* تفسير سورة الأنبياء

سُورَة الأنبياء مكية وآياتها (112)

 

تفسير سورة الأنبياء: الآيات ( 1 - 15 )

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

-----------------------

 

السُورَة مكية تعتني بتقوية العقيدة كأخواتها من السور الْمِكِّيَّات، تقيم الدلائل على الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وأهواله، وتنذر الناس عذاب الله يوم القيامة وعذابه في الدنيا، وسميت "الأنبياء"؛ لأنها تذكر خبر طائفة من أنبياء الله، بالإطالة بعض الشيء في خبر إبراهيم، وبالإيجاز في ذكر الأنبياء الآخرين، والسُورَة شديدة الاتصال بما قبلها من السور ففي سُورَة "طَـه"، يقول ـ تعالَى ـ في ختامها: {قل كل متربص فتربصوا فستعلمون منَ اَصحابُ الصراط السوي ومن اهتدى} (طه:135)، وفي بداية هذه السُورَة يقول ـ تعالَى ـ:

 

{اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعرِضُونَ}

 

إن هذا الأمر الذي نتربصه لقريب محقق الوقوع، فلا تستعجلوه ولا ترتابوا في وقوعه، اقترب للناس اليوم الذي يبعثون فيه ويحاسبون، وهم في غفلة عنه ساهون، معرضون عن ذكره وعن الاستعداد له، معرضون عن النذر.

 

{مَا يَاتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ اِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُم وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الذِّينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثلُكُمُ أَفَتَاتُونَ السِّحرَ وَأَنْتُمْ تُبصِرُونَ}

 

{مَا يَاتِيهِم مِّن رَّبِّهِم مِّن ذِكْرٍ}: وهو القرآن يتجدد نزوله عليهم، ما ينزل عليهم من قرآن إلاَّ استمعوه سماع الاستهزاء والسخرية واللعب، فهم لا يستمعون سماع الفهم والتدبر والقبول، بل يسمعون للسخرية والتكذيب، وقلوبهم لاهية معرضة عنه، ومتى يجدي استماع الأذن إذا كان القلب لاهيًا؟، كذلك حال هؤلاء المكذبين، كلما نزل شيء من القرآن، وحيَّرتهم بلاغته وإعجازه، تناجوا فيما بينهم وأسروا نجواهم.

 

{الذِّينَ ظَلَمُوا}

 

وهو بدل من الواو قبله: ظلموا أنفسهم بالتكذيب والكفر، وظلموا قومهم ونساءهم وأولادهم وأقوامهم بالصد عن سبيل الله، وإلقاء ركام الشبه على كلام الله الذي أدركوا عظمته وصدقه وحلاوته، ولكن كبرياءهم وإنكارهم أن يكون البشر رسولا منعهم من الاعتراف بصدقه والإيمان به، فيتناجى ملأهم سرًا ماذا يقولون لأقوامهم حتى لا يؤثر فيهم، فيؤمنوا وأخيرًا يقررون أنه سحر، وأنه كلام بشر، فيقولون لهم.

 

{هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمُ أَفَتَاتُونَ السِّحرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}

 

هكذا يصوغون الكلام على صيغة الاستفهام الذي يراد به النفي أولا، والإنكار ثانيًا؛ حتى يكون أشد تأثيرًا على النفوس.

يقولون مخاطبين أهاليهم: هل هذا الشخص إلاَّ بشر مثلكم، فكيف يدَّعي أنه رسول من عند الله؟ ولو شاء الله لأنزل ملائكة، وما هذا الكلام الذي يأتيكم به إلاَّ اختلاق من عنده، يؤيده بالسحر ليسحركم به، فلا تنخدعوا له ولا تؤمنوا به، أفتأتون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر؟ يقولون لهم هذا؛ لأنهم يعلمون أنهم يَحُسُّون حلاوته وبلاغته وسلطانه على نفوسهم، فيضربون لهم المثل بالسحر؛ لأن السحر يؤثر على النفوس، وهو باطل لا حقيقة له، وهم يدركون الفرق الفارق والبعد البعيد بينه وبين السحر، إذ السحر تَمتَمَات وأسجاع وتُرَّهات وأباطيل، وكلام رب العالمين صدق وحكمة وعلم وقول فصل وبيان معجز، ولكن الأهواء أعمت أبصارهم وجعلت قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقرا، فتولوا عنه معرضين، وقد ضربت كبرياؤهم بينهم وبينه حجابًا، فهم لا يؤمنون ولا يَدَعُونَ أقوامهم يفكرون في الإيمان، وكذلك الطغيان في كل زمان ومكان، وتلك طبيعة الاستبداد في سادة الناس وكبرائهم إلاَّ قليلا ممن عصم الله.

 

{قُل رَّبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالاَرضِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}

 

أمر الله ـ تعالَى ـ نبيَّه أن يقول لهم ربِّي وربُّكم يعلم السر كلَّه في السماء والأرض، وهو السميع لأقوالهم التي يتناجون بها، العليم بنوايا قلوبهم، فهو السميع الذي لا تخفى عنه الأصوات، العليم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وجاء هذا القول بعد إسرارهم النجوى مناسبًا قوي التأثير عليهم؛ لأن الله العليم بهم فضحهم وفضح أقوالهم التي تناجوا بها فلم تعد خافية على الناس.

 

{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الاَوَّلُونَ مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ اَهْلَكْنَاهَا أَفَهُم يُومِنُونَ}

 

فضح الله تآمرهم في هاتين الآيتين، ورد عليهم بالرد القامع لهم.

 

{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}

 

إنهم كذبوا بهذا القول ورموه بأنواع من الترهات والأباطيل؛ ليُمَوِّهُوا بها على أقوامهم حتى لا يؤمنوا، فمنهم من قال: هو أخلاط الرؤى يراها في المنام فيقصها على الناس، وكأن قائلاً يرُدُّ على هذا القول؛ لأنهم أدركوا أنه كلامٌ حكيمٌ، معجز يعلو ولا يعلى، فقال آخرون:

 

{بَلِ افْتَرَاهُ}

 

أي ليس الأمر كذلك، بل اخترعه مُحَمَّد وصاغه في كلام بليغ ككثير من البلغاء من قبله، وكأنهم شعروا أن هذا الكلام لا يروج على أقوامهم؛ لأنهم يدركون أنه أعلى رتبة في الحكمة والبلاغة والإعجاز من كلام الناس، حتى أنهم عجزوا أن يأتوا بمثله بل بسُورَة من مثله.

 

فقال بعضهم منهم بل هو شاعر صاغه كما يصوغ الشعراء كلامهم، إنما هو بدع من الشعر لَم يتقيد بأوزانهم، وكأن بعضًا منهم لم يرض هذا القول، ولَم يقتنع به للفرق الكبير بينه وبين الشعر وخيالاته ومبالغاته وأنواع أغراضه الدنيئة وأوزانه وقوافيه، فقالوا:

 

{فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الاَوَّلُونَ}

 

سكتوا عن معارضته بما سبق، فاقترحوا الآيات تحديًا لرسول الله لا طلبًا للحقيقة، قالوا لولا يأتينا هذا الذي يزعم أنه نبي بمعجزة خارقة كما جاء الرسل الأولون، وقد علموا أخبار من سبق من الرسل وأممهم المجاورين، مثل هود وصالح وشعيب وموسى ولوط، فهم يتحاكون أنباءهم، ويمرون على منازلهم، ويعلمون معجزاتهم، وسبب هلاكهم، فاقترحوا الآيات، ونسوا أن معجزة القرآن يأتي به الأمي هي المعجزة الكافية لمن يطلب الحق، وهي المعجزة الباقية الخالدة يدركها أهل زمان البعثة، ومن بعدهم من الناس حتى يرفع، ولكنهم قوم خَصِمُون، فرد الله عليهم بما يدحض شبهبتهم فقال:

 

{مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ اَهْلَكْنَاهَا أَفَهُم يُومِنُونَ}

 

لقد كانت أمم قبلهم طلبت من أنبيائها آيات لا ليستبينوا بها الحق ولكن ليعاجزوهم، وكان من سنة الله فيهم أنهم إذا طلبوا آية، فجاءتهم فلم يؤمنوا أن الله يسحتهم بعذاب فيُبِيدهم، وعلم الله أنهم حين يصلون إلى هذا الحد من المحادة والإصرار لا ينفعهم إتيان الآيات، فرد الله على قريش بما رد به عليهم؛ لأنه ـ تعالَى ـ لا يريد إهلاك هذه الأمة واستئصالها وهي آخر الأمم، وقضى الله أنها ستبقى إلى قيام الساعة فلم يسعفهم إلى إتيان الآيات المقترحة، وفي كتاب الله المنزل عليهم على رجل يعرفونه بالصدق والأمانة لآية بينة لمن يبتغي الرشد ويطلب الحق، ولكن طبيعة الكبر في نفوسهم وحب الشهوات ترين على قلوبهم كما رانت على من كان قبلهم، وقد علم الله منهم ذلك فرد الله عليهم، {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} (يونس:101)، ثم قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحَى إِلَيْهِم فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُم جَسَدًا لاَّ يَاكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسرِفِينَ}

 

هذه الآيات الثلاث رَدٌّ على هؤلاء الكفار الذِّينَ ينكرون أن يكون الرسول بشرًا، فرّد الله ـ تعالَى ـ عليهم هذه القولة، كما ردها عليهم في مواضع أخرى من كتابه الكريم، قال ـ تعالَى ـ: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم} (يوسف:109)، فالإرسال من قِبَل الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ والرجال يتلقَّون الوحي من الملائكة الكرام، ومنهم من كلَّم الله، ثم يُبَلِّغون الناس ما أنزل إليهم، وفي الآية إشارة إلى أن الرسالة لا تكون إلاَّ في الرجال، قال ـ تعالَى ـ:

 

{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الذِّينَ عندهم علم بالرسل والوحي، الذِّينَ يقرؤون التوراة والإنجيل، ويعرفون صفات الرسل وعلامات النبوة، اسألوهم إن كنتم لا تعلمون بحقائق النبوة والوحي وسمات الأنبياء والرسل، يُخبروكم بأوصافهم، فليس صاحبكم هذا بدعا من الرسل، ولا ينكر العرب أمر الرسالات وهم يتقاصون أخبارهم، وفي قوله السابق: {فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الاَوَّلُونَ} فقد ألزمهم الحجة بما يعترفون به، فما كان هذا الرسول الذي أرسل إليهم إلاَّ واحدًا من تلك الرسل الذين يوحى إليهم، وليسوا إلاَّ بشرًا مثلهم، قال الله ـ تعالَى ـ في وصفهم:

 

{وَمَا جَعَلْنَاهُم جَسَدًا لاَّ يَاكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعدَ فَأَنْجَيْنَاهُم وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسرِفِينَ}

 

وليُحقِّق الله بشريتهم نفى عنهم صفات الملائكة، ونفى عنهم الخلود، فقال وما جعلناهم أجسادًا لا تأكل الطعام ولا تخرج فضلاته، بل هم بشر كسائر البشر يجوعون فيأكلون، ويعطشون فيشربون، ويبولون ويتغوطون، ويَمَسُّهم التعب والإعياء، ويمرضون ويموتون، وهذه الأوصاف أليق بمن يُبعَث رسولاً ليكون قدوة للناس؛ لأنهم لو لَم يكونوا كذلك، لقال الناس كيف نقتدي بمن لا يَمسُّه ما يَمَسُّنا من الحاجة إلى الطعام والشراب والدواء؟ فهؤلاء ولو تبتلوا للعبادة قد تخلصوا من الطبيعة البشرية فكيف نكلَّف نحن أن نأتسي بهم، وليسوا مثلنا في الضعف والحاجة ومس المرض والموت؟ هلا كانوا مثلنا يشعرون بما نشعر به من الحاجة إلى الطعام والشراب والنساء؟ ويشعرون بالحر والقر، فتكون لنا بهم في تحمل أعباء التكاليف والعبادات من صلاة وصوم وطهارات وصبر عما تدعو إليه النفس من الشهوات؟ واضطرار في بعض الأحوال إلى تخفيف الأحكام عند المشقات؟ وأيضًا لو كانوا هؤلاء الرسل ملائكة لاقتضت حكمةُ الْمرسِل أن يَجعلهم بشرًا؛ ليكون في إمكان البشر أن يتصلوا بهم ويسمعوا منهم؛ لأنه ليس في استعدادهم الاتصال بالملائكة، وحينئذٍ لو كان الرسل من جنس الملائكة وجُعِلوا بشرًا في مظاهرهم، لالتبس الأمر على الناس فيكذبونهم في أمر الرسالة، وفي ادعائهم أنهم ملائكة، فكان من لطف الله بنا أن أرسل إلينا رسلا من أنفسنا يبعثهم في الذؤابة من أقوامهم يعرفونهم ويعاشرونهم عمرًا طويلا قبل مبعثهم، ويؤيدهم الله بالمعجزات والكرامات ما يدل على صدقهم وصدق الكلام الذي يأتون به، ويقولون هو من عند الله، فما يكذبهم حينئذ إلاَّ شقي أثيم خصيم مبين، ثم قال ـ تعالَى

ـ:

{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُم وَمَّن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسرِفِينَ}

 

يقول الله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُم} وعدنا إياهم بالنصر في الدنيا والتمكين في الأرض، والفوز في الآخرة بحسن المصير في النعيم المقيم، وما من نبِيٍّ ولا رسول إلاّ وقد وعده الله بوعود ثم يحققها في الدنيا والآخرة، ويوم يأتي الهلاك العام ينجيهم ومن يشاء من الذِّينَ آمنوا بهم واتبعوهم، ثم يهلك الله المسرفين بالشرك والمعاصي، وتأتي هذه الأفعال موصولة بنون العظمة لتدل على عظيم سلطان الله وهوانِ هؤلاء الكفار على الله، فهم لا يستحقون الرحمة يوم يأتي أمر الله بما عصوا وكانوا من المفسدين، وفي هذا تسلية لقلب النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ومن معه وإنذار للكفار في كل زمان من سوء العواقب التي يتعرضون لها بسبب كفرهم وتكذيبهم.

 

{لَقَدَ اَنزَلْنَا إِلَيْكُم كِتَابًا فِيهِ ذِكرُكُمُ أَفَلاَ تَعقِلُونَ}

 

يقول الله ـ تعالَى ـ مخاطبًا هؤلاء القوم الضالين الذِّينَ يطلبون الآيات يتحدّون بها رسولهم: لقد أنزلنا إليكم كتابًا هو المعجزة الكبرى الخالدة التي يدركها الأولون والآخرون، وفي إمكان كل جيل أن يدركها ولا يزال الزمان يظهر إعجازها في البلاغة والأحكام، وتحقق الأشياء التي أخبر القرآن بها، ومنها حفظ هذا الكتاب من التبديل والتحريف، فقد ضمن الله حفظه يوم نزوله، وها هو اليوم تمضي عليه أربعة عشر قرنا ولا يزال غضًّا طريًّا مشرقًا ساطعًا كما أنزل، لَم يغير منه حرف واحد، ولا استطاعت هذه العلوم البشرية المتقدمة أن تنقض قاعدة واحدة من أحكامه أو حقيقة من حقائقه، بل لا تزداد إلا نصاعة وظهورا كما قال منزله: {سنريهم ءَايتُنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت:53)؛ ذلك لأنه كلام رب العالمين، عالِمُ الغيب والشهادة الحكيم الخبير، فأين المعجزات المادية من معجزة القرآن الخالدة؟ أين عصى موسى والآيات التي جاءت معه؟ أين معجزات عيسى وداود وسليمان؟ تلك كانت لزمان مضى ولقوم معيَّنِين، ونحن نؤمن بها ولا ننكرها؛ لأن القرآن أخبر بها، ولكنها اليوم لا تقيم للناس برهانًا؛ لأنهم لا يشهدونها، أما معجزة القرآن فلا تزال باقية ساطعة البرهان، ويمتن الله بهذا الكتاب على العرب خاصة.

 

{لَقَدَ اَنْزَلنَا إِلَيكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمُ أَفَلاَ تَعقِلُونَ}

 

أيها القوم الضالون، ما لكم عن القرآن معرضين؟!، أليس في ذكركم ومجدكم وشرفكم الخالد؟! ما لكم لا تعقلون؟! وهل كنتم شيئًا مذكورًا قبل نزول القرآن؟ كانت للأمم من غيركم حضارات وإمبراطوريات وجنود وقوة وعتاد، فماذا كنتم بينهم؟ أليس هذا الكتاب فيه ذكركم وفخركم وخلودكم إذا آمنتم به وحملتموه إلى الناس تفتحون به العالم، وتقهرون به الدول ذوات العدد والعتاد، إنه كتاب فيه عِزُّكم وسيادتكم، فما لكم لا تؤمنون به وفيه سعادتكم في الآخرة، وذكركم بين الأمم وعبر التاريخ؟! أفلا تعقلون؟!

 

واليوم وقد أصابت العرب جاهلية عمياء، فهم ينبذون الفخر بالإسلام وبالقرآن، وينبذون العمل به والحكم بما فيه وينادون بالقومية العربية والبعث العربي، وما قيمة هذه الشعارات إذا جردت عن الدين وابتعدت عن القرآن؟، وما جدواها وما قيمتها في الناس؟، إنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا فضل لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، وإنه لا سيادة للعرب إلا إذا رجعوا إلى دينهم، وتمسكوا بكتاب ربهم وأقاموه بينهم، فليتفطن الحمقى وليتنبه الغافلون وليستبصر الضالون، ولترفع شعارات الإسلام والقرآن بدل شعارات القوميات الضيقة والدعاوى الجاهلية، وليحل الهدى محل الضلال والرشاد محل الغي ولترجع العقول إلى صوابها.

