تفسير ليلة القدر وفضلها :

قوله:{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } يعني : هذا القرآن من اللوح المحفوظ من السماء السابعة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر .

وإنما سميت ليلة القدر , لأن الله يقدّر في تلك الليلة ما يكون في تلك السنة إلى قابل , فذلك قوله فيها { القدر} , تعظيم لها.

 

ثم أخبر عنها فقال:{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يعني : العمل في تلك الليلة , فيها ليلة القدر { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ليس فيها ليلة القدر.

 

{ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ } يعني: تنزل الملائكة مع جبريل , وهو قوله { وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } يعني: يتنزلون بكل أمر حكمه الله وقضاه أن يكون في تلك السنة , يتنزلون به من السماء السابعة إلى السماء الدنيا في تلك الليلة .

 

ثم قال{ سَلامٌ هِيَ } يعني: هي سلام وبركة , وخير الليلة كله من غروب الشمس { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } ينزل جبريل في تلك الليلة إلى الأرض , ومعه الملائكة فيسلمون على المؤمنين والمؤمنات { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }(غافر:7-9) }

قال : وليلة القدر في كل شهر رمضان في كل سنة إذا كان الشهر ثلاثين يوماً, وإذا كان تسعاً وعشرين يوماً , فاطلبوها أول ليلة إلى آخر ليلة , وكل ليلة فيها الرجاء , كما قال الله: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }(البقرة:185) قال: والفرقان يعني:المخرج في الدين من الشبهة والضلالة { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.

 

تفسير الاعتكاف :

قوله في سورة البقرة (الآية:187): { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وذلك أن أحدهم كان يعتكف في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , فكان إذا أراد الغائط بالليل , خرج من المسجد فيأتي أهله فيجامع امرأته ثم يغتسل ويرجع إلى المسجد , فنزلت { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ } يعني : ولا تجامعوهن , يعني :النساء { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ليلاً ولا نهاراً ما دمتم معتكفين . قال { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } يعني : تلك المباشرة معصية لله { فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ } يعني : هكذا { يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ } يعني : أمره ما ذكر من الاعتكاف { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يعني : لكي يتقوا المعاصي في الاعتكاف . فلا تجامعوا النساء ليلاً ولا نهاراً ما دمتم معتكفين .

 

عن ابن عباس قال : لا اعتكاف إلا بالصوم , وعن عائشة مثله : لا اعتكاف إلا بالصوم .

ويكون ذلك في مسجد جامع يصلى فيه الصلوات الخمس .

 

وعن سعيد بن جبير قال : المعتكف يشهد الجنازة والجمعة ويعود المرضى , ولا يجلس , ولا يدخل في بيت مسقف , ولا يستأنس لحديث , ويرجع إلى أهله في البول والغائط , ويأمر بحاجته من غير أن يجلس ولا يبيع ولا يشتري ولا يعمل للدنيا, ويكون عمله وهمه الآخرة .

 

قال أبو الحواري :

إن المعتكف يأتي لصلاة الجمعة , ولا يأتي جنازة , إلا جنازة يلي الصلاة عليها , فإذا وصل رجع إلى اعتكافه , ولا يقعد ولا يعود مريضاً ويقضي حاجته من البول والغائط , ولا يأتي أهله إلا لحاجة لا بد منها منقطع للعبادة.

 

قال : وإن طول الصلاة , وكثرة القيام والصدقة مخشعة للقلب ما لم ترَ في أنك خير من أخ لك , إن كان لا يجتهد في بعض ذلك كما تجتهد , وإن الاقتصاد في اللباس والمطعم والمشرب والمركب والهيئة كلها , والتواضع لله في ذلك لحسن ربيح في عمل الآخرة , ما لم تر في نفسك أنك خير وأفضل من أخ لك , إن كان يلبس بعض اللباس , وتصيب من بعض ذلك ما لا يصيب , أصدق منك في حب الله فإنك لن تجد أحداً إلا وهو يزعم أنه يحب الله , وليس شيء أحب إليه من الله , وذلك مما يخيل إليه , وإنما يحب الله من أحب طاعته , ثم عمل بها , وأبغض سخطه ثم اجتنبه , فذلك الذي أصدق في حب الله .

 

ولن تجد أحداً إلا وأنه يزعم أنه يحب الجنة , وذلك مما يخيل إليه , وإنما يحب الجنة من أحب سبيلها ثم سلكها , وسبيلها التقوى والأعمال الصالحة. وكيف يحب الجنة من ترك سبيلها الذي يهدي إليها قبلاً .

 

ولن تجد أحداً إلا وأنه يزعم أنه يبغض النار ويكرهها , وذلك مما يخيل إليه , وإنما يبغض النار ويكرهها من أبغض سبيلها ثم تركه , وسبيلها الخطايا والمعاصي والسيئات .