

وبيان جزاء من يفعل هذه الخصال في السورة التي يذكر فيها الفرقان(الآية68- 70):

قوله { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ }يعني : لا يعبدون مع الله إلهاً غيره { وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ } يعني: نفس المؤمن { الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } قتلها { إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } يعني: هذه الخصال الثلاث جميعاً أو أشتاتاً { يَلْقَ } يعني: جزاؤه { أَثَاماً } يعني: وادياً في النار { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ } يعني: في العذاب { مُهَاناً } يعني: يهان فيه .

 

قال: ثم نزلت هذه الآية في كفار مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كتب وحشي غلام جبير بن مطعم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة إني قد أشركت, وزنيت, وقتلت, وكان قتل حمزة بن عبد المطلب يوم أحد، قال: فهل لي من توبة ؟ فنزلت فيه فاستثنى { إِلاَّ مَنْ تَابَ } يعني: من الشرك { وَآمَنَ } يعني: وصدق بتوحيد الله والإقرار بما جاء من الله بالطاعة { وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ }يعني: يحوِّل الله { سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } يعني: يبدلهم مكان الشرك الإسلام, ومكان القتل الكف, ومكان الزنا العفاف والتوبة { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } يعني: ما كان في الشرك { رَحِيماً } بهم في الإسلام .

 

قال: فأسلم وحشي, وهاجر إلى المدينة, فقال للنبي من كان بمكة من الكفار: كلنا قد عملنا عمل وحشي, وقد قبل الله توبته ولم ينزل فينا شيئاً فنزل في كفار مكة { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } (الزمر:53) يعني: بالإسراف [في] الذنوب العظام, الشرك بالله والقتل والزنا وغير ذلك جميعاً { لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } يعني: هذه الخصال الثلاث وغيرها من الذنوب لمن تاب منها { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ } للذنوب العظام ,وغيرها من جميع الذنوب { الرَّحِيمُ } بهم في الإسلام إذا تابوا منها وندموا وأطاعوا فيما أمروا به, وما نهوا عنه .

 

فهذا أمر مشرك قتل, وفعل هذه الأشياء في شركه فإن مات في شركه دخل النار, وإن تاب وأسلم فلا يؤاخذه الله بما عمل في الشرك , ولا يؤاخذه في الدنيا ولا في الآخرة, إذا خرج من الدنيا مخلصاً مؤمناً .

وأما الذي يسلم ثم يشرك فله أمر آخر .

 

تفسير من يسلم ثم يشرك ثم يقتل ويأخذ الأموال :

قوله في السورة التي يذكر فيها المائدة (الآية:33، 34):

{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }يعني: بالمحاربة: الكفر بعد الإسلام .

قال: وذلك أن أناساً من عرينة أسلموا، فلما هاجر النبي إلى المدينة فأصابهم مرض فاستأذنوا النبي أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها, فأذن لهن النبي صلى الله عليه وسلم فلما صحوا ارتدوا عن الإسلام , وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل معهم, فنزلت فيهم { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعني : بالكفر بعد الإيمان { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً } يعني: يعملون فيها بالمعاصي والقتل , وأخذ الأموال بغير حق جزاؤهم { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ } يعني: اليد اليمنى والرجل اليسرى, فللإمام في ذلك كله خيار.

 

ثم قال : { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } يعني: أو يطلبوا حتى يهربوا من أرض المسلمين فينفوا بالطرد { ذَلِكَ } يعني: هذا الجزاء { لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم, فأخذ منهم أناساً فأقام فيهم الحد .

 

ثم استثنى فقال: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } يعني: من الكفر { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ }فتقيموا فيهم الحد { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، { غَفُورٌ } لما كان منهم إلى الشرك { رَحِيمٌ } بهم بعد التوبة في الإسلام .

 

يقول: من جاء منهم مسلماً تائباً من قبل أن يؤخذ فلا سبيل عليه {حيث} هدم الإسلام ما فعل في الشرك كان أعظم منه, فيحكم الحاكم اليوم على من يرتد عن الإسلام ثم قتل وأخذ الأموال , وقدر عليه قبل أن يسلم ويتوب إلى الله , أن يقتل ويصلب , فإن قتل ولم يأخذ الأموال قتل.

 

فإن أخذ الأموال ولم يقتل أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى من خلاف .

 

فإن لم يقدروا عليهم طلبوهم حتى ينفوهم من أرض المسلمين، فهذا تفسير من يسلم ثم يشرك ثم يقتل في الشرك, وأما من قتل وهو مقر ثم ارتد ولحق بالمشركين, ثم تاب ورجع إلى المسلمين فعليه القصاص ويقبل توبته إذا كان مخلصاً , وإن أقام مع المشركين مشركاً في دارهم حتى يدركه المسلمون فعليه القتل في الدنيا والنار في الآخرة .