 

{وَكَم قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَت ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعدَهَا قَوْمًا _اخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُترِفْتُم فِيهِ وَمَسَاكِنُكُم لَعَلَّكُم تُسأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلكَ دَعْوَاهُم حَتَّى جَعَلْنَاهُم حَصِيدًا خَامِدِينَ}

 

قال ـ تعالَى ـ:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَريَةٍ كَانَت ظَالِمَةٌ}

 

القصمُ: هو كسر الجسد الصلب كسرًا شديدا، كذلك يقصم الله الظالمين، يهلكهم في طغيانهم وهم في إقبال من الدنيا فيأخذهم أخذًا وبيلا، وقد أمهلهم قبل ذلك وما زادهم الإمهال إلا إمعانا في المكر والظلم، ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، وظلم غيرهم بالإفساد في الأرض وطلب العلو والغلبة، وجاء التعبير بـ: {كَمْ} التي تدل على التكثير؛ ذلك لكثرة القرى التي كفر أهلها فأهلكم، والله لا يزال يهلك الظالمين بأنواع من الخسف والزلازل والحروب والدمار، ولله جنود السماوات والأرض، ثم قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَأَنْشَأْنَا بَعدَهَا قَومًا _اخَرِينَ}

 

أي وأوجدنا بعد الهالكين أقواما آخرين؛ لننظر ماذا يعملون، حتى إذا بغوا وأفسدوا في الأرض صنعنا بهم ما صنعنا بأسلافهم كما قال ـ تعالَى ـ {ألم نهلك الاَوَّلين ثم نتبعهم الاخِرِين كذلك نفعل بالمجرمين} (المرسلات:18)، ولا يزال الله للظالمين بالمرصاد، قال ـ تعالَى ـ:

 

{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنهَا يَرْكُضُونَ}

 

فلما جاء العذاب وأحس هؤلاء الظالمون بوقعه إذا هم من قُرَاهم يركضون شرقًا وغربًا، هنا وهناك تائهين ذاهلين، والركضُ: ضربُ الأرجل بالأرض، وفي التعبير بالركض روعة في تصويرهم وهم يجرون إلى غير هدى، ظانين أن جريهم ينجيهم من عذاب الله، وقد أحاط بهم ولا عاصم من أمر الله إلاّ من رحم، وفي التعبير بـ: {إِذَا} الفجائية بيان مفاجأتهم بالعذاب من غير توقع ولا إنذار، وفي الآية تصوير بديع لحالهم وهم يتلقون العذاب المفاجئ الذي لا قِبَل لهم به ولا يطيقون دفعه، فهم يركضون طلبا للنجاة ولات حين مناص، قال ـ تعالَى

ـ:

{لاَ تَركُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُترِفْتُم فِيهِ وَمَسَاكِنُكُم لَعَلَّكُم تُسأَلُونَ}

 

لا تركضوا اليوم، فإن الركض لا ينفعكم ولا ينجيكم من عذاب الله، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه لتذوقوا الهلاك في تلك المساكن التي كنتم منعمين فيها بأنواع النعم، وكنتم لا تشكرونها، ارجعوا لعلكم تسألون عن النعيم الذي كنتم تتقلبون فيه، ولا تشكرون الرب المنعم ولا تؤدون له حق العبادة، بل كنتم تكفرون برسله وتحادون ربكم بأنواع المعاصي، أو لعل الناس يسألونكم عن سبب هلاككم، فإن لم تجيبوا حوارًا أجبتم اعتبارًا، فاليوم فذوقوا جزاءكم في مصارعكم ثم بعدها تسألون، أي ليس الأمر ينتهي بحلول بأس الدنيا، بل بعده سيحاسبون ويسألون وينالهم جزاؤهم في الآخرة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، ولا يزال المشهد يعج بالأصوات والحركات:

 

{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلكَ دَعْوَاهُم حَتَّى جَعَلْنَاهُم حَصِيدًا خَامِدِينَ}

 

إنهم في تراكضهم ينادون بالويل والثبور شأن الأشقياء حين يأتيهم العذاب، ولا يعود لهم رجاء في النجاة، يعترفون أنهم كانوا ظالمين وليس اعترافهم بمغنيهم شيئًا قال ـ تعالَى ـ:

 

{فَمَا زَالَت تِلكَ دَعْوَاهُم حَتَّى جَعَلْنَاهُم حَصِيدًا خَامِدِينَ}

 

أي لا يزالون يتضاغون بالصراخ، حتى أحالهم عذاب الله النازل إلى حصيد، وانتهى حالهم إلى خمود كما تخمد النار بعد اشتعالها وتحول إلى رماد، والحصيد: هو الزرع المحصود، شبه الله حالهم بعد الإزدهار والإقبال بالزرع المتهشم المحصود، وما أدل هذه العبارة على حالهم وقد هلكوا وحل بهم بأس الله وانتهى كل شيء، ونعوذ بالله من حلول بأس الله ونستجير به من شر عذابه ونقمه ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العليّ العظيم.

 

وفي هذه الآيات إنذار وتخويف للكفار من قوم النبي أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء الأقوام من الهلاك إذا هم لَجّوا في طغيانهم، ولم ينتهوا من تمردهم وظلمهم، ومن أراد الله به خيرًا، فإنه يعتبر ويرجع إلى الصواب، وباب التوبة مفتوح والإسلام جب لما قبله.

 

ثم بعد هذا يتحول الكلام إلى بيان حكمة الله من خلق السماوات والأرض وبيان وحدانية الله وعظيم سلطانه.

 

الأنبياء: الآيات ( 16- 29 )

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

-------------------------------

 

يُبيِّن الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ في هذه الآيات حقيقة ربُوبيَّته ووحدانيَّته، وأنه المعبود وحده بِحَقٍّ، وأن أفعاله تَجِلُّ عن اللهو واللعب، ينفي ربنا ـ تعالَى ـ أن يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ويأتي هذا النفي في مواضع كثيرة من القرآن، وتأتي الأفعال موصولة بـ: "نَا"، التي هي للعظمة؛ لأن المقام مقام التنزيه والتعظيم والإجلال، يقول ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لاَعِبِينَ لَوَ اَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنًّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}

 

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لِغَرَض اللهو واللعب، وما أغنانا عن ذلك، وما أبعد أفعال الله عن اللهو واللعب، بل كل أفعاله تجري بمقتضى الحكمة، وقد عرف ذلك المؤمنون وشهد به أولوا العلم الذِّينَ يتفكرون في خلق السماوات والأرض فيقولون: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران:191)، عرف أولوا الألباب أن سنة الله في خلقه أن تجري وِفق تعبيرٍ حكيم ونظام دقيق، وأن ترتبط الأسباب بِمُسبِّباتها، وأن من الحكمة أن يكون يوم يجزى فيه العاملون بما يستحقونه من الجزاء، فآمنوا بيوم الجزاء وتضرعوا إلى الله بالدعاء أن يقِيَهم هذه النار، وأن يكفر عنهم سيآتهم ويتوفاهم مع عباده الأبرار، ثم يقول الله ـ تعالَى ـ:

 

{لَوَ اَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنًّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

 

أي لو أردنا أن نتخذ شيئًا مما يتلَهَّى به الناس لاتخذناه من لدنًّا في ملكوتنا الأعلى، واللَّدُنية تشعر بالخصوصية والقرب، واللهو والولد والصاحبة، وفي هذا رَدٌّ على الذِّينَ يزعمون أن المسيح ابن الله، والذِّينَ يقولون عزير ابن الله، والذِّينَ يقولون: الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا، وقوله:

 

{إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إما أن تكون شرطية: أي لو كنا فاعلين، وإما نافية: أي مَا كُنَّا فاعلين، وعلى كلا المعنَيَين ففيه النفي القاطع؛ لأن "لو"، تدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فالله ـ تَبَارك وتعالَى ـ ينفي ذلك عن نفسه، فهو أمر لا يريده وليس من شأنه، فهو ـ تعالَى ـ لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وتَنَزَّه ربُّنا وتقدَّس أن توصف أفعاله باللهو واللعب، بل أفعاله كلُّها تجري على مقتضى الحكمة كما قال:

 

{بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

 

{بَلْ}: حرف إضراب، أي ليس كما يزعم المبطلون، بل يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق: أي زائل عن موضعه ذاهب متلاش، والدمغ: هو الكسر الشديد للشيء الصلب الأجوف، فقد يتظاهر الباطل بالصلابة والقوة والانتفاخ، ولكن سرعان ما يتهشم ويتلاشى إذا قذفه الحق، وهو ما تدل عليه العبارة: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}؛ لأن "إذا"، هذه للفجاءة، فلا ثبات للباطل عند ظهور الحق مطلقًا، بل سرعان ما يزول، والتعبير بـ: "القذف" بالحق من روائع البيان، فهو تصوير للمعنوي في قالب المحسوس، ولا يكون القذف إلاَّ بالشيء الصلب المتين، ناهيك إذا كان القاذف هو الله، وهذا هو المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

 

والويل: دعاء بسوء، وهو هنا من الله إيجاب للسوء لهؤلاء الكفار الذِّينَ يصفون ربهم بما لا ينبغي له، ويصفون أنبياءه وملائكته بما لا ينبغي لهم، فتَهَدَّدهم الله بالويل، وهو العذاب الشديد الذي لا يطاق، لا مناص منه ولا خروج.

 

{وَلَهُ مَن السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَمَن عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفتُرُونَ}

 

أي تنَزَّه عن وصفكم وتقدَّس من له من في السماوات الأرض، كل له عبيد ومخلوقون، وجاء الضمير للعاقل؛ لأن العبرة بهم أكثر كما جاء بِالعِندِيَّة، تشريفا لهؤلاء الملائكة ورفعا لِمقامهم، فهم عباد مكرمون لربهم عابدون ولا يستكبرن عن عبادته، ولذلك استحقوا القرب والعندِيَّة، {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} وهو مَسُّ الإعياء الشديد بعد معاناة الأمر الشاق، وفي هذا إشارة إلى أن مداومتهم على عبادة ربهم وتسبيحه أمر من شأنه أن يتعب القائمون به، لكن ملائكة الله لا يستحسرون ولا يسأمون بل يسبحون الليل والنهار أي دوامًا لا يفترون عبادتهم، أي لا يَمَسُّهم سأم ولا ملل ولا انقطاع، فإذا كان هؤلاء عباد الله المكرمون يعمرون السماوات بعبادتهم، فما الداعي لاتخاذ اللهو؟! فما أبعد ملكوت الله عن ذلك، وسبحان الله رب العرش عما يصفون.

 

{أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِنَ الاَرضِ هُم يُنشِرُونَ لَو كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ اِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسأَلُونَ}

 

"أَمْ"، هذه للإضراب الاستفهامي، والاستفهام للإنكار، أي هل اتخذ هؤلاء الكفار آلهة ينحتونها من الحجارة أو يصنعونها من معادن الأرض؟، وهذا تهكُّم بهم، إذ الملائكة الذِّينَ هم عباد مكرمون يسبحون الله لا يفترون، فلا ينبغي لهم أن يكونوا آلهة، فهل هؤلاء القوم لَمَّا عدموا الآلهة من أهل السماء اتخذوا آلهة من الأرض ينحتونها يعبدونها؟، وليس أدل على سخافة عقولهم من عبادة آلهة من الأرض، أم يزعمون أنها تقدر على ما أنكروه على الله خالقهم، فهي تقدر على بعث الأموات وهم ينكرون البعث؟ وهذا أسلوب في غاية الإلزام؛ لأنه يخاطبهم بالحق الذي لا ريب فيه، وإن أنكروه، ففي الخطاب تجاهل إنكارهم؛ لأنه إنكار للواقع، فلا قيمة له، ولهذا الأسلوب وقعه البليغ في نفوس هؤلاء المكذبين الذِّينَ لهم الويل مما يصفون، وهم مرجع هذه الضمائر.

 

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ اِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ: لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى غير الله، لفسد نظام السماوات والأرض ومن فيها، وهذا برهان قاطع يُحاجُّ الله به المشركين، ويقطع به جهيزتهم فيلزمهم به الحجة، إذ لو تعددت الآلهة، فإما أن تتوافق إرادتهم في كل شيء فلا معنَى حينئذ للتعدد، ولا يمكن هذا، وإما أن تختلف، وحينئذ، فإما أن تتفاوت قدراتهم، وإما أن تتساوى، فإن تفاوتت، فالأقوى هو الإله ولا تصلح الألوهية لمن دونه ولا شركة له، وإن تساوت فالحرب بينهما لا محالة واقعة، فيفسد كل منهما مملكة الآخر، وهو فساد السماوات والأرض.

 

فَلَمَّا رأينا قيام السماوات والأرض على سُنَن معلومة ونظام دقيق ونواميس كونية تجري على صراط مستقيم ملايين السنين علِمنَا أن المدبر الحكيم واحد، وهو الخالق المالك المقتدر الفعال لما يريد.

 

{فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ}

 

فتنْزيهًا لله الواحد القهار ربِّ العرش العظيم عما يصفه به هؤلاء الكفار، وجيء بذكر {العَرشِ}، وأضيف إليه اسم الرب؛ لأن العرش أعظم من السماوات والأرض، وهو مقر السلطة ومصدر الأوامر التكوينية، فربوبِيَّتُه لما هو دون العرش من باب أولى وأحرى، فسبحان الله ربِّنا وربِّ العرش عما ينعته الجاهلون.

 

{لاَ يُسأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ}

 

لا يسأل سؤال اعتراض عما يَفعَل، على أن أفعاله تجري بمقتضى الحكمة، وهم يسألون ذلك؛ لأنه وحده الرب الإله، وهم عبيده المسؤولون المحاسبون، وتأتي هذه الجملة بعد ذكر ملائكة الله المقربين الذِّينَ يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فهم على رفعة مقامهم لا يتجرؤون أن يسألوا ربهم سؤال اعتراض إلاَّ سؤال استزادة العلم، كقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويَسفِك الدماء ونحن نُسبِّح بِحمدك ونُقَدِّس لك} (البقرة:30)، وهم يُسألون ويُحاسبون لو قصَّروا في العبادة وتنفيذ الأوامر، كما يسأل غيرهم من الإنس والجن ومن شاء الله، والكل خلقه وعبيده وإماؤه، ماض فيهم حكمُه، عدل فيهم قضاؤه.

 

{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُل هَاتُوا بُرهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِي وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلَ اَكثَرُهُم لاَ يَعلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعرِضُونَ}

 

فبعد أن أقام الله ـ تعالَى ـ الدليل على وحدانيته بالحجج العقلية أردف بإبطال مزاعم المشركين بالأدلة النقلية فقال:

{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُم هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِي وَذِكْرُ مَن قَبْلِي}

 

وتأتي: "أمْ"، التي هي للإضراب الاستفهامي الإنكاري، يستنكر الله أن يتخذ عباده من دونه آلهة يعبدونها، يقول لرسوله، قل: لهؤلاء هاتوا برهانكم على صحة ما تزعمون من الكتب النازلة من السماء، وتأتي الإشارة بهذا إلى الكتاب المنزل على مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ذكرا له ولمن معه، وهو أيضًا ذكر لمن قبله من الأنبياء والرسل؛ لأن فيه أبناءهم، وهم كلُّهم يدعون أقوامهم لعبادة الله وحده، والكفرَ بالطواغيت دونه، فليس في كتب الله كلِّها شاهد على ما يزعمونه من اتخاذ الشفعاء والأنداد، بل فيها النهي والإنكار الشديد على ذلك، والإنذار بالوعيد على من يتخذ من دون الله آلهة.

 

{بَلَ اَكثَرُهُم لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعرِضُونَ}

 

في هذه الآية الإلتفات والإضراب عن الإستدلال؛ لأنه لم يعد ينفع مه هؤلاء المنكرين الجاحدين، يقول ـ تعالَى ـ:

 

{بَلَ اَكثَرُهُم لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ}

 

فقد حجبتهم أهواؤُهم عن إدراك الحق، فقلوبهم في عمى منه، فهم معرضون لا مثولية عندهم، وليسوا كلهم بل أكثرهم؛ لأن الله يعلم أن منهم من ينفعه الإنذار، فيفتح الله بصيرتهم فيؤمنون لاستعداد نفوسهم لذلك، وللحق ومضات وإشراق في القلوب، وتجليات في بعض الأحوال، وقليل من هؤلاء من يبصر وينبذ ركام الجاهلية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاِسلام ومن يرد اَن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء} (الأنعام:125)، فهم عن الحق معرضون.

 

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}

 

بعد أن ردَّ الله على المشركين مقالاتهم في الشرك ومزاعمهم بالمعقول والمنقول، وبيّن إعراض أكثرهم عن الحق وتوليهم عنه، أقبل على نبيه يُثَبِّت قلبَه بالحق الذي أوحى به إليه كما أوحى إلى النبييّن من قبله، بعبارة تؤذن بالعموم الإستغراقي: أنه ما من رسول أرسله الله إلاَّ يُوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ولا تشركوا بي شيئًا، والعبادة: هي المحبة والهيبة والخضوع الكامل، وتتحقق بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، والاستسلام لأمر الله، تلك هي دعوة جميع رسل الله فليست دعوة مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ إلاَّ امتداد لتلك الدعوات {إن الدين عند الله الاسلام} (آل عمران:19)، وهو دين مُحَمَّد والنبييّن من قبله، ودين أمته حتى تقوم الساعة، وجاء في الحديث الصحيح: "أفضل ما قُلتُه أنا والنبيُّون من قبلي لا إله إلا الله".

