سُورَة طـه مكِّيَّة وآياتها: (135)

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)

---------------------------

 

سُورَة كريمة من سور القرآن الكريم سميت باسم: "طه"، لافتتاحها بهذين الحرفين الممدودين مد قصر، وقيل تُسَمَّى سُورَة: "الكليم"؛ لكثرة أخبار بني إسرائيل فيها، وفيها مائة وخمس وثلاثون آية، منها نيف وتسعون آية في أخبار موسى ـ عليه السلام ـ، وورد عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ آثار في فضل هذه السُورَة، من ذلك ما رُوِيَ أن أهل الجنة لا يقرؤون من القرآن في الجنة إلاَّ سُورَة طه وسُورَة يس.

 

وفي السُورَة حلاوة في المعنى وحلاوة في الإيقاع، فأغلب فواصل السُورَة لها جرس خاص وهو المد المقصور، ولذلك قصر مد الحرفين الذِّينَ افتتحت بهما وأصلهما المد؛ ليناسبا فواصلها.

 

وقال قوم: "طه: اسم من أسماء النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ"؛ ولذلك سمَّى بعض الناس أولادهم بهذا الاسم.

 

{طَه مَا أَنزَلنَا عَلَيكَ القُرءَانَ لِتَشقَى إِلاَّ تَذكِرَةً لِّمَن يَّخشَى}

 

الذي نقول في الحرفين المقطعين أول السُورَة هو ما قلناه في حروف أول سُورَة مريم، والعلم الحقيقي عند الله، وفي هذه الحروف إشارة إلى أن القرآن المؤلف من حروف الهجاء التي ينطق بها العرب، وأعجز العرب قاطبة أن يأتوا بمثله، فما أحراهم لو عقلوا أن يؤمنوا به أنه من عند الله، ويستجيبوا لرسوله الذي دعاهم بمعجزة القرآن إلى القرآن، وهذه الإشارة ظاهرة معقولة، فالقرآن إنما نزل بلسانهم وباللغة التي يتخاطبون بها، فهو ميسّر واضح ولكنه معجِز {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قومًا لدًّا} (مريم:97)، واختلف القراء كما اختلف المفسرون في معنى الحرفين المقطعين، اختلف القراء في قراءتهما وكيفيتهما، واختلف المفسرون أكثر من اختلافهم في غيرها من الحروف، قال قوم: "طه" معناها: "يا رجل"، وقالو: "الطاء حرف نداء في بعض لغات العرب"، واستشهدوا ببعض أبيات شعرية، واستدلوا على ذلك بالخطاب الموجه بعدهما للنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ، وهذا عندي ليس بشيء؛ لأن أغلب هذه السور يجيء الخطاب بعد حروفها المقطعة للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ، فلنُفوِّض الأمر في حقيقة الحرفين وغيرهما من الحروف إلى منزلها العليم الحكيم.

 

والسُورَة مكية من أوائل ما نزل من السور، وكان نزولها والنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ كاتم عبادته مع صحابته الأوائل في دار: "الأرقم بن أبي الأرقم"، وكان يحمل من الغم على قومهما، يحمل من أجل أنهم لم يستجيبوا لدعوته التي فيها نجاتهم، وهذا من جملة ما يفسر به الشقاء الذي تحمَّله النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ كما جاء التصريح به في أوائل السُورَة السابقة: "سُورَة الكَهف"، يقول الله ـ تعالى ـ فيها: {فلعلك باخع نفسك على ءَاثارهم إن لَّم يومنوا بهذا الحديث أسفًا} (الكَهف:06)، وتقدم تفسير هذا المعنى في موضعه، وفي هذه السُورَة:

 

{مَا أَنزَلنَا عَلَيكَ القُرءَانَ لِتَشقَى}

 

أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى على آثار قومك، فلا تهلك نفسك أسفًا على عدم إيمانهم، ما عليك إلاَّ البلاغ، هذا هو المتبادر من معنى الآية، وقال البعض في معناها: ما أنزلنا عليك القرآن لِتَحمل على نفسك من مشقة العبادة ما لا تطيق، وكان ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ يطيل القيام في صلاة الليل حتى تورمت قدماه، وقال آخرون: ليس في القرآن ما يشقي من العبادات والشرائع، فالدين يسرٌ {وما جعل عليكم في الدنيا من حرج} (الحج:78)، ولا تتنافى هذه المعاني، فالاختلاف بين المفسرين، إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وهناك وجه آخر ذكره بعض المفسرين وهو: أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ كان يتعب في ترديد ما يلقى إليه من الوحي خشية النسيان، ويشقى بذلك، فطمأنه الله عز وجل {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى:06-07)، والمعنى الأول من هذه المعاني هو الأظهر والأقوى؛ لمناسبة الآية بعده.

 

{إِلاَّ تَذكِرَةً لِّمَن يَّخشَى}

 

أي: فذكر إنما أنت مذكِّر لست عليهم بمصيطر، أيْ: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بسببه من أجل كفر قومك وعنادهم، ما أنزلناه إلاَّ تذكرة لمن يخشى؛ ذلك لأن التذكرة إنما ينتفع بها من جعل الله في قلبه الخشية، وقد خوطب بالقرآن كافة الناس، وإنما ينتفع به الْمُدَّكِرُون الذِّينَ يخشون ربهم بالغيب، وجاءت هنا كلمة: "التذكرة"، كما تكررت في غير موضع من القرآن الكريم؛ ذلك لأن معنى الفطرة مركوز في القلوب، فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما مهمة النذر إلاَّ التذكير بهذا المعنى لمن في قلبه خشية الله، {لعلهم يتقون أو يُحدِثَ لَهم ذِكرًا}، والذكرى تنفع المؤمنين.

 

{تَنْزِيلاً مِّمَّن خَلَقَ الاَرضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَى}

 

وصفٌ عظيم للمنزَّل والقصد منه تعظيم المنَزِّلِ والكتاب المنَزَّل، وبالطبع فإن عظمة الكتب والرسائل تكون تبعًا لعظمة المرسلين، وقد جُبِل الناس على الاحتفال برسائل الملوك والأمراء، فما ظنكم برب العالمين!، فليتقبل هذا الكتاب من الله العلي العظيم ذي الجلال والإكرام، فإن نزوله منه رحمة بنا، وأي رحمة، ولذلك ناسب الوصف التالي.

 

{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى}

 

يذهب كثير من المفسرين إلى اعتبار هذه الآية جملة واحدة، "الرحمنُ": مبتدأ، وما بعده خبر له، وأنا أذهب إلى أن: "الرحمنَ"، وحده منفصل عما بعده، فهو خبر لمبتدأ محذوف، ثم يكون ما بعده نعت له، وإن المتأمل في هذا يجده أروع، وفي النفس أوقع، من هو المنَزِّل؟ وما قصده من تنزيل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرًا؟ إنه الرحمن الذي كتب على نفسه الرحمة، وما تنزيله القرآن على عبده إلاَّ رحمة للعالمين، اقتضت رحمته أن ينزل على عباده كتابًا يتبعونه فيسعدون، هو الكتاب الحق الهادي إلى صراط مستقيم، مَن عَمِل به نَجا؛ لأنه تنزيل من مالك الملك مدبر الأمر، عالم الغيب والشهادة.

 

{عَلَى العَرشِ استَوَى}

 

بالقهر والغلبة والاستيلاء، فالملك بيده، والعبارة معروفة يستعملها العرب في كلامهم ويريدون بها القهر والاستيلاء والقرآن نزل بلغة العرب وهذا ما نفهمه من الاستواء والله أعلم

.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرضِ وَمَا بَينَهُمَا وَمَا تَحتَ الثَّرَى}

 

العبارة السابقة تفيد الملك بمعنى القهر والسلطان، وهذه العبارة تفيد الملك، أيْ أن هذه الأكوان وما فيها، ملكٌ لله فهو مَلِكُها ومالكها، أحاط ملكه وقهره، وأحاطت قدرته بالسماوات وما فيها، وبالأرض وما فيها، مما ظهر لنا وما لم يظهر مما تحت الثرى، وفي هذه الكلمة الأخيرة إشارة لنا إلى أهمية ما تحت الثرى من الكنوز والبركات، وهي مخلوقة لنا، فما علينا إلاَّ أن نبحث في خبايا الأرض، ونستخرج منها الأرزاق والبركات من النبات والمعادن والمياه والغازات.

 

{وَإِن تَجهَرْ بِالقَولِ فَإِنَّهُ يَعلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى}

 

تُبيِّن هذه الآية إحاطة علم الله بكل شيء، كما بَيَّنت الآيات السابقات إحاطة رحمته وسلطانه وملكه بكل مخلوقاته، والكل خَلْقُه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا تخفى عنه خافية، يستوي في إحاطة علمه الجليُّ والخفيُّ، وجاءت العبارة مصوغة في هذا الأسلوب الخطابي الحي.

 

{وَإِن تَجهَرْ بِالقَولِ}

 

أيْ: وإن تُسِرَّ به أو تضمر شيئًا في قلبك، فإن الله يعلم السر وأخفى، أي يعلم الجهر والسر من الكلام، ويعلم ما هو أخفى، وهو ما تضمره القلوب وتسّره النفوس، فالله هو المتفرد بالقهر والملك والعلم، ذلك هو منزل القرآن.

 

{اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَسْمَاءُ الْحُسنَى}

 

بعد تلك الأوصاف العظيمة الدالة على الربوبية، يأتي اسم الله العظيم الذي هو المتفرد بالألوهية والمتصف بالأسماء الحسنى، يأتي لفظ الجلالة، اللفظ الجامد الذي هو علم للذات العَلِيَّة، الجملة تقرر التوحيد، توحيد الألوهية، فلا معبود بحق إلاّ الله، له الأسماء الحسنى، تَنَزَّهَ ربنا وتبارك وتعالى عن أوصاف النقص، واتصف بأوصاف الكمال، فهو الحي القيوم، العليم الخبير، السميع البصير، العزيز الجبار المتكبر، المهيمن، الواحد الأحد في الذات والصفات، هذا هو مُنَزِّلُ القرآن الذي نزَّل عليك القرآن، لا لِتَشقى، وفي هذا الكلام تسلية للنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وتثبيت لقلبه؛ حتى لا يستوحش بقِلَّتِه وذِلَّتِهِ فإن الذي معه رب السماوات والأرض لا يَقِلُّ ولا يَذِلُّ، وإن رأيت صدودًا وإعراضًا من قومك وتكذيبًا فلست بدعًا من الرسل {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين} (الأنعام:34).

 

طه: الآيات ( 9 - 36 ) بداية قصة موسى عليه السلام وإعطاؤه ما سأل

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)

------------------------------

 

هل بَلَغَك خبرُ {مُوسَى إِذْ رَءَا نَارًا فَقَالَ لِأَهلِهِ اِمكُثُوا...} الآية، جاء الخبر هنا بصيغة الاستفهام، وليس المراد منه طلب العلم، إنما المقصود استرعاء انتباه المخاطب لأهمية الخبر، وكثيرًا ما نستعمل هذا الأسلوب بلهجتنا العامية: "هل بلغك خبر كذا وكذا؟"، "أو هل سمعت بنبأ كذا وكذا؟"، وقصدنا استرعاء انتباه مخاطبنا، والقصة مفيدة ورائعة وذات عبر، وقد ذكر هنا جانب منها وبقية الجوانب مبسوطة في غير هذه السُورَة، وأكثر ذلك في سُورَة القصص، ففيها الكلام الكثير عن أنباء موسى ـ عليه السلام ـ منذ ولادته، أما هنا فتتحدث القصة عن اتصال موسى بالنور الإلهي حيث أوحى الله إليه أول ما أوحى، وما كان يعرف الوحي ولا كان يرجوه، وكذلك سائر أنبياء الله ورسله، كما قال الله ـ تعالى ـ في حق نبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ مخاطبًا إياه {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} (القصص:86)، {وكذلك أوحينا إليك روحًا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الاِيمان} (الشورى:52)

 

كذلك تَلَطَّف الله لِموسى، وساقه قدره إلى هذا الموضع المقدس؛ ليتلقى النور الإلهي، وذلك عند مُنقلبه من "مديَنَ"، بعدما قضى أوفى الأجلين، فرجع بأهله إلى وطنه الأول حيث أمه وذوُوه، كان في طريق الرجوع بعد عشر سنين أو ما شاء الله، من فراره من فرعون وقومه خائفًا، فها هو الآن يرجع متوكلا على الله إلى مراتع الصبا ومنازل الآباء والأجداد يَحُثُّه الشوق إلى أول منزل، وبينما هو في الطريق في "سيناء"، وعلى الجانب الأيمن من الطور في ليلة مطيرة، وقيل ذات ثلج باردة ضل عن الطريق، وقد شاء الله أن يضل عن طريق الأرض ليهتدي إلى طريق السّماء، ضل الطريق واشتد البرد، فحاول أن يوقد النار ليهتدي ويصطلي، ولكن زناده لم يُور؛ لحكمة أرادها الله، فالتفت فأبصر نارًا.

 

{فَقَالَ لِأَهلِهِ اِمْكُثُوا إِنِّيَ ءَانَستُ نَارًا}

 

قال لأهله وهم: "زوجته وابنه"، وقيل: "وقد كانت زوجته وَلَدت قبل تلك الليلة، وهي في أشد الحاجة إلى الدفء والاصطلاء"، قال لهم اْمكثوا لا تبرحوا مكانكم إني آنست نارًا، سأذهب إليها لعلي أجد عند صاحبها هدى، ولعلي اقتبس منه جذوة نوقد بها على ما نصطلي به، واختار التعبير القرآني: "آنست"، ولم يقل: "رأيت"؛ لأنها ليست مجرد رؤية بل هي رؤية حصل بها أنس في نفس تُسَاوِرها الهواجس والمخاوف والقلق من هذه الظلمات التي أضلته الطريق، وقيل: كان سلك طريقًا بكرًا، غير التي يسلكها الناس، لخوفه من عيون ملك الشام؛ لذلك ضل الطريق، وما يدري أن عناية الله تحفّه، ومن كان كذلك فلا يضل ولا يخزى.

 

اقترب موسى من النار فوجدها نارًا تتوهج من شجرة خضراء، نارًا شديدة الإضاءة حتى وضع يديه على عينيه، نارًا تضيء ولا تحرق، فهي شديدة التوهج، والشجرة شديدة الخضرة، الشيء الذي أدهش موسى وملأه تعجبًا من هذه النار، ولولا أن الله ثبته لصرع من الدهشة.

 

{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ يَا مُوسَى}

 

]جاءه نداء باسمه؛ لإيناسه وإزالة وحشته، غير أن النداء من مصدر مجهول، وقيل كان يسمعه بجميع جوارحه، ومن جميع الجهات، ورُوِيَ في الأثر أنه قال: "لبيك إني أسمعك ولا أراك فأين أنت؟"، فأجيب: "إني معك وفوقك وخلفك وأمامك ومحيط بك وأقرب إليك منك يا موسى، إنني أنا الله لا إله إلاَّ أنا"

]{إِنِّيَ أَنَاْ رَبُّكَ}

 

ما أعظمها كلمة، وما أعظم وقعها في رَوْعِ موسى، اقشعر لها جلده، وارتعدت فرائصه من رهبة المقام؛ لأنه مقام عظيم، وليس له به عهد، فهذا أول عهده بهذا السر الهائل، ولنذكر ما وقع للنبي مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ في الليلة الأولى التي جاءه فيها جبريل ـ عليه السلام ـ.

 

{إِنِّيَ أَنَاْ رَبُّكَ فَاخلَعْ نَعلَيكَ إِنَّكَ بِالوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوى}

 

عرَّفه الله بنفسه، وأنه الذي خلقه، والذي ناصيته بيده، يملك أمره كله، ربه الذي اجتباه؛ ليسمع كلامه ووحيه، فما أشبه هذه الكلمة بالكلمة التي تلقاها نبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ من جبريل أول ما ألقي إليه الوحي {اقرأ باسم ربك} (العلق:01)، ثم أمره بخلع نعليه لِعِظَمِ المقام وقداسته، كيف لا يُعَظَّم ولا يَتَقدَّس وقد اختاره الله لِيُكلِّم فيه عبدًا اجتباه؟ وقد يكون مقدسًا من قبل بأشياء من أسرار الله وملكوته، مقام مقدس تخلع فيه النعال لقداسته، ولا عبرة بما قال بعض المفسرين: "أن خلع النعل إنما يكون؛ لأنه من جلد حمار ميت"، كلا بل أَلِفَ الناس أن يخلعوا نعالهم عند الملوك والأمراء، فكيف لا يخلع موسى نعليه، وهو في الحشرة القدسية بين يدي رب العالمين؟! امتثل موسى الأمر، وأسرع في الامتثال، فخلع نعليه ورماهما وراء عدوة الوادي، وفيه ما فيه من الإيناس والتقريب والتشريف، وناهيك بما يتلو هذا الأمر من كلام.

 

{وَأَنَا اخْتَرتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}

 

كلمة فيها إيناس وبشارة لموسى وأي بشارة!، الله ربه ورب العالمين يختاره من بين سائر، خلقه ليلقي إليه بوحيه في هذا الوادي المقدس طوى.

 

{فَاستَمِعْ لِمَا يُوحَى}

 

لا شك أن موسى ألقى سمعه وفتح قلبه لهذا الوحي الذي يأتيه من ربه، واستعد لقبول ما يلقي إليه من ربه بالسمع والطاعة والامتثال، وكذلك أنبياء الله ورسله شأنهم حسن الأدب مع ربهم والاهتمام بما يلقى إليهم من الوحي.

 

{إِنَّنِيَ أَنَاْ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعبُدنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكرِيَ}

 

ناداه أولا باسم الربوبية، ثم ناداه باسم الألوهية مؤكدًا النداءين بـ: "إنَّ"؛ لأهمية الخبر، وليعلم موسى أن ربه الله وحده لا شريك له في ملكه، ولا معبود سواه، ثم أمره أمرًا صريحًا بعبادته، ومن أحق بالعبادة من اللهِ ربِّ موسى وربِّ الناس أجمعين، ورَبْطُ الأمر بالفاء مشعرٌ بسِرِّ العبادة والتوحيد، للرب الخالق المالك، والعبادة هي الخضوع والمحبة والطاعة والامتثال، وكان ذلك يتضمن الشكر للمنعم على جميع النعم والاعتراف له بالثناء الجميل على الفضائل والفواضل، تبارك الله رب العالمين، وفي مقدمة العبادة إقامة الصلاة، وهي عمود الدين في كل شريعة، أمر الله موسى أن يأتي بالصلاة على كمال هيئتها المشروعة ليذكر فيها ربه، وأن الصلاة إنما شرعت لذكر الله، وإنها إن خلت من ذكره فلا تقبل ولا وزن لها عند الله، شرعت الصلاة وصرَّح بها في المقام المقدس دون سائر الفرائض لمقامها عند الله، وكذلك شرعت لنبيّنا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ليلة الإسراء والمعراج فوق سبع سماوات، وما ذلك إلاَّ لعلو مقامها عند الله، وأن الدين لا يتم إلاَّ بها ولا يقوم بناؤه إلاَّ عليها، فالويل للذين يدّعون الإسلام ولا يصلون، إنه لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وليس بين العبد والكفر إلاَّ تركه الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر، والصلاة هي الصلة بين العبد المؤمن وربه، يذكر العبد فيها ربه بالثناء والإخلاص والخشوع، فيذكره ربه بالعون والتوفيق والقبول، ولَذِكرُ الله أكبر.