 

تفسير من أسلم فقتل مؤمناً متعمداً في إقراره ثم أشرك ولحق بالمشركين فأقام معهم :

قوله في السورة التي يذكر فيها النساء(الآية:93): { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ }:

قال : نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني، وذلك أن مقيساً كان أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة , فوجد مقيس ذات يوم أخاه قتيلاً في الأنصار في بني عدي , فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تعلم له قاتلاً ؟ قال: لا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من قريش من بني فهر مع مقيس إلى بني عدي , ومنازلهم يومئذٍ بقباء أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك , وإلا فادفعوا إليه ديته, فلما جاءهم الرسول قالوا: السمع والطاعة لله ولرسوله, والله ما نعلم له قاتلاً, ولكن نؤدي ديته, فدفعوا إلى مقيس دية أخيه مائة من الإبل, فلما انصرف مقيس والفهري من قباء إلى المدينة وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله [وارتد] عن الإسلام بعد قتله.

 

وركب جملاً منها وساق ولحق بمكة كافراً، وهو يقول في ذلك شعراً :

قتلت به فهراً وحملت عقله ** سراة بني عدي أرباب قارعِ

فأدركت ثأري واضطجعت موسداً ** وكنت إلى الأوثان أول راجعِ

 

فنزلت فيه بالمدينة الآية بعدما قتل النفس وأخذ الدية وارتد عن الإسلام ولحق بمكة كافراً { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً وَلَعَنَهُ } لقتله { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } يعني: وافراً لا انقطاع له , فجعل له الخلود في النار بكفره، كما جعل لمن كفر بقسمة المواريث في سورة النساء(الآية:14) حيث يقول: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } يعني: فيما ذكر من قسمة المواريث { يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا } يعني: يخلد فيها بكفره بقسمة المواريث { وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }.

قال أيضاً: للذي أسلم , وهو مقر بالإسلام بزعمه , ثم قتل بزعمه ثم أشرك فلحق بالكفار .

 

في سورة الحج(الآية:25) قوله { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }

قال : نزلت في عبدالله بن أنيس بن حنظل القرشي, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر, والآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبدالله بن أنيس, فقتل الأنصاري, ثم ارتد عن الإسلام , وهرب إلى مكة كافراً فنزلت { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني : يميل عن الإسلام { بِظُلْمٍ } حتى يدخل الحرم بالشرك بعد الإسلام { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني: وجيعاً وهو القتل بالسيف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقتل عبدالله بن أنيس القرشي ومقيس بن ضبابة الكناني, فقتلا جميعاً على الشرك .

 

فهذا أمر من يسلم, ثم يقتل, ثم يشرك بعد قتله فيقيم مع المشركين حتى يدركه الموت، فإنه يقتل في الدنيا وله في الآخرة النار.

 

فأما من أسلم ثم قتل مؤمناً متعمدً ثم أقام على إقراره مع المسلمين في دارهم ولم يرجع إلى الشرك ففيه أمر آخر .

 

تفسير من قتل مؤمناً متعمداً وهو مقيم مع المسلمين في دارهم, والقصاص , والعفو, والقود في ذلك :

قوله في سورة بني إسرائيل(الآية:33): { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ } يعني: إلا بالقصاص , قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً : " إني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, محمداً رسول الله , فإذا قالوها حرم الله عليَّ دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله, قالوا: نبي الله فما حقها ؟ قال: النفس بالنفس والزاني المحصن والمرتد عن الإسلام , التارك لدينه بعد إيمانه, المفارق لجماعة المسلمين" .

 

ثم قال: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً } يعني من المسلمين { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً }يعني: لولي المقتول سلطاناً .

 

يقول: هو مسلط على القاتل, إن شاء قتل, وإن شاء عفا عنه, وإن شاء أخذ الدية, وليس ذلك إلى الإمام, ثم قال لولي المقتول: { فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } يقول: لا يقتل غير قاتل حميمه { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } يعني: منصوراً من الله في كتابه حين جعل الأمر إليه القود , ومن قتل غير القاتل فقد أسرف.