 

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُّكرَمُونَ لاَ يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم وَمَا خَلفَهُم وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّن خَشْيَتِهِ مُشفِقُونَ وَمَن يَّقُل مِنْهُمُ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجزِي الظَّالِمِينَ}

 

نسبت طوائف من الكفار الولدَ لله، وجعلت خزاعة الملائكة بنات الله، يقولون اتخذها من سروات الجن، وتبعهم في هذا الاعتقاد ناس من قريش وغيرهم، فرد الله عليهم هذا الزعم الباطل، وأثبت ما هو الحق، قال: {وَقَالُواْ}، أي الكفار {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}، ويرمزون بذلك إلى الملائكة، يقولون: هم بنات الله، فرد الله عليهم بالإضراب عن قولهم الباطل:

 

{بَل عِبَادٌ مُّكرَمُونَ}

جاء بالخبر ولَم يأت بالمبتدأ؛ لِمعرفتهم به، أي بل الذِّينَ تزعمونهم بنات الله ـ وهم الملائكة ـ عبادٌ لله مكرمون، أكرمهم الله ورضي عنهم، ورفع مكانتهم عنده، وجعلهم على جانب عظيم من الأدب، فهم لا يقدمون بين يدي الله ولا يسبقونه بالقول تعظيمًا له وتوقيرًا، {وَهُم بِأَمْرِهِ يَعمَلُون}، أي لا بأمر غيره، وهذا ما يفيده تقديم المعمول على عامله.

 

{يَعلَمُ مَا بَينَ أَيْدِيهِم وَمَا خَلْفَهُم}

 

أي: يعلم ما حَضر عندهم من علم الشهادة، ويعلم ما غاب عنهم من علم الغيب، فهم كغيرهم من مخلوقات الله لا يعلمون من الغيب إلاَّ ما علمهم الله {ولا يحيطون به علمًا} (طه:107).

 

{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضَى وَهُم مِّن خَشْيَتِهِ مُشفِقُونَ}

 

أثبت الله لهم الشفاعة إكرامًا لهم، واستجابة لاستغفارهم للمؤمنين، غير أنهم لا يشفعون إلاَّ لِمن ارتضاه الله من أهل التوبة والاستقامة في الدين، فليس شفاعتهم لأهل الكبائر والظلم {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر:18)، وهذا يقطع مطامع الذِّينَ يرجون الشفاعة للمصرين على كبائر الذنوب، ثم قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَهُم مِّن خَشْيَتِهِ مُشفِقُونَ}

 

الإشفاقُ: هو الخوف الشديد، والحذر من أمر متوقع، إن هؤلاء الملائكة المكرمين مشفقون من خشية ربهم، فكيف يرضون أن يُعبَدوا من دونه، أو معه وهم لا يشفعون إلاَّ بإذنه، ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى، ثُم قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَمَن يَّقُل مِنهُمُ إِنِّي إلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجزِي الظَّالِمِينَ}

 

ومن يقل من هؤلاء الملائكة للناس اعبدوني واتخذوني إلَهًا من دون الله، فذلك نجزيه جهنم وبئس المصير، والله يعلم أنهم لن يقولوا هذه المقالة ولا يرضونها، ولكن المقصود بها هؤلاء الكفار الذِّينَ يعبُدون الملائكة، فكيف يرجونهم، وهم بأنفسهم عباد لله يجري عليهم قضاء الله، ولا يمتنعون {ضَعُفَ الطالبُ والمطلوب} (الحج:73)

.

{كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}

 

يقول الله ـ تعالَى ـ: كذلك نجزي الظالمين، وهم المشركون والشرك ظلم عظيم، فكل من دعا الناس إلى عبادته، أو اتخذ لله ندًّا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، واختير لفظ: "جَهَنَّم"، وهي الدار الجامعة لأنواع العذاب والشقاء، وأهلها في سخط الله مُبلِسُون، اختير هذا اللفظ؛ ليكون أبلغ في الردع عن الشرك وأنواعه، والدعوة إليها والصد عن سبيل الله.

 

الأنبياء: الآيات ( 30 - 41 )

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)

------------------------------

 

يقول الله ـ تعالى ـ:

{أَوَلَم يَرَ الذِّينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ كَانَتَا رَتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}؟

استفهام تقرير أريد به توبيخ هؤلاء الكفار الذِّينَ يعرضون عن آيات الله، ولا يتدبرونها فيدركون بها عظمة الخالق ووحدانيته، ووصف الله ـ تعالَى ـ السماوات والأرض بالرَّتق: أي مُرتُوقَتَين، لا فتق فيها ففتقهما الله، قال بعض: "فتق السماء بالمطر النازل، وفتق الأرض بانشقاقها بالنبات"، وقيل: "إنهما كانتا مُمتزجَتَين، ففتقهما بفصل كل واحدة عن الأخرى"، وإن كان هذا شيء لم يره الناس، ولكن يكفي للاعتبار أن يذكره القرآن، ثم يتوصل إليه العلماء في أصل الخليقة، فيدركونه وهو من آيات الله الكبرى الدالة على قدرة الخالق وسعة علمه وإحاطته بكل شيء، وأنه واحد لا شريك له.

 

{وَجَعَلنَا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ}

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ {وَجَعَلْنَا من الماء كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ}، أصله من الماء وقيامه واستمرار وجوده بالماء، فلا يستغني عن الماء حيٌّ من مخلوقات الله في هذه الأرض{أَفَلاَ يُومِنُونَ}

 

أي: أفلا ينظرون نظر استبصار فيؤمنون بالله، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، وأن الله قادر على أن يحيِيَ الموتى كما أوجدهم أول مرة، ثم قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَجَعَلنَا فِي الاَرضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَّعَلَّهُم يَهْتَدُونَ}

 

أي: أولا يرون أنا جعلنا في الأرض التي يعيشون فيها جبالاً رواسي أرساها الله، وأرسى بها الأرض حتى تستقر، فلا تميد بهم ولا تضطرب، ولو كانت ميَّادة لما صلح عليها بنيان ولا عمران، وتبتدئ هذه الآيات بالجعل الموصول بنون العظمة إلفاتًا للعقول إلى آيات الله الدالة على عظمته، قال ـ تعالَى ـ:

 

{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَّعَلَّهُم يَهتَدُونَ}

 

أي: جعلنا في سلاسل الجبال فجوات عريضة، فيها سبلا لعلهم يسلكونها، ويهتدون بها في أسفارهم من قطر إلى قطر، ومن إقليم إلى إقليم، وهذا من قدرة الله ولطفه بخلقه، أفلا يؤمنون بربهم؟، أفلا يشكرون للمنعم؟، فمالهم يغفلون عن آيات الله، وما لهم يتخذون له أندادًا أنَّى يؤفكون.

 

{وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَّهُم عَنَ ءَايَاتِهَا مُعرِضُونَ}

 

بعد أن ألفت الله ـ تعالَى ـ عباده إلى كبرى آياته في الأرض يلفتهم إلى بعض آياته الكبرى في السماء، وهي آيات بينة لكل من يرى ويعقل، يقول الله ـ تعالَى ـ:

 

{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقفًا مَّحْفُوظًا}

 

أي: بنينا هذا السقف العظيم فوقكم بغير عمد ترونها، وحفظناه من السقوط والتصدع، كما جعلنا عليه حرسًا شديدًا يحفظونه من الشياطين، فمالهم عن التفكر في السماء معرضين، أفلا يتفكرون في السماء وبنيانها، وفي أفلاكها وبروجها ومجاريها؟.

 

{وَهُوَ الذِي خَلَقَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَّسْبَحُونَ}

 

الله هو الذي خلق الليل والنهار يتعاقبان تعاقبًا حثيثًا، وجعل الظلمات والنور وخلق الشمس والقمر هذين الكوكبين، جعل الشمس سراجًا وهَّاجًا، وجعل القمر نورًا وقدَّره منازل، وجعل سيرهما بنظام محكم دقيق، كُلٌّ من الشمس والقمر والنجوم والكواكب يسبحون في فضاء الله الواسع بنظام مقدر معلوم، وجعل حياة ما في الأرض من حيوان ونبات وغير ذلك متوقفة على أشعة الشمس، ولا تستغني عن منافع الشمس، فسبحان من خلق كل هذه الأشياء وحده، وقدرها ووضع لها ميزانًا لسيرها وجاذبيتها وقدر مشارقها ومغاربها تقديرًا، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، ربُّكم وإليه ترجعون.

 

{وَمَا جَعَلنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلدَ أَفَإِيْن مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً وَّإِلَينَا تُرجَعُونَ}

 

يقرر الله ـ جل جلاله ـ في هذه الآيات أن الموت مكتوب على كل نفس، وأن الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأن الرجوع إلى الله بعد الموت، وقد كان كفار قريش قوم النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ يقولون هو شاعر نتربص به ريب المنون، فهم ينتظرون موته لينتهي أمره، فرد الله مقالتهم هذه مخاطبًا نبيه معرضًا بهم قال: {وَمَا جَعَلنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلدَ} في هذه الدنيا فكيف يطمعون أن يشمتوا بموتك، وتهنأ لهم الحياة بعدك؟، فهل ضمنوا لأنفسم الحياة، حتى يشهدوا موتك؟ وهل إن مت يخلدون بعدك؟ وهذا الاستفهام الإنكاري فيه الإشارة إلى أنهم لا يسعفون إلى هذا المطمع، فهم يهلكون قبلك، إلاَّ من هدى الله للإسلام، وأن الله كتب الموت على كلِّ حَيٍّ.

 

{كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ}

 

كلُّ نفس لا بدَّ ستذوق الموت وإن طال بقاؤها، فسبحان الحي الدائم الذي لا يموت يفني الخلائق ولا يموت، وإنما جعل الله هذه الحياة الدنيا للابتلاء والاختبار.

 

{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتنَةً}

 

أي نَختبِركم بالبأساء والنعماء والصحة والمرض والفقر والغنى امتحانًا منا؛ لننظر من يكفر ومن يشكر، ومن يعصي ومن يطيع، ومن يصبر منكم فيوفى أجره ومن يجزع ويكفر فيلاقي وزره.

 

{وَإِلَينَا تُرجَعُونَ}

 

وإلى الله المصير والمرجع ليجازِي كلاًّ بما يستحق، فالعاقل من عمل لما بعد الموت وتزود من هذه الدار الفانية لتلك الدار الباقية، والأحمق من اغتر بهذه الحياة، ونسِيَ ما قدمت يداه، حتى جاءه الموت على غير استعداد، وفي هذه الآيات موعظة وذكرى لأولي الألباب.

 

{وَإِذَا رَءَاكَ الذِّينَ كَفَرُوا إِن يَّتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا اَهَذَا الذِي يَذكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكرِ الرَّحْمَنِ هُم كَافِرُونَ}

 

هذا نوع آخر من الأذى الذي يؤذي به الكافرون رسولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ، فهم يؤذونه في الغيب بالتناجي في السر بالإثم والعدوان والتكذيب، ويؤذونه في الجهر إذا رأوه يتخذونه هزوًا، وجاء الوصف بالمصدر؛ لإغراقهم في الاستهزاء فهم لا يتخذونه إلاَّ هزوًا{أَهَذَا الذِي يَذكُرُ ءَالِهَتَكُم}

 

هذه الجملة مفسِّرة لِمعنَى الاستهزاء، فهي في معنى مَقُول القول، أي يقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم بسوء، واسم الإشارة للتحقير، والذكر يكون بالخير، ويكون بالشر، وهو المقصود هنا للقرينة الدالة عليه على أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ لَم يذكرها إلاَّ بالحقيقة التي يجب أن تقال فيها، وهم لا يرضون ذلك، ويعتبرونه سبًّا لها وتنقيصًا من شأنها.

 

{وَهُم بِذِكرِ الرَّحْمَنِ هُم كَافِرُونَ}

 

وذكر الرحمن هنا هو القرآن المنزل من عند الرحمن، فهم يكفرون بالذكر، ويكفرون بالرحمن، ويتجاهلون هذا الإسم، وهو من أخص الأسماء بالله جل جلاله، ولا يجوز أن يُتَسَمَّى به مخلوق إلاَّ مضافًا إليه هكذا: "عبد الرحمن"، وجاء ضمير الفصل في وصفهم بالكفر؛ للدلالة على قوة كفرهم وإصرارهم، فكأنهم هم الكافرون لا غيرهم؛ لأنهم أعرضوا عن الحجج الواضحة، والأدلة البيّنة التي تدل على صدق الرسول فيما يدعوهم إليه، فكفروا بالرسل وبالآيات البينات، فهم الكافرون الحقيقيون الذِّينَ بلغوا الدركة السفلى من الكفر والعناد، وهنا يتعجب عباد الله المؤمنون من إمهال الله إياهم وقد بلغوا هذا المبلغ الفظيع من الكفر والأذى لرسول الله والمؤمنين، فيأتي قوله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{خُلِقَ الاِنسَانُ مِن عَجَلٍ سَأُورِيكُمُ ءَايَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}

يخبر الله ـ تعالَى ـ عن طبيعة الإنسان، وهو أعلم به فيقول: إنه خلق من عجل، أي طبيعته استعجال الأمور واستبطاؤها، فالمؤمنون يستبطئون نزول العذاب بهؤلاء الكفار المستهزئين بالله وآياته ورسوله، ويتعجبون من تأخره، ويقولون: متى ينتقم الله من أعدائه وأعداء رسوله؟ فيقول الله لهم: {سَأُرِيكُمُ ءَايَاتِي} في نصر ديني والمؤمنين وإهلاك أئمة الكفر قريبًا، وقد وقع ذلك يوم بدر، فلا تستعجلوا وثِقُوا بوعدي، ولعلَّ القلق والاستعجال، يفضي ببعضكم إلى الشك في صدق وعد الله، وهذا لا ينبغي لِمن آمن بالله، فنهاهم الله ـ تعالَى ـ عن الاستعجال؛ رفقًا بهم وتطمينًا لقلوبهم وتثبيتًا لها بصدق وعد الله، ومن أصدق من الله قيلا، ثم ذكر الله ـ تعالَى ـ حال الكافرين المكذبين بوعد الله فقال:

 

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}

 

يتعرض الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ في هذه الآية لمقالة المشركين المكذبين ليُنْزِل عليهم سياط القمع فيما بعد، يقول أعداء الله الذِّينَ كذبوا رسول الله وكفروا بكتابه، يقولون: {مَتَى هَذَا الوَعدُ} الذي تُخوِّفُوننا بوقوعه من إهلاكنا ونصركم علينا وقيام الساعة وحلول العذاب؟، ويقولونه استهزاء وتكذيبًا وتشكيكًا للناس في صدق رَسُول الله والمؤمنين بدليل قولهم: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} والمقصود به التكذيب، وقد حقق الله وعده يوم بدر حين أنزل خمسة آلاف من الملائكة مسومين، وأنزل نصره على رسوله وعلى المؤمنين، وحين وقف رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ على جيف أئمة الكفر وهي مرمية في القليب، يقول بعد أن نادى كبراءهم بأسمائهم: {إنا وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا}؟، والاستفهام هنا للتبكيت، وهو يعلم أنهم واجدون وعد الله حقًّا، فهم يسمعون، ولكنهم لا يجيبون؛ لانشغالهم بالعذاب الذي هم فيه، ونعوذ بالله من مصير الظالمين.

 

{لَو يَعلَمِ الذِّينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُّجُوهِهِمُ النَّارُ وَلاَ عَن ظُهُورِهِم وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَل تَاتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُم فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُم يُنظَرُونَ}

 

الآيتان تُصوِّران مشهدًا فضيعًا من مشاهد أهل الشقاء يوم القيامة، حين تحق عليهم كلمة العذاب ولا يجدون منه مخلصًا

 

{لَو يَعلَمِ الذِّينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ}

 

أي: لا يدفعون عن وجوههم النار، ولا عن ظهورهم، فهم أعجز عن ذلك، وهم في السلاسل والأغلال والنار تلتهمهم من جميع جهاتهم، ولا أحد ينصرهم يومئذ من أمر الله، وما للظالمين من أنصار، وقد جيء بـ: "لَوْ"، الشَّرطية ولم يؤت بجوابها، وإبهامه أوقع في النفوس وأعظم تهويلاً، وقدره بعض أهل التفسير أنهم لو يعلمون حين يلاقون العذاب ولا يستطيعون له دفعًا، لأقلعوا الآن عن كُفرهم واستهزائهم، ولكن غرَّهم إمهال الله إياهم، وأُتُوا من قبل جهلهم، ولو علموا لكان لهم شأن آخر مع الله.

 

{بَل تَاتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُم فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُم يُنظَرُونَ}

 

بل تأتيهم النار بغتة، أي: فجأة فتبهتهم، أي: فتغلبهم لقوتها وعرامتها ومفاجأتها فلا يستطيعون ردها، ولا هم يمهلون، ولا ينفس عليهم ويبدو أن لِتلك النار هجمات وانفجارات عليهم وفي قوله ـ تعالَى ـ: {فَتَبْهَتُهُم} إشارة إلى ما كانوا يَبْهَتُون به أنبياء الله والمؤمنين بألسنة حداد، يطعنون بها أولياء الله في وجوههم وظهورهم، فجازاهم الله على ذلك جزاء وفاقًا، وفي الآيتين إنذار من الله وتخويف لهؤلاء الظالمين، وتسلية لنبيّه والمؤمنين، وتثبيت لقلوبهم؛ ليصبِرُوا على أذاهم ويفوضوا أمرهم إلى الله، وقال كثير من المفسرين: "إن الضمير إلى الساعة"، أي أن هذه الساعة تأتيهم بغتة بلا إنذار، فلا يستطيعون ردَّها ولا هم ينظرون.