 

{إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ اَكَادُ أُخفِيهَا لِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بِمَا تَسعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنهَا مَن لاَّ يُومِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَردَى}

 

في هذا الحوار المؤثر، وفي هذا الخطاب الرباني الحكيم، يأتي إخبار موسى بقيام الساعة، وأنها تأتي بغتة، وأن الساعة هي الموعد الحق الذي لن يتخلف ولن يتأخر عن موعده المعلوم عند الله، ولا يعلمه إلاَّ الله، ولا بدَّ من يوم يجازى فيه الناس عن أعمالهم، فتنظر كل نفس ما قدمت وتجزى به، والإيمان بها هو القاعدة الثالثة الكبرى من قواعد الإيمان التي أوحى الله بها لموسى أول ما أوحى:

 

الإيمان بالله الواحد القهار، ثم الإتيان بالقاعدة الثانية وهي إقامة الصلاة لله الذي هو واجب ذكره وعبادته والخضوع له، ثم الإيمان بالبعث وما فيه من الجزاء لكل نفس بما كسبت، إما بجنة يدوم نعيمها، وإما بنار يدوم جحيمها

 

هذه القواعد الثلاث الكبرى التي اقتضت حكمة ربنا ـ تعالى ـ أن يلقيها لعبده موسى في هذا المقام المقدس، وفي بداية تكليمه له، ومن هنا نعلم أهمية هذه القواعد الثلاث، وأنه لا صلاح للنفس البشرية إلاَّ بالإيمان بها، فكيف يستقيم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟!، وكيف يصلح من لا يذكر الله، ولا يقيم له الصلوات المفروضة؟!، هنا في هذا الحوار تأتي ثالثة القواعد المكملة لإيمان الإنسان الحق، أن يؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن يبعث من في القبور، فما استقام من استقام إلاَّ بتأثير الإيمان بالبعث والحساب والجزاء، وهي النقطة التي ركز عليها القرآن في غير موضع وجعلها علة العلل {فذكر بالقرءَان من يخاف وعيد} (ق:45)، {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نُوَخِّرُه إلاَّ لأجل معدود} (هود:103-104)، {وأنذرهم يوم الاَزفة إذ القلوب لدى الحناجر} (غافر:18)، {فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا} (المزمل:17).

 

الإيمان باليوم الآخر هو السِّر في صلاح النفوس واستقامتها على الطريق الأقوم، واليوم الآخرُ: هو الموعد الذي يظهر فيه عدل الله المطلق، فينال المحسن جزاء إحسانه، والمسيء وبال إساءته، وما جعل الله للإنسان الخلافة في الأرض؛ ليترك سدى، وليكون مآله مآل البهائم التي لا عقل لها، إن لهذا الإنسان المُمَلَّك في الأرض لشأنًا عند الله {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} (القيامة:36).

 

إن المؤمن لَيَرتَاح قلبه وتطمئن نفسه لعدالة الله المنتظرة يوم الجزاء، وإن الملحد الكافر ليُعَكِّرُ عليه صفوَهُ ذِكرُ قيام الساعة وما فيها من جزاء كل نفس بما تسعى، فهو لا يحب ذِكر الساعة ولا ذِكر الإيمان بها وما فيها من الجزاء، بل يريد إنكارها وتجاهلها حتى يتأتى له اتباع الهوى، وما يأمر به الهوى من الفسوق والفجور، فهو يفسق ويطغى ويأتي الفواحش ويلتذ بالمعاصي، ويزعم أن لا حساب ولا عقاب، وإذا وعظ بالموت كفر بالموت وما بعد الموت {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلاَّ ظنًا وما نحن بمستيقنين} (الجاثية:32)، إنه يكابر الحق ويخادع الله ويغالط نفسه، وفيها قد يظهر بصيص الحق أحيانًا، ولكن سرعان ما ينطمس بِرُكَام الشهوات وطغيان الهوى {أولئك الذِّينَ لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} (مُحَمَّد:23)، {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة:19)، هذه طبيعة المنكِرِين للساعة، لَم ينكروها لفقدان الدليل وعدم البرهان، بل هناك أدلة وبراهين لو سمعوا وعقلوا، ولكن أنكروها لغلبة الهوى على نفوسهم، وخالق النفوس يعلم طبائع النفوس، ولذلك جاء ذكر اتباع الهوى مقترنًا بإنكار الساعة وصد الناس عنها، فهو اقتران العلة بالمعلول والسبب بالمسبب.

 

{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنهَا مَن لاَّ يُومِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَردَى}

 

إنهم ينكرون الساعة، ويحاولون صدَّ الناس عنها وتشكيكهم في قيامها، أو على الأقل إنساءهم إياها وإغفالهم عنها؛ حتى يصفو لهم الجو لاتباع الأهواء وركوب الشهوات فلا ناهي ولا نكير، حذّر الله عبده موسى من شر هؤلاء الذِّينَ يحاولون تضليل الناس بنهي مؤكد بالنون الثقيلة؛ لأهمية الأمر وخطر العاقبة، إن العاقبة وخيمة، إنها الرَّدَى المحقق وليس ردى ساعة أو نهار، بل هو ردى الأبد في العذاب الأليم، وهؤلاء المشككون في الساعة المهونون لأمرها لا يخلو منهم زمان ولا مكان، وإنهم في زماننا أكثر، وأمرهم أخطر، لقد شاع الإلحاد والكفر وانتشرت فلفسات اللادينيين في الأوساط، لم تسلم منها الصحف والإذاعات، ومدارس التعليم والجامعات، فقد فاضت بها الدنيا وارتُكِبت كل المآثم باسم الحرية والثقافة، وانعكست قيم الأخلاق، وارتكست الضمائر، وسميت المحرمات بغير أسمائها، فلا عاصم اليوم من فتنتهم إلاَّ من رحم الله.

ولنرجع إلى قوله ـ تعالى ـ في أمر الساعة {اَكَادُ أُخفِيهَا}

 

ارتبك في معناها المفسرون، فقال بعضهم {اَكَادُ أُخفِيهَا} أي: أكاد أظهرها، وبعض قال: أَخفِيهَا، بفتح همزة أخفى أي: أَظهَرَ، وقال الآخرون ـ وهو الحق فيما يبدو لي ـ {اَكَادُ أُخفِيهَا} أي: أخفيها فلا أذكرها، وما فيها من الأهوال، وما قبلها من الأشراط، غير أني ذكرتها لكم وما فيها وما قبلها لتستعدوا لها، واستأثرت بعلم وقتها الذي تقوم فيه، فهذا لا يعلمه لا نبي مرسل، ولا مَلَكٌ مقرَّب، فهي خفية بهذا المعنى، وغير خفية بالمعنى الأول، فهذا ما يفيده لفظ: "أكاد" قرب الوقوع، وعلى الجملة: فإن العبارة تفيد معناها الكامل الذي قصد به التخويف والإنذار وخفاء الوعد وإحاطة السر المطلق بوقوعه {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قلِ اِنَّما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلاَّ هو ثقُلت في السماوات والاَرض لا تَاتيكم إلاَّ بغته يسألونك كأنك حفيٌّ عنها قُلِ اِنَّما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الأعراف:187)، {إن الله عنده علم الساعة ويُنَزِّل الغيث ويعلم ما في الاَرحام} (لقمان:34)، الغموض المطلق لوقت الساعة، والجهل المطلق بوقت وقوعها، وكيفية ذلك بالتفصيل، والساعة ساعتان: الساعة العامة؛ لفناء هذا العالم، والساعة الخاصة التي هي نهاية حياة كلٍّ منا، فلا أحد منا يعلم متى يموت؟، ولا بماذا؟، ولا أين؟ {وما تدري نفس بأي أرض تموت} (لقمان:34)، فليستعد كل منا لهاتين الساعتين، ولا يصدُّه الصادون الذِّينَ لا يؤمنون بالساعة، فأولئك أمرهم إلى بوار، وسيطلبون الرجعة ولا يجابون إليها ولات حين مناص.

 

كانت هذه الكلمات الأولى التي خاطب الله بها عبده موسى، وهي أسس الإيمان والحكمة، ثم تأتي بعدها الكلمات التالية التي فيها دلائل النبوة ومعجزاتها، وفيها التصريح بإرساله رسولا إلى فرعون؛ لينذره وقومه، إنهم كانوا قومًا فاسقين.

 

وَمَا تِلككَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخرى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسعَى (20) قَالَ خُذهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الاُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخرُجْ بَيضَاءَ مِن غَيرِ سُوءٍ ءَايَةً اُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنَ _ايَاتِنَا الكبرى (23) اِذهَبِ اِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشرَحْ لِي صَدرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمرِي (26) وَاحْلُلْ عُقدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفقَهُوا قَولِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنَ اَهلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اِشدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشرِكْهُ فِي أَمرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَّنَذَكُرَكَ كَثِيرًا (34) اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدُ اوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)}

 

تلقى موسى ـ عليه السلام ـ نفحات ربِّه، وتلقى الأوامر والنواهي من ربه، واستمع لما يوحى إليه من كلام الله وهو خاضع واقف وقفة إجلال وخشوع ولا يزال الله ـ تعالى ـ يخاطبه، عرفه أولا بربوبيته وألوهيته، ثم أمره بعبادته والصلاة له وذكره، ثم أنذره بالساعة التي هي موعد جزاء كل نفس بما كسبت، وحذره من الذِّينَ يصدون عنها فإنهم هالكون، ومن استمع إليهم هلك وشقي معهم، كل هذا وموسى واقف يستمع الأومر والنواهي، وهو في غاية الهيبة والخضوع، ثُم إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أراد أن يُسكِن من روعه، ويشعره بالأنس والقرب، فناداه باسمه، وفي هذا ما فيه من الأنس والقرب والارتياح، وكلنا يجد ذلك إذا كان النداء ممن نعظمه ونحترمه إذا نادانا بأسمائنا فإننا نشعر بالأنس، ويدل هذا على عطف المنادي ورضاه على الذي يناديه؛ لأنه في حالة الغضب لا يناديه باسمه، بل لا يذكر اسمه أو يدعوه بأسماء كريهة مخزية، هذا معروف، كذلك نادى الله عبده موسى ودعاه باسمه وألقى إليه سؤالا عن عصاه:

 

{وَمَا تِلكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}

 

كان موسى يُمسك عصاه بيمناه؛ لأنها اليد القوية، وهي سلاحه، فسأله ربه وهو عالم به وبعصاه، ولكن المقصود من السؤال ما بعده، وهو إظهار المعجزة التي هي كامنة في هذه العصا، ولم يكن بيمينه غيرها فأجاب موسى عن السؤال جوابًا مبسوطًا مسهبًا؛ لشعوره بلذة مناجاة ربه فأراد أن يطيلها، أجاب:

 

{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُ عَلَيهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى}

 

قال: "هي عصاي"، وذكر له من منافعها ما خطر بباله حينئذ

وأول ذلك الاتِّكاء، وذلك أن البدوي إذا وقف يحدث الآخر وطال الوقوف يتوكأ على عصاه، وإذا صعد مصعدًا يتوكأ على عصاه وإذا نزل فكذلك

 

والمنفعة الثانية أنه يهش بها على غنمه، أي يضرب بها أغصان الأشجار ويخبطها؛ فيسقط من ثمارها وأوراقها ما ترعاها غنمه، وكانت عصاه معكوفة في طرفها يجتذب بها الغصن المرتفع؛ ليجتنى ما فيه من الثمار، أو يهزه فتسقط ثم قال ولي فيها مآرب أخرى أي: منافع أخرى، مثل الدفاع، والحمل بها وعليها، وربما يلقي عليها ثوبًا للاستظلال، وقد تنفع العصا لحاجات كثيرة، ويختار البدوي عصاه من أصلب الأغصان وأجودها؛ لأنها عونه على قضاء مآربه، وسلاحه في دفع الصائل من الأناسي والسباع والهوام.

 

{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسعَى}

 

قال له ربه: "ألقها"، فألقاها، سارع موسى إلى الامتثال فألقى عصاه، وما كان يخطر بباله أنها تنقلب حيَّة بل كان يظن أنه يلقيها كما ألقى نَعْليه، وأن من تمام الأدب مع ربه وهو يحاوره أن يُلقي عصاه، فألقاها فإذا هي حية تسعى، فخاف منها وولَّى مدبرًا ولم يُعقِّب، فناداه ربه يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين، لا تخف إنه لا يخاف لديَّ المرسلون.

 

{قَالَ خُذهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الاُولَى}

 

نداءات من الله جاءت بصِيَغ متنوعة، كلها تدل على لُطَفِ الله وحفاوته بعبده موسى، بعضها في هذه السُورَة وبعضها في سُورَة أخرى من القرآن، نداءات تحمل البشرى لموسى إنه من الآمنين، وأي بشرى أعظم من هذه؟!، إنه من الآمنين، ومَن أمَّنه الله لا يخاف في الدنيا ولا في الآخرة، وبشرى أخرى أنه من المرسلين وهذه يفهمها ضمنيًّا، إنه لا يخاف لديَّ المرسلون، فموسى إذن من المرسلين الذِّينَ أمَّنَهم الله وهو أول خبر من الله برسالته، وهي بشارة عظيمة لموسى، وبشرى من الله أن هذه الحية لن تضره؛ لأنها ستعود عصا بمجرد ما يَمسُّها موسى، وإنما أراه الله منها هذه المعجزة العجيبة لمواقف ستستقبله، وسيريه الله منها ما يحب، والله على كل شيء قدير، رجع موسى مقبلا على عصاه بعد إدباره وهروبه منها، ومدَّ يده إليها بعد أن سمع نداء ربه وقلبه مطمئن فوقعت يده بين فكَّي الحية، فما إن مسَّتها يده حتى استحالت كما كانت عصا هامدة لا خطر فيها، عادت بإذن الله سيرتها الأولى فازداد موسى يقينًا بمعجزة ربه، ثم خاطبه ربه بأمره آخر فيه المعجزة الثانية.

 

{وَاضمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخرُجْ بَيضَاءَ مِن غَيرِ سُوءٍ ءَايَةً اُخْرى لِنُرِيَكَ مِنَ _ايَاتِنَا الكُبرَى}

 

بعد أن شاهد موسى معجزة العصا أمره الله أمرًا ثانيًا، وعرَّفه في هذا الأمر بتأويله؛ ليطمئن قلبه ولا يرتاع، قال له:

{وَاضمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ}

 

أي أدخلها في جيبك، واضممها إلى جناحك الأيسر، تخرج بيضاء بياض نور لا بياض سوء، والناس منذ القدم يكرهون بياض البرص؛ لذلك طمأنه ربه ببيان نوع هذا البياض فامتثل موسى الأمر، وأدخل يده في جيبه وضمَّها إلى جناحه الأيسر، ثم أخرجها فإذا هي بيضاء تتلألأ نورًا، وهذا ما يبغيه موسى، ومن أجله جاء يطلب نورًا يهديه في هذا الظلام الذي غشِيَهُ في البادية، شاهد موسى المعجزة الثانية من يده اليمنى، واطمأن قلبه بها وازداد يقينًا وقال له ربه:

 

{لِنُرِيَكَ مِنَ _ايَاتِنَا الكُبرَى}

 

أخبره ربه أن ما رأى ما هو إلاَّ قطرة من بحر آيات ربه الكبرى، وكم لله من آيات غيرها، ولا يعلم إلاَّ الله ما كان يغشى قلب موسى من تعظيم ربِّه وتوحيده والتسبيح والتقديس له حين شاهد هذه الآيات العجيبة، وما كان يغشاه من الأنس بربه، ومن السكينة لما انفتحت له هذه النافذة من أسرار الملكوت

 

ثم بعد الآيتين يأتي الأمر من الله لموسى بالذهاب إلى فرعون لتذكيره وقومه بربهم ودعوتهم إلى توحيده وعبادته، وفي هذا التصريح بأن الله اختار موسى ليكون رسولا من جملة المرسلين، واجتباه لتَحَمُّل هذه الأمانة العظمى.

 

{اِذهَبِ اِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى}

 

كانت هذه الكلمة من الله فاتحة الرسالة لموسى ـ عليه السلام ـ بعد أن أراه الآيات الكبرى، النور من الشجرة، وانقلاب العصا حية، وبياض يده اليمنى، وأسمعه كلامه؛ كلَّفه بالذهاب إلى فرعون الذي طغى عن الحق وبغى على قومه، واستعبد بني إسرائيل، يستخدمهم ويذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، ونصب نفسه إلَهًا من دون الله، قال الله لموسى: {اِذهَبِ اِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى}، لقد فهم موسى المقصود من هذا الذهاب، وهو دعوته إلى التوحيد والاستقامة على دين الله، وتصور ما سيعترضه في هذه الدعوة من المشاق فانتهز هذه الفرصة فدعا ربه، ولا شك أن الله هو الذي ألهمه إياه، دعا ربه الذي رأى منه الكرامات والألطاف، سأله أن يُزوِّده بما يقوى به على هذه المهمة العظمى، وقد أَلِفَ من قبل أن يدعُوَ ربَّه لكل جليل وحقير من أموره، فقد سأله النجاة من القوم الظالمين عند خروجه من مصر، وسأله أن يهديه سواء السبيل، وسأله الطعام حين ألَمَّ به الجوع، فاستجاب الله لكل دعواته، فلم لا يسأله وهو مقبل على مهمته العظمى أن يُيسِّر له أمره؟، ويعينه عليه، وهو الذي أرسله وكلَّفَه بالمهمة.

 

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدرِي وَيَسِّر لِي أَمرِي وَاحْلُلْ عُقدَةً مِّن لِّسَانِي يَفقَهُوا قَولِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِنَ اَهلِي هَارُونَ أَخِي اِشدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشرِكْهُ فِي أَمرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَّنَذكُرَكَ كَثِيرًا اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}بدأ في دعائه بشرح الصدر، وهو الأصل لجميع حركاته في هذه المهمة فإن الله إذا شرح صدره، ووطَّأ قلبه لتكاليف الرسالة فهو لا شك سيتغلب على كل عقباتها، وسيُقبِل عليها هادئ النفس، مطمئن الضمير، وقد علم موسى أن صدره وقلبه بيد الله فهو وحده القادر على أن يشرح صدره لهذا الأمر الذي هو في غاية الدقة والمشقة والصعوبة، ولذلك زاد فقال:

{وَيَسِّر لِيَ أَمْرِي}

 

سأل ربَّه أن يجعل أمره يسرًا، وهو وحده يعلم كيف يُيَسِّرَه ويَقدر على ذلك، وقد فعل فيسَّر له كل أموره، وجعل له معجزته في عصاه، وردَّ عنه كيد عدوه فرعون وطغيانه، فلم يضره، إلاَّ أذى ينال عليه الأجر الجزيل عند الله، ثم قال في دعائه:

 

{وَاحلُلْ عُقدَةً مِّن لِّسَانِي يَفقَهُواْ قَولِي}

 

سأل الله أن يحل عقدة من لسانه حتى يقوى على حسن التعبير؛ فيفهموا قوله ويفقهوه، ذلك أن لسان موسى كانت به حُبْسة، قال بعض المفسرين: "كانت لثغة طبيعية"، كما يحدث لكثير من الناس، لا ينطقون ببعض الحروف نطقًا سليمًا، وقال آخرون ـ وهم الجمهور ـ: "إن عقدة لسانه، كان لها سبب، وذلك لحادث وقع له في صباه، إذ من المعلوم أن موسى تربَّى في حجر فرعون، أرضعته أمه صغيرًا وبعد فطامه ردَّته إلى فرعون، فكان يُربِّيه ويلاطفه، ولَم يكن له ولد، فاتخذه ولدًا، وفي يوم من الأيام كان موسى يلعب في حجر فرعون وكان في يده عود فمدَّ يده إلى لحيته فاجتذبها، وضربه بذلك العود على رأسه، فغضب فرعون وتشاءم من ضربته وأوَّلَ هذه الضربة، بزوال ملكه على يديه فأمر السياف بقتله، ولكن آسية ـ عليها السلام ـ امرأة فرعون تلطَّفت لفرعون، ورغبت إليه أن يستبقيه ولا يقتله، واعتذرت له أنه ولد صغير، لا يعرف النفع من الضر، وقال له: لتختبره بما يظهر صحة ما أقول، فأمر فرعون أن يوضع جمر في طست وجواهر في طست آخر، ويوضع بين يديه لينظر أيهما يأخذ، ففعلوا ووضع الطستان بين يدي موسى، فمد يده إلى الجواهر، ولكن مَلَكًا سدَّد يده بأمر من الله إلى الجمر، فأخذ جمرة فألقاها في فمه فاحترق بعض لسانه، فأحدث الحرق فيه لثغة، فتعقد نطقه؛ ولذلك قال فرعون بعد ذلك، وهو يُهوِّن أمر موسى بعد الرسالة: {أمَ أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين ولا يَكاد يُبِين} إشارة إلى هذا الاحتباس الذي كان في لسانه قبل أن يزول"، أما بعد الرسالة وبعد أن استجاب الله لموسى فقد حلت العقدة، سأل موسى ربه أن يحل عقدة من لسانه ليفصح كلامه؛ فيفهموه ويفقهوا قوله؛ لأن الكلام الفصيح أقرب إلى الفهم والفقه والقبول، ثم زاد موسى في دعائه فقال:

 

{وَاجعَلْ لِّي وَزِيرًا مِنَ اَهلِي هَارُونَ أَخِي اِشدُدْ بِهِ أَزرِي وَأَشرِكْهُ فِي أَمرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَّنَذكُرَكَ كَثِيرًا اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}

 

طلب موسى وزيرًا مقوِّيًا له ومعينًا له في أمره هذا الخطير، وطلب أن يكون أخاه هارون، وسأل الله أن يشركه في أمره حتى يتعاونا معًا على تحمُّل أعباء الرسالة، ويقبلا على العبادة على تسبيحه وذكره كثيرًا، وقد علم موسى بما علَّمه الله أن تسبيح الله وذكره من أعظم أفعال العبادة وأحظاها عند الله ـ تعالى ـ، وأنهما خير معين لهما على الأمر الذي يقبلان عليه من دعوة الناس إلى الله، فبالتسبيح والذكر يظفران بعون الله وتسديده وحفظه {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} (البقرة:152)، تلك هي العُدَّة، وهي أقوى من كل عُدَّة، ومن كان مع الله وكان الله معه لا يخيب؛ ولذلك قال حين كاد أن يدركه العدو: {كلا إن معي ربي سيهدين} (الشعراء:62).