 

قال: وبيان القصاص والعفو في السورة التي يذكر فيها البقرة(الآية:178):

قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عمداً الحر بالحر , وذلك أن حيين اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل , فكان بينهم قتلى وجراحات حتى قتلوا النساء والعبيد, فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا, فكان أحد الحيين لهم طول على الآخر في العدد والقدر والأموال فحلفوا إلا يرضوا حتى [يقتل] بالعبد منا الحر منهم, وبالمرأة منا الرجل منهم, فنزل فيهم { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } فسوَّى بينهم في الدنيا, وأمرهم بالعدل فرضوا بذلك, ثم صارت { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } منسوخة, نسختها(المائدة:الآية45) { أَنَّ النَّفْسَ } نفس المؤمن الحر بنفس المسلم الحر وبالمسلمة الحرة إذا كان عمداً { بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.

 

وسئل ابن مسعود عن السحت, فقال: هي الرشوة. قالوا: الحكم؟ قال: ذلك كفر بعينه.

 

وقال الله لنبيه: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (المائدة: 68) فلستم تعلمون أنكم أنتم وأهل الكتاب فيها سواء , فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحكم على من يحاكم إليه من اليهود, فكيف يجعل الحاكم أهل التوراة والإنجيل كافراً ببدله فيزداد به كفراً إلى الذي هو عليه من الشرك, ولا يكون الحاكم بتلك المنزلة وقد جمعهم الله , وأهل الكتاب من قبل في الوصية, قوله : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } (النساء:الآية131) وذكر قوماً يقولون: { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } (النور:47).

ولو كان التولي إلى القول لكانت الرجعة إلى الشرك الذي منه خرجوا, ولكن الله ذكر التولي وهم على منازلهم من الإقرار وكان تولياً على الظلمة, وقال: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً* لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } (الأحزاب: 72، 73) فسماهم أهل الخيانة والنكث والبخل والظلم من أهل الخيانة ومن أهل الإقرار والنفاق.

 

فإن قلت: إن المنافقين أظهروا الشرك, فلعمري لقد اختلفت منازلهم, ولقد عاب الله طوائف منهم بغير شرك مما عاهدوا الله عليه, وإنهم ليعرفون الرحمن .

 

قال :{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ }(التوبة: 64) وقد تخلف متخلفون حساً فنسبوا إلى النفاق , ألا ترى أن بعضهم ندم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت , ثم تاب الله على الثلاث الذين خلفوا .

 

وإنما النفاق اسم اتخذ نفقاً يخرج به من الوفاء والإيمان إلى الخيانة والكذب بعد الإقرار بالكتاب .

 

وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً أنه قال: " لا يقتل مؤمن بكافر ", عن أبي بكر الصديق , وعمر بن الخطاب رحمهما الله أنهما قالا :" لا يقتل الحر بالعبد " .

 

وذكروا أن عمر بن الخطاب قتل ثلاثة بامرأة كانوا قد اشتركوا في قتلها ثم قال: لو اشترك في قتلها أهل صنعاء لقتلتهم بها, ثم رجع إلى قوله (البقرة:178، 179) { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} إذا كان عمداً { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فجعل ولي المقتول والقاتل أخوين في الدين إذا تاب وندم ورجع إلى الحق وأدى الدية ولم يسم كافراً.

 

يقول: عفى ولي المقتول عن أخيه القاتل فلم يقتله ورضا بالدية, رضي منه بالتوبة بعد ظلمه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يعني: ليطلب ولي المقتول الدية برفق . ثم قال للمطلوب { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يقول: يؤدي القاتل الدية من ماله إلى أولياء المقتول في غير مشقة ولا أذى { ذَلِكَ } يعني: العفو والدية { تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قال: فإن حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه, ولا يؤخذ منه الدية.

 

ويقتل قاتل الخطأ إلا أن يشاء ولي المقتول بالخطأ أن يعفو عنه فله ذلك , وحكم أهل الإنجيل العفو ولا يقتل بالقصاص ولا يؤخذ منه الدية.

 

ورخص الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن شاء ولي المقتول العمد قتل القاتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ منه الدية.

 

قال الله: { تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يعني: إذ جعل في قتل العمد العفو والدية { وَرَحْمَةٌ } يعني: ولترحموا .

 

ثم قال: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يعني: من قتل القاتل بعد أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني: وجيعاً .

 

يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم " فلا عفو لمن قتل القاتل بعد أخذ الدية , وقد جعل الله له عذاباً أليماً إذا مات بغير توبة ".

 

قال: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يعني: يحجز بعضكم عن قتل بعض { يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } يعني: من كان له لب وعقل يذكر القصاص فيحجر خوف القصاص عن القتل { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص.

 

وقد قال بعض المسلمين: لا قصاص بين الزوجين في الجروح, وأما في القتل فينهما القصاص في النفوس.

وقال أبو عبدالله محمد بن محبوب: وبهذا أخذوا الدية بينهم في الجروح .