 

{وَلَقَدِ -اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالذِّينَ سَخِرُوا مِنهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ

}

لا يزال الله يُثبِّت قلبَ رسوله والمؤمنين بما ينزل عليه من الآيات التي يبين له فيها مصائر الأمم التي كذبت برسل الله وكتبه، وكانوا يسخرون بهم، فكانت عاقبة أمرهم خسرًا، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَلَقَدُ -اسْتُهزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كثيرين مثلما استهزئ بك وكُذِّبوا كما كذبت، {فَحَاقَ بِهِمْ} أي: فرجع عليهم استهزاؤهم بالوبال والحسرات، فتأسَّ بالرسل من قبلك واصبر كما صبر أولوا العزم منهم، وثق بوعد الله فإن الله ناصرك عليهم ومُهلِكُهم وإن لهم موعدًا لن يخلفوه، وفي هذا الكلام تعريض بكفار قريش، أنه سيصيبهم مثل ما أصاب المكذبين من قبلهم، فلا يغتروا بتمتيع الله إياهم بطول أمد العافية فلكل أجل كتاب.

 

الأنبياء: الآيات ( 42 - 50 )

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

---------------------------

 

انتقل الكلام إلى خطاب هؤلاء المكذبين فقال الله ـ تعالَى ـ لنبيِّه: قل لهؤلاء الكفار المستهزئين المكذبين بوعد الله المستعجلين للساعة استعاد لقيامها، قل لهم: من الذي يحفظكم من الله إن أراد بكم سوءًا في ساعة ليل أو نهار، وقد يكون المعنَى من ذا الذي يكلؤكم، أي يحفظكم من قبل الرحمن بالليل والنهار، أليس الله هو الذي يكلؤكم دوامًا؟ لولا حفظه ورعايته لأَهلَكَتْكُم عادِيَات الليل والنهار، ألا تشكرون للرحمن نعمة الكلاءة والرعاية؟! فما لكم تكفرون نعمة المنعم الذي غمركم برحماته في هذه الدنيا الملئية بالآفات؟!

 

بل هم عن ذكر ربهم وذكر نعمه معرضون فهم عن المنعم غافلون، قد أبطرتهم النعم، وغرَّتهم الحياة الدنيا فهم عن الآخرة هم غافلون.

 

{أَم لَهُمُ ءَالِهَةٌ تَمنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِم وَلاَ هُم مِّنَّا يُصحَبُونَ}

 

الآية تقريع لهؤلاء المشركين، وتحقير لآلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهي لا تغني عنهم من الله شيئًا، وقد بدئت بحرف: "أمْ"، التي هي للإضراب الاستفهامي، أي بل لا ينفع هؤلاء المعرضين الذكر إذا أعرضوا عنه، فعلام هم مقبلون؟ أعَلَى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟ هل لهؤلاء آلهة يتعلقون بها، فهي تمنعهم من دوننا إن أردناهم بسوء؟، كلا بل هم لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون، فهم أعجز من ذلك، فلا أنصار لهم ترد عنهم بأسنا، وتنصرهم عند محاربتنا لهم، ولا أعمال لهم صالحة توجب لهم صحبتنا، واستجابتنا لدعائهم حين يصيبهم البلاء النازل.

 

{بَل مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَءَابَاءَهُم حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَاتِي الاَرضَ نَنقُصُهَا مِنَ اَطرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ}

 

إذا كان هؤلاء الكفار بهذه المنزلة من الإعراض عن الذكر الذي جاءهم من ربهم، وهم بهذا القدر من الضعف والسخافة، فكيف متعهم الله بهذه النعم، وهم لا يزالون يرفلون فيها؟ هذا ما يتساءل به المؤمنون، فجاء جواب هذا التساؤل في هذه الآية

{بَل مَتَّعنَا هَؤُلاَءِ وَءَابَاءَهُم حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ}

 

اقتضت حكمة الله ومشيئته العليا أن يمتعهم كما متع آباءهم من قبل بأنواع النعم، أجلُّها الإطعام من جوع والأمن من خوف، حتى طال عليهم العمر في المتاع فقست قلوبهم، ونسوا حق المنعم، ولم يرهبوا لربهم إنذاره وعذابه يقول الله ـ تعالَى ـ: {أَفَلاَ يَرَوْنَ}، رؤية اعتبار {أَنَّا نَاتِي الاَرضَ نَنقُصُهَا مِنَ اَطرَافِهَا}، بأنواع من الزلازل والحروب والجدب وسائر أنواع الآفات؟ أفلا يخشون ربَّهم أن يصيبهم بما أصاب به القرى من البأس، أفهم الغالبون على أمرهم المعتصمون بقوتهم وعددهم؟ فما نسبة قُوَّتِهم وغَلَبتهم على ما حولهم من القرى والذِّينَ من قبلهم، ممن حلَّ بهم بأس الله فلم يستطيعوا له دفعًا ولن يجدوا لهم من دون الله أنصارًا؟

 

{قُلِ اِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالوَحْيِ وَلاَ يَسمَعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ}

 

قل يا مُحَمَّد لهؤلاء المكذبين: إنما أنذركم بالوحي من عند الله، وإن كنتم لا تعترفون به وتتعامون عنه وتتصاممون مستكبرين، ولكنه الوحي من عند الله رب العالمين، ولابدَّ لهذا الإنذار من أثر في قلوبهم؛ لأنهم يشعرون ويحسُّون في قرارات نفوسهم أن مُحَمَّدا صادق، فويل لهم من هذا الإنذار الذي يقرعهم من قبل الله

 

{وَلاَ يَسمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ}

 

يقول الله ـ تعالَى ـ فيهم إن هؤلاء في آذانهم وقر، فكيف يسمع الصم الدعاء إذا جاءهم النذر؟، وفي موضع آخر من القرآن يقول الله في حقِّهم: {ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولوَ اَسْمعهم لتوَلَّوا وهم معرضون} (الأنفال:23).

 

إنما الذِّينَ ينتفعون بالوحي، ويستمعون النذير هم المؤمنون الذِّينَ يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وقد يأتي وقت يزول فيه الصمم عن هؤلاء الكفار المعرضين، ولكن لا ينفعهم يومئذ إيمانهم واعترافهم

 

{وَلَئِن مَّسَّتْهُم نَفحَةٌ مِّن عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ ولئن مسَّ هؤلاء المستهزئين شيء قليلٌ خفيف من عذاب الله، لكان لهم شأن آخر مع الله ولاعترفوا بما جحدوا به اليوم ولقالوا: يا ويلنا قد كنا ظالمين بما كنا به مشركين، وهذا النداء منهم ندم واعتراف بخطئهم وخطاياهم، ولن ينفع يومئذ نفسًا إيمانها لَم تكن آمنت من قبل، وإنما هي منهم حسرات لا تنقطع.

 

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ القِسْطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظلَمُ نَفْسٌ شَيئًا وَإِن كَانَ مِثقَالُ حَبَّةٍ مِّن خَردَلٍ اَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}

يحدد الله بهذه الآية ميزان العدل يوم الفصل بين الخلائق؛ ليطمئن أولياءه ويخيف أعداءه، فأحرى بالعاقل أن يخاف من وسع علمه بأفعال العباد فلا يعزب عنه مثقال حبة من خردل، ووسعت قدرته الاتيان بها من خير أو شر، فلا يفلت منها شيء، ولو كان غاية في الدقة، يقول ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ القِسْطَ لِيَومِ القِيَامَةِ}

 

والموازين القسطُ هي الغاية في الضبط والعدل، فلا تظلم نفس شيئًا يزاد في سيئاتها أو ينقص من حسناتها، وقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده.

 

{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}

 

أي: وكفى بالله حاسبًا، فهو وحده العليم الخبير بأفعال العباد الحاسب للنقير والقطمير منها، لا يحتاج إلى أعوان أو مصحِّحِين، وكثيرًا ما يخطئ الناس في الحساب، فيحتاجون إلى أعوان يراجعون حساباتهم، وقد يخطئ هؤلاء أيضًا، لكن الله العليم الخبير بالأفعال والنوايا لا يخطئ في الحساب، ويحاسب الناس على كثرتهم، كما يرزقهم على كثرتهم لا يشغله شأن عن شأن، ولا يظلم الناس شيئًا، يقول جل من قائل: {ما يبدَّلُ القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} (ق:29)، إن يوم القيامة يوم عظيم {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لوَ اَنَّ بينها وبينه أمدًا بعيدًا} (آل عمران:30)، ذلك اليوم الحق توضع فيه الموازين القسط.

 

{وَلَقَدَ -اتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرقَانَ وَضِيَاءً وَذِكرًا لِلمُتَّقِينَ (48) الذِّينَ يَخْشَونَ رَبَّهُمْ بِالغَيبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكرٌ مُّبَارَكٌ اَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)}

 

بعد تأييد هذه الدعوة التامة بالأدلة النقلية والعقلية المقنعة، ثُمَّ بعد التخويف والإنذار بالأخبار الزاجرة، ينتقل الكلام إلى سرد أخبار طائفة من أنبياء الله للإعتبار وما هذه الدعوة إلاَّ امتداد لتلك الرسالات السالفة، فيقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَلَقَدَ -اتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَّذِكرًا لِلمُتَّقِينَ}

 

يؤكد الله الخبر بِمُؤكَّدَين؛ لأن الكفار منهم جاهل مكذب، ومنهم غافل متناس لأخبار الأولين، على أن أمة موسى أقرب الأمم وأمسُّها رحِمًا بقريش، وشريعتها أشبه الشرائع بشريعتنا فناسب أن يبدأ الكلام بها.

 

يقسم الله تعالى أنه آتى موسى وأخاه هارون الفرقان، وهو الكتاب الفارق بين الحق والباطل، ووصف الكتاب بالضياء؛ لأنه نور يهدي القلوب، ويخرج العقول من الظلمات كما يهدي الضياء الأبصار، فإنه النور الذي يهدي من اتبعه إلى صراط مستقيم، وهو ذكر للمتقين؛ لأن فيه الذكر والموعظة للمؤمنين المتقين لربهم {الذِّينَ يَخشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ}، أي يخافونه ويُوَقِّرُونه ولَم يروه، وإنما رأوا آياته التي دلتهم يقينًا على وجوده ووحدانيته، ودلتهم على سعة رحمته وعلمه وإحاطة قدرته بجميع مخلوقاته، فأحبُّوه وعبدوه في سرهم وعلانيتهم.

 

{وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشفِقُونَ}

 

والإشفاقُ: توقُّع شيء بِخَوفٍ واقع لا محالة، وإشفاقهم من الساعة خوفهم من أهوالها التي تحين عند قيامها، فهم يستعدون لها بما يستطيعونه من الإتيان بالمأمورات واجتناب المنهيات والمسارعة بالقربات، وكذلك كان الصالحون من بنِي إسرائيل، فجعلهم الله أئمة في الخير يقتدى بهم.

 

{وَهَذَا ذِكرٌ مُّبَارَكٌ -انْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُم لَهُ مُنكِرُونَ}

 

الإشارة إلى القرآن الذي نزل على مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ؛ لأن الكلام في حقه مستمر، ووصف بأنه ذكر؛ لأن الله أنزله هدى وذكرى للمؤمنين، والتعبير بالإنزال فيه إشعار بعلُوِّ مقامه، وأنه كلام رب العالمين أنزله كما أنزل التوراة والإنجيل وسائر الكتب والصحف المنزلة من عند الله.

 

أفأنتم يا معشر قريش لهذا الكتاب مُنكرون؟ الاستفهام للتوبيخ والتعجيب، أأنتم الذِّينَ أُنزِل بِلُغَتِكُم على رجل منكم تعرفون صِدقَه وتعرفون بلاغَة القرآن وحلاوته وإعجازه، أفأنتم تنكرونه؟ لو كان غيركم أنكره لَكُنتم أحرى أن تحاربوه، وهو الكتاب الذي فيه عِزُّكم وذكركم والذي جاء لإخراجكم من الظلمات إلى النور، وإنقاذكم من الهلاك؟ أفأنتم لهذا الكلام منكرون، وهو يأمركم بِمَعالي الأخلاق وينهاكم عن سفاسفها وسيئها؟ فماذا تنكرون من هذا الكلام الذي أعجزكم أن تأتوا بسُورَة من مثله؟ إنَّ أمركم حقًّا لعجيب، وإن موقفكم منه لَمُريب:

 

الأنبياء: الآيات ( 51 - 73 ) قصة إبراهيم عليه السلام

وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)

--------------------------

 

{وَلَقَدَ -اتَينَا إِبرَاهِيمَ رُشدَهُ مِن قَبلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}

 

يأتي الإضمار في الآية بنون العظمة وضمير الجمع الذي يراد به التعظيم، ويؤكد بـ: "لام القسم"، و"قدْ"، ولقد علمت قريش خبر أبيهم إبراهيم ورسالته، ولكنهم ينكرون نبوة مُحَمَّد ورسالته، ويسخرون منه ظلمًا وتطاولا عليه، فضرب الله في صدورهم بهذه الحقيقة التي لا يستطيعون ردَّها، ودعوة إبراهيم، إنما كانت مثل دعوة مُحَمَّد وسائر الرسل إلى توحيد الله وإنكار الطواغيت، وهذا هو الرشد الذي أتاه الله عبده إبراهيم، هداه الله بعد الضلال والتحير منذ نشأته الأولى، وهذا ما يدل عليه قوله: {مِن قَبْلُ} وكان به عليمًا، أي علم من صفات إبراهيم ما يجعله أهلا للرسالة والرشد، والله أعلم حيث يجعل رسالاتِه، واختصاصه بهذا العلم إشعار بأنه اختصه الله بالهداية والعناية دون غيره ليؤهله للدعوة إلى الله، والله يختص برحمته من يشاء، وهذا الأسلوب مألوف يجري به التعبير عند العقلاء عندما يريد الأمير أن يستعمل رجلا لمهمة خطيرة، يكون جوابُه حين يُسأل عن سبب اختياره: "أنا أعلم به"، وقد يخطئ علم البشر في بعضهم، ولكن علم الله محيط بكل شيء، ما خفي من مخلوقاته وما ظهر، فلا يخطئ أبدًا، والتعبير بـ: "نون العظمة"، مشعر بعظمة الخصال التي علمها الله في عبده إبراهيم، وهو الذي اختصَّه بها وقال فيه {إذا جاء ربه بقلب سليم} (الصافات:84)، كما قال فيه: {إن إبراهيم كان أمة} (النحل:120)، وقال فيه: {إني جاعلك للناس إمامًا} (البقرة:124).

 

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَد كُنتُمُ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالحَقِّ أَمَ اَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ الذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}

 

اذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه مُنكِرًا عليهم عبادة الأصنام:

 

{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنتُم لَهَا عَاكِفُونَ}

 

ألقى عليهم استفهام تعجُّب واستنكار لحالِهم، فيه تجاهل لهذه الأصنام التي سماها تماثيل؛ لأنهم نَحَتوها على مثال بني آدم وحيوانات وأشياء رمزوا بها لنجوم، إنكارًا منه عليهم العكوف عندها، والعكوفُ: هو طول الإقامة عندها، وقلوبهم عاكفة عندها حتى عند فراقهم لها فهي مليئة بِحبِّها وتعظيمها وعبادتها، يرجون نفعها ويخافون ضرها، سألهم ما قيمتها وما نفعها وما خطرها؟، وهو يعلم أنها لا تغني شيئًا فأجابوه.

 

{وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

 

أي نعبدها؛ لأنا وجدنا آباءنا الأولين يعبدونها، فنحن على آثارهم، نصنع كما صنعوا، وهذا جواب يدل على عجزهم وإفلاسهم من الجواب الصحيح؛ لأنهم يعلمون أنها لا تملك نفعًا ولا ضرًا فهي لا تخلق ولا ترزق، ولا تنزل المطر ولا تخرج النبات ولا تغني شيئًا، ولذلك التجئوا إلى حُجَّة المفلِس الضعيف، وهل يغنيهم أن آباءهم عبدُوها وهي أضعف من أن تجلب أو تدفع شيئًا، ولذا فإن إبراهيم ـ عليه السلام ـ أجابهم بجواب فيه تسفيه لعقولهم وعقول آبائهم الأولين.

 

{قَالَ لَقَدْ كُنتُمُ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}

 

نسبهم إلى الضلال المبين، أي الظاهر الصريح الذي لا لُبس فيه، ووصفهم بالجملة الاسمية لتمكُّنهم منه، وقال أنتم وآباؤكم، وما يغنيكم إذا ضل آباؤكم أن تتبعوهم في ضلالهم، فكلكم هلكى بما تعبدون.

 

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالحَقِّ أَمَ اَنتَ مِن اللاَّعِبِينَ}

 

قالوا لإبراهيم حين جابَهَهم بالحقيقة، وما كانوا يظنون أنه يجرؤ على ذلك ويصرح به، ويسفه أحلامهم وأحلام آبائهم، {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالحَقِّ أَمَ اَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} أي المازحين؛ لأن اللعب يكون باللسان أيضًا، وهذا السؤال منهم للتعجب الشديد من موقفه منهم، ولذا كان جوابه لهم بالإضراب وبيان الحق مدعَّمًا بالبرهان مشفوعًا بالشهادة.

 

{قَالَ بَل رَّبُّكُم رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ الذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}

 

قال بل ربكم الحق المعبود بحق هو رب السماوات والأرض، مالِكُهن وخالقهن ومن فيهن، وأنا على ما أقول من الحق شاهد، والشاهدُ: هو الذي ينطق بعلم وحُجَّة، وأنبياء الله هو الشاهدون على أممهم يوم القيامة، وهم الشاهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن الدين عند الله الإسلام.