 

{اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}

 

ختم موسى دعاءه بالثناء على ربه، وهذا من أدب الدعاء وأثنى عليه بما هو أهله، وبما يناسب المقام قال يا رب إنك كنت ولا تزال بصيرًا بنا وبأعمالنا وبنوايانا، وبصيرًا بأعدائنا ومَكرِهِم لا تخفى عنك خافية، وعلى البصير الحي القيوم الواحد الأحد المقتدر يتوكل المتوكلون.

 

{قَالَ قَدُ -اوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}

 

استجاب الله لموسى دعاءه وآتاه جميع سؤله، وصرح له بذلك تطمينًا لخاطره، وناداه باسمه إيناسًا له وإشعارًا بقربه من ربه وحظوته عنده، فلله ما أحلى هذه الكلمة!، وكم تحتوي عليه من الألطاف، ولقد كان موسى موقفًا في انتهاز هذه الفرصة للدعاء في هذا المقام المبارك مقام المناجاة ولحظة التجلِّي، سأل موسى ثمانية أشياء فأسعفه ربه بها كلها، سأل ربه أولا شرح صدره:

 

{قَالَ رَبِّ اشرَحْ لِي صَدرِي}

 

والشرح ـ في اللغة ـ: هو التوسيع وإذا ذكر في القرآن فهو نور يقذفه الله ـ تعالى ـ في قلب من يريد هدايته {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (الأنعام:125)، {أفمن شرح الله صدره للاِسلام فهو على نور من ربه} (الزمر:22)، وضدُّ الشرح: الضيقُ وقساوة القلب وإظلامه، وشتان ما بين الضدين، فالذي شرح الله صدرَه يعبُد الله على الرضا واليقين، ويتلقى أوامر الله وأحكامه، ولا يجد في نفسه حرجًا منها ويسلّم تسليمًا، ويرضى بقضاء الله ويصبر لبلائه ويشكر لنعمائه، ويحمد الله على كل حال، وهو الفرق بين المؤمن والمنافق ومريض القلب، فمن وجد صدره منشرحًا للإسلام فليحمد الله على ذلك، ومن وجد صدره ضيقًا حرجًا فليطلب العلاج، ولا ييأس من نفسه إذ ربما يقف على سبب ذلك فيتَّقيه، ويطلب الدواء فيشفيه الله فيصلح حاله، وشرح الصدر من أعظم نعم الله على عباده الذِّينَ اصطفى، ولقد امتن الله ـ تبارك وتعالى ـ على نبيّه الكريم فيما أنزل عليه {ألم نشرح لك صدرك} (الإنشراح:01)، وامتن على عباده المؤمنين بمضمون الشرح فقال {ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم وكرَّهَ إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} (الحجرات:07)، وهذا معنى آخر واضح من معاني شرح الصدور للإسلام

 

وقد سئل رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ عن معنى الشرح، قالوا يا رسول الله ما شرح الصدر؟ فقال: "نور يقذف في القلب"، ثم سألوه عن أمارة ذلك فقال: "التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله".

 

ولا نجد تفسيرًا لكلام الله أحسن من تفسير رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أمارات ثلاث بيَّنها النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وجعلها علامة على شرح الصدر، ولها في واقع الناس مظاهر وآثار، منها قوله ـ تعالى ـ في الإنفاق في وجوه البر {ومن الاَعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السَّوء والله سميع عليم} (التوبة:99)، {ومن الاَعراب من يُومن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} (التوبة:100)، بيَّن الله ـ تعالى ـ في هذه الآيات حقيقة الفريقين، الفريق الذي شرح الله صدره للإسلام، فهو ينفق راضيًا راغبًا بإنفاقه القربة عند الله، والفريق الذي لم يشرح الله صدره، فهو ينفق عن كره ويتخذ ما ينفق مغرمًا، والمغرَم: ما يأخذ جبابرة الملوك على الرعايا ظلمًا، فهم ينفقونه مكرهين ويتربصون دوائر السوء للانتقاض، ولذلك ما إن مات رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ حتى منعوا الزكاة وحاربوا جيوش المسلمين الذِّينَ دعوهم إلى حقيقة الإسلام فلم يستجيبوا، تلك هي الصدور الضيقة الحرجة التي لم يشرحها الله للإسلام، وهذا أمر الله، ونحن ليست لنا قوة على صنع قلوبنا كما نريد، فنسأل الله أن يشرح صدورنا للإسلام ويُغَلِّبنا على النفوس والأهواء، وندعوه كما دعاه عبده موسى على نبينّا ـ عليه الصلاة والسلام ـ

.

ثم إن موسى ـ عليه السلام ـ سأل المطلب الثاني وهو تيسير الأمر فقال

 

:

{وَيَسِّر لِيَ أَمرِي}

 

لقد كلف موسى أمرًا شاقًا وطويلا لا يقوى على تحمُّله والقيام به إلاَّ من أعانه الله، ولذلك طلب من الله التيسير، طلب من الله أن يُهوِّن عليه الصعب ويذلِّله له، وهو وحده القادر على ذلك، فلا يسير إلاَّ ما يسر الله ـ تعالى ـ، قال صاحب شرح العقيدة: "فجاءت نملة فاحتزمت، وقالت باسم الله، فحملت العرش بإذن الله"، وكثيرًا ما نغفل في أمورنا عن ذكر الله ونعتمد على قواتنا ومعرفتنا وأدواتنا، وننسى ذكر الله ولا نطلب منه التيسير، وما كان ينبغي لنا أن نغفل عن ذكر ربنا، فهذا الدعاء من موسى ـ عليه السلام ـ وإيراده في القرآن تنبيه وإرشاد أن نتوكل على الله في جميع أمورنا بعد أن نأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، ثم نطلب منه التيسير، وكثيرًا ما يرزقنا الله بغير سبب، والله يرزق من يشاء بغير حساب، سأل موسى من ربه التيسير كي يتمكن من القيام به على أحسن وجه، ثم سأله السؤال الثالث والرابع.

 

{وَاحلُلْ عُقدَةً مِّن لِّسَانِي يَفقَهُواْ قَولِي}

 

سأل موسى ربَّه أن يَحُلَّ عُقدة من لسانه، وقد تقدم ذكر سبب هذه العقدة، وقد أدرك موسى أن الكلام الفصيح له تأثيره في السامعين؛ لذلك طلب حلَّ عقدة لسانه حتى يفقهوا قوله، وَفَقْهُ الناس قولَه: هو نفسه مطلبٌ آخرُ يتوجه به موسى إلى ربه بذكره هنا؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولأنه قد يكون الكلام فصيحًا مفهومًا لا لُبس فيه؛ ولكنه لا يقبل ولا يفقه، والفَقْه، شيء أعمق من الفَهْم، والفاقِه أبلغ في الأمر من الفاهم، ثم إن موسى طلب المطلب الخامس والسادس والسابع والثامن فقال:

{وَاجعَلْ لِّي وَزِيرًا مِنَ اَهْلِي هَارُونَ أَخِي اِشدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشرِكْهُ فِي أَمرِي كَي نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَّنَذكُرَكَ كَثِيرًا اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}

 

سأل موسى ربه أن يَجعل له وزيرًا يُعينه في أموره إذا أحسن ويُنَهنِهَه إذا أستشاط به الغضب؛ لأن موسى كان سريع الغضب عصبي المزاج، وهارون كان أسنَّ من أخيه موسى، وكان ذا رزانة وحلم، ولابدَّ لِمثل هذا الأمر من غضبة موسى وحلم هارون، والملوك إنَّما تصلح بصلاح وزرائها وبطاناتها، فتجد الوزير الصالح لا يجاري الملك في هواه إذا هوى، ولا في غضبه إذا غضب، إنما يذكره ويبصره بعواقب الأمور، ويكفكف عن غربه إذا غضب، ويعينه على الإحسان إذا أحسن، فتستقيم أموره وتصلح رعيته.

 

كذلك طلب موسى من ربِّه وزيرًا يكون من أهله؛ لأنه يكون أخلص في المودة والنصح، وطلب أن يكون هذا الوزير أخاه الشقيق هارون لِما عَلِم فيه من الإيمان والاستقامة والرزانة والحلم وفصاحة اللسان، طلب من الله أن يشد به أزره، ويشركه في أمره: أي يُحمِّلَه الله من هذا الأمر مثل ما حَمَّلَه، وتلك هي الشركة فحينئذ يشد أزره، وشدُّ الأزر: هو تقوية الظهر، والمقصود شدُّ قُوَّته على تَحمُّل الأمر، فهو يعينه ويشير عليه ويقوي جانبه ويهدئ أعصابه إذا غضب، ويتحمل معه أذى فرعون وقومه ويَخلُفَه في قومه إذا غاب.

 

{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَّنَذكُرَكَ كَثِيرًا اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}

 

يقول موسى لربِّه بعد أن سأله هذه الأمور: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا}... الآية؛ لأن موسى قد علم بما علَّمه الله أن ذكر الله والتسبيح بحمده هو غاية الغايات، وما المقصود من اختياره وبعثه إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل إلاَّ دعوة الناس إلى توحيد ربهم بالعبادة، وذِكره وتسبيحه، وخير الأعمال أن لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله، وذكر الله يكون بالقلب، وما اللسان إلاَّ آلة للتعبير عما في القلب، وبكليهما ينال الذَّاكر الأجر عند ربه والله يحب الذاكرين ويجزي الشاكرين.

 

{قَالَ قَدُ اوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)}

استجاب الله لموسى كل دعواته وبشَّره في الحين قبل أن ينطلق إلى وجهته تطمينًا لخاطره وإكرامًا له، ثم خاطبه بخطاب آخر يُلفِتُه فيه إلى ما منَّ عليه من قبل، منذ ولادته وصباه حتى يزداد اطمئنانًا إلى حفاوة ربه به وإكرامه إياه؛ وذلك لعنايته به واجتبائه لتلقِّي وحيه وتبليغ رسالته.

 

طه: الآيات ( 37 - 41 ) منن الله على موسى وتربيته في بيت فرعون

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

----------------------------------

 

امتدت مناجاة الله لعبده موسى بهذه العبارات التي حملت أنباء موسى منذ ولادته والتي ظهرت فيها كرامات من الله لموسى وامتحان له وبلاء، وكان ذلك إعدادًا لِموسى لتحمُّل الرسالة العظيمة، وتربية لبدنه ثم تربية لقلبه ونفسه وتهيئة لها لتكون على مستوى المسؤولية المعدة لها، قال الله لموسى:

 

{وَلَقَد مَنَنَّا عَلَيكَ مَرَّةً -اخرَى}

 

ولقد أنعمنا عليك مرة أخرى: أي مننَّا عليك بنعم لَم تسألها أنت، وكانت قبل أن تعرف السؤال، وذلك قبل ولادتك وأنت جنين في بطن أمك، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى أم وموسى، هو وحي ولم تكن نبوة، وليس في النساء نبيات، إنما هو إلهام وإعلام من الله والله أعلم بكيفية هذا الوحي، والذي نعلمه أنه وحي تلقته أم وموسى وفهمته واطمأنت إلى صدقه، وأنه من الله ثم قامت بتنفيذه، وقوله ـ تعالى ـ:

 

{إِذَ اَوحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}

 

جاء إبهام المُوحي للوحي من قبل البيان، وفي التعبير ما فيه من الروعة وفيه إشعار للسامع بأن مضمون هذا الوحي أمر عجيب ومعجز وحكيم وفي غاية الأهمية، ونظيره قد تقدم عند قوله ـ تعالى ـ: {فَاستَمِع لِمَا يَحيَى} فلله ما أبلغ وأحكم كلام الله، وقد تكون أم موسى قصت على موسى تاريخ ولادته وتربيته، ولكن سماعه من ربه الذي أوحى إلى أمه، أعلى وأعظم وأشد تأثيرًا في نفسه، وحلاوة المناجاة تضفي على موسى أنسًا واشراحًا في صدره وسرًا يجده في قلبه، فما هو تفصيل هذا الوحي الإلهي؟

 

{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقِذفِيهِ فِي اليَمِّ فَليُلقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَاخُذُهُ عَدُوٌّ لِّي وَعدَوا لَّهُ}

 

كانت هذه الكلمات التي أوحى الله بها إلى أم موسى، ووَعَتْهَا

 

{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ}

 

أمرها الله أن تقذف ابنها في التابوت وتقذفه في اليم، واليم هو معظم ماء البحر، وهو بحر النيل، وفي التعبير بالقذف إيحاء بديع لمعنى عجيب، أمرها أن تقذف الولدَ، لا أن تضعه بلطف، إشعارًا منه أنه في عناية الله ولُطْفِه وحفظه، فهو بمجرد ما يفارق يديها يقع في يد الله، فما عليها إلاَّ أن تقذف الوليد فإذا هو بيد الله تتلقفه وتتولى أمره كله، وقد كان في يد الله قبل أن تقذفه في التابوت، فهمت أم وموسى أمر الله وقامت تعدّ التابوت قبل ولادتها فذهبت إلى "حزقيل النجار" الذي علم الله أنه سيكون الرجل الذي يؤمن بموسى ويكتم إيمانه فصنع لها تابوتًا محكمًا لا يتسرب إليه ماء البحر، وأعدَّته له وفرشته ومهدت للولد تمهيدا واحتاطت لأمرها، وكانت الأيام عصيبة حالكة، كانت القوابل وحراس فرعون الطاغية يطوفون على الحوامل اللاتي اقترب وضعهن، وكانوا يذبحون الوليد الذكر ويستبقون الأنثى للخدمة، وهذا بلاء من الله عظيم لبنِي إسرائيل، وفي ظل عناية الله وحفظه ولدت أم موسى ابنها، ولم يشعر بها أحد من عيون فرعون فأرضعته ووضعته في التابوت، ووضعت التابوت في بحر النيل، وقيل كانت ربطت التابوت بخيط إلى بيتها فلما أراد الله تنفيذ أمره تقطع الخيط فذهبت أم موسى إلى رضيعها كعادتها فلم تجد التابوت، فقد ساقه اليم بأمر الله إلى حيث يريد الله.

{فَليُلقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ}

 

ساقه موج البحر وتياره المندفع إلى الساحل، إلى حيث فرعون جالس على ساحل، فرآه فأمر الخدم أن يرفعوه إليه ففتحه، فوجد فيه غلاما بهيَّ الطلعة جميل الوجه، وأراد الله أن يأخذه فرعونُ عدوُّ الله وعدوُّ للوليد، فهو عدو لله؛ لأنه مشرك نصَّب نفسه إلها يعبد من دون الله، وله آلهة يعبدها من دون الله، وهو أيضا عدو للوليد؛ لأنه هو الذي يكون خراب ملكه على يديه، وهو الذي يقتل المواليد من أجله، ولو علم أنه هو هذا لقتله، ولكن مكر الله شديد، فقد شاء الله أن يحتضن هذا الوليد الذي هو عدوٌّ له، وألقى الله محبته في قلبه ولم يشعر أن هو سبب موته وزوال ملكه، وكان يمكن أن يكون سبب سعادته لو كان يسمع أو يعقل.

 

{وَأَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}

 

ألقى الله على موسى محبة منه على كل من رآه يحبه، فقد أحبه فرعون الطاغية الذي يقتل مواليد بني إسرائيل من أجله، ولكن المحبة التي ألقاها في قلبه فلَّت كل سلاح، وأغنت عن كل دفاع، فهي جند من جنود الله {وما يعلم جنود ربك إلاَّ هو} (المدثر:31)، وكذلك أحبته امرأة فرعون، فقالت: "لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا"، وأحبه كل من رآه، فالتمسوا له المراضع فتبارت النساء في إرضاعه، ولكنه لا يقبل منهم ثديًا؛ لأن الله حرَّم عليه المراضع إلاَّ ثدي أمه؛ ليرجع إليها كما وعدها الله، ولا بدَّ أن يتحقق وعد الله.

 

{وَلِتُصنَعَ عَلَى عَينِيَ}

 

ولتصنع على حفظي وعنايتي، أراد الله أن يتربَّى موسى وينشأ النشأة التي يحبها الله لمثله حتى يشب على الهيئة التي يستطيع بها أن يتلقى رسالة الله، ويبلغها أحسن تبليغ، كل ذلك والله يمتن على عبده موسى بما يَمتَنُّ؛ ليزداد حبًا لربه وثقة به وما أوجزها وأبلغها عبارة {وَلِتُصنَعَ عَلَى عَينِيَ} عبارة تفيض بالعناية والحفظ والتكريم في كل حركة يتحركها هذا المولود الكريم على ربه، فليقع بعد ذلك في يد عدو أو صديق أو قريب أو بعيد.

 

{إِذْ تَمْشِي أُختُكَ فَتَقُولُ هَلَ اَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَّكفُلُهُ}

 

ذلك أنه لما ذهب التابوت في البحر، أصبح فؤاد أم موسى فارغًا إن كادت لتُبدي به لولا أن ربط الله على قلبها؛ لتكون من المؤمنين بوعد الله، وقد وعدها أنه سيرجع إليها، فأرسلت أخته تقص أثره وتتحسس خبره، فذهبت أخت موسى تتحسس في لطف ولا تشعر أحدًا بما في نفسها، وهو ما تدل عليه الكلمة: {فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون} (القصص:11)، لقد كانت أخت موسى شاهدة حيث امتنع الصبي عن امتصاص أي ثدي من مئات المراضع اللاتي أقبلن عليه يشغف، وقد ألقى الله عليه محبة منه في قلوبهن، وكل واحدة حريصة أن يقبل منها لتفوز بحباء الملك وهداياه، امتنع الصبي؛ لأن الله حرم عليه المراضع، والتحريم هنا قدري لا شرعي، فلما أعياهم أمره وخافوا عليه منه الهلاك عرضت عليهم أخته الأمر، وهو أن امرأة في بيتها لها لبن في ثديها فإن شئتم رفعت إليها الصبي لعله يقبل منها فتكلفه لكم، وهي ناصحة في إرضاعه وحضانته لا تألوا في ذلك جهدًا، فوافقوا على ذلك فذهبت به، فما إن عرضت عليه ثديها حتى التقمه وامتص لبنه، فتحقق وعد الله وقرَّت عين أمه برجوع ابنها إليها وازدادت إيمانًا بوعد الله.

{فَرَجَعنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَي تَقَرَّ عَينُهَا وَلاَ تَحزَنَ}

 

ولبثت عامين كاملين ترضع ابنها، وتأخذ على إرضاعه وحضانته أجرًا، فلما استوفى رضاعه، ردَّته إلى بيت فرعون، حيث استقبلت بالهدايا والصلات الوافرة، وتربى موسى وترعرع في قصر فرعون معززًا مكرمًا، والقدر يضحك على فرعون الذي ظل يربِّي عدوه في حجره وينفق عليه، هذا الذي قتلت الآلاف من أجله، تربيه في بيتك، ويتقلب في حجرك وحجر امرأتك مطمئنًا مدلَّلا فسبحان من إذا أراد شيئًا هيأ له الأسباب، ولا يكون في ملكه إلاَّ ما يريد، ثم قال ـ تعالى ـ:

 

{وَقَتَلتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ}

 

ذلك أن رجلين اقتتلا، أحدهم قِبطيٌّ والآخر من بني إسرائيل، فاستغاث الأخير بموسى على عدوه، فوكزه موسى فقضى عليه وما كان يريد قتله فاغتمَّ موسى غمًا شديدًا؛ لِما يلحقه من الإثم بقتل النفس، ولِمَا سيلحقه من العقوبة من فرعون، فنجاه الله من الغمِّ الأول، بأن غفر له ذنبه، ومن الغم الثاني بأن يسر له سبيل الهجرة والفرار قبل أن يلقى عليه القبض فنجا من القوم الظالمين.

 

{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}

 

قال الله ـ تعالى ـ لموسى: {وَفَتَنَّاكَ} وابتليناك وامتحناك امتحانًا، وأي فتنة هذه؟ ذلك أنه خرج من وطنه فريدًا طريدًا فارًّا بنفسه، تاركًا أبويه وذويه، لا يدري ما يستقبله من محن وأتعاب، وهذا الخروج تحوُّل كبير في حياة هذا الشاب الذي تربى في النعيم في قصر ملك، ثم انتقل من القصر إلى البادية، ثم إلى رعي الغنم سنوات وسنوات طويلة، وشتان ما بين الحياتين، إنه هو الفتون حقًّا، وأراد الله به ذلك؛ ليتكَوَّن نفسيًّا وبدنيًّا وخلقيًّا فلا بدَّ له من رعي الغنم قبل رعي البشر؛ ليتعلم من رعي البهم كيف يرعى ويسوس الناس من قومه، ويظل حريصًا عليهم رؤوفًا بهم يرعى ضعفاءهم ويلاطف أقوياءهم، ويربيهم ويصبر على أذاهم ويعُرض عن سفهائهم، وما من نبي يبعثه الله إلاَّ ويكون قبل بعثته راعيًا، كذلك كان نبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ يرعى غنمًا بمكة على قراريط يقتات بها، ويُعين بها كافله "أبا طالب" عمه، وكان كثير العيال، كذلك تعرض موسى لفتون الله وأرد الله به ذلك لتكمل صناعته على عين الله حتى ينشأ نشأة قوية، تؤهله لمسؤوليته الضخمة.

 

{فَلَبِثتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئتَ عَلَى قَدَرٍ يَّا مُوسَى وَاصْطَنَعتُكَ لِنَفْسِيَ}

 

فلبثت سنين في أهل مدين، قيل إن موسى فر من مصر وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولبث في مدين ثمان وعشرين سنة ثم عاد إلى وطنه على رأس أربعين سنة ليتلقى رسالة الله وهو السن الذي ينبأ فيه الأنبياء، وكل هذا وموسى لا يدري ما يراد به ولا ما يراد له، ثم بعد هذه المدة جاء إلى جانب الطور على قدر من الله قدر زمانه ومكانه، وما كان مجيئه إلاَّ تيسيرًا من الله؛ ليبلغ مكان الموعد في الوقت المحدد.

 

{ثُمَّ جِئتَ عَلَى قَدَرٍ يَّا مُوسَى وَاصْطَنَعتُكَ لِنَفْسِيَ}

 

وهنا خاطبه الله بذكر اسمه للمرة الخامسة في هذا الموقف في الوادي المقدس، كل ذلك إيناسًا لموسى، ولا يعلم إلاَّ الله ما بداخل قلب موسى من الأنس بربه حين يسمع النداء باسمه، وهنا يبلغ الأنس والشرف ذروته حين يسمع كلام الحق جل جلاله.

 

{وَاصْطَنَعتُكَ لِنَفْسِيَ}

 

أي تخصيص؟!، وأي إكرام؟!، وأي تقريب تحمله هذه العبارة؟! وأي موقع يكون لها في قلب هذا العبد الذي يناجيه مولاه ويبوح له أنه اصطنعه لنفسه؟!، كلمة تحمل التقريب والتخصيص والاصطفائية، إنه مقام كريم ومنزلة مباركة ينزلها موسى من ربه وهو خير المنزلين، يقول له ربه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِيَ} لنفسي خاصة، لا لنفسك، ولا لأهلك، ولا لأحد آخر، لا حظَّ لغيري فيك، فلتكن في خدمتي وطاعتي وتبليغ رسالتي وأنا أعصمك من الناس، وأجعل لك ولأخيك سلطانًا فلا يصل إليك أعدائي بسوء {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (القصص:35)، ومن كان صنيعة الله فلا يخيب ولا يخزى ولا يقهر ولا يغلب، فما عليه إلاَّ أن يتَلَقَّى أمر الله ويسعى في تبليغه والله معه وناصره.

 

طه: الآيات ( 42 - 55 ) دعوة موسى عليه السلام لفرعون ومحاورته له

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)

-----------------------------

 

بعد أن طمأن الله عبد موسى بتعداد نعمه عليه، وتذكيره بها وآنسه باصطناعه لنفسه، أمره أن يذهب إلى فرعون بصحبة أخيه.

 

{اِذهَبَ اَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي}

 

اذهب أنت وأخوك هارون مزودين بآياتي، الآيات التي أراه الله إياها، والتي سيريهما هو وأخاه وبني إسرائيل وفرعون وقومه.

 

وفي قوله ـ تعالى ـ: {اِذهَبَ اَنتَ وَأَخُوكَ}

 

إيذان من الله ـ تعالى ـ أن الله قد استجاب له، وأعطاه سُؤْله، وقد أوحى لأخيه هارون وأشركه في أمره، والله ـ تعالى ـ لا يشغله شأن عن شأن.

 

قال ـ تعالى ـ: {ولا تنيا في ذكري}

 

أي: ولا تفترا عن ذكري؛ لأن ذِكر الله هو النور، وهو العون لهما على جميع أمورهما، وهو سلاحهما ودرعهما الذي يقيهما كيد إبليس ومن دون إبليس من شياطين الجن والإنس، وهذا إرشاد من الله لنا أن نستعين في أمورنا كلها بذكر الله ـ تبارك وتعالى ـ، وكذلك جاء في القرآن الكريم {يا أيها الذِّينَ ءَامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} (الأنفال:45).

 

وجه الله الأمر إليهما بالذهاب بصيغة التثنية؛ لأن المأمورين موسى وهارون، وقد يكون الله أمر هارون كما أمر موسى، وقد يكون الأمر في مناسبة أخرى بعد هذا الموقف، وجاء التصريح هنا بفرعون، ووُصِفَ بالطغيان؛ لأنه المقصود الأول بالذهاب، فهو رئيس القوم المعبود المتَّبع الذي طغى واستعبد الناس وجعلهم شيعًا، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وهو الطغيان البيِّن، فأراد الله أن يقيم عليه الحجة قبل أن ينتقم منه، وقد علم الله أنه لا تنفعه الذكرى وأمر عبده موسى وأخاه هارون أن يقولا له قولا لينًا فقال:

 

{فَقُولاَ لَهُ قَولاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى}

 

ومن رحمة الله ـ تعالى ـ أن يختار رسله ويجعلهم على أخلاق حسنة ثم يأمرهم بِإِلانة القول للذين يدعونهم، وكذلك أمر عبده ونبيّه موسى أن يلين القول لفرعون الطاغية، وفي الأمر إشارة إلى حق فرعون على موسى؛ لأنه الذي رباه وأحسن إليه زمنًا طويلا، وفي قوله ـ تعالى ـ:

 

{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى}

 

حثٌّ لموسى أن يجتهد في تبليغ الدعوة بأسلوب حكيم فيه رفق ولين رغبةً في إيمان فرعون، لعله يرجع إلى الفطرة، ويتذكر الحق، ويخشى عذاب الله وعاقبة الكفر والطغيان.

 

{قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَّفرُطَ عَلَينَا أَوَ اَن يَّطغَى}

 

جاء القول هنا بالتثنية، ولم يكن هارون مع موسى، فقد يكون هذا القول في مناسبة أخرى وهما مجتمعان، وقد يكون قول هارون موافقًا لقول موسى حين أوحى الله إليه هو الآخر، فنسب القول إليهما جميعًا، قال موسى وهارون:

 

يا ربنا {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَّفرُطَ عَلَينَا}

 

أي: يُعجِّل علينا في العقوبة، ويطغى علينا طغيانًا يقطع علينا طريق الدعوة.

 

{قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}

 

قال الله لهما لا تخافا وتوكلا عَلَيَّ واعتصما بي إنني معكما، ستجداني عندكما ومعكما أسمع وأرى، وناصية الأمور كلها بيدي، ثم لا يقع في ملكي إلاَّ ما أريد، ومن كان الله معه فهو الغالب المنتصر، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

 

{فَاتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُم قَد جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}

 

بعد أن طمأن الله موسى وهارون بِمعيَّته وسمعه وبصره، لقن لهما القول الذي يقولانه لفرعون والمطالب التي يقدمانها له، أمرهما أن يأتياه ويقولا له: إنا رسولا ربك الذي هو الله لا إله إلا هو أرسلنا بالحق وأيَّدنا بالآيات البيّنات.

 

{فَأَرسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ}

 

أطلِق سراح بني إسرائيل، وأرسلهم معنا ولا تعذبهم باستخدامهم وقتل أبنائهم.

 

{قَد جِئنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}

 

قد جئناك بالحق مؤيَّدين بآية من ربِّك ربِّ السماوات والأرض، والآية هي العصا واليد

.

{وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}

 

السلام: هو الأمن والعافية وحسن العاقبة، وحفظ الله وعنايته على من اتبع هداه وآمن برسله وصدق بكلماته.

 

{إِنَّا قَدُ -اوحِيَ إِلَينَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}

 

إن الله قد أوحى إلينا فيما أوحى أن عذابه يحق على من كذب بآياته وتولى ولم يؤمن، وأعرض عن ذكره واتخذ آيات الله هزوًا، هذا ما كان من أمر الله لموسى وهارون، فاستمَعَا لأمر الله وذهَبَا إلى فرعون وبلَّغا له ما أُمِرا به من القول في حكمة وموعظة حسنة وقول لين، فماذا كان جواب فرعون لهما بعد هذا؟

 

لقد أنكر أن يكون الله ربَّه، واستنكف واستكبر فردَّ عليهما السؤال في كبرياء وجحود.

 

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى}

 

قال: فمن ربكما يا موسى؟ فكأن الله رب موسى وهارون وحدهما، وليس ربًّا لفرعون وقومه ورب العالمين، تَجاهَل فرعون أمر ربَّه، وسأل موسى سؤال تعنت وعناد، ونادى موسى باسمه كالمحتقر الذي لا يعترف بنبُوَّته ولا برسالته هو وأخيه هارون، وأفرد موسى بالتصريح باسمه؛ لأنه يعلم أنه هو الأصل في القضية، وهو القائم بأمر الدعوة والتبليغ والمحاور لفرعون.

 

{قَالَ رَبُّنَا الذِي أَعطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}

 

ألهم الله موسى فأجاب فرعون بجواب سديد مقنع، فعرّف ربه تعريفًا بينًا بوصفين يعجز عنهما فرعون وغير فرعون، عرَّف ربه بالخلق والهداية، وهما وصفان خاصان بالله ـ تبارك وتعالى ـ، {قَالَ رَبُّنَا الذِي أَعطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، ربنا الذي خلق كل شيء على هيئة خاصة سواها تسوية، ثم هدى كل مخلوق إلى القيام بمهمته التي خلقه الله من أجلها أحسن قيام، وفي هذا باب واسع من العلم لمن أراد أن يطلع على حكمة الله ورحمته بمخلوقاته، ما من شيء خلقه الله إلاَّ ومكَّنه بما مكَّنَه به من الإلهام الذي يؤدي به وظيفته التي خلق من أجلها، وألهم الحيوانات أن تبني بيوتها وأوكارها وأعشاشها، وأن تربِّي صغارها وأن تجمع أقواتها، وسلَّحها بالأسلحة التي تدافع بها عن نفسها، والآية أعم من الحيوانات دقيقها وجليلها، بل تعُمُّ كل ذرة، وكل مخلوق في الأكوان علويها وسفليها، مما نبصر وما لا نبصر، وتنطبق أيضًا على جوارحنا وأعصابنا وعروقنا، كل مخلوق على الهيئة التي تصلح به، وألهمه أن يؤدي وظيفته أداء دائبًا مستمرًا إلى أجله المضروب، وجاءت: "ثم" هنا، لا للمهلة فليس ثمة مهلة بين خلق الأشياء وهدايتها، وإنما هي لإلفاتنا إلى حكمة الهداية، بعد الخلق ورحمة الله بخلقه وإتقانه لصنعه، فكم يمكننا أن نحصي مخلوقات الله في هذا الكون الواسع؟ ومن ذا الذي يحصي وظائف المخلوقات كلها {وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً} (الإسراء:85).

 

وفي غير موضع من القرآن الكريم نجد الخلق مقرونًا بالهداية، هنا في محاورة موسى لفرعون، وفي محاورة إبراهيم ـ عليه السلام ـ لقومه: {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء:78)، وفي سُورَة {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} (الأعلى:01-03)، وهذا النمط من الهداية نجده في سُورَة النحل {وأوحى ربنا إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذُلُلاً} (النحل:68-69) وكذلك ألهم الله النمل والجراد والطيور والحيتان والدواب، وكل شيء خلقه الله {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاَّ أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} (الأنعام:38)، وتتسع هذه الهداية لجميع المخلوقات حتى الذرات من الجماد والسحب والأمطار والنبات، كل يسير في خطة معينة مرسومة، والنجوم والكواكب تسبح في أفلاكها في نظام دقيق، وكان فرعون يستمع لموسى وهو يحاوره ولم يرد عليه؛ لأنه يعلم في قرارة نفسه أن هذا الكلام حق، وإنما ذهب في مرائه مذهبًا آخر، فسأل عن القرون الماضية: أعلى هُدىً هي أم في ضلال؟

 

{قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الاُولَى قَالَ عِلمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}

 

قال فرعون لموسى فما بال القرون الأولى؟، أي الأجيال الماضية، سأل هذا السؤال، وكأنه تأثر بكلام موسى، وأحس في نفسه بنوع من التذكر، ومهما بلغ أحد من الطغيان فإنه لا بدَّ تمر به لحظات يتجلى نور الحق في ضميره، وتقوم به عليه الحجة، ولكن سرعان ما تطغى الشهوات والأهواء فينكص على رأسه، ونعوذ بالله من غلبة الأهواء وطغيان الشهوات.

 

ويقول بعض المفسرين: إن فرعون سأل عن القرون الأولى مداورة منه ومناورة لينقل الحوار إلى موضوع آخر، حتى لا يظهر عن عجزه؛ لأن الحجة لزمته، وخشي أن يطلع الناس عن عجزه، وقد كان ينبغي له الإنصاف والتسليم بالحق لولا الكبر، فانتقل إلى السؤال عن القرون الأولى، وما له والقرون الأولى، وما هو عنها بمسؤول، فوفق الله موسى إلى الجواب السديد.

 

{قَالَ عِلمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}

 

ألهم الله عبده موسى ـ عليه السلام ـ هذا الجواب الحكيم القاطع، وهذا من الله تعليمٌ لنا وتلقين؛ لنتعلم كيف نجيب أمثال فرعون المتنطعين الذِّينَ إذا دعوتَهم إلى الحق بالبرهان والحجة يقولون: وما بال آبائنا وأجدادنا؟ لقد كانوا إذن على ضلال، وهذا هروب من الإنصاف عن الحق، ومالنا ولآبائنا الأولين، إنهم كانوا مهتدين وحِدْنا عن هداهم، فلن ينفعنا هداهم شيئًا، إن نحن تنكَّبنا طريقهم واتبعنا سبل الضلال، وإن كانوا ضالين فاهتدينا فلن يضرنا ضلالهم شيئًا، إنما أمرهم وأمرنا كما قال الله: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة:141).

 

{قَالَ عِلمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}

 

قال علم تلك القرون عند ربي، أي: لا عندك ولا عند أربابك الذِّينَ تعبدهم من دون الله، علم تلك القرون والطرق التي سلكها من أطاع منهم ومن عصى، وجزاء الفريقين عند ربي في كتاب مدون مضبوط، لا يضل ربي ولا ينسى.

 

وقد فكرت كثيرًا في معنى هذا الضلال المنفي هنا في حق الله ـ تعالى ـ حتى اهتديت إلى المقصود منه بالرجوع إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وما فسَّر القرآن مثل القرآن، وذلك قوله ـ تعالى ـ: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاُخرى} (البقرة:282)، والضلال هنا: ليس هو إتباع طريق الغواية وطاعة الهوى، إنما هو الخطأ والتضييع عن غير قصد، والنسيان قريب من هذا المعنى، ولذلك قُرِنا هنا معًا في نسق كما قُرِنا أيضًا في قوله ـ تعالى ـ: {ربنا لا تواخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة:286)، قرن الخطأ مع النسيان، وهو الضلال عن غير قصد في قول أو عمل، فالضلال هنا: هو الجور عن الصواب، قال موسى هذا الكلام لفرعون صَرفًا له عن فضوله، وتدخُّله فيما لا يعنيه، وهي حجة مُلزِمة، وجواب قاطع له ولغيره من كل مجادل متنطع لا يقبل الحق ولا يريده، ثم ذكَّره بربه الذي أسبغ عليه وعلى قومه نعمًا كثيرة لا تعد ولا تحصى، وهي دلائل على وجوده وقدرته وسعة علمه ورحمته بخلقه.

 

{الذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرضَ مِهَادًا وَّسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَّأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجْنَا بِهِ أَزوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى}

 

لا زالت محاورة موسى ـ عليه السلام ـ لفرعون مستمرة، والكلامُ كلامُ موسى، وفي أثنائه يأتي قوله ـ تعالى ـ: {فَأَخرَجْنَا بِهِ أَزوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى...} إلخ، وهذا من كلام الله ـ تعالى ـ، وقد يكون كلام موسى ويكون الله صاغه صياغة أخرى، تصلح لكل قوم ولكل زمان، والكل من عند الله، وإذا كان هذا من كلام موسى فهو تذكير لفرعون بنعمة الله في تمهيد أرض مِصر التي هي من أخصب وأطيب بلاد الله، وإن كان هذا من كلام الله ـ تعالى ـ، والالتفات من فنون البلاغة، فالله ـ تعالى ـ يذكرنا بنعمه في تمهيد الأرض للزرع والبناء والضرب فيها، وأن الله سلك لنا فيها سبلا متتابعة من قرية إلى أخرى وأنزل الله من السماء ماء فأخرج به أصنافًا وأنواعًا من نبات مختلف الأشكال والألوان والطعوم، من كل صنف زوجان.

 

{كُلُوا وَارْعَواْ اَنعَامَكُمُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى}

 

إن في ذلك التمهيد للأرض، وجعْل السبل فيها، وإنزال الماء من السماء، وإخراج أزواج النبات من الأرض من متاع الناس والأنعام لآياتٌ لأولي العقول والألباب الذِّينَ يتفكرون في نعم الخالق الرازق؛ فيزدادون له حبًا وبه إيمانًا وتعلقًا، أباح الله خيرات الأرض والطيبات من الرزق.