 

{وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعدَ أَن تُوَلُّواْ مُدبِرِينَ}

 

انتقال من خليل الرحمن، من إنكار الباطل باللسان إلى إنكاره باليد، لكن بعد أن يُوَلُّوا مدبرين؛ لأنه حينئذ يتمكن مما يريد من الكيد لتلك التماثيل التي جعلوها أصنامًا، وعكفوا عليها يعبدونها من دون الله، أقسم بالله وأعلن لهم عن عزمه غير خائف ولا مبال من انتقامهم، وهذا غاية الجهاد، أقسم بـ: "التاء"، ولا تكون إلاَّ عند التعجب ومقرونة باسم الله، وأكد قَسَمه بنون التوكيد، في لهجة صارمة أن يكيد أصنامهم بعد أن يُولُّوا مدبرين، فبَرَّ خليلُ الله بِقَسَمه.

 

{فَجَعَلَهُم جُذَاذًا اِلاَّ كَبِيرًا لَّهُم لَعَلَّهُمُ إِلَيهِ يَرجِعُونَ}

 

فلما تولوا مدبرين إلى عيدهم، ولم يبق منهم أحد عمد إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى تلك الأصنام الكثيرة، وقيل: "إنها كانت سبعين صنمًا"، فكسرها تكسيرًا وجعلها قِطعًا إلاَّ كبيرًا لهم لعلهم إليه يرجعون، تكلَّم المفسرون في مرجع ضمير إليه، فقال بعضهم: "هو الصنم الكبير"، أي لعلهم يرجعون إلى كبير الأصنام ينسبون إليه هذا العمل، وهذا المعنَى ضعيف؛ لأنهم يعلمون أنها لا تتحرك ولا تنفع ولا تضر، والذي أراه ويراه المحققون من أهل التفسير: "أن مرجع الضمير هو إبراهيم ـ عليه السلام ـ"، أي لعلَّهم يرجعون إلى رأي إبراهيم وعقيدته السليمة؛ فيدركون أنها لا تستطيع الدفع عن نفسها فكيف تدفع عن غيرها؟

 

أما تركُه الكبيرَ فليكون موضع التبكيت والسخرية بعقولهم، ولعلَّهم بعد الحوار يفهمون الحق ويرجعون إليه، وهو الرجوع الذي يأمله إبراهيم منهم بعد هذا الحادث وقد وقع، لكن في لحظة خاطفة أبصروا فيها الحق، ثُم طغت عليهم أهواؤهم، فنكسوا على رؤوسهم كما سيأتي الكلام.

 

{قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ قَالُوا فَاتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُم يَشْهَدُونَ قَالُوا ءَآنتَ فَعَلتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبرَاهِيمُ قَالَ بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسْأَلُوهُمُ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِم فَقَالُوا إِنَّكُمُ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيئًا وَّلاَ يَضُرُّكُمُ أُفٍّ لَّكُم وَلِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعقِلُونَ}

 

رجعوا من عيدهم فوجدوا أصنامهم جذاذًا، فغضبوا لها وما كانوا يظنون أن أحدًا يتجرأ عليها، فتساءلوا متعجبين قالوا:

{مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}؟ قالوا مستفهمين: من هذا الذي تجرأ على آلهتنا، ففعل بها هذه الأفاعيل، إنه حقًا لمن الظالمين، حكموا عليه بالظلم وأكَّدوا حكمهم في غضب وانفعال، عندها قال الذِّينَ حضروا محاورة إبراهيم:

 

{سَمِعنَا فَتًى يَذكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ}

 

وصفوه أنه فتى لِصِغَر سِنِّه، قيل: "فعل هذا قبل النبوة وهو شاب"، وقيل: "بعد أن أصبح نَبِيًّا وهو في سن الأربعين، وهو فتى بالنسبة لكبار القوم أصحاب الستين والسبعين والثمانين"، والراجح أنه فعله بعد أن نبأه الله تعالى، أما قولهم: {يَذكُرُهُمْ} أي يذكر آلهتهم بسوء، وقد يكون سمعه أحدهم يتهددها بالكيد، ولما صرح القائل باسم هذا الفتى أنه يقال له إبراهيم، أي يسمى بهذا الاسم، أمروا بإحضاره.

 

{قَالُوا فَاتُوا بِهِ عَلَى أَعيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُم يَشهَدُونَ}

 

قال كبراء القوم وسادتهم المتحكمون: فأتوا به على مرأى من الناس ومشهد، وقولهم: {عَلَى أَعيُنِ النَّاسِ}، أي في مكان يتمَكَّنُ الناس من رؤيته، حتى لكأنه على أعينهم لعلهم يشهدون ما يقال له وما يقول، ويشهدون الحكم بما يستحقه في نظرهم من العقوبة، فيكون ذلك عبرة للمعتبرين، وزجرًا للناس حتى لا تحدثهم أنفسهم بالقيام بمثل عمله.

 

{قَالُوا ءَآنتَ فَعَلتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسْأَلُوهُمُ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}

 

قال القوم لإبراهيم في حرد وغيظ: {ءَآنتَ فَعَلتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبرَاهِيمُ}؟ أجاب إبراهيم ـ عليه السلام ـ في رباطة جأش: {بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمُ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}؛ ذلك لأنه علق الفأس على عاتق الصنم الكبير، فقال لهم هذا الكلام الذي فيه تبكيت لهم وسخرية بهم، وهو يعلم أنهم لا يصدقون كلامه، وفي جواب إبراهيم إياهم بهذا الكلام إحراج لهم واستدراج لهم للرجوع إلى الصواب، وما كان يقصد إلى الكذب، بل هو يعلم أنهم يدركون بهذا الجواب أنه الفاعل، ولو قصد إلى الكذب لقال ما فعلت، بل عمد إلى أسلوب حكيم فيه تأثير عجيب في نفوس القوم، فاسألوا هذه التماثيل إن كان في إمكانها أن تنطق فتجيب على الأقل، فتُخبِر بالذي حطمها وهي عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وما لهذا الكبير لَم يدافع عنها؟ أم غضب عليها فانتقم منها

.

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمُ أَنتُم الظَّالِمُونَ}

 

ومضت ومضة الحق مُشرقة في نفوس القوم، فأدركوا على ضوئها الحقيقة، وليتها دامت طويلا، لكنها سرعان ما انطفت تحت ركام الأهواء وتقليد الآباء، عندما رجع القوم إلى الفطرة التي ركزها الله في قرارات نفوسهم، فأدركوا الحق وعرفوه وصرحوا به فقال بعضهم: إِنَّكم أَنتم الظَّالِمُونَ في عبادتكم من لا تملك نفعًا ولا تستطيع دفعًا ولا تطيق نطقًا، وما ظَلَم هذا الفتى، فماذا ترجون عند من لا يسمع ولا يضر، ولا يغني شيئًا؟ ثم هو لا يخبر باسم الشخص الذي تجرأ عليها فجعلها جذاذًا.

 

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ}

 

انتكست عقولهم تحت تأثير التقليد الأعمى، وجاء التعبير بانتكاس الرؤوس، فكأن أجسامهم انتكسن فصار الرأس أسفل، والرِّجلاَن أعلى، وهذا تصويرٌ للمعنويِّ في صورة المحسوسِ، أسلوب من أساليب البديع يدرك حلاوته أهل البيان، وله تأثيره البليغ في نفوس السامعين، وقال القوم لإبراهيم:

 

{لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ}

 

أنت تعلم أن آلهتنا لا تنطق، فكيف تسخر بنا وتأمرنا بسؤالها، وهل يجيب الجماد؟

 

{قَالَ أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَالاَ يَنفَعُكُم شَيئًا وَلاَ يَضُرُّكُمُ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعقِلُونَ

}

قال سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ يخاطب قومه في لهجة المستعلي الجاد المعتَدِّ بجوابه؛ لأنه الحق:

 

{قَالَ أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَالاَ يَنفَعُكُم شَيئًا وَلاَ يَضُرُّكُم}

 

كيف تعبُدون من دون الله ربكم وخالقكم تماثيل جامدة لا تنفعكم شيئا ولا تضركم، وهي لا تدفع الضر عن نفسها، كما رأيتم، ولا تنفعكم أي نفع ولو قليل.

 

{أُفٍّ لَّكُم وَلِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ}

 

"أفٍّ": كلمة يقولها المتكلم إذا كان في منتهى الضجر والسأم والسخط على المخاطَب بها، تأفَّف إبراهيم ـ عليه السلام ـ من سخافة عقول قومه، ومن تلك المعبودات التي لا تغني شيئا.

 

{أَفَلاَ تَعقِلُونَ}

 

أين عقولكم؟! مالكم لا تبصرون بها الحق؟!، أعلنها كلمة صريحة حاجَّهم بها، وجاء بها النمرود وجنوده وكذلك يكون موقف الرجل المؤمن بربِّه المتوكل عليه، المعرض عن كل ما سواه، وليكن ما يكون من سخط قومه وانتقامهم، فقد فوَّض أمره إلى الله رب العالمين، ولَم يشُكَّ إبراهيم أن ربه سينصره عليهم ويتولاه بعنايته ومعيته، وقد ظن به الخير فكان عند ظنه، إيمان راسخ في قلب كبير وعقل مستنير ونفس مطمئنة، راضية بقضاء ربها متوكلة عليه واثقة بنصره، ذلك هو إبراهيم الذي قال ربه فيه: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا} (النحل:120)، وقال فيه: {سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين} (الصافات:109-110).

 

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمُ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَردًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلنَاهُمُ الاَخسَرِينَ}

 

عجزوا عن مقاومة إبراهيم في محاورته ولزمتهم الحجة، فالتجَؤُوا إلى استعمال القوة معه وكذلك يصنع المفلسون من الحجج، يعمدون إلى المكر اعتمادًا على قُوَّتِهم، وما علموا أن بأس الله أشد وأنكى.

 

{قَالُوا حَرِّقُوهُ}

 

والتَّحرِيقُ: أشد من الحرق على أن الحرق بالنار أشد أنواع العقوبات، أمر نَمرود ومن معه بتحريقه بالنار لِيَكون نكاية فيه وزجرًا لغيره، فجعلوا لذلك شهرًا كاملا لجمع أنواع الحطب التي تكون وقودًا للسعير الملتهب، وخصصوا لذلك مكانًا في حفرة من الأرض أوقدوا فيها لهبًا عظيمًا، تكاد الطير تحترق إذا مرت فوقه، وحملهم على ذلك الانتقام لآلهتهم التي يقدسونها

 

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمُ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}

 

أي: إن كنتم ناصريها حقًا، قال الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَردًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبرَاهِيمَ}

 

يَجيء القول من عند الله مقرونًا بنون العظمة؛ لأن المقام عظيم يظهر فيه نصر الله لعبده إبراهيم، وقد أمر الله النار أمرًا قدريًا أن تكون بردًا وسلامًا على إبراهيم، قال ابن عباس: "لو قال بردًا لآذته ببردها؛ لكنَّه قرن البرد بالسلام، كانت له كالبستان في الربيع ولَم تُصِب منه إلاَّ وثاقه"، ورُوِيَ أن الله امتحنه، فأرسل إليه عبده جبريل في طريقه بين المنجنيق والنار، فقال له: ألك حاجة؟ قال أمَّا إليك فلا، وأما إلى الله فَعِلمُه بحالي يكفي عن سؤالي"، وقيل: "لَمَّا رموه إلى النار، قال حسبي الله ونعم الوكيل، فأمر الله النار أن تكون عليه بردًا وسلامًا"، وما كان للنار أن تحرق إلاَّ بإذن ربها، وكذلك ينصر الله رسله والمؤمنين، ويتخذ ممن يشاء منهم شهداء، والله على ما يشاء قدير.

 

وللمتوسمين في هذا المقام وقفة تأمل واعتبار في المقابلة بين قول المشركين حين قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ}، وبين قول رب العالمين حين قال: {قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَردًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبرَاهِيمَ}، أي القولين أمضى وأقوم؟ لا شك أن قولَ الله رب العالمين هو الذي نفذ به القدر، أما قول الكفار فباء بالفشل والخسران، قال ـ تعالى ـ:

 

{وَأَرَادُوا بِهِ كَيدًا فَجَعَلنَاهُمُ الاَخسَرِينَ}

 

ما أعظم وقع هذا التذييل بهذه الآية، بعدما رأينا ما وقع، فقد باءت جهودهم بالخسار عليهم في الدنيا والآخرة، أما إبراهيم فقد كانت الأيام التي قضاءها في النار أفضل أيامه في الدنيا، فقد أرسل الله إليه ملكًا بثوب من حرير الجنة وفراش من فرشها، وقرن به الملك فكان يعبد الله ويصلي، ورزقه يأتيه من عند الله، والناس ينظرون ويتعجبون، حتى رُوِيَ أن نمرودًا قال له: "إن ربَّك الذي ردَّ عنك النار لعظيم فاعبده"، ولم يتعرض له بعد ذلك بأذى، وقيل إن نمرود تقرب إلى رب إبراهيم بذبح أربعة آلاف بقرة، غير أن إبراهيم قال له: "إن الله لا يقبل منك ما دُمت تُشرِك به"، ولكن النمرود لم يفارق دين قومه خوفًا على ملكه من الزوال، ولو آمن لصار إلى ملك عظيم لا يزول، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.

 

ثم إن إبراهيم لَمَّا خرج من النار هاجر أرض قومه هو وابن أخيه لوط الذي آمن به وزوجه سارة، هاجروا أرض العراق بإذن ربهم إلى أرض الشام التي بارك الله فيها بخصوبة التربة، وجودة الثمار ووفرتها كما بارك فيها بالنبوات.

 

{وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا اِلَى الاَرضِ التِي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ}

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ: {وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا} من العذاب الذي أصبنا به قومه من بعده، رُوِيَ: "أن الله أهلكهم بالبعوض وأبادهم به"، وهذا مكر من الله بهم فقد كانوا يعتدُّون بقوة ملكهم وصلابة أبدانهم، فأهلكهم الله بأضعف شيء فلم يستطيعوا له دفعًا، وساقت العناية الإلهية إبراهيم ومن معه إلى الأرض المباركة وهي أرض الشام، وقد استقر إبراهيم بعد في: "بيت المقدس"، كما استقر لوط في: "سدوم" وبينهما مسيرة يوم وليلة، وقد بارك الله تعالى في أرض الشام بخصوبة تربتها وجودة ثمارها، ورخاء العيش، ثم بارك فيها للعالمين بإرسال أكثر الرسل والأنبياء هداة البشر منها، ثم قال تعالى:

 

{وَوَهَبنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعقُوبَ نَافِلَةً وَّكُلاًّ جَعَلنَا صَالِحِينَ وَجَعَلنَاهُمُ أَيـمِّة يَهدُونَ بِأمرِنَا وَأَوحَيْنَا إِلَيهِمْ فِعلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}

 

سأل إبراهيم ربه أن يؤتيه ولدًا صالحًا قال: {رب هب لي من الصالحين} فاستجاب الله له فأعطاه إسماعيل الغلام الحليم، ثم إن الله أعطاه إسحاق نافلة من غير دعاء جزاء له على صدق بلائه في ذبح إسماعيل، ثم وهب له من إسحاق يعقوب نافلة أي زيادة، فقد أطال الله عمره حتى رأى يعقوب كهلاً صالِحًا، ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ}، أي: وكُلٌّ من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب {جَعَلنَا صَالِحِينَ} والوصف بالصلاح يشمل كلَّ خُلُق حسن يتصف به الرجل، وكان صلاحهم بجعل من الله، أي بتوفيق منه وحسن تأديب، ومن أعظم النعم على الرجل صلاح ذريته بعد صلاحه هو، ثم قال تعالى:

 

{وَجَعَلنَاهُمُ أَيـمَّةً يَّهدُونَ بِأَمرِنَا}

 

الإمامُ: كل من يُقتدَى به في الخير أو الشر، والمقصود هنا أن الله جعل من إبراهيم وذريته أئمة في الخير يهدون الناس الصراطَ المستقيمَ بأمر الله؛ لأن الله كلَّفهم بعد أن هداهم بدعوة الناس إلى الهدى، وهذا واجب الهداة الصالحين في كل زمان وهم الذِّينَ يؤثر كلامهم في الناس، من أراد الله به منهم خيرًا، أما من لم يكن في نفسه صالِحًا فكيف يصلح لإمامة الناس ودعوتهم إلى الصلاح؟ و"فاقد الشيء لا يعطيه"، والإمامة في الخير رتبة عظيمة يطمح لها المؤمن كما جاء في دعاء عباد الرحمن في خواتم سُورَة الفرقان {واجعلنا للمتقين إمامًا} (الفرقان:74)، ثم قال تعالى:

 

{وَأَوحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}

 

أوحى الله أن يفعلوا الخيرات، وفعل الخيرات يشمل جميع أنواع العبادات والطاعات، إلاَّ أنه خَصَّص الصلاة والزكاة بالذكر؛ لعظم مقامهما في الإسلام، فالصلاة عمود الدين وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فمن أقامها فقد أقام الدين، والزكاة برهان الإيمان فمن أتاها في وقتها لمن يستحقها طيبةً بها نفسُه، فقد أقام البرهان حقًّا أنه من الأبرار لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران:91)، وأوحى الله لنبيّه بهذا ليعلمنا أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة شُرعا في كل الشرائع التي نزلت من السماء، وجاء تخصيصهما بالذكر بعد فعل الخيرات؛ ليفيد أنه لا يقبل الله من عبد عملا من فعل الخيرات ما لم يقم الصلاة ويؤتي الزكاة، فهما من قواعد الإسلام العظمى، فمن أضاع الصلاة ومنع الزكاة فقد هدم بنيان الإسلام، وليس من الله في شيء، ثم قال تعالى:

 

{وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}

 

أي: وكانوا لنا لا لغيرنا عابدين، موحدين لنا لا يشركون بعبادتنا أحدًا، والعبادةُ: التوحيد والإتيان بالأوامر واجتناب النواهي، والإخلاص في ذلك لله ابتغاء ما عنده، وما عند الله خيرٌ وأبقى، وهذا الكلام من الله في وصفهم يراد به الاقتداء بهم {أولئك الذي هدى الله فبهداهمُ اقتَدِه} (الأنعام:90)، وفي قصة إبراهيم تثبيت لقلب النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ولمن معه من المؤمنين أن يصبروا على كيد الكافرين، فإن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلاَّ على الظالمين.

 

الأنبياء: الآيات ( 74 - 92 ) قصص الأنبياء

وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)

-------------------------

 

بعد عرض قصة إبراهيم مع قومه في إسهاب، يعرض الله خبر لوط ـ عليه السلام ـ في اختصار، وقد بسطت في سُور أخرى من القرآن، وكذلك يأتي بعد ذكر لوط نوح ـ عليه السلام ـ وما آل إليه أمره وأمر قومه، وفي ذلك عبرة لأولى الألباب، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَلُوطًا _اتَيْنَاهُ حُكمًا وَعِلمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القَرْيَةِ التِي كَانَت تَعمَلُ الخَبَائِثَ إِنَّهُم كَانُوا قَومَ سَوءٍ فَاسِقِينَ}

 

واذكر نبِيَّ الله لوطًا إنا آتيناه حكمًا وعلمًا، قيل: "الحُكم" هو النبوة، أعطاه الله النبوَّةَ والحِكمة والعلم والفهم السديد، والفقه في الدين وقد كان آمن بعمِّه إبراهيم قبل النبوة، وهاجر معه من أرض بابل إلاَّ أن هجرته كانت إلى "سدوم"، فأرسله الله إلى أهل هذه القرية يدعوهم إلى توحيد الله وينهاهم عن الفواحش، ولكن القومَ عَصَوه ولم يستمعوا له، ولَجُّوا في معاصيهم، ولقد أنذرهم بطشة الله فتماروا بالنذر، فأذاقهم الله من العذاب ما ترك منه آية للذين يخافون العذاب الأليم، أمطر الله عليهم مطرًا من حجارة من سجيل، فيها عذاب لهم وجعل أرضهم عاليها سافلها، وصاروا إلى عذاب الله يوم القيامة وبئس المصير، ونجى الله نبيّه لوطًا، أي جنَّبَه العذاب، لَم يمس منه بسوء هو والذِّينَ آمنوا معه وهم قليل، ونَجَّاه من القرية التي كان قومها يعملون الخبائث، يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ويأتون في ناديهم المنكر جهارًا، ويقطعون السبل لأجل الفاحشة، وقيل: "إن رجالهم اكتفوا بالرجال ونساءهم اكتفين بالنساء"، ولا شك أنهم مع شركهم بالله يعملون فواحش أخرى، فعاقبهم الله بعد إنذار لوط إياهم فلم يستمعوا له، بل راودوه عن ضيوفه الملائكة الذِّينَ جاءوا لإهلاكهم، فعصمهم الله منهم وطمس أبصارهم، فنجى الله لوطًا ومن معه من المؤمنين منهم ومن العذاب الذي أصابهم.

 

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَومَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}

 

أي أهل قبح وشر خارجين عن طاعة الله معتدين لحدوده، وقد قلبوا الأوضاع السليمة، فقلب الله عليهم أرضهم جعل عاليها سافلها والجزاء من جنس العمل، وأدخل الله عبده لوطًا ومن معه من المؤمنين في رحمته إنه من عباد الله الصالحين، وكذلك يرحم الله الصالحين من عباده.

 

{وَنُوحًا إِذ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهلَهُ مِنَ الكَربِ العَظِيمِ وَنَصَرنَاهُ مِنَ القَومِ الذِّينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُواْ قَومَ سَوءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمُ أَجْمَعِينَ}

 

القصة الرابعة من قصص الأنبياء في هذه السُورَة الكريمة هي قصة شيخ المرسلين سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ في قومه وكيف نصره الله منهم، ذكر الله القصة هنا بإيجاز له وقعُهُ البديع في النفوس، وقد بُسِطت في مواضع أخرى من كتاب الله، ولكل موضعه ومقامه ودلالته وتأثيره، وكذلك يصرف الله الآيات، وفي كل من قصص القرآن عبرة لأولى الألباب، وهنا يقول تعالى:

{وَنُوحًا اِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَربِ العَظِيمِ}

 

واذكر يا مُحَمَّد عبدَنا نوحًا حين نادانا داعيًا لنا، فاستجبنا له دعاءه، فنجيناه وأهله الذِّينَ آمنوا معه من الكرب العظيم، وهو الغرق والهلاك، لَم يذكر هنا صيغة النداء وقد ذكرت في مواضع أخرى من القرآن، مثل قوله تعالى في سُورَة الشعراء {رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحًا ونَجِّنِي ومن معي من المومنين} (الشعراء:117-118)، وكان هذا النداء بعد صبر ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، وبعد اجتهاد شيخ المرسلين في تبليغ رسالات الله ليلا ونهارًا، سرًا وعلانية، فجاءه نصر الله ونجاه من الكرب العظيم الذي كان يُلاقيه منهم كُلَّما دعاهم، ومن الكرب العظيم الذي أصابهم ولم يفلت من العذاب إلاَّ المؤمنون القلائل الذِّينَ أقلتهم سفينته، قال تعالى:

 

{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَومِ الذِّينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمُ أَجْمَعِينَ}

 

جاءت تعدية النصر هنا بِـ: "مِن"، والأصل أنها تكون بِـ: "عَلَى"، وذلك لتفيد معنى زائدًا، فقد ضمن معنى التنجية والإبعاد ومعناه: نصرناه عليهم حتى انقذناه وأبعدناه من القوم الذِّينَ كفروا وكذبوا بآياتنا، وكانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم حتى لا يسمعوا الآيات التي كان يتلوها عليهم نبِيُّ الله نوح، إنهم كما وصفهم الله:

 

{كَانُوا قَومَ سَوءٍ}

 

أي: شرٍّ ومنكرٍ فاسقين عن أمر الله، مكذِّبِين لرسله، فأهلكهم الله بالغرق العام ولم ينج منهم أحد، وغرقت معهم البهائم والوحوش، وكذلك شؤم الكفر وسائر الذنوب ينال الأرض وما عليها، ونعوذ بالله من مصير الظالمين، ونسأله أن ينصرنا من القوم المفسدين.

 

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنَّا لِحُكمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ _اتَيْنَا حُكْمًا وَعِلمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِيُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلَ اَنتُمْ شَاكِرُونَ}

 

القصة الخامسة من قصص الأنبياء: في قصة داود وابنه سليمان النبيَّيْن الرَّسُولَين من أنبياء بني إسرائيل، ذكر الله جانبًا مشرقًا من جوانب هذين الرسولين الكريمين، وهو جانب الحكم بين الناس بالعدل، ثُمَّ ذكر ما أيد الله به كلا منهما من الكرامات والمعجزات ما يقوي أمرهما.

 

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِم شَاهِدِينَ}

 

واذكر يا مُحَمَّد أخويك داود وسليمان حين حكما في الحرث قيل: إنه كان الحرث أشجار عنب نفشت فيه غنم القوم، والنفشُ: هو انتشار الغنم في حرث، ترعى في الليل ولا راعي لها أفسدت الحرث، فلما أصبح الصباح جاء صاحب الحرث إلى نبي الله داود ـ عليه السلام ـ يشتكي ما صنعت المواشي في حرثه، وبعد التثبت والفهم حكم النبي داود بالغنم لصاحب الحرث مقابل ما أفسدت فيه؛ لأنه قَوَّمَ الفسادَ وقَوَّمَ الغنم فوجدهما سواء، فحكم بها لصاحب العنب، وهو حكم عدل لا جور فيه، ولكن أصحاب الغنم مروا على سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ، فعرضوا عليه أمرهم، فظهر له ـ في القضية ـ رأي غير رأي أبيه، فقال لو كنت مكان أبي لحكمت بحكم آخر، فارتفع الأمر إلى داود فدعا الخصمين وسأل سليمان عن رأيه في القضية، فوجده صوابًا واستحسنه وحكم به، وهو أرفق بهما.

 

حكم سليمان أن تبقى الغنم تحت تصرف صاحب الحرث يستغلها حتى ينجبر الحرث ويؤتي ثمره، ويكون الحرث تحت مسؤولية صاحب الغنم يسقيه ويقوم عليه فإذا حضر نفعه وزال نقصه ردَّه إلى صاحبه، وهو حكم أعدل، فيه دقة الفهم؛ لأن فيه مقابلة الفروع بالفروع والمحافظة على الأصول، فما دام أصل الحرث باقيًا، وإنما فسدت الغلة، فليكن أصل الغنم باقيًا لصاحبه، ولتكن غلة الغنم لصاحب الحرث مقابل غلته الضائعة، حتى إذا صلح حرثه وحضرت غلته ردَّ الغنم على أصحابه، وهذا معنى قوله تعالى:

 

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ _اتَيْنَا حُكمًا وَعِلمًا}

 

فقد فتح الله لسليمان من الفهم ما لَم يكن عند داود، وفيه إشارة إلى أن العلم والفهم ليس وقفًا على الكبار دون الصغار، بل قد يتجاوز الصغار مبالغ الكبار، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وقوله تعالى:

 

{وَكُنَّا لِحُكْمِهِم شَاهِدِينَ}

 

أي حاضرين عالِمين، معنى ذلك أن حكمهما كان عدلا وصوابًا، ولم يكن ظلمًا وزورًا؛ لأن الله تعالى لا يشهد الزور، إنما كان حكمُ سليمان أقوم وأدق صوابًا؛ لأن فيه الرفق بالخصمين جميعًا من غير أن يضيع حق المظلوم منهما، ثم قال تعالى:

 

{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}

 

سخر الله الجبال تُردِّد التسبيح مع سيدنا داود ـ عليه السلام ـ وكذلك الطيرَ عندما يقرأ الإنجيل ويردد تسابيحه وأذكاره، تجتمع الطير حوله وفوقه أسرابًا تؤوِّب أي ترجِّع التسبيح والذكر معه، وليس ترديد الجبال هو ترجيع الصدى، بل هو ترديد إرادي، مثل ترديد الطير وفي ذلك كرامة لداود ـ عليه السلام ـ ومعجزة من الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ ولذلك قال:

 

{وَكُنَّا فَاعِلِينَ}

أي: كنا فاعلين لما نشاء ونريد فلا تسبعدوا الأمر ولا تشكوا فيه، فإن الله فعَّال لما يريد، على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء، ثم قال تعالى:

 

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنعَةَ لَبُوسٍ لَّكُم لِيُحصِنَكُم مِن بَأْسِكُم فَهَلَ اَنتُمْ شَاكِرُونَ}

 

أي: علمنا عبدنا داود صنعة لَبُوسِ الحرب؛ {لِيُحصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ}، أي من الضرب والطعن، وذلك بإتقان صُنعِهِ وتقدير سرد حلقات الدروع نعمةً من الله، أَلاَنَ الله له الحديد وعلمه هذه الصناعة ليقتات بصنعة يده، وأفضل ما أكل المرء ما كان من كسب يده، فهل أنتم يا آل داود شاكرون لله هذه النعمة العظمى التي حفظت أجسادكم من ضربات السيوف وطعنات الرماح؟ والاستفهام هنا يقصد به الأمر والإلزام، وفيه استنهاض الهمم للقيام بواجب الشكر، وأن ذلك من شأن العقلاء ذوي الأخلاق الحسنة.

 

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِي بِأَمرِهِ إِلَى الاَرضِ التِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَّغُوصُونَ لَهُ وَيَعمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُم حَافِظِينَ}

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَسَخَّرنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِي بِأَمْرِهِ}

 

رافعة بساطه إلى الأرض التي باركنا فيها، قال أهل العلم: "هي أرض الشام"، التي بارك الله فيها بخصوبة التربة وطيبِها ووفرة المياه وجودة الثمار، وهي مسكنه ومركز ملكه، وكان لسليمان، بساطٌ صنَعَته الجن ترفعه الريح تجري به عاصفة أو رخاء كما يريد سليمان، وكانت تقطع في غُدُوِّها مسيرة شهر وفي رواحها مثل ذلك، تسخيرًا من الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ لسليمان الذي آتاه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وكان يتفقد أقطار مملكته الواسعة في أسرع ما يمكن هو وجنوده وأعيان مملكته، وكان بساطًا عريضًا واسعًا تجري به الريح إلى حيث يريد.

قال الله تعالى:

 

{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيءٍ عَالِمِينَ}

 

وهذا التعقيب مثل قوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}

أي: وكنا بكل شيء من سَيْر الريح، ومقادير عصفها ورخاوتها، وما يقع في مملكة سليمان عالِمِين، وعلم الله محيط بكل شيء.

 

{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَّغُوصُونَ لَهُ وَيَعمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُم حَافِظِينَ}

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ وسخرنا لسليمان جنودًا من الشياطين، وهم كفرة الجن، سخَّرهم الله عز وجل لعبده سليمان، وجعلهم طوع أمره وإرادته، يستعملهم في شتى أنواع الأعمال، وجعل الله عليهم ملائكة رُقباء يحفظونهم لخدمة ملك سليمان وطاعته، ومن يزغ منهم من أمر الله يذقهم الله من عذاب أليم، يلهبه الملك بسوط من نار فيحرقه، ولذا فهم يعملون له ما يشاء من أعمال في البناء والنقل وصنع التماثيل، والغوص في البحار، يستخرجون منها اللآلئ والجواهر والمرجان، قال تعالى:

 

{وَكُنَّا لَهُم حَافِظِينَ}

 

أي: حافظين، فحَفظَهم لِخِدمة مُلك سليمان فيما يأمرهم به من أعمال، فهم لا يعصونه ولا يفلتون من سلطانه، ولا يفسدون ما عملوه، بل هم له مسخرون ليلا ونهارا، وقد لبثوا زمنًا، قيل: "عامًا كاملا"، يعملون في بناء بيت المقدس بعد وفاته، وما علموا موته ولو علموا ذلك، لانطلقوا من حينهم وتركوا العمل، ولكنهم بقوا يعملون وينصبون، وهذا كله من حفظ الله لهم، وما سلطان سليمان إلاَّ ظل من سلطان الله تعالى.

 

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُم رَحْمَةً مِّن عِندِنَا وَذِكرَى لِلعَابِدِينَ}

 

القصة السادسة من قصص الأنبياء في هذه السُورَة الكريمة: يذكرها الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ بعد قصة داود وسليمان، يعرض منها جانب الاعتبار؛ لتكون ذكرى للعابدين الصابرين، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَاذْكُر عَبْدَنَا أَيُّوبَ} (ص:41)، حين نادى ربه وتضرع إليه ودعاه يشكو إليه ما أصابه من ضر في نفسه وأهله وماله، ولم يبق له من اهله إلاَّ امرأته، أبقاها الله له لتخدمه صيانة له عن كشف حاله لغيرها من الناس، وكذلك يصون الله أنبياءه ويستر عليهم، ابتلى الله عبده سيدنا أيوب ـ عليه السلام ـ بأشد أنواع البلايا في نفسه وأهله وماله فصبر لبلاء الله، وكشفت محنة الله إياه عن عنصر طيب، ومعدن خالص وقلب منيب، ونفس مطمئنة صابرة لبلاء الله راضية بقضائه غير ساخطة ولا جازعة، فكان سيدنا أيوب ـ عليه السلام ـ إمامًا للصابرين، وقد صبر في البلاء، قيل: "مدة ثماني عشرة سنة"، وعن قتادة: "ثلاث عشرة"، أصابه الله في ماله فذهب كلُّه، وكان ذا مال كثير وثروة متنوعة من حرث وأنعام وجنات، وأصابه في أهله وكان له أولاد كثيرون، قيل: "عشرون ولدًا"، فانهدم عليهم البنيان فماتوا كلهم، وأصابه بالمرض في بدنه فلازمه حتى بقي في بلائه معزلا عن الناس وحيدًا، جفاه كل الناس حتى أصدقاؤه ولَم يبق أحد يتردد عليه إلاَّ المرأة المؤمنة المخلصة "رحْمة" ـ عليها السلام ـ، وقد ابتلاه الله بهذه الأنواع من البلايا؛ ليرغم به الشيطان وليجعله مثلا أعلى يقيم به الحجة على المبتلين، فمن اقتدى به في الصبر فاز بالثواب، ومن لَم يصبر فلا عذر له.

 

ورُوِيَ أن الله أقام الحجة بأربعة من عباده الأنبياء على أربعة أصناف من الناس، أقام الحجة بسيدنا سليمان على الأغنياء ليشكروا كما شكر، وأقام الحجة على المبتلين بسيدنا أيوب ليصبروا كما صبر، وأقام الحجة على الفقراء بسيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ ليصبروا على الفقر، ويحسنوا التوكل على الله، وأقام الحجة على الموالي بسيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ ليحسنوا عبادة ربهم وخدمة مواليهم.

 

ثم إن الله كشف ما بعبده أيوب من ضر ففجَّر له عينًا فاغتسل بها فزال ما به من ضر، وفجَّر له عينًا أخرى فشرب منها فرد الله عليه صحته وجماله، ثم إن الله ردَّ عليه أولاده ورزقه من أهله مثلهم قيل: "كان له عشرون ولدًا فزاده الله مثلهم"، وتلك عاقبة الصبر والإيمان وحسن الرضا بقضاء الله والتوكل على الله، وللآخرة خير وأبقى، وقد أثنَى الله على عبده أيوب بثلاثة نعوت من الثناء الحسن فقال فيه: {إنا وجدناه صابرًا نِعمَ العبدُ إنه أواب} (ص:44)، ثم إن الله بعد أن أخبرنا بخبر أيوب وما آل إليه من الفرج، أخبرنا بسبب ذلك وعلته وغايته ومغزاه فقال:

 

{رَحْمَةً مِّن عِندِنَا وَذِكرَى لِلعَابِدِينَ}

 

أي: كان ذلك لطفًا منا به ورحمة من عندنا، ومن تغمدته رحمة الله صار إلى أحسن العواقب في الدنيا وفي الآخرة، وفي ابتلاء أيوب وصبره وكشف الله البلاء عنه ذكرى للعابدين من عباد الله الذِّينَ امتحن الله قلوبهم للتقوى، وقد جعل الله تعالى في قصص أنبيائه ورسله عبرة لأولى الألباب

.