 

{كُلُوا وَارْعَواْ اَنْعَامَكُمُ}

 

كلوا من ثمارها وخضارها وحبوبها، وارعوا أنعامكم في نجودها ووهادها وجبالها، واسقوها من مياهها، واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون، وتفكروا في الخلق تفكير يهديكم إلى الخالق، وما هدى الإنسان مثل التفكر، فهو الذي يجعل الكافر مؤمنًا والمتحيِّر موقنًا، ويزيد المؤمن إيمانًا، ولذلك حثَّ الله على تدبر آياته البينات في مخلوقاته ومدح المتفكرين وذم الغافلين المعرضين.

 

{مِنهَا خَلَقنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُم وَمِنهَا نُخْرِجُكُم تَارَةًاخْرَى}

 

يقول الله ـ تعالى ـ: من الأرض خلقناكم الخلق الأول، وفيها نعيدكم يوم دفنكم، ومنها نخرجكم يوم بعثكم تارةً أخرى، يذكرنا ربنا ـ تعالى ـ بعهدنا الأول ومَقَرِّنا الأخير، وأصل تكويننا المادي الذي منه تكويننا الأول ومعيشتنا، فأجسادنا هذه من ذرات الأرض تتغذى من نباتها، وفيها تثوي وتنحل، ثم منها تبعث يوم ينفخ في الصور، وبهذا المعنى يذكر موسى فرعون حتى لا يطغى، ولقد كان طغيانه بأرض مصر ونيلها ومزارعها، فقال له موسى: إن هذه الأرض منها خلقتَ وفيها تعود ومنها تخرج تارةً أخرى للبعث والحساب، وإنها لتذكرة بليغة لو كان يعي ويعقل، ولكنه الكبر والعناد والتمرّد والإباء، ومن كان طبعه كذلك لا يؤمن ولو جاءته كل آية حتى يرى العذاب الأليم.

 

طه: الآيات ( 56 - 69 ) مناظرة موسى عليه السلام للسحرة

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)

-----------------------------

 

هكذا يطوي الله الكلام هنا في الآيات التي أراها لفرعون من العصا والثعبان واليد وغيرها من الآيات التي ذكره بها موسى، والتي لو تدبرها لآمن بخالقها وخالقه، يقول ـ تعالى ـ:

 

{وَلَقَدَ اَرَينَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}

 

الآيات التي علم الله أنها تكفي لإيمان أمثاله ـ وليست كل آيات الله ـ لقد رأى فرعون بما أراه الله آيات الله كُلَّها والمعجزات التي جاءته على يد نبي الله موسى، فكذَّب وأبى أن يستجيب للحق الذي ظهر ولجأ إلى اللدد والخصومة، وكذلك شأن المستكبرين.

.

{قَالَ أَجِئتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنَ اَرضِنَا بِسِحرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَاتِيَنَّكَ بِسِحرٍ مِّثلِهِ}

 

لجأ عدوُّ الله إلى الجدال وازداد بالحق ضلالا، ونظر إلى آيات الله البينات فقال إنها سحر، وكذلك من طمس الله بصيرته بحب الدنيا والتشبث بالعُلُوِّ فيها، قال لموسى: أجئتنا بهذا الأمر لتخرجنا من أرضنا بسحرك، وهذا إغراء منه لقومه على الدفاع عن أرضهم، وإنما كفرُهم بآيات الله وعنادهم لرسل الله هو الذي أخرجهم من أرضهم، ولقد كان بإمكانهم ـ لو عقلوا ـ أن يميزوا بين معجزات الله وبين السحر، قال في لهجة المعاند المجادل.

 

{فَلَنَاتِيَنَّكَ بِسِحرٍ مِّثلِهِ}

 

أدرك عدوُّ الله أن الذي جاء به موسى عظيم فلن يستطيع أن يأتي بأعظم منه، ولذلك قال: {بِسِحرٍ مِّثلِهِ} وهذا تلبيس منه على الناس وإبهام لهم أنه يقوى على معارضته، وقد كانت بلاد مصر يومئذٍ تعج بالسحرة، وأكثر بنِي إسرائيل ممن ورث السحر عمن ورثه من أجدادهم عن شياطين سليمان، قال فرعون لموسى:

 

{فَاجْعَلْ بَينَنَا وَبَينَكَ مَوعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سِوًى}

 

طلب من موسى أن يعَيِّن له يومًا ومكانًا يجتمعون فيه للمباراة، وهذا منه إدلاءٌ بقوَّته، وسيأتي مثل هذا المعنى في مخاطبته لموسى في إلقاء ما عنده، وإنما يدلِي بهذا التخيير من كان معتزًا بقوته غير عابئ بخصمه، وقد اعتدَّ بالسحرة من قومه، فهو يطلب مهلة لجمعهم وإحضار مَهَرَتِهم للمباراة، وقد يكون منه هذا الطلب ربحًا للوقت، ولولا معيَّة الله لموسى وأخيه هارون وحفظه لهما، لكان فرعون طغى عليهما وأمر بقتلهما، ولكن عصمة الله حالت دون ذلك، ولا يكون إلاّ ما أراد الله، قال

:

{فَاجْعَلْ بَينَنَا وَبَينَكَ مَوعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سِوًى}

 

موعد زماني يتأكد الحضور عنده، ولا يخلَّف عنه أحد، وموعد مكاني في موضع مُستَوٍ واسع، ليس فيه بناء ولا شجر حتى يشهد الناس كلُّهم نتيجة المباراة، لا يحجبهم عنها حاجب، ويظهر فرعون هنا مظهر الحريص على ظهور الحق؛ ليوهم قومه أنه مصلح كبير، وأنه يخاف على قومه تبديل دينهم وظهور الفساد في الأرض، وهو نفس الأسلوب الذي يستعمله طغاة الملوك والرؤساء مع بسطاء رعاياهم، وهم دهماء الناس وعامتهم، أما مع الخاصة فلهم أساليب أخرى يلجؤون إليها.

 

{قَالَ مَوعِدُكُمْ يَومَ الزِّينَةِ وَأَن يُّحشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرعَونُ فَجَمَعَ كَيدَهُ ثُمَّ أَتَى}

 

قال موسى لفرعون حين طلب منه موعدًا للإتيان بما عنده من السحر، قال: {مَوعِدُكُم يَومَ الزِّينَةِ}، وهو يوم عيد من أعيادهم، يتزينون فيه ويخرجون جميعًا رجالهم ونساؤهم، فضرب لهم موسى هذا اليوم موعدًا ليحضر الجميع، ويشهدون الحق وتقوم عليهم الحجة، واختار موسى من أوقات اليوم ضُحاه، وهو أجلى للناظرين، وألطف أوقات اليوم جوًا، والظهيرة وقت تلفح الشمس فيه الناس، ومصر بلدٌ حارٌ، فاختار لهم هذا الوقت؛ ليخرج كل الناس وليشهدوا في وضوح كل ما يجري واليوم يوم عيد، لا ينشغل الناس بأعمالهم فيحشرون كلهم حشرًا لمشاهدة المباراة ولمن تكون الغلبة وعلى من تدور الدائرة.

 

{فَتَوَلَّى فِرعَونُ فَجَمَعَ كَيدَهُ ثُمَّ أَتَى}

 

كلمات موجزة طوى فيها ما بسط في آيات أخرى من القرآن من استعداد فرعون لذلك اليوم وإعداده له العدة، وحشر جموع السحرة المهرة.

 

{فَتَوَلَّى فِرعَونُ}

 

فيه ما فيه من التعبير عن الإعراض عن الحق واللجوء إلى الباطل؛ ليدحض به الحق واتخاذه لآيات الله هزؤا.

وقوله: {فَجَمَعَ كَيدَهُ}

 

فيه التعبير البليغ عن جمع فرعون لقِوَاه وحِيَلِه لمحاربة الله ورسله، وإنه لَم يأل في ذلك جهدًا، لقد كانت هنالك مؤتمرات تعقد للمشاورة لإعداد العدة الكاملة، عبّر عنها القرآن مرة بـ: "إيراد ما أمر به فرعون من حشر السحرة الماهرين"، ومرة بـ: "طلب الملأ من فرعون أن يبعث في المدائن حاشرين ليأتوا بكل سحَّار عليم"، لقد جمع الجبار كيده ثم أتى معتدًا بما عنده من القوى، مُقْدمًا على محاربة الله ورسوله، طامعًا أن يكسب النصر في هذه المعركة، لكن موسى حذَّره وقومه من مغبَّة أمرهم، وخوَّفهم من سوء العواقب وأعلمهم أن مآلهم الهزيمة والخيبة لا محالة.

 

{قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفتَرُواْ عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيَسْحَتَكُمْ بِعَذَابٍ وَّقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أُمرَهُمْ بَينَهُم وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنَّ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُّخْرِجَاكُم مِّنَ اَرضِكُمْ بِسِحرِهِمَا وَيَذهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيدَكُمْ ثُمَّ اَيتُوا صَفًّا وَّقَدَ اَفلَحَ اليَومَ مَنِ اسْتَعْلَى(64)}

 

قال موسى للسحرة ومن معهم:

{وَيْلَكُمْ لاَ تَفتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيَسحَتَكُمْ بِعَذَابٍ وَّقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}

 

قالها كلمة صريحة مدوِّيَة في وجوه الآلاف المؤلفة من السحرة وسائر أتباع فرعون، كلمة عليها نور الحق وقوته، وخاطبهم بالويل، والويل: هو العذاب الشديد الذي لا يطاق، وهو جزاء من جاءته آيات ربه فكذب بها، وتولى وأعرض واستكبر، أولئك لهم الويل وحذرهم أن يفتروا على الله الكذب، وصنيعهم هذا افتراء على الله؛ لأنهم يحاولون به إطفاء نور الله، وغرضهم أن يظهروا للناس أن ما جاءوا به هو الحق، وأن ما جاء به موسى هو الباطل، وهذا من أعظم الافتراء على الله {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يُدعَى إلى الاِسلام} (الصف:7)، قال لهم موسى:

 

{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}

خاب وخسر من افترى، وكذلك عاقبة المفترين الكذابين الخيبة والخسران، لقد حذرهم موسى عواقب الافتراء، ومنها أن يسحتهم الله بعذاب، أي يستأصل شأفتهم بعذاب من عنده، ولقد كان لهذا التحذير أثر في نفوس السحرة.

 

{فَتَنَازَعُوا أَمرَهُمْ بَينَهُم وَأَسَرُّوا النَّجوَى}

 

]تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا نجواهم، تنازعوا الحديث سرًّا وقد أثرت فيهم كلمة موسى، وخافوا سوء العاقبة فمال بعضهم إلى الاعتراف بنبُوَّة موسى، وقد رأوا من خلال كلامه جلال الحق وسلطانه، وعرفوا أنَّ هذا الكلام ليس من كلام السحرة فلانت نفوسهم للإيمان، ولكن البعض الآخر لاذ بالباطل، واعتَزَّ بفرعون وأعماهم الطمع في مكافأته، وسرعان ما طغى الهوى فنكسوا على رؤوسهم، ويقال أنهم أسرُّوا في هذه النجوى الإيمان بموسى إن ظهرت معجزته على سحرهم.

 

{قَالُوا إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُريدَانِ أَن يُّخرِجَاكُمْ مِّنَ اَرضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثلَى}

 

قرروا أخيرًا قرارهم تحت تأثير الأهواء، وقالوا: إن هذين الرجلين لساحران، وما قصدهم من عملهم هذا إلاَّ طلب السيادة والمجد في أرضكم، فهما يريدان أن يخرجاكم من أرضكم، وفي نسبة الأرض إلى المخاطبين إغراء لهم على الدفاع عن أرضهم، ثم قال لهم:

 

{وَيَذهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}

 

إيهامًا للناس أن طريقهم هي المثلى، وهي الحسنى، وأنَّ هذين الرجلين يريدان أن يذهبا بها، وهذا فيه ما فيه من تحريش الناس ضدهما، وإيقاد حماسهم لحماية عقيدتهم وطريقتهم، والدفاع عنها ضد من يريد تغييرها وتبديلها بطريقة أخرى، وهذا من كيد الكافرين، ومكرهم السيِّئ حين يريدون التشبت بباطلهم الذي هو امتداد لعزِّهم وكبريائهم، يُصوِّرُون لأتباعهم أنه مجدُهم ورشادُهم وصلاحُهم، وأن كل من يحاول تغييره إنما يريد أن يخرجهم من أرضهم، ويسلبهم عِزَّهم، فهو إذن خطر عليهم.

 

{فَأَجْمِعُوا كَيدَكُمْ ثُمَّ اَيتُوا صَفًّا وَّقَدَ اَفلَحَ اليَومَ مَنِ اسْتَعْلَى}

 

هكذا أمر بعضهم بعضًا أن يجمعوا كيدهم، و"أَجْمَعَ" بهذه الصيغة الرباعية: هو جمع الهمة والعزم، والمضي في الأمر بإصرار، أما "جَمَعَ" الثلاثي: فهو ضم أشياء متشتتة بعضها إلى بعض، لقد حرض بعض القوم بعضهم أن يجمعوا كيدهم ويتحدوا صفًّا واحدًا ضد موسى، وعلموا أن اليوم يوم الفصل فقد أفلح من ظهر فيه واستعلى، وأقسموا بعزة فرعون أنهم هم الغالبون، وما علم القوم أنهم إنما يحاربون الله ورسوله، وأن الله كتب لَيَغلِبَنَّ هو ورسله كلَّ من حاربه، وأنه لا يقوم لسلطان الله سلطانٌ، ولا يقوى على حربه جندٌ مهما كان عتيدًا، فلِلَّهِ العزةُ ولرسوله وللمؤمنين، لقد اغتروا بجمعهم الحاشد وخاطبوا موسى مخاطبة المعتد بقوته.

 

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَّكُونَ أَوَّلَ مَنَ اَلْقَى (65)}

 

قالوا لموسى واثقين بما عندهم من قوة السحر: يا موسى إما أن تبدأ بإلقاء ما عندك وإما أن نلقي ما عندنا، ولا يخيَّر الخصمُ خصمَه في البِراز إلاَّ إذا كان معتدًا بما عنده واثقًا بالغلبة، فقال موسى مجيبًا لهم وهو واثق بربه متوكل عليه:

 

{قَالَ بَلَ اَلقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهُمُ أَنَّهَا تَسعَى (66)}

 

قال موسى واثقًا بربه في رزانة وحكمة: {بَلَ اَلْقُواْ}، ألقوا أنتم أولا، وهو يعلم أن الله معه ومن كان الله معه، فهو الغالب، ولا يصدر في أمره إلاَّ بإذن من الله، فليُلقُوا هم ما عندهم أولا ثم يلقي عصاه، بعد أن يأمره الله بإلقائها ليكون لها الحُكم الأخير، وليحكم الله بينه وبين قومه وهو خير الحاكمين، وما أن قال لهم هذه الكلمة حتى سارعوا مسارعة المدلي بقوته.

 

{فَإِذَا حِبَالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِمُ أَنَّهَا تَسعَى}

 

{فَإِذَا} مفاجأة غريبة يدلُّ عليها التعبير القرآني البليغ، فقد طوى ذكرَ إلقائهم، تكاد عصيهم وحبالهم تسعى قبل الإلقاء فما إن ألقوها في خفة وبراعة حتى ملأت الساحة العريضة بالحركة، لقد سحروا أعين الناس، فظهرت للناظرين أنها حيات وثعابين تتلوى وتسعى ويركب بعضها بعضًا، حتى خُيِّل لموسى نفسه ما خُيِّل للناس، ولا يغيِّر السحرة من حقائق الأشياء شيئًا، ولكنهم يسحرون أعين الناظرين.

 

{فَأَوجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلنَا لاَ تَخَفِ اِنَّكَ أَنتَ الاَعلَى (68) وَأَلقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلَقَّفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى (69)}

 

كانت الساحة عريضة، قيل: ميلا في ميل، فملأوها حيات وثعابين تتقلب حتى شعر موسى بنوع من الخوف يساور نفسه، ولولا أن الله أخبرنا بهذا الخوف لاستعبدنا أن يخاف من أخبره الله أنه في مَعِيَّته، ولكنه ضعف فطري يصيب قلوب بني آدم مهما كان إيمانهم قويًا ونظيره في القرآن في قوله ـ تعالى ـ: {وزلزلوا حتى يقول الرسول والذِّينَ ءَامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (البقرة:214)، وذلك في حق النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ والمؤمنين معه وتنوعت أقوال المفسرين في الشيء يخافه موسى، قال بعضهم: "خاف على نفسه من تلك الحيات والثعابين التي تسعى"، وقال آخرون: "خاف أن يؤثر هذا المنظر الهائل في عقول الناس فيعتقدون الحق مع السحرة"، وقال آخرون: "خاف أن ينصرف الناس بعد أن بهر عقولهم هذا السحر العظيم فلا ينتظروا ليشهدوا ما يقع بعد، وهو من جملتهم لا يعلم ماذا سيحدث"، وهذه المعاني لا تتزاحم بل يمكن أن تمر هذه الهواجس كلها في خاطر موسى وهو يشاهد المنظر، وينتظر أمر الله ووحيه، ولم يكن ليُلقِيَ عصاه قبل أمر من الله فطمأنه الله:

 

{قُلنَا لاَ تَخَفِ اِنَّكَ أَنتَ الاَعلَى وَأَلقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلَقَّفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيدُ سَاحِرْ وَلاَ يُفلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى}

 

بشره الله بالعلو على خصمه والغلبة عليهم، فَلِمَ التخوف إذن؟ وأوحى إليه:

{وَأَلقِ مَا فِي يَمِينِكَ}

 

أمره الله بالإلقاء وعدل عن التصريح بالعصا إلى الإبهام؛ لأن العصا لم تعد حينئذ مجرد عصا، إنما هي معجزة كبرى ستكون بعد إلقائها ذات منظر رهيب وخبر عجيب ينجلي عن إرادة الله القاهرة وحكمته الباهرة.

 

{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلَقَّفْ مَا صَنَعُوا}

 

ستَلقَفُ هذه المعجزة الكبرى ما صنعوا تلقُّفًا سريعًا وقويًّا، ولقد انقلبت ثعبانًا عظيمًا، رُوِيَ أن ما بين فكَّيه ثمانين ذراعًا، فكُّه في الأرض وفكُّه الآخر فوق قبة فرعون المرتفعة في السماء، وكانوا نصَبُوها على عرش مرتفع؛ ليشهد كل ما يقع فرعون ومن معه يومئذ، وقيل إنه أحدث على نفسه من الفزع، وسال بطنه من الهلع، أما ما وقع في الناس فلا تَسَل، فقد حاصوا حيصة حمر الوحش وركب بعضهم بعضًا من شدة الزحام حتى قيل: إنه مات منهم يومئذ خمسة وعشرون ألفًا من شدة الزحام والفرار من الخطر الهائل، لقد التهم الثعبان العظيم كل شيء في لحظة قصيرة، ومدَّ موسى إليه يده فإذا هو عصا في يده، فأين ذهبت الحبال والعصي؟، وأين ذهب السحر العظيم؟، ظهرت معجزة الله الكبرى وبطل سحر السحرة وخاب كيد فرعون.

 

{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى}

 

حكم الله وحكمه الحق إن الساحر لا يفلح حيث أتى، فمَالِ السحرة الخيبةُ والفشلُ في كل زمان ومكان، وكذلك تكون نتيجة الصراع بين الحق والباطل، وشتان بين من ينفِّذ أمر الله ويجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وبين من يصنع السحرة ويتبع الشيطان ويعبد الطاغوت.

 

طه: الآيات ( 70 - 82 ) إيمان السحرة وإغراق فرعون والتمكين لبني إسرائيل

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)

--------------------------

 

كان نزول سُورَة: "طه"، في مكة قبل الهجرة، ولذلك يطوي فيها الكلام عن بني إسرائيل وأحوالهم في اختصار والمقصود بها الإدِّكار والاعتبار، وليس في مكة بنو إسرائيل وسيبسط عنهم الكلام في القرآن المدني.

 

وهنا بعد الكلام عن إيمان السحرة والموعظة البليغة التي تلي حكايتهم يأتي الكلام عن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر؛ لينجوا من عذاب فرعون؛ وليهلك فرعون غرقًا هو وقومه وراءهم، ويمتن الله على بني إسرائيل بنجاتهم من عدوهم، وبميعاد موسى نبيهم جانب الطور الأيمن، وإنزاله عليهم المن والسلوى، وهو طعام مغذٍ ولذيذ، ويخاطبهم بإباحة الطيبات ويُحذرهم من الطغيان؛ حتى لا يحل عليهم غضب الله، ومن يحلل عليه غضب من الله فقد هوى، وأن الله لغافر بعد ذلك ذنوب التائبين المؤمنين المهتدين الذِّينَ يعملون الصالحات، كل هذه الأطوار التي تعاقبت في تاريخ طويل تطوى في كلمات بليغة، فيها العبرة الكافية والموعظة البليغة والذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

 

{وَلَقَدَ اَوحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنَ اَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي البَحرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَّلاَ تَخشَى}

 

يخبرنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن عاقبة بني إسرائيل، وكيف نَجاهم بعد إيمانهم بربهم وأنبيائه، وبعد صبرهم الطويل على أذى فرعون وقومه، لقد كانت عاقبتهم حسنة وعاقبة عدوهم الدمار والبوار، {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} (الأعراف:137-138)، لقد مرت سنوات وسنوات بعد إيمان السحرة وقتلهم، طغى فيها فرعون طغيانًا كبيرًا، وظلم بني إسرائيل ظلمًا كبيرًا، وكان الأشقياء من بطانته يغرونه بذلك، ويستمع إليهم ويأمر بالقتل والتنكيل وأصناف الأذى، {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الاَرض ويذرك وآلهتك قال سنُقتِّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الاَرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الاَرض فينظر كيف تعملون}

 

وكان موسى يأمر قومه بالصبر على طغيان فرعون والبلاء العظيم، ويعدهم أن عاقبة الصبر للمتقين حسنة وكانوا يشتكون إليه من طول أمد هذا البلاء وتأخر الفرج، فيطمئنهم بتحقق وعد الله، إن الله سيهلك عدوهم ويستخلفهم في الأرض بعده، فينظر كيف يعملون، وكان الله في هذا الأمد الطويل يأخذ فرعون وقومه بأنواع العقوبات لعله يرتدع، فما يزيدهم ذلك إلاَّ طغيانًا، وكانوا يطيرون بموسى ومن معه من المؤمنين، أخذهم الله بالسنين المتتابعات من الجدب ثم فرج عنهم بدعوة من موسى طمعًا في إيمانهم، وقد وعدوه بذلك حين مسهم العذاب ثم نكثوا، ثم أخذهم الله بالطوفان ثم بالجراد ثم بالقمل ثم بالضفادع ثم بالدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين، وكان الله ـ تعالى ـ يأخذهم بهذه الآيات عقوبة لهم على طغيانهم، وإقامة للحجة عليهم لعلهم يذكرون، قال ـ تعالى ـ: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} (الأعراف:130).

 

وأخيرًا لما جاء الأجل المحدود لإهلاكهم، ولم يعد ينفع إمهالهم ولا يرجى إيمانهم، أمر الله ـ تعالى ـ موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا إلى جهة سيناء؛ لأمر أراده الله وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

 

{وَلَقَدَ اَوحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنَ اَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي البَحرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَّلاَ تَخشَى}

 

أوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ لعبده موسى {أَنَ اَسرِ بِعِبَادِي} والنسبة هنا نسبة تقريب وتشريف؛ لأنهم عباده الذِّينَ آمنوا به وصبروا على الأذى الذي لحق بهم من جراء إيمانهم برسالة موسى، فلما أراد الله تنجيتهم من البلاء العظيم ـ ولكل أجلٍ كتاب ـ أمر عبده موسى أن يسري بهم ليلا، بعدما أخبرهم ليستعدوا للخروج، وليجمعوا على ذلك أشتاتهم، وأظهروا أنهم يستعدون للخروج إلى عيد من أعيادهم، واستعارت نساؤهم حليّ نساء الأقباط فاجتمعوا وعددهم لا يقل عن ستمائة ألف كما نقلت الرواية، وهم اثنتا عشرة أسباطًا أممًا، فاجتمعوا ليلا، فخرج بهم نبيهم موسى إلى جهة البحر ومعهم تابوت يوسف، وقد أوصى ـ عليه السلام ـ أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن مع آبائه إبراهيم واسحق ويعقوب، هذا ما كان من أمر بني إسرائيل.

 

أما ما كان من أمر فرعون وقومه، فإنهم لما سمعوا بخروج بني إسرائيل اغتاظوا لذلك، وتخوَّفوا من عاقبة هذا الخروج {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حذرون} (الشعراء:53-56)، تخوَّف الأقباط من خروج بني إسرائيل وذهابهم إلى أرض كنعان وهي وطنهم الأصلي، فخافوا أن يستنجدوا بأهل كنعان ويرجعوا إليهم غازين، وهذا ليس ببعيد واغتاظوا لخروجهم عاصين، فهم يعتبرونهم عبيدًا لهم وزادهم غيظًا أن نساءهم أخذت حُلِيَّ نسائهم، ورجالهم أخذوا دوابهم وركبوها وحملوا عليها أمتعتهم، فهم لا محالة يخرجون كلهم متحمسين لينتقموا من معبّديهم، وليسترجعوا أموالهم التي أخذوها منهم، ورُوِيَ أيضًا أن الملائكة دخلت تلك الليلة دور الأقباط وقتلوا أولادهم؛ حتى لا يشغلوهم عن طلب بني إسرائيل، وحتى يَخِفُّوا في الخروج إلى حيث يلقون جزاءهم، وحتى يقطع دابر الأقباط فلا يبقى لهم خلف، وتلك عاقبة الظالمين، ولا تستعبد هذه الرواية، أليس الذِّينَ كانوا يقتلون أولاد بني إسرائيل يستحقون أن يقتل الله أولادهم انتقامًا منهم للمستضعفين المظلومين {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} (الأعراف:129)، طالما كان نبي الله يصبرهم ويردد لهم أمثال هذه الكلمات التي تربط على قلوبهم وتبعث فيهم روح الأمل في فرج الله، فيها قد جاء الفرج لقد أرسل الجبار فرعون في مدائن مصر جنودًا يحشرون الأقباط للخروج مع ملكهم فرعون، فلا يتخلّف منهم أحد، ولهذه الأسباب التي ذكرنا لبوا نداءه وخرجوا متحمسين لم يتخلّف منهم أحدًا يستطيع المشي أو الركوب، فخرجوا في جموع هائلة تكون جموع بني إسرائيل بالنسبة إليهم شرذمة قليلين، لحقوا بهم مسرعين حتى تراءى الجمعان.

 

{فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين} (الشعراء:61-62)، لما تراءى الجمعان لحق بني إسرائيل الفزع من أعدائهم الكثيرين الحردين عليهم، وقد عارضهم البحر من الأمام، فإلى أين المفر؟ المفر إلى الله، كذلك قال موسى ولم يكن يعلم بعد كيف يكون المخرج، ولكنه أحسن الظن بربه، وهذا موقف من الإيمان لا يقوى عليه إلاّ الصديقون.

 

{قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم} (الشعراء:63).

 

أحسن موسى ظنَّه بربِّه فكان الله عند ظنِّه، فأوحى إليه أن يضرب بعصاه البحر، فما هو إلاّ أن ضربه فانفلق الماء عن طريق في قاع البحر يبسًا ليس فيه وحل ولا مزالق، وانحازت جبال من الماء يمينًا وشمالاً.

 

{فَاضرِبْ لَهُم طَرِيقًا فِي البَحرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخشَى}

 

أمره الله تبارك في لحظة الخطر، وبعدما صدق في الامتحان أن يضرب لهم بقدرة الله طريقًا في البحر يابسًا، لا يخاف بعده إدراك العدو ولا يخشى غرقًا ولا عدوًا آخر يعارضه في مروره، بل لقد كانت ملائكة الله تواكبه، وفي نفس الوقت كانت تدفع جند فرعون من ورائه ليسلك الطريق الذي فيه هلاكه وهلاك قومه، قال ـ تعالى ـ: {وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين} (الشعراء:64-66)، كذلك كانت نهاية القوم الظالمين لقد أضل فرعون قومه وما هدى، لقد أخرجهم من مساكنهم إلى غير رجعة.

 

{فَأَتبَعَهُم فِرعَونُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُم وَأَضَلَّ فِرعَونُ قَومَهُ وَمَا هَدَى}

 

لقد كان يظن فرعون أنه يتبع موسى بجنوده لينتصر عليهم ويردهم إلى مصر صاغرين، وما كان يظن أنه يسعى إلى عذاب الله، حتى إذا أزلفه الله في البحر هو وقومه أجمعين غشيهم من اليم ما غشيهم، فلما أيقن بالهلاك نطق بكلمة الإيمان، ولم يك ينفعه إيمانه لما رأى العذاب، بل أيقن حينئذ أنه هالك وأنه أضل قومه وما هداهم، ولا يعلم إلاَّ الله ما غشيهم من الحسرات ساعتئذ، وما تستقبلهم من الحسرات والويلات يوم القيامة {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} (هود:98)، انتهت قصة فرعون وقومه بالغرق وطويت ربوبيته المزعومة بين أمواج البحر، ورمى البحر جثته بإذن الله؛ لتكون للناس بعده آية حتى يوقنوا بهلاكه، وتتلاشى مزاعم الألوهية المدعاة؛ لأنه لو لم تظهر جثته لزعم الناس أنه غاب وسيرجع يومًا ما، وفي هلاكه عبرةٌ وأي عبرة، وآيةٌ تدل على وحدانية الله وقدرته الجبارة، ونصرةٌ لأوليائه وانتقامه من أعدائه ثم إن الله ـ تعالى ـ أورث تلك الجنات التي كانوا فيها مترفين فاكهين أورثها القوم المستضعفين قال ـ تعالى ـ: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والاَرض وما كانوا منظرين} (الدخان:25-29).

 

رُوِيَ أنه إذا مات المؤمن يبكي عليه موضع سجوده من الأرض وموضع صعود عمله من السماء، وهنا في الآية إشارة لطيفة إلى ذلك، وأن هؤلاء المجرمين ما بكت عليهم السماوات والأرض وما كانوا منظرين لَمَّا حان موعد هلاكهم، بل ذهبوا إلى سخط الله غير مأسوف عليهم، وتركوا الشيء الكثير من الجنات والعيون في مقام كريم، أقامهم الله فيه وما شكروا أنعمه بل كفروها فأُخرِجوا منها، وأورثها الله قومًا آخرين ليسوا بأولادهم ولا أحفادهم ولا ذويهم، بل أورثها قومًا آخرين، وهم الذِّينَ كانوا يستضعفونهم ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وهذه مِنَّة الله على بني إسرائيل بما صبروا، أنزلهم منازلهم وأورثهم كنوزهم ونجاهم من عدوهم، ولقد امتن الله عليهم بهذه الأنعم وبغيرها من النعم التي أنعم الله بها عليهم من نعم الدنيا والدين، قال ـ تعالى ـ مخاطبًا إياهم بعد هلاك عدوهم:

 

{يَا بَنِي إِسرَائِيلَ قَدَ اَنْجَينَاكُم مِّن عَدُوِّكُم وَوَاعَدنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاَيْمَنَ وَنَزَّلنَا عَلَيكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلوَى}

 

نداء من الله ـ تعالى ـ لبني إسرائيل يمتن عليهم بثلاث نعم عظمى؛ ليشكروا أنعم الله عليهم ولا يكفروها، وليطيعوه ولا يعصوه.

 

نجاهم من عدوهم بعد أن ذاقوا منه البلاء العظيم.

وهداهم بإنزال التوراة عليهم إلى صراط مستقيم.

 

وأطعمهم بنوعين هما من أطيب أنواع الطعام وهما المن والسلوى، والْمَنُّ: يشبه العسل، يجدونه على أوراق الأشجار ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يجمع الواحد منهم ما يكفيه له ولعياله كل يوم إلاَّ يوم السبت؛ فإنهم يجمعون نصيبه في يوم الجمعة، والسلوى نوع من الطير، وهي طيور السُّماني تتعرض لهم فيمسكون منها ما يشاؤون، وهذا بعد خروجهم من البحر، وقبل رجوعهم إلى منازلهم، والمنازل التي ورثوها من آل فرعون.

 

ثلاث نِعَم من كبريات النعم: النجاة من البلاء، والهدي، والإطعام من الجوع، كل ذلك ليتفرغوا لعبادة ربهم وطاعة نبيهم، وأنعم الله عليهم بالماء العذب الزلال أينما حلوا وارتحلوا، أوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، على عدد قبائلهم قد علمت كل قبيلة مشربها فهم لا يتنازعون على الماء

 

{قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الاَرض مفسدين} (البقرة:60).

 

في هذه الرحلة إلى سيناء واعد الله موسى وسبعين رجلا يختارهم من قومه لميقات ربه، وكان الميقات جانب الطور الأيمن حيث كلمه الله وجرى بينهما من الحديث ما جرى وأنزل الله عليه ألواح التوراة فيها هدى ونور {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} (الأعراف:154)، لقد كانت عناية الله ببني إسرائيل عظيمة وذلك جزاء لهم على صبرهم وإيمانهم في أيام المحنة الطويلة، أكرم مثواهم وآتاهم ما لَم يُؤت أحدًا من العالمين، ثم أباح لهم الطيبات من الرزق، وحذرهم من الطغيان وعاقبة الطغيان.

 

{كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَلاَ تَطغَواْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيكُم غَضَبِي وَمَن يَّحلِلْ عَلَيهِ غَضَبِي فَقَد هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى}

 

يقول الله ـ تعالى ـ لبني إسرائيل وفي هذا القول ذكرى وعبرة لجميع الناس، يقول لهم:

 

{كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم}

 

أي من الرزق الطيب الذي أنزلنا من السماء، والذي سُقنَاه لكم موفرًا، والذي أنبتنا لكم من الأرض الطيبة المباركة التي أورثناها لكم بعد هلاك عدوكم.

 

{كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُمْ وَلاَ تَطغَواْ فِيهِ}

 

أي لا تطغوا بسبب تلك الأرزاق كما طغى من كان معكم، ورأيتم كيف نزل بهم غضب الله ومقته وكيف هلكوا بسبب طغيانهم، لا تطغوا كما طغوا.

 

والطغيانُ: هو العلُوُّ في الأرض، والفسادُ فيها: هو الخروج عن طاعة الله وهو يشمل جميع أنواع الكبائر والموبقات سواء منها التي بين الإنسان وبين ربه، والتي بينه وبين غيره من بني جنسه من أنواع الظلم، والإنسان من طبعه إذا أقبلت عليه الدنيا واستغنى يطغى ويكفر المنعم ويتجبر، وبعدما يطغى ويكفر ويفسق قد يمهله الله زمنًا طويلا، ويُغرِهِ ذلك الإمهال فيزداد طغيانًا، حتى إذا حان موعد هلاكه وحل عليه غضب الله لا ينفعه إيمانه، وذلك ما وقع لفرعون وقومه، فحذر الله بني إسرائيل من عاقبة الطغيان التي شاهدوها بأعينهم ورأوا كيف حل غضب الله على أعداء الله الذِّينَ عتوا على الله وكفروا بأنعم الله، فما أحراهم أن يعتبروا بهم ويتعظوا بكلام الله وهو يحذرهم.

 

{وَلاَ تَطغَواْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيكُمْ غَضَبِي وَمَن يَّحلِلْ عَلَيهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}

 

يقول الله ـ تعالى ـ ومن يَنْزِل عليه غضبي فقد هوى، أي هلك هلاكًا لا نجاة بعده، وقد رأى بنو إسرائيل كيف هوى فرعون من عرشه وعزه وسلطانه، وكيف هوى في قعر البحر حيث لقِيَ غمرات الموت، ثم هوى في نار جهنم {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارًا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا} (نوح:25)، نزلت هذه الآية في قوم نوح الطغاة، وكذلك صنع الله بفرعون وقومه {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج:12-16)، وما من آية في القرآن فيها التحذير من الوعيد إلاَّ وغالبًا ما تجد إلى جنبها آية تفتح باب التوبة والرجاء، إما تسبقها أو تليها، وهذا من رحمة الله بعبيده الضعفاء، وهو يعلم ضعفهم وطغيان الهوى عليهم، وكيد الشيطان بهم، فتح لهم أبواب التوبة الواسعة فكذلك في هذا السياق يقول الله عز وجل:

 

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى}

 

باب المغفرة والتوبة مفتوح للتائبين المنيبين الذِّينَ راجعوا الهدى بعد الضلال، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، لقد أثنى الله على نفسه بما هو أهله، وصف نفسه بصفة المغفرة بصيغة المبالغة لكثرة مغفرته وشمولها لجميع الذنوب كبيرها وصغيرها، شرط أن يتوب مرتكب الذنب توبة نصوحًا، ويجدد إيمانه؛ لأنه كما ورد في الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، فلا بدَّ عند التوبة من تجديد الإيمان الذي كان تقلص عند ارتكاب الذنب الكبير ولابدّ من مراجعة الهدى، وليكفر التائب من ذنبه بعمل صالح يعمله تكفيرًا لذنبه؛ لقول النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، ولقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود:114)، تلك هي أركان التوبة بعد الندم على ارتكاب المعصية والإقلاع عنها والعزم على عدم معاودتها أبدًا، وذلك هو معنى التوبة فإن دام على ذلك فحَسَنٌ، وإن عاد فليعاود التوبة، وليجدد العزم وليكفر مرة أخرى بعملٍ صالح، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وليحذر العبد التمادي والإصرار فإنه لا مغفرةَ لِمُصِرٍّ، وجاء التعبير هنا بالاهتداء إشارة إلى أن من يرتكب الذنب كان متجهًا اتجاهًا خطأ وضل الطريق، وبعد توبته وإقلاعه عن الذنب يتجه الاتجاه الصحيح ويسلك الصراط المستقيم، فلنحفظ هذه الكلمات الأربع ولنعمل بها لنفوز بمغفرة الله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى}.

 

طه: الآيات ( 83 - 98 ) عبادة قوم موسى العجل ونهاية السامري وخاتمة القصة

ثم بعد هذا الثناء الذي فيه تعليم وإرشاد وتبشير لنا معشر المؤمنين يتوجه الخطاب إلى نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وتتجه القصة اتجاهًا معينًا، فيه إخبار عن حالة بني إسرائيل بعد ذهاب موسى إلى الطور متعجلا طالبًا لرضا ربه تاركًا قومه وراءه، فحدث فيهم ما حدث مما أخبر الله به، قال ـ تعالى :

 

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)

--------------------------

 

لقد كان تاريخ موسى مع بني إسرائيل طويلا حافلا بالأحداث، ومنها هذه الحادثة، وهي حادثة ارتداد أكثرهم واتخاذهم العجل يعبدونه بعد غياب نبيهم موسى عنهم وذهابه إلى الطور وعصيانهم خليفته عليهم أخاه هارون، فما إن نجاهم الله من البحر حتى طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلَهًا يعكفون عليه، وما إن غاب عنهم نبيّهم حتى ارتدوا عن دينهم وعبدوا العجل إلاَّ قليلا منهم، رُوِيَ أن الذِّينَ ثبتوا على دينهم وأطاعوا هارون النبي الخليفة هم اثنا عشر ألفًا من جملة ستمائة وسبعين ألفًا وهو عدد قليل من كثير، وروى أن يهوديًّا من يهود المدينة أو خيبر، قال للإمام علِي بن أبي طالب: "ما إن مات نبيُّكم حتى اختلفتم بعده"، فأجابه الإمام عليٌّ ـ كرم الله وجهه ـ: "اختلفنا بعده ولَم نختلف فيه، أما أنتم فما إن جفَّت أقدامكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: {اجعل لنا إلَهًا كما لهم آلهة}"، فَبُهِت اليهودي، وهم كذلك ما إن غاب عنهم نبيُّهم حتى عصوا خليفته عليهم، وهو نبِيٌّ، فعبدوا العجل واتخذوه إلَهًا من دون الله، أما المسلمون فاختلفوا بعد نبيهم، أي فيمن يخلفه في الإمامة ثم اتفقوا بعد الاختلاف.

 

قال الله ـ تعالى ـ مخاطبًا موسى حين جاءه لموعده الذي ضربه له في جانب الطور الأيمن:

 

{وَمَا أَعجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمُ أُولاَءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَومَكَ مِن بَعدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}

 

واعد الله موسى ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، قيل شهر ذي القعدة وعشرة أيام من ذي الحجّة، فتعجل موسى الذهابَ إلَى جبل الطور وترك خلفه قومه بني إسرائيل، واستخلف عليهم أخاه هارون، واختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه فتقدمهم وهم على أثره، فسأله ربه وهو أعلم به وبهم: {وَمَا أَعجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَى}، فأجاب ربَّه يا ربِّ: {هُمُ أُولاَءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضَى}، هم على أثري، وما أنا ببعيد عنهم، وهم لاحقون بِي وعجلت إليك يا رب طلبًا لرضاك وقربك، وإنما تعجل موسى إلى الميقات وتقدم قومه تسرعًا إلى امتثال أمر ربه وشوقًا إلى لقائه ومناجاته، وحق له أن يشتاق إلى مناجاة ربِّه بعد أن ذاق حلاوتها، وما فارق قومه حتى استخلف فيهم أخاه، وأوصاه بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل المفسدين، ولكنَّهم استضعفوه وأضلهم السامري فاتبعوه إلاَّ قليلا منهم، قال الله لموسى:

 

{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَومَكَ مِن بَعدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ

}

لله ما أحلى بلاغة القرآن!، وما أعْلى قداسَتَه وأدبه!، لقد نسب الفتنة إلى الله، وهي الإمتحان والابتلاء، ونسب الإضلال إلى السامري، وهو الذي أضلهم وصنع لهم العجل، ودعاهم إلى عبادته وصدَّهم عن الله.

 

والسامري هذا: رجل من بني إسرائيل، ومنهم من يقول ليس منهم، ولا عبرة بقوله؛ لأن الذِّينَ عَبَروا البحر مع موسى هم بنو إسرائيل، واسْمُه موسى، وكان رباه جبريل ـ عليه السلام ـ؛ لأنه وُلِد في العام الذي يقتل أبناء بني إسرائيل، وكان فرعون يأمر بقتلهم عامًا وباستحيائهم عامًا؛ حتى لا ينقطع نسلهم؛ لأنهم خدم للأقباط، فولد السامري في العام المشؤوم على مواليدهم الذكور، فخافت أمُّه عليه القتل، فألقته في مغارة وتركته، فأرسل الله جبريل يتعهده بالتغذية، وقيل جعل الله له في أحد أصبعيه لبنًا وفي الآخر عسلا، فتارة يمتص هذا وتارة يمتص الآخر، وكان جبريل ـ عليه السلام ـ يتعهده في الحين بعد الحين، وذلك بإذن الله؛ لأمر يريده الله وهو فتنة بني إسرائيل به، ويُروَى في الموضوع بيتان وهما:

 

إذا المرء لَم يخلق سعيدًا تحيَّرت=عقول مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر=وموسى الذي رباه فرعون مرسل

 

{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (القصص:56)، وهذا لا يمنعنا من التربية والتهذيب والتعليم؛ لأنا أُمِرنا بذلك، والأمر لله من قبل ومن بعد، ولا دخل لنا في سر من أسرار الله ـ تعالى ـ.

 

ورُوِيَ أن السامريَّ هذا لبث في المغارة ولَم يخرج منها، ولم تره العيون حتى شب وترعرع، هذا ما كان من أمر السامري الرجل الذي أضل بني إسرائيل، وبنو إسرائيل يومئذ مستعدون للضلال؛ لأنهم كانوا قد طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلَهًا يعكفون عليه، كما للقوم أصنام يعكفون عليها؛ وذلك لأنهم تعوَّدوا ذلك منذ كانوا في مصر مع الأقباط يعبدون آلهة فرعون، وقال الله ـ تبارك وتعالى ـ في شانهم {وأُشرِبوا في قلوبهم العجل} (البقرة:93)، وبعد تكليم الله لموسى وإنزاله الألواح عليه، أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده وأضلهم السامري.

 

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَومِهِ غَضبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَومِ أَلَمْ يَعِدْكُم رَبُّكُم وَعْدًا حَسَنًا اَفَطَالَ عَلَيكُمُ العَهْدُ أَمَ اَرَدْتُمُ أَن يَّحِلَّ عَلَيكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوعِدِي}

 

رجع موسى من جبل الطور إلى قومه غضبان حزينًا على ما أحدثوا بعده، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه يعاتبه، ويؤنب قومه ويوبخهم ويناديهم {يَا قَومِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أنسيتم وعد الله أياكم الحسنى؟، أم طال عليكم الأمد فأعرضتم؟، أما أردتم بِشِركِكُم وعصيانِكم أن تتعرضوا لغضب الله ونقمته وعذابه، فأخلفتم موعدي بترككم السير على أثري، والحفاظ على عهدي.

 

{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوعِدَكَ بِمَلكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوزَارًا مِّن زِينَةِ القَومِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلاَ يَرَونَ أَلاَّ يَرجِعُ إِلَيهِمْ قَولاً وَّلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَّلاَ نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبلُ يَا قَومِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَّبْرَحَ عَلَيهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَينَا مُوسَى}

 

فتن الله قوم موسى بالأوزار التي حُمِّلوها معهم من حُلِيِّ نساء الأقباط التي استعارتها منهم نساء بني إسرائيل ليلة خروجهم من مصر فبقيت عندهم غنائم، ولكن الغنائم لا تحل لبني إسرائيل، وكانوا يجمعونها في موضع فتنزل نار من السماء تأكلها، فأضلهم السامري، فجمعها منهم وصنع منها ثورًا جسدًا له خوار، قيل: إنه جعل له ثقوبًا تدخل منها الريح وتخرج من منخره وفمه فيُسمَع لَها خوارٌ كخوار الثور، وقيل أنه حدث فيه الخوار بعد أن ألقى عليه قبضة قبضها من أثر حافر فرس جبريل ـ عليه السلام ـ فحدث فيه الخوار كما قال: {فَقَبَضتُ قَبضَةً مِنَ اَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا}، وقد يكون قوله هذا صحيحًا؛ ليفتن الله به بني إسرائيل، فافتتنوا فقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}، قالوا هذا إلهنا وإله موسى الذي ذهب يطلُبُه ونسِيَه عندنا، وكذلك زعموا وأضلهم السامري، وما تطبَّعت به نفوسهم من عبادة الآلهة التي في مصر، وما كانوا ـ لو عقلوا ـ يُفتَنُون بعد أن رَأَوا من ربهم ورب موسى معجزة فلق البحر ونجاتهم، وإغراق فرعون وقومه، لقد كانت آية عظيمة ولكنهم قوم يجهلون.

 

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبلُ يَا قَومِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمرِي}

 

ما قصَّر هارون في وعظهم وتحذيرهم من الكفر ودعوتهم إلى التوحيد، ولكنهم استضعفوه، واختلفوا عليه وكادوا يقتلونه، دعاهم إلى عبادة الرحمن، فهو وحده ربُّهم الذي نجاهم من عدوهم وواعدهم جانب الطور الأيمن، وهو إله موسى الذي ذهب لِمناجاته، وحذرهم من الافتتان بالسامري، ومن عبادة العجل ولكن القوم افتتنوا.

 

{قَالُوا لَنْ نَّبْرَحَ عَلَيهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَينَا مُوسَى}

 

قالوا لِهارون تمردًا وعصيانًا: لا نزال عاكفين على العجل حتى يرجع إلينا موسى، وزعموا أنه هو إله موسى جهلا منهم وكفرًا، وأن موسى نسِيَهُ عندهم وذهب يطلبه، تَعَالى الله عن قولهم هذا عُلُوًّا كبيرًا، والحقُّ ما قاله لهم هارون، ولكنهم أعرضوا عنه وعصوه ولَم يتبعوا أمره إلاَّ قليل منهم، واستمروا على ذلك حتى رجع إليهم موسى غضبان أسفًا بعد أن أخبره الله ـ تعالى ـ بحالهم بعده، فلما رجع إليهم ووجدهم على هذه الحالة المنكرة اشتد غضبه وأسفه عليهم، واعتذروا له وقالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا، ولكنا غلبنا على أمرنا، ولَم نُطِقْ حَملَ أنفسِنَا على الصواب، وحُمِّلنا أوزارًا من زينة القوم فقذفنا بها، وتوجه إلى أخيه وخليفته عليهم مُغضَبًا يكلِّمُه ويجره بشعر رأسه ولحيته إليه.

 

{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيتَهُمْ ضَلُّواْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيتَ أَمرِي}

 

عاتب أخاه عتابًا شديدًا، واجتذب شعره بشدة، فاعتذر له أخوه وخاطبه مستعطفًا إياه بأمه التي ولدتهما جميعًا وارضعتهما من لبنها، وهما أخوان لأب وأم، ولكن خاطبه بابن الأم؛ لأن العاطفة بالأمومة، ألصق والرحمة بها ألزم، قال موسى لأخيه هارون وناداه باسمه؛ لأنه كان في حالة غضب وأسف، قال له: ما منعك حين ضل القوم ألاَّ تتبعني وتُصلِح فيهم وترشدهم وتنهاهم كما أمرتك ووصيتك، أم عصيت أمري؟ فقال هارون: يا ابن أُمَّ؛ ليُذَكِّرَه بعاطفة الأمومة ورحمتها لعلَّه يُسكِنَ من حِدَّته.

 

{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَاخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَينَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}

 

قال: يا أخي وابن أمي، أرسل شعر لحيتي ورأسي، وهدئ غضبك وسكّن حِدَّتك، فإني ما عصيت أمرك ولا نسيت وصيتك، ولكن حدث عليَّ أمر فوق طاقتي، واستضعفني قومي إلاَّ قليلا منهم، فلو أني قاتلت المرتدين بالذِّينَ معي من المؤمنين لقلت فرقت بين بني إسرائيل، ولَم ترقب قولي فتركتهم، لا رضاً مني بفعلهم، ولكن خِشيَة الفتنة وانتظارًا لقدومك، لعل الله يصلح شأنهم بقدومك، دون أن تراق الدماء، عندها سكنت حدة غضب موسى، فأرسل أخاه ودعا لنفسه ولأخيه، {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} (الأعراف:151)، ثم وجه سؤاله الحاد إلى السامري الذي أضل القوم

.

{قَالَ فَمَا خَطبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضتُ قَبْضَةً مِّنَ اَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرِ اِلَى إِلَهِكَ الذِي ظَلْتَ عَلَيهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفًا اِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلمًا}

 

{قَالَ مَا خَطبُكَ يَا سَامِرِيُّ}؟ أي: ما شأنك وما خبرك؟ وكيف صنعت من اتخاذ العجل وإضلال الناس؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}، القومُ أي: بَصُر بِجبريل راكبًا على فرس وبصر بمواقع حوافر الفرس تخضر بالنبات فعرف أن الحياة حيث يخطو جبريل ـ عليه السلام ـ فقبض قبضة من أثره، واحتفظ بها، وحين صنع العجل، نبذها عليه فدبت فيه الحياة، بإذن الله فصار له خوار، وما ذلك إلاَّ فتنة من الله لبني إسرائيل ليظهر منهم من يثبت على دينه، ومن يرتد على عقبه، بعد أن رأى المعجزات والآيات البيّنات، قال السامري: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي: وسوسَتْهُ نَفسُه وزيَّنت له هذا العمل الخبيث، {وَكَذَلِكَ} اعترف بحقيقة عمله لا اعتراف التوبة والإنابة، بل اعتراف الإصرار والتمادي على شركه، ولذلك استحق عقوبة الدنيا والآخرة.

 

{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ

}

قال موسى ـ عليه السلام ـ للسامري اذهب طريدًا ملعونًا في الدّنيا والآخرة، إن عقوبتك طول الحياة أن تقول لكل من تراه من الناس: {لاَ مِسَاسَ}، لا تقربني ولا تمسني وقد جعل الله فيه تيارًا كهربائيًا عجيبًا، فكلما مسَّه أحد اشتعلت نار الحمى في الماس والممسوس، وهذه عقوبة من الله له في الحياة الدنيا تلازمه إلى الممات، ثم إن الله أعدّ له عقابًا بعد الممات لن يفلت منه.

 

{وَإِنَّ لَكَ مَوعِدًا لَّنْ تُخلَفَهُ}

 

وهذا جزاء على إشراكه بربه وإضلاله الناس وإصراره على ذلك إلى الممات، وليكون عبرة للمعتبرين من الناس، فلا يفتتنوا به، ونعوذ بالله من سوابق الشقاء، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، أما ما كان من أمر هذا العجل فالتحريف والنسف في اليم.

 

{وَانْظُرِ اِلَى إِلَهِكَ الذِي ظَلْتَ عَلَيهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفًا اِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلْمًا}

 

يقول موسى ـ عليه السلام ـ للسامري، {وَانْظُرِ اِلَى إِلَهِكَ} الذي افتتنت به وفتنت به القوم، العجلَ {الذِي ظَلْتَ} أي: ظللت عليه عاكفًا، والعرب تطلب التخفيف في النطق، فعندما تجتمع لامان إحداهما متحركة والأخرى ساكنة تحذف إحداهما، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، والعكوف: طول الإقامة في خضوع وفي إخبات، قال موسى ـ عليه السلام ـ: لنُحرقنه حتى يصير رمادًا، وهذه معجزة من الله يشاهدها القوم؛ ليعتبروا أو ليرجعوا عن غيهم، يحرق معبودهم وهم ينظرون فلا يدفع عن نفسه، ولو كان إلِهًا حقًّا لدفع عن نفسه الضر، فكيف يرجى من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، وبعد أن يصير رمادًا، ثم ينسف في اليم نسفًا وهم ينظرون، ينقطع رجاؤهم منه، ويعلمون أن إلههم الحق هو الله، كما قال لهم هارون من قبل، وكما يقرره موسى ويكرره.

 

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلمًا}

 

إن إلهكم الحق، هو الله ربُّكم لا إله إلا هو لا معبود بحق سواه، {وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلمًا} أحاط علمه بكل شيء، وأحاطت قدرته بكل شيء، هو أهل للحمد والثناء، وهو أهل لأن يُوَحَّد بالعبادة ولا يشرك به شيء، والكافرون هم الظالمون.

 

إلى هنا ينتهي الكلام في هذه السُورَة الغراء عن موسى وقومه بني إسرائيل.

 

طه: الآيات ( 99 - 114 ) من مشاهد يوم القيامة

ثم يتوجه خطاب الله الجليل ـ تعالى ـ إلى عبده ورسوله مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ.

 

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

-----------------------------

 

يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ مخاطبًا نبيه مُحَمَّدا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ والخطاب له ولأمته من بعده: كذلك نقص عليك القصص الحق من أنباء ما قد سبق، قصص اعتبار لِتَعتَبِر أنت وقومك بعاقبة المتقين وبمصير الظالمين، وذلك هو أحسن القصص، فخذ العبرة منها، وسنة الله فيمن سبق هي سنته في الآخرين، يبتلي الله البعض بالبعض، ثُم يكون الفوز والنصر للصابرين، ويكون البوار والخسار للظالمين والمتكبرين، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} (يوسف:111).

 

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيكَ مِنَ اَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدَ _اتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكرًا}

 

كذلك نثبت فؤادك، ونشد أزرك بما نقصه عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنًا ذكرًا، كتابًا فيه ذكر الأنبياء والرسل من قبلك، وكيف كان مصيرهم مع من آمن بهم من أممهم واتبعهم، ومن كذب بهم وأعرض عنهم وتولى، وفيه ذكر لك وذكر لقومك وذكر لمن يأتي بعدك حتى تقوم الساعة، وفيه تذكير لأولى الألباب بيوم الحساب وتذكير لهم بما عليهم من حقوق الله عليهم، {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل:44).

 

ثم بين الله ـ تعالى ـ ما أعده للمقبلين على الذكر المنتفعين به، وما أعده للمعرضين عن ذكره من العذاب المقيم، فبدأ بهذا الصنف من الناس؛ لينذرهم ويخوفهم، فقال:

 

{مَنَ اَعرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَومَ القِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ حِمْلاً}

 

من أعرض عن ذكر الله الذي أنزله الله على نبيه، ولَم يرفع به رأسًا ولم ينتفع به، فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا ينقض ظهره، ويخلده في عذاب الله المقيم، وساء لهم ذلك يوم القيامة حملا، ما أقبحه من مصير يحملون فيه أوزارهم حيثُ {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يُحمل منه شيء ولو كان ذا قربَى} (فاطر:18).

 

{يَومَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحشُرُ الْمُجرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَينَهُمُ إِن لَّبِثْتُمُ إِلاَّ عَشرًا نَّحنُ أَعلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمثَلُهُم طَرِيقَةً اِن لَّبِثْتُمُ إِلاَّ يَومًا}إن الله ينذر المعرضين عن كتاب الله بأوزار تنوء بهم، يأتون يوم القيامة يحملونها يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثالثة، وهي نفخة البعث، {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر:68).

 

يقول الله ـ تعالى ـ: {يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحشُرُ الْمُجرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا}

 

أسند النفخ للمجهول؛ للعلم بالنافخ، ولأن الغرض يتعلق بالنفخ لا بالنافخ، فليكن إسرافيل أو غيره، يوم ينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم ويحشرون إلى ربهم، يومئذ يحشر الله المجرمين الذِّينَ ارتكبوا الإجرام وأعرضوا عن الذكر زرقًا، زُرقَ الألوان قد تغيرت ألوانهم، وامتقعت واستحالت من بياض ونضارة كانت في الدنيا إلى زرقة وسواد لِما يفجؤون به من الأهوال وينتظرونه من النكال والعذاب، وهو واقع بهم فتعلوهم يومئذ غَبَرة ترهقها قَتَرة أولئك هم الكفرة الفجرة، وقال بعض المفسرين: "زُرقَ العُيُون"، أي: عُميًا، قد استحال سواد عيونهم إلى زرقة وعمًى؛ لأنهم كانوا في الدنيا عُميًا عن الذكر إذا تليت عليهم آيات الرحمن، خروا عليها صمًّا وعميانًا، فأعمى الله أبصارهم يوم البعث جزاء وفاقًا، {ومن كان في هذه أعمى فهو في الاَخرة أعمى وأضل سبيلا} (الإسراء:72).

 

ولا يبعد هذا المعنى الثاني، وما فسر القرآن مثل القرآن وقد يراد المعنيان.

ثم قال:

 

{يَتَخَافَتُونَ بَينَهُمُ إِن لَّبِثْتُمُ إِلاَّ عَشْرًا}

 

يتخاطبون فيما بينهم بصوت خافت فيه الذل واليأس والندم، يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلاّ عشرًا، قيل: "عشرة أيام"، وقيل: "عشر ساعات"، أي ما لبثتم في الدنيا إلاَّ قليلا، وقد تضاءل نعيمها في أهوال يوم القيامة، وبعد مدة البرزخ الطويلة، فلم يعد إلاَّ خيالاً يتراءى ضئيلاً وقصيرًا موغلاً في الفناء ذاهبًا إلى غير رجعة.

 

{إِذْ يَقُولُ أَمثَلُهُمْ طَرِيقَةً اِن لَّبِثْتُمُ إِلاَّ يَومًا}

 

بعد هذا التخافت والتردد في مدة اللبث في الدنيا يقول أعقلهم: {إِن لَّبِثْتُمُ إِلاَّ يَومًا}، أي ما نسبة مكوثكم في نعيم الدنيا إلى ما أنتم مقدمون عليه من عذاب الأبد إلاَّ يوم أو بعض يوم، وكم تكون نسبة المحدود إلى الممدود {قال إن لبثتم إلاَّ قليلاً لَّوَ اَنكم كنتم تعلمون} (المؤمنون:114)، هذا قول الله لهم بعد اختلافهم في مدة اللبث واتفاقهم على تقليلها وتحقيرها في جانب الآخرة، بعد أن اطلعوا على حقيقة ما كانوا يتمارون فيه، يعرض الله علينا هذا المشهد من مشاهد الكفار يوم الحشر؛ لنعتبر به ونستجلي من الدنيا ما خفي على المغترين بها من غرورها وحقارتها وقلة مدتها إلى دوام نعيم أو عذاب يوم القيامة، وسرعة فنائها، فهي بعد فنائها كأن لم تكن شيئًا، هكذا يعترف الذِّينَ كانوا مغترين بها مطمئنين إلى نعيمها، يقول أحدهم في صلف وكبرياء: {ما أظن أن تبيد هذه أبدًا وما أظن الساعة قائمة} (الكَهف:35-36)، وفي هذا الاعتراف موعظة وتذكير لنا وتنبيه لنا حتى لا نقع في مثل ما وقع فيه الغافلون من الخطأ والخطر العظيم.

 

ثم يلفتنا القرآن إلى سرعة وقوع الساعة وقرب يوم القيامة وأهوالها ويعرضها في مشهد نسف الجبال وهو من أروع وأقرب مشاهدها، وهو ما يستبعده الكفار والمنافقون ويتساءلون فيما بينهم ويسألون الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ سؤال تعنُّت واستهزاء وارتياب في أمر الساعة.

 

{وَيَسأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَّلاَ أَمْتًا (107) يَومَئِذٍ يَّتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الاَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا (108) يَّومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنَ اَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً (109) يَّعلَمُ مَا بَيْنَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا (110) وَّعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَّعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَّلاَ هَضْمًا (112)}

 

يسأل الكفار سؤال تعنُّت واستهزاء بقيام الساعة واستبعاد لوقوعها، يقولون: إذا كان فناء الأرض حقًّا فكيف يكون فناء هذه الجبال الشاهقات الراسيات المتينة التكوين الصلبة الصخور؟ فجاء الجواب من الله ـ تعالى ـ مربوطًا بالفاء؛ لإمكان ذلك، وسرعة وقوعه إذا حان موعده {وما أمرنا إلاَّ واحدة كلمح بالبصر} (القمر:30).

 

{فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَّلاَ أَمْتًا}

 

قل لهم يا مُحَمَّد: إن ربي الذي خلق الجبال ينسفها، أي: يجعلها ذرات غير متماسكة، ثم يُسيِّرها كما يسير السحاب، وقد تنوع التعبير القرآني في وصف الجبال يوم تقوم الساعة، وكل عبارة تدل على فنائها وتطايرها في الفضاء ذرات، وسيرها سير السحاب، وبقاء الأرض بعدها مستوية لا اعوجاج فيها، جاء التعبير هنا بالنسف، وهو: النفخ على الغبار المتطائر؟.

 

وجاء في سُورَة التكوير بالتسيير: {وإذا الجبال سيرت} (التكوير:03).

 

وجاء في سُورَة القارعة بتشبيهها بالعهن المنفوش: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} (القارعة:04).

 

وجاء في سُورَة النمل بتشبيهها بالسحاب المار في الفضاء: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل:90).

 

وجاء في سُورَة المزمل بتشبيهها بالرمال المهيلة: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً} (المزمل:14).

فسبحان الذي أحاطت قدرته بكل شيء، وأتقن صنعُه كلَّ شيء، ولا يؤوده شيء، ينسف الجبال الراسيات نسفًا ويسيرها في الفضاء كما يسير السحاب، ويذر الأرض قاعًا صفصفا، صلبًا أملس لا ترى فيها عوجًا ولا أودية ولا آبارًا ولا سراديب ولا أمتًا ولا نتوءًا بارزًا، بل تمد الأرض مدًّا كأديم عكاظ: {يوم تبدل الاَرضُ غير الاَرض والسماوات} (إبراهيم:48)، هذا وأحوال القيامة متعاقبة، ويذكرها الله ـ تعالى ـ تباعًا، وقد تكون بينها مهلة، وهنا يذكر فناء الجبال واستواء الأرض، ويذكر خروج الناس من قبورهم متَّبعين الداعي، وبين نفخة الصعق ونفخة البعث أربعون، قيل: "أربعون عامًا"

 

.

{يَومَئِذٍ يَّتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الاَصوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا}

 

يومئذ يخرجون من قبورهم ويسيرون كأنهم جراد منتشر سراعًا، يتبعون الداعي الذي يدعوهم إلى أرض المحشر حيث يرون أعمالهم، رُوِيَ أن الداعي يقول: "أيتها اللحوم الممزقة!، أيتها العظام النخرة، ارجعي إلى ربك"، فيسيرون قُدُما سراعا، كأنهم منجذبون إلى صوته، لا ينحرفون يمينا ولا شمالا، ولا يتوانون ولا يتوقفون، كأن سائقهم يسوقهم من الخلف وقائدا يقودهم من أمامهم، فهم ينسابون من كل جهة خشعا أصواتهم للرحمن فلا تسمع إلا همسا، والهمسُ هو: "الصوت الخفي"، قيل هو: "صوت الأقدام الحافية الماشية في أرض المحشر المستوية"، أما الكلام، فلا كلام في هذه الحالة وهم مقبلون إلى خطر عظيم، وقد علموا أنهم قادمون على أعمالهم ليروها، فإما إلى جنة يدوم نعيمها وإما إلى نار يدوم جحيمها، وبين يديهم الوقوف بين يدي الله والسؤال والوزن والحساب والصراط ثم الجزاء المنتظر، فهم ساكتون لروعة الهول لا ينطقون، وقد يكون الهمس: "أصوات الملائكة المكلفون بما كلفوا به"، فهم يتخافتون بينهم في تبليغ ما أمروا بتبليغه بعضهم لبعض، أما الإنس والجن في هذه الحالة لا يتكلمون فهم أذلاء خائفون، خاشعة أبصارهم وفي هذا المشهد معتبر وأي معتبر! لِذوي الألباب الذي يتلقون كلام الله بقلوب شاهدة، ثم يستمر وصف المشهد الرهيب فيتكلم عن الشفاعة، وما أدراك ما الشفاعة فيقول:

 

{يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنَ اَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً}

 

يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: يومئذ أي يوم تجتمع الخلائق للحساب لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا، فالشفاعة واقعة حقا، ولكن لها شرطان لازمان: الإذن والرضا.

 

شرط للشافع: أن يكون ممن أذن له الرحمن في الشفاعة، ورضي قوله من عباده المقربين؛ الرسل والأنبياء ومن أراد من أوليائه المخلصين.

 

وشرط في المشفوع له: أن يكون ممن ارتضاه الله لا ممن سخط عليه ومات هو مصر على الكبائر، فالشفاعة لا تكون لهؤلاء{ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر:18)، والقصد فيها يفهم من هذه الآية أن يقطع الله أطماع أهل الأماني الفارغة الذِّينَ يرتكبون كبائر الإثم والفواحش ويصرون عليها إلى الممات وهم يطمعون في الشفاعات فكأن الله ـ تعالى ـ يقول: اعملوا ولا تغتروا، ولا تتكلوا على الشفعاء، فإنه لا ينفع يومئذ والد ولا ولد ولا قريب ولا ولي ولا حميم، إنما الشفاعة تكون لمن ارتضاه الله من عباده رَفعًا لدرجاتهم، وتخفيفًا لأهوال يوم القيامة عنهم، وإزلافًا لهم إلى محمود الجزاء، وحسن المصير، وتكون أيضًا تشريفًا للشافعين رفعًا لمقاماتهم عند ربهم، وعند أوليائه المرتضين، هذا ما نعتقده في الشفاعة ـ معشر الإباضية ـ وهذا الذي تؤيده الآيات القرآنية الكثيرة التي تدعو إلى العمل الصالح والتوبة النصوح، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، وكل ما يؤدي إلى الكفر من ترك الفرائض وانتهاك الحدود، وهذا ما يدل عليه قوله ـ تعالى ـ: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجزَ به ولا يجد له من دون الله وَلِيًّا ولا نصيرًا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أوُ انثى وهو مومن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا} (النساء:123-124)، ثم قال ـ تعالى ـ:

 

{يَعلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}

 

هؤلاء المجموعون كلهم أوَّلُهم وآخرهم، وإنسهم وجِنَّهم المجموعون إلى ميقات يوم معلوم، لا تخفى منهم على الله خافية، يعلم الله ما بين أيديهم وما خلفهم، يعلم ما قدموا وآثارهم، يعلم ما صنعوه في الدنيا، وما خلفوه فيها من أمورها، ويعلم ما بين أيديهم من أمور الحساب والجزاء، يعلم الغيب والشهادة، يعلم أقوالهم وأفعالهم ونياتهم، ولا يحيطون علمًا بذاته ولا بشيء من علمه إلاَّ بما شاء، وما علم علمائهم في علمه إلاّ كقطرة في بحر محيط أو أصغر من ذلك، فسبحان من أحاط علمه بكل شيء، وسبحان من يرتد الطرف دون علمه خاسئًا وهو حسير، {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (البقرة:32).

 

{وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ وَقَد خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَن يَّعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَّلاَ هَضْمًا}

عنت وجوه المخلوقات لربها وإلهها الحي القيوم، أي: ذلَّت وخضعت، وذُلَّ الوجوه عبارة عن ذُلِّ القلوب البادي على الوجوه، والوجوه مرايا القلوب، وجاء وصف ربنا في هذه الآية بالحي القيوم، وهو الدائم القائم وما سواه فانٍ ضعيف؛ لأن المقام ينطق بذلك وكل ما فيه يوحي بقهر الله لخلقه وقيومته وضعفهم وذلهم ووقوفهم بين يديه خاضعين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وفي هذا العرض لهذا المشهد الرهيب موعظة بليغة لنا وذكرى؛ لنتزود لذلك اليوم الرهيب بالعمل الصالح ونتخفف من المظالم.

 

{وَقَدْ خَابَ مَن حَمَلَ ظُلْمًا}

أي: خاب وخسر من حمل في ذلك اليوم ظلمًا، أي شركًا فما دونه من المآثم والمظالم، والله ـ تبارك وتعالى ـ حَرَّم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرمًا، ونهانا عن الظلم ونهانا عن الركون إلى الذِّينَ ظلموا، وأنذرنا لمن فعل ذلك بالنار فقال: {ولا تركنوا إلى الذِّينَ ظلموا فتمسَّكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} (هود:113)، فما أخيب الظالمين!، وما أخسرهم يومئذ!، فهم مبلسون ملعونون من رحمة الله.

 

{وَمَن يَّعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُومِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَّلاَ هَضْمًا}

 

يريد الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يضع الموازين القسط في القرآن الكريم للمؤمن الصادق الموفي بعهد الله الذي يستحق الشفاعة يوم القيامة، وهو الذي يعمل الصالحات ويجتنب الموبقات وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، إيمانًا يحجزه عن الشر ويطبعه على البر، فذلك الذي يحشر يوم القيامة آمنًا، لا يخاف ظلمًا ولا هضمًا، لا يظلم بزيادة سيئة لَم يعملها، بل يتوب الله على التائبين ويكفر عنه سيئاتهم، ولا يهضم بنقص حسنة قد عملها، بل يضاعف الله للمحسنين المخلصين، ويزيدهم من فضله إنه كان غفورًا شكورًا، تلك هي موازين القرآن الحكيم، لا خوف على المحسنين المؤمنين، ولا أمان للمفرطين في جنب الله، يرتكبون الذنوب الكبار، ويصرُّون عليها ويتمنون على الله الأماني، ويقولون نحن نحسن الظن بالله، كذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، فلنفهم عن الله الحق ولنَزِن أنفُسَنا بموازين القرآن القسط، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين وإنما يتذكر بالقرآن من يخاف وعيد منَزِّل القرآن.

 

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَو يُحدِثَ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الحَقُّ وَلاَ تَعجَلْ بِالقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُّقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}

 

بعد ذكر الآيات التي تنخلع لها القلوب لما تحمل من وعيد يوم القيامة، وتلين لها لما تحمل من معاني الموعظة البليغة، والقلب يتأثر غالبًا بالوعيد ويتذكر، وتحمله الذكرى على التقوى، بعد هذا العرض الرهيب لبعض مشاهد يوم القيامة يقول الله ـ تعالى ـ:

 

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحدِثَ لَهُمْ ذِكرًا

}

كذلك أنزلناه عليك وعلى قومك ومن يأتي بعدهم قرآنًا عربيًا، بلسان عربي مبين، بلسان قومك لعلهم يتذكرون، ووصفه هنا بالعربي إشارة إلى أن اللغة العربية التي اختارها الله ـ تعالى ـ لتكون لغة القرآن، وشرفها لتكون وعاء معانيه.

في هذا إشارة إلى أنها أفضل اللغات للتعبير عن الله في بلاغة وبيان، ولو علم الله أن لغة تقوم بأحسن وأبلغ منها، لاختارها ويخلق الله ما يشاء ويختار، فاللغة العربية التي هي أداة للتعبير بمعاني القرآن الكريم هي أشرف اللغات، يجب الاعتناء بها وتعلُّمها وتعلِيمها؛ لامتداد هذا النور وبقائه فينا، ولننتفع به ونتذكر، أنزله الله قرآنًا عربيًا وصرَّف فيه من الوعيد، والتصريفُ: هو وضع الشيء الواحد في أشكال مختلفة وتوجيهه إلى جهات متعددة، ومنه تصريف المياه في السواقي والأحواض، ومنه تصريف الرياح، ومنه تصريف السحاب، كذلك صرف الله معاني القرآن في أساليب متنوعة لها تأثيرها البليغ في النفوس، فمِن وعدٍ، إلى وعيدٍ، إلى قصةٍ، إلى ضرب مثلٍ، إلى عرضٍ لِمشاهد يوم القيامة، إلى أمرٍ، إلى نهيٍ، إلى خبرٍ إلى استخبارٍ، إلى غير ذلك من صيغ التعبير التي تهز القلوب هزًّا، وتملأ في النفوس روعة ومهابة، فكلام الله الجليل له سلطان على النفوس ليس كمثله كلام، وقد اعترف بهذا صناديد قريش وبلغاؤهم الذِّينَ يدركون الفرق بين كلام وكلام، ولقد علموا أن القرآن فيه حلاوة وعليه طلاوة، وأنه يعلو ولا يُعلا، وأنه ليس بشعر ولا كهانة، وأنه كلام الخالق وما هو بكلام مخلوق، وما منعهم من الإيمان به إلاَّ الكبرياء والظلم وحب العلوّ، ونعوذ بالله من سوابق الشقاء، هذا... وآمن به كثير منهم وأسلموا وهم الذِّينَ أراد الله بهم الخير، وأن ينتفعوا بهذا الغيث الروحاني الذي نزل من السماء إلى الأرض لتحيا به النفوس الطيبة، وتسعد به الفطر السليمة.

 

ولقد صرف الله فيه من الوعيد؛ لأن الله يعلم أن الوعيد أشد تأثيرًا على النفوس، وسلطانه أضبط لها، وقد علم الله أن هذه النفس الأمارة بالسوء، الكسولة عن الخير المطبوعة على الشح والهلع قد تسمح في كثير من الدرجات والعواقب الحسنة رغبة في الشهوات، وميلا مع الهوى، ولكنها ترهب من العقوبة إذا ذكر لها أصناف العذاب التي أعدت لأهل العصيان والتمرد والإصرار فتَلُوذ بالتقوى وترجع إلى الله وتتوب إليه متابًا، وربما تتلى على أحد من أهل الغفلة والإعراض آية أو آيات من كتاب الله، فتحدث له ذكرًا.

 

وفي تصريف الله لكلامه وتنويعه حكمة عظيمة وبالغة؛ ذلك لأن طبائع الناس تختلف ونفوسهم متفاوتة، وسعيهم شتى فالذي تعظه الآية الفلانية من كتاب الله قد لا يتأثر بالآيات الأخرى وقد ينتفع الواحد منها بما لا يرفع الآخر به رأسًا، وكذلك أمرهم في الأدوية والأغذية، فما يميل إليه طبع بعض الناس قد ينفر منه طبع الآخرين، والقرآن وإن كان قد ح عسل، ولكن تنحرف أذواق الناس بأمراض النفوس المتبعات لأهوائها فلا ينفع فيها حينئذ إلا ما كان قوي التركيب، يحمل أقراصًا شديدة التأثير في إصحاء المغمى، وإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، تلك هي حكمة تصريف الوعيد وتصريف الأمثال، {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الاِنسان أكثر شيء جدلا} (الكَهف:54)، هذا..

 

ويمتنع أهل الشقاء من الإيمان والاتعاظ والتذكر بكلام الله حتى تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قِبَلا، فحينئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، وقد يمضي أحدهم في الفجور، ويُمعِنُ في الضلال زمانًا، ثُم يريد الله به خيرًا، فيستمع إلى آية من القرآن تُتلى عليه فتحدث له ذكرا، فيرجع ويتوب ويقلع عن غيِّه، ولكل أجل كتاب.

{فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الحَقُّ}

 

جاء ربط هذه الكلمة بـ: "الفاء"؛ لارتباط معناها بما قبلها ارتباط السبب بالمسبَّب، فتعالى الله منزل القرآن ومصرف الوعيد، فيه رحمة بعبادة لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، تعالى ربنا، تبارك وتعاظم الملك الحق هو الملك الحق الثابت الدائم وكل ملك سواه مَجازٌ، فانٍ زائل لا بقاء له، والحق هي الشيء الثابت المستقر، وحصر الحق في جنب الله يدل عليه التعريف بـ: "ألـ"، فالله هو الملك الحق، وما سواه باطل زائل وخيال، فهو وحده الرب الملك المعبود بحق إله الخلق منزل القرآن بالحق، فتح بصائر أوليائه فعرفوه وعلموا أنه الملك الحق فعبدوه، ووحدوه بالعبادة، وسجدوا له خاشعين، وركعوا له خاضعين، وقاموا بين يديه له قانتين، تعالى الله الملك، يهدي لنوره من يشاء ويجتبى إليه من يريد، تعالى الله الملك الحق يتصرف في ملكه كما يريد، لا رَادَّ لحكمه ولا معقب لقضائه، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العليِّ العظيم.

 

{وَلاَ تَعجَلْ بِالقُرْءَانِ مِن قَبلِ أَن يُّقضَى إِلَيكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}

 

قد يقول قائل: "ما مناسبة هذه الآية لما قبلها؟"، إن مناسبتها لما قبلها عظيمة، وصلتها بسوابقها من الآيات وثيقة، وموضعها بعدها متمكن مناسب؛ ذلك أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ لشدة إيمانه بعظمة القرآن وحكمة تصريف آياته المنزلة من الملك الحق، كان يعجل بترداد كلماته قبل أن يقضى إليه وحيه، كان يفعل ذلك خشية النسيان أو التبديل والتغيير في كلماته وحروفه، وهو يعلم أنه كلام الملك الحق، قد أُحكِمت آياته وفُصِّلَت من لدن حكيم خبير، فهو يعجل بالنطق بها قبل تمام نزولها؛ ليبلغها للناس كما أُنزِلَت فبشره الله وطمأنه بتثبيتها في فؤاده وتيسيرها على لسانه {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى:05)، ونَهيُه عن التعجل بتردادها، إنما هو نهيُ تطمِينٍ وتبشير وتخفيف، فهو يقول له: لا لزوم لك بالتعجل ولا حرج عليك في تحملها، فإن الذي أنزلها عليك وكلفك بتبليغها سيثبتها في قلبك فلا تنساها، فلا تعجل بها من قبل أن يقضى إليك وحي الله بها.

 

{وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}

 

أمره بهذا الدعاء الجميل وعلَّمه إياه إشعارًا له أنه مهما بلغ من العلم، فهو محتاج