{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكِفلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُم فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِنَ الصَّالِحِينَ}

 

ثلاثة أنبياء من أنبياء الله يذكرهم الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين بإيجاز تقتضيه الحكمة الربانية، ويراد بذلك الاقتداء والاعتبار ويثني عليهم ربهم بأنهم من الصالحين، وهي أعظم شهادة من الله لهم ولمن سلك طريقهم من المؤمنين، والله يزكي من يشاء وهو العليم الحكيم، واذكر لقومك إسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، أي كل هؤلاء من الصابرين، إسماعيل بن إبراهيم وهاجر، وإدريس بن شيت، وذو الكفل، قيل: هو إلياس، وقيل زَكَرِيَّاء، وقيل يوشع بن نون سماه الله ذا الكفل؛ لأن الله تعالى جعل له كفلا من رحْمته زيادة، فهو المجدود على الحقيقة وذلك جزاء صبره، والله يعلم مقادير الأعمال، وهو الذي يجزي كلا بما يستحق ويضاعف لمن يشاء، وقيل إن ذا الكفلَ: هو الذي تعهَّد لليسع وتكفَّل له أن يخلفه على بني إسرائيل، وذلك أن اليسع لما كبر وأراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال: "من يتكفل لي بثلاث استخلفه، أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب"، فلم يتكفل له بذلك إلاَّ شاب اسمه: "عوبديا"، وإنه ثبت على ما تكفل به فكان من أفضل الصابرين، فصبر إسماعيل على الذبح، وصبر إدريس على الجد والكد والأسفار في طلب العلم والحكمة، وله في ذلك أخبار عجيبة، وصبر ذو الكفل على الوفاء بما تكفل به، فأثنى الله على الثلاثة بالصبر وأدخلهم في رحمته، وشهد أنهم من الصالحين، وجعلهم أئمة يقتدى بهم، وقيل إن ذا الكفل لَم يكن نبيًّا.

 

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّنْ نَّقْدِرَ عَلَيهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّينَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُومِنِينَ}

 

ذكر الله في هاتين الآيتين قصة سيدنا يونس بن متَّى ـ عليه السلام ـ موجزة، كما تقتضي حكمته أن يطوي قصص بعض أنبيائه في آيات من كتابه ويبسطها في أخرى، وقد يذكر في موضع ما لَم يذكره في موضع آخر، وباستقراء تلك المواضع تكتمل الصورة التي أراد الله تعالى إظهارها وهنا يقول: واذكر يا مُحَمَّد ذا النون حين ذهب مغاضبًا لقومه {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقدِرَ عَلَيهِ}، أي ظن أن لن نضيق عليه وهو من القدر لا من القدرة، وذو النون هو يونس لقبه الله بهذا اللقب لشأنه مع الحوت الذي يسمى النون كما سماه صاحب الحوت في موضع آخر، وذلك أن نبِي الله يونس غضب من قومه حين دعاهم ودعاهم، فلم يستجيبوا له، وأنذرهم عذاب الله فتماروا بالنذر فهرب وتركهم قبل أن يأذن الله له، فصار بذلك آبقًا ومُليمًا، أي فاعلا ما يلام به، فابتلاه الله بالتقام الحوت إياه، فلما صار في بطن الحوت علِمَ أن ذلك عقوبة من الله له على تسرعه في الهروب من قومه، فنادى في الظلمات ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، نادى متضرعًا إلى ربِّه

 

{أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}

 

اعترف لربه أنه ظلم نفسه، فأصبح من جملة الظالمين وقدم بين يدي ندائه كلمة التوحيد، وهي أفضل ما قاله النبيون من قبله ومن بعده، وذلك هو التوسُّل الذي ينبغي أن يتوسل به المتوسلون، سبح الله: أي نزهَّه عن الظلم، فسمعت نداءه الملائكة فشفعت له عند الله فقبل الله شفاعتهم فيه؛ لأنه عرف الله في الرخاء فعرفه في الشدة، لقد كان تسبيحه مألوفًا عند ملائكة الله، فضجت له بالدعاء إلى الله تقول: "اللهم إن هذا صوت معلوم من مكان مجهول، اللهم ارحم عبدك يونس"، سمع الله تسبيحه ودعاءه ففرج عنه، قال تعالى

:

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُومِنِينَ}

 

هكذا بنون العظمة يقول الله العظيم الجليل الحليم فاستجبنا لعبدنا يونس، ونجيناه مما كان فيه من الغم في البطن الحوت، فنبذه الحوت بأمر الله ربِّه في العراء، وأنبت الله عليه شجرا من يقطين: وهو شجر القرع اللين الأوراق، جعل الله منها فراشه وغطاءه يُظِلُّه من الشمس؛ لأن جلده كان قد تهرى من حرارة بطن الحوت الذي مكث فيه أياما، قال تعالى:

 

{وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُومِنِينَ }

 

الذِّينَ يسبِّحُوننا في الرخاء، ويتوسلون إلينا بالعمل الصالح التضرع بالدعاء، فهذه كرامة من الله ليونس وبشارة للمؤمنين جميعا أن ربَّهم حفيٌّ بهم، سميع لندائهم يفرج عنهم وينجيهم من الغم، فما على المغموم منهم إلا أن يسبح الله ويعترف بذنوبه، ويخلص الله في الدعاء موقنا بالإجابة، والله يحب أن يسمع تضرع عبده وشكواه، وهو عند ظن عبده المؤمن فليظن به ما شاء من خير.

 

{وَزَكَرِيَّاءَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيرُ الوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}

 

تأتي قصة زَكَرِيَّاء مطوية في آيتين كالتي قبلها، ويذكر الله جانبًا واحدًا، وهو تضرع زَكَرِيَّاء لربِّه حين طلب الولد الصالح، واستجابة الله له وعلَّة تلك الاستجابة، وهي صلاح زَكَرِيَّاء وأهله، وحسن عبادتهم لربهم وخشوعهم له، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَاذْكُر عَبْدَنَا زَكَرِيَّاء حِينَ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا}

 

أي: لا تتركني فردًا وحيدًا وأنت خير الوارثين، أي وأنت خير الباقين، لك البقاء وحدك ولك ميراث السماوات والأرض، قال: يا ربِّ لا تذرني فردًا وحيدًا، وهبْ لِي من لدنك وَلِيًّا يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله رب رضيًا ترضى أخلاقه وسجاياه، ولم يقصد زَكَرِيَّاء بالميراث ميراث المال؛ لأن الأنبياء لا يورثون، ولا يهتمون بالمال ومن يرثه؛ لكنَّه يقصد ميراث النبُوَّة والحكمة والقيام بالتوراة وعلى أمور بيت المقدس وقد خاف عليها من الضياع، فطلب من الله ولدًا صالِحًا فاستجاب الله نداءه، ووهب له يحيَى النبي الصالح السيد الحصور البَرُّ التقي الرضي، وأصلح الله لزَكَرِيَّاء زوجه العاقر العجوز فجعلها تحمل وتلد بإذن الله.

 

ورُوِيَ عن ابن عباس: أن عُمُر زَكَرِيَّاء يومئذ كان مائة سنة، وعُمُر زوجه تسعًا وتسعين، فتحققت فيها معجزة الله، فرزق منها ولدًا سماه الله يَحيَى لَم يُجعل له من قبل سميا، فكان خير خلف لخير سلف، قام بالأمر بعد أبيه أحسن قيام، قال الله تعالى:

 

{إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}

 

أي: إن كلا من زَكَرِيَّاء وأهله وولده، وقيل إن كلا من المذكورين في هذه السُورَة من الأنبياء كانوا يسارعون في فعل الخيرات، ويدعون ربهم رغبة في رضاه ورحمته، ورهبة من سخطه ونقمته وعذابه، وكانوا لله خاشعين متذللين مُخبِتِين، وفي ذكر هذه ألأوصاف إيذان بأنها هي العلة التي استجاب الله بها لزَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ، فهي عبرة لأولى الألباب حتى يتمسكوا بها ويقتدوا بالصالحين من عباد الله، إن رغبوا أن تكون دعواتهم مستجابة وعملهم مقبولا.

 

{وَالتِي أَحصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِلعَالَمِينَ}

 

بعد قصة زَكَرِيَّاء العجيبة التي فيها خلق الولد من شيخ وعجوز عاقر، تأتي قصة مريم العذراء البتول التي فيها ما هو أعجب، وهو أن امرأة تلد ولدًا من غير أب، وفيها امتحان لِمريَم ـ عليها السلام ـ، وكذلك يبتلي الله من يشاء من عباده؛ ليرفعهم عنده درجات بصبرهم على البلاء، وفي هذه الآية يطوي الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ قصة التي أحصنت فرجها من غير ذكر اسمها، وقد ذكر في مواضع أخرى، حيث ذكرت القصة مفصلة في سُورَة "مريَم"، وفي سُورَة "آل عمران"، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ واذكر خبر التي أحصنت فرجها من الفاحشة ومن الحلال، فبعث الله لها جبريل ـ عليه السلام ـ فنفخ في جيب قميصها، والقصة معروفة كما هو مذكور في سُورَة "مريَم" فحملت وولدت عيسى ـ عليه السلام ـ فجعل الله منها ومن ولدها آية للعالمين؛ ليعلم الناس أن الله قادر على أن يُغيِّر سنَّته في خلقه، وأن إرادته إذا تعلَّقت بأمر فإنه يكون، وأن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثُم قال له كن فيكون، وقد انتشر خبر مريم وابنها في العالمين كما أراد الله، وضلَّ من النصارى من يزعم أن المسيح ابن الله، وما من إله إلاَّ إله واحد سبحانه وتعالى عما يشركون.

 

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَا رَبُّكُم فُاعْبُدُونِ}

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ إن هذه أمتكم أمة واحدة دينها واحد وهو الإسلام وأنا ربكم أيها الناس فاعبدوني، أي فأطيعوني ووحدوني ولا تشركوا بي شيئًا، تلك هي الأمة التي أرسل الله الرسل لتكوينها، أمةٌ واحدةٌ لا تختلف في دينها، وإن اختلفت شرائعها ما بين رسول ورسول، فقد رُوِيَ عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أنه قال: "نَحن معاشر الأنبياء أبناء عِلاَّت، أبونا واحد وأمهاتنا شتى، أبونا الإسلام وأمهاتنا شرائعنا"، واختلاف الشرائع لا يُفرِّق هذه الأمة الواحدة ما دام دينها الإسلام، وما دام التشريع من الله الواحد القهار، وهو ربنا إياه نعبد وإياه نستعين، وهذه الجملة خلاصة لما سبق من ذكر سبعة عشر نَبِيًّا، وذكر مريم العذراء البتول، وكل أنبياء الله ورسله من عرفناه منهم ومن لم نعرف أمرهم الله بهذا الأمر، وهو الأمر الذي جاء لتحقيقه خاتم النبيين، وإمام المرسلين مُحَمَّد بن عبد الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وعليهم أجمعين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

الآيات ( 93 - 104 )

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)

---------------------------------

 

في الآية التفات، وذلك أنه بعد خطاب الله الناس جميعًا أن يعبدوا الله وحده ويكونوا أمة واحدة ولا يتفرقوا؛ لأن دينهم واحد، وربهم واحد، يتحول الأسلوب إلى الغياب فيخبر الله تعالى نبيّه فيقول:

 

{وَتَقَطَّعُوا أَمرَهُمْ بَيْنَهُم كُلٌّ اِلَيْنَا رَاجِعُونَ}

 

هؤلاء الناس الذِّينَ أُمِروا أن يكونوا أمة واحدة لَم يمتثلوا أمرهم، بل تقطعوا دينهم فِرقًا وأحزابًا وتمزقوا شيعًا، فمن موحد ومن يهودي ونصراني، وصابئ ومجوسي ووثني، ثُم إن كل هؤلاء تقطعوا شيعًا وأحزابًا، والله أعلم بهم وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وقال تعالى:

 

{كُلٌّ اِلَيْنَا رَاجِعُونَ}

 

أي: كل من هؤلاء المتقطعين إلينا يوم القيامة يرجعون فنحكم بينهم.

 

{فَمَن يَّعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيَهِ وَإنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}

 

يقول الله تعالى: {فَمَن يَّعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} من امتثال الأوامر واجتناب النواهي وفعل الخيرات، وهو مؤمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، {فَلاَ كُفرَانَ}، أي لا نُكران ولا بطلان لسعيه وعمله، وإنا له كاتبون، لكل منهم كتاب تُدَوَّن فيه أعماله فلا يبخس منها شيئًا، والله يُحصي عليهم أعمالهم ويكتبها لهم، يقول الله هذا؛ لأن الناس يطمئنون إلى الكتابة، وإلاَّ فعلم الله محيط بكل صغيرة وكبيرة، لا يضل ولا ينسى، ولكن ليُطمئِن عباده جعل لهم ملائكة كرامًا حافظين يكتبون لهم أعمالهم، ويقرن الله في هذه الآية وفي كثير من آيات القرآن العمل الصالح بالإيمان، فإنه لا ينفع عمل بدون إيمان، كما أنه لا ينفع إيمان القلب بدون عمل الجوارح، فالإيمان الحقيقي، النافع يوم القيامة، فهو الإيمان الذي يثمر العمل الصالح الذي هو عبادة الله بما شرع، ومن قال الإيمان قول بلا عمل، فقد ضل ضلالا بعيدًا، وأسند الله النفي إلى المصدر الذي هو الكفران؛ ليكون أبلغ في النفي وفيه تنزيه الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ أن ينسب إليه الكفر ولو بطريقة النفي، وهذا المعنى مثل قوله تعالى: {ومنَ اَراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مُومن فأولئك كان سعيُهم مشكورًا} (الإسراء:19)، وقوله: {وكان الله شاكرًا عليمًا} (النساء:146)، إن الله يضاعف الحسنات ولا يظلم بزيادة السيئات، وقال ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ اَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرجِعُونَ}

 

اضطرب المفسِّرون في هذه الآية، وفسَّر بعضهم الرجوع إلى الدنيا، وجعلوا: "لا" زائدة، والذي يتضح من معناها ولا لُبس فيه: أن الرجوع هو البعث يوم القيامة للحساب، والرجوع إلى الله كما جاء في قوله تعالى: {كل اِلَينا راجعون}.

يقول الله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ}، أي مُمتَنِع على كل قرية أهلكها الله عدم الرجوع إليه للحساب، ولابدَّ لكل قرية مسَّها الهلاك في الدنيا أن تبعث يوم القيامة، وترجع إلى الله لتنال جزاءها، وهذا مناسب بعد ذكر جزاء المحسنين المؤمنين أن يذكر جزاء الكافرين، كلٌّ ينال جزاءه الأوفى عند الله، ولا يشُكُّ أحد في البعث والرجوع إلى الله، وفي ذكر الآية عود على بدء، فقد ذكر في أوائل هذه السُورَة إهلاك الله للقرى الظالِمة، وإنشاء الله بعدهم قومًا آخرين، وذكر هنا أن الله سيبعثهم، وأنهم إليه يرجعون فيجزيهم بما كانوا يعملون، وفي هذا إنذار للكافرين المكذبين من قوم النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ والذِّينَ من بعدهم حتى تقوم الساعة.

 

ثُمَّ يُخبرنا الله باقتراب الساعة وبعض أشراطها الكبرى كما فتحت السُورَة بذكر اقتراب الحساب وغفلة الناس عنه وإعراضهم، قال تعالى:

 

{حَتَّى إِذَا فُتِّحَتْ يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ ابْصَارُ الذِّينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}

 

بُدئت الآية بحرف الغاية "حتَّى"، ولم يذكر قبلها الْمُغَيَّا، والذي يتأمل السُورَة من أولها يفهم هذه الغاية جليًا، وذلك أن الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ ذكر من قصص الأنبياء وأممهم في حلقات متعاقبة، ولا يزالون مخالفين لأنبيائهم متقطعين أمرهم بينهم، ولا يزال هذا شأنهم حتى تأتي أشراط الساعة فتزعجهم، ويقترب الوعد الحق فيكون من أمرهم ما قصه الله علينا، قال تعالى:

 

{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}يأجوج ومأجوج: هما قبيلتان عظيمتان كثيرٌ عددهما، وهم كما ذكر الله تعالى في سُورَة "الكَهف" يفسدون في الأرض ولا يُصلِحون، وتقدم خبَرهم وكيف جعل ذو القرنين بينهم وبين مُجاوِرِيهم ردمًا من حديد ونحاس، وقال لهم بعد تمام العمل: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكًّا وكان وعد ربي حقًّا} (الكَهف:98)، فإذا اقترب الوعد الحق يدُكُّ اللهُ السَّدَّ دكًّا، فينفتح الطريق بين الصدفين، وأسند الفتح هنا إلى يأجوج ومأجوج، فكأنهم هم الذِّينَ فتحوا، لكثرتهم ونسولهم من كل حدب وصوب، قال تعالى:

 

{وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}

 

الحدب كلُّ ما ارتفع من الأرض من جدد وهضاب وشعاب، فهم ينحدرون منها كالسيول المتدفقة، أو كالجراد المنتشر على الناس، فيمُوج بعضهم في بعض، وتكون فتن وحروب وهرج ومرج، وحينئذ يكون الوعد الحق، وهو قيام الساعة قد اقترب، وروى أن سدَّ يأجوج ومأجوج إذا دُكَّ فالساعة كالمرأة الحامل التي اقترب وضعها، لا يدري متى تصبح أو تُمسي، قال ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ اَبْصَارُ الذِّينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}واقتربت الساعة التي هي الوعد الحق لا ريب فيه، فإذا هي شاخصة أبصار الذِّينَ كفروا، جاءت هنا "إذا"، الفجائية، وهي تدل على حدوث أمور عظام، وأهوال لم تكن بالحسبان تشخص لها أبصار الناس يومئذ، ولا يبقى يومئذ إلاَّ الكفار.

 

وقد جاء في الأثر أن الساعة لا تقوم إلاَّ على دين أبي جهل، والشُّخُوص: هو انفتاح الأبصار، إلى خطر مهول مخوف تنظر إليه بحدة ولا تطرف، وقد أذهلتها الأهوال عن النظر العادي، وقد أسند الشخُوصُ إلى الكفار الذِّينَ كانوا يستهزئون ويستعجلون الأمر ويشككون فيه، حتى إذا جاء وعد الله فإذا أبصارهم شاخصة وأفئدتهم هواء وألسنتهم تصرخ وتنادي:

 

{يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفلَةٍ مِّن هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}

 

جاء النداء في الآية غير مسند إلى عامله؛ لأن الأمر فيه دهشة واستعجال فلم يبق وقت لذكره والمشهد عظيم حقًّا، كأن تالي الآية يشهد ويسمع الأصوات المنكرة التي فيها الحسرات والاعترافات، قد كنا في غفلة من هذا الأمر وقد أنذرَتْنَا الأنبياء والرسل، ولكن كنا مكذبين غافلين وما ظَلَمَنا الله بل كنا نحن الظالمين حين تمارينا بالنذر، فهم يعترفون ولكن لا ينفعهم الاعتراف، وقد فات الأوان وقُُضي الأمر، فمن كان معتبرًا فليعتبر اليوم قبل أن يأتي أمر الله، {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن ءَامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} (الأنعام:158)، نعم لقد كانوا ظالمين بما كذبوا رسل الله، وكذبوا بالساعة واقترفوا الشرك وعظائم الأمور، ولا يزال عرض المشهد مستمرًّا فلنستمع لجواب الله لهم.

 

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}

 

يقال لهؤلاء الكفار الذِّينَ اعترفوا بظلمهم حينما اقترب الوعد الحق: إنكم أيها المشركون المكذبون أنتم وما تعبدون من دُون الله من الأوثان والشفعاء حصب جهنم، أي وقودُها الذي يحصب فيها ويرمى، أنتم وما اتخذتم من دون الله آلهة واردون، أي داخلون، فلا شك أن غمَّهم يزداد عندما يرون معبوداتهم في جهنم تصلاها معهم، وتزيدهم ضيقًا وعذابًا، وقد كانوا يظنون أنها تشفع لهم وتنفعهم، فإذا بها تحصب معهم في جهنم، وفي ذلك من الخزي والعذاب ما فيه، فالآية ذكرت النوعين من العذاب الجثماني والنفساني ثم قال ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ ءَالِهَةٌ مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَّهُم فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}

 

في الأسلوب التفات، ففي هذه الآية يأتي الكلام بصيغة الغياب بعدما كان قبلها بصيغة الخطاب، يريد الله عز وجلَّ أن يخزي هؤلاء المشركين، ويزيد في تعذيبهم بإدخال آلهتهم معهم في النار، وهي حجارة لا تحس بالعذاب، لكن ورودها في جهنم يزيد في عذاب عابديها، ولو كان هؤلاء الأصنام آلهة كما زعمتم ما وردوها، وكلٌّ من الأصنام وعابديها واردوها وهم فيها خالدون، ثم قال تعالى:

 

{لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَّهُم فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}

 

أي لهؤلاء الكفار زفير في العذاب، يخرج من أجوافهم لشدة اغتمامهم وحزنهم وحسراتهم، ولا يعلم إلاَّ الله مبلغ ما يلتهب في أجوافهم من حرِّ الندم والحسرات، وهذا ما يدل عليه التعبير بالزفير، {وَهُم فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} أصمَّهم الله كما تصامَموا في الدنيا عن سماع الحق، وهم في النار عُميٌ كما كانوا في الدنيا عمين عن رؤيته، وقد جزاهم الله جزاءً وفاقًا، والجزاء يكون من جنس العمل، والعذاب يشتد إذا كان المعذَّب لا يرى من أين يأتيه العذاب ولا يسمع، وقد يرد الله إليهم السمع في فترة المحاورة، أو عند نداء أهل الجنة إياهم، وعند جواب خَزَنَة جهنَّم لَهم ليسمعوا ما يزيدهم خزيًا وإبلاسًا وعذابًا، ثم يرجعون إلى حالتهم، ونعوذ بالله من مصير أهل الشقاء.

 

{إِنَّ الذِّينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنهَا مُبعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُم فِيمَا اشْتَهَتَ اَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الاَكبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَومُكُمُ الذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}

 

بعد عرض مصير أهل الشقاوة، يأتي الكلام على أهل السعادة على طريقة القرآن، يزاوج الوعد والوعيد ليكون ذلك أوقع في نفوس السامعين وأبلغ في موعظتهم، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{إِنَّ الذِّينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبعَدُونَ}

 

الضمير في "عنها"، لِجهنم، أي إن الذِّينَ سبقت لهم من ربهم الكلمة الحسنى أنهم السعداء، أولئك مبعدون عن النار لا يصلونها ولا يسمعون حَسَّها وزفيرها، وقوله تعالى: {سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} فيه أن بداية الأمور من الله فهم موفقون لِما قدَّر الله لهم من البر والإحسان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وعلى الإنسان أن يعمل ولا يغتَرَّ، فكلٌّ مُيَسَّر لِما خُلِق له، كما جاء في الحديث الشريف، وقوله تعالى

:

{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبعَدُونَ}

 

فيه أن الله هو الذي يُبعدهم عن نَار جهَنَّم وحرِّها بتوفيقهم إلى التوبة في الدنيا، حتى يكون ذلك سببًا في إبعادهم عنها يوم القيامة، وفي هذه الآية رَدٌّ على الذِّينَ طعنوا في المسيح ابن مريم وأمِّه ـ عليهما السلام ـ بعد نزول قوله ـ تَبَارك وتعالَى ـ: {إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنَّم}، قالوا: فالمسيح ابن مريم وأمُّه عُبدا من دون الله، وكثير من الصالحين فهم إذن في النار، فرَدَّ الله عليهم بهذه الآية، وقطع شبهاتهم بهذه الآية الكريمة، فهي رَدٌّ مُحكم في صدور المشككين الذِّينَ يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما ذنب من عَبَدَه الناسُ وهو يُنكِر هذا منهم ولا يرضاه، أو عبدوه بعد موته، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ثم قال تعالى:

 

{وَهُم فِيمَا اشْتَهَتَ اَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}

 

أي وهؤلاء السعداء خالدون في النعيم في الذي تشتهيه أنفسهم في الجنة، لَهم فيها ما يدَّعون، وهنا لَم يقل خالدون في الجنة، بل قال فيما اشتهت أنفسهم، وفي هذا ما فيه من تضخيم نعيمهم وتَمتُّعهم به، جزاء على ما صبروا في الدنيا على طاعة ربهم، ونهي أنفسهم عن شهواتها من أجل الله.

 

{لاَ يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الاَكْبَرُ}

 

والفزع الأكبر: هو الموتُ هو هاذم اللذات، فقد أمَّنَهم الله منه حين يقال لهم: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت أبدًا، كما يقال لأهل النار خلود فلا موت أبدًا، حينئذ يَعظُم النعيم لأهل النعيم كما يَعظُم العذاب على أهل الشقاء والعياذ بالله، وقيل: الفزع الأكبر: هو فزع يوم الحشر، فهم لا يفزعون؛ لأن الله أمَّنَهم بالبشارات:

 

{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَومُكُمُ الذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

 

وتتلقاهم ملائكة الله على أبواب الجنة بالبشارات، تستقبلهم كما يستقبل الوفود المكرمون، يقولون لهم: {هَذَا يَومُكُمُ الذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، قد أتى وتحقق وعد الله لكم.

 

فهذه خمس كرامات لأولياء الله الذِّينَ سبقت لهم من ربهم الحسنَى، يذكرها الله في كتابه ولابدَّ ستقع لهم يوم القيامة لا ريب فيها، والله لا يخلف الميعاد، وفي ذكرها اليوم ترغيب للمؤمنين أن يسارعوا إلى هذه المنازل الكريمة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، نسأل الله أن نكون بفضله وتوفيقه من أوليائه الأبرار.

 

{يَومَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكِتَابِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْْقٍ نُّعِيدُهُ وَعدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

 

السجلُّ: هو ظرف الكتاب، أي الطومار الذي يضم أوراق الكتاب والكتابة، ويطلق أيضًا على الكاتب الذي يكتب الكتاب ثم يطويه، وكذلك يطوي الله السماوات عند قيام الساعة وهو حدث عظيم، هو لابدَّ واقع، يوم الفزع الأكبر، وفي ذكره إنذار لنا وتذكير لمن يخاف الآخرة، ويقول الله تعالى:

 

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

 

أي إنا نُفنِي هذه المخلوقات كلّها ثم نعيدها كما بدأناها على غير مثال سابق، ونبدِّل الأرض غير الأرض والسماوات، وهذا الإفناء وهذه الإعادة وعدٌ علينا لازم، ألزمه الله على نفسه ولم يلزمه عليه أحد، قال تعالى:

 

{إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

أي: إنا كنا قادرين، وفاعلين لما نريد لا يعجزنا شيء، ويأتي التعبير بالجملة الاسمية وبـ: "نون العظمة"؛ لإثبات وصف القدرة لله تعالى حتى لا يشك شاك في بعث الخلق وإعادتهم بعد الفناء، وضرب الله المثل بالبدء، وأقام به الحجة على الإعادة؛ لأن الإعادة أهون وهما عند الله سواء، والله فعال لما يريد موَفٍّ بوعده لا يخلف الميعاد.

 

الآيات ( 105 - 112 )

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

------------------------

 

يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{وَلَقَد كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الاَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}

 

الزبور قيل: هو زبور سيدِنَا داود ـ عليه السلام ـ، وقيل جنس الكتاب؛ لأن الكتاب يُسمَّى زبورًا، وهذا المعنى أقرب.

وقولُه: {مِن بَعْدِ الذِّكْرِ}

 

أي بعد كتابتنا إياه في اللوح المحفوظ، وقد جاء تسميته بالذكر في حديث رواه البخاري أن النبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ قال: "كان الله قبلُ ولا شيء، وكان عرشُه على الماء، ثم خلق الله السماوات والأرض، وكتب في الذكر كلَّ شيء"، كتب الله في اللوح المحفوظ، ثم أنزله في الكتب المنزلة أن الأرض يرثها عبادي الله الصالحون.

 

اختلف أهل التفسير في المعنى المراد من الأرض، فقيل: "هي أرض الجنة"، وقيل: "هي بيت المقدس"، يرثها المؤمنون، وهي أرض الدنيا، والصواب فيما نرى ويرى كثير من العلماء أنها: "أرض الجنة"؛ لأنه جاء هذا المعنى في القرآن الكريم في خواتم الزمر {الحمد لله الذي صدقنا وعدَه وأورثنا الاَرضَ نتبوَّأ من الجنة حيث نشاء} (الزمر:74)، وما فسَّر القرآن مثل القرآن، ويَقوَى هذا المعنَى إضافة العباد إلى الياء إضافة تقريب وتشريف، والتعبير بالميراث: وهو أخذ الشيء باستحقاق مع بقائه في يد الآخذ، ثم قال تعالى:

 

{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَومٍ عَابِدِينَ}

 

أي: إن فيما أنزلناه في هذه السُورَة من الوعد والوعيد لبلاغًا وذكرى لقوم عابدين، يؤمنون بالله ويعبدونه ويخافون يوم الوعيد، ويؤكد الله الخبر بـ: "إن واللام"؛ ليفيدنا أن القرآن كان للموعظة والتبليغن ومن لَم يكفه فهو مكابر جاحد.

 

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلعَالَمِينَ}

 

أي: وما أرسلناك يا مُحَمَّد إلاَّ رحمة للعالَمين، فمن آمن بك فهو في رحمة الله، ومن كفر بك فقد أبَى رحمة الله، وفَرَّ منها إلى سخط الله، وجاء التعبير بالقصر بـ: "إنما"؛ ليفيد أن الغرض الوحيد من إرسال مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ما هو إلاَّ رحمة للناس كافة.

 

{قُلِ اِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمُ إِلَهٌ وَّاحِدٌ فَهَلَ اَنتُمْ مُّسلِمُونَ}

 

قل يا مُحَمَّد لهؤلاء الكفار إنَّما يوحى إِلَيَّ أنَّما إلَهُكُم إِلَهٌ واحد، لا شريك له، فهل تستجيبون لي وتُسلِمُون لربكم وتوحدونه؟ أي فأسلموا خيرٌ لكم، والاستفهام هنا يراد به التحريض، والأمر والقصر في الجملة بـ: "إنَّما"، يفيد الغرض من الوحي، وهو الدعوة إلى توحيد الله الخالق بالعبادة، ونبذ الطواغيت سواه، هذا هو الإسلام الذي يدعو خاتم النبيين إليه كما دعا إليه آدم ونوح وإبراهيم وسائر أنبياء الله ورسله ـ عليه السلام ـ أجمعين {إن الدين عند الله الاِسلام} (آل عمران:19).

 

{فَإِنْ تَوَلَّواْ فَقُلَ _اذَنْتُكُم عَلَى سَوَاءٍ وَّإِنَ اَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ وَيَعلَمُ مَا تَكتُمُونَ}

 

يقول الله تعالى: فإن تولَّى هؤلاء القوم المكذبون عنك وأعرضوا عن كلام الله، فقل لهم: إنَّي أنذرتُكم وأعلمتكم وجاهرتكم على سواء، أي مستوين في هذا الإنذار لا يشُدُّ منكم أحد، ولا يقول أحد لَم يبلغني الإنذار وكنت غافلا، فقد آذنتكم بغضب من الله، ولا علم لي بِموعد انتقام الله منكم أقريب هو أم بعيد؟ إنما أنا رسول أبَلِّغُكم ما أُرسِلت به إليكم ولكم موعد لن تخلفوه، وأجَلُه عند الله ربِّي وربِّكم، وفي هذا إنذار لهم وتحديد لموقف الرسول، وأنه مُبَلِّغ لا دخل له في شؤون الله ولا علم له بالغيب، إن العلم إلاَّ لله، إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، إن ربِّي يعلم ما تجهرون به من التكذيب والاستهزاء، ويعلم ما تبطنونه من الضغن الأحقاد، وما تكتمون من الكيد والمكر، لا يخفى عنه من أمركم شيء، ولكنه حليم يُمهِلُ ولا يُهمِل، وما تكيدونه من كيدٍ فكيدُ الله أمتن، وما تمكرونه من مكر فمكر الله أعظم وهو خير الماكرين.

 

{وَإِنَ اَدرِي لَعَلَّهُ فِتنَةٌ لَّكُم وَمَتَاعٌ اِلَى حِينٍ}

 

وقُل لهم يا مُحَمَّد: لا أدري لعَلَّ إملاء الله لكم مع علمه بكم وقدرته عليكم، لعله فتنة لكم؛ لتزدادوا إثْمًا، ولعلَّه متاع إلى حين فتمتَّعوا فسوف تعلمون.

 

{قُل رَّبِّ اِحكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُستَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}

 

أمر من الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ لنبيِّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أن يدعو ربَّه، وهو حفيٌّ به أن يحكم بينه وبين قومه بالحق، وقد لقَّنه هذا الدعاء وألهمه إياه ليُجِيبَه، ولتكون العاقبة للمتقين، كما استجاب للرسل الذِّينَ تقدمت أخبارهم في هذه السُورَة المباركة، وقد حكم الله له يوم بدر، وقال بالحق ولا يكون حكم الله إلاَّ بالحق؛ لأن أمر قومه باطل، وإذا جاء الحق زهق الباطل، وهذا الدعاء يشبه المباهلة؛ لأنه قالها جهارًا وهم يستفتحون عليه، وخاب كل جبار عنيد.

 

{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُستَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}

 

وربُّنا الذي آمنا به وتوكلنا عليه، وهو رب الجميع، وقصد هنا الاسمُ لا الوصف، والكفار ليسوا في ربوبِيَّته في شيء بهذا المعنى؛ لأنهم أشركوا به غيره

 

{الرَّحْمَنُ}وهم يكفرون بالرحمن وهذا تورك عليهم، وأحق الناس بحفاوة الرحمن ورحمته من آمن به وتوكل عليه، وبلَّغ رسالاته إلى عباده، فالإضافة إضافة حفاوة واختصاص وتكريم.

 

{الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}

 

"الألف واللام"، يؤذنان بِقَصْر الاستعانة في الرحمن؛ لأن مكرَهم عظيم، فهم يصفون نبيه بالافتراء والجنون والسحر، وينشرون ذلك في قومهم وفي الناس حتى لا يؤمنوا به، فناسب أن يستعان بالله وحده على ما يصفون، فهو ولينا من دونهم وهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير، وعلى الله فليتوكل المؤمنون وإليه يلتجئ المستضعفون وبه يعتصم عباد الله المظلومون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.

 

***

تم تفسير سُورَة الأنبياء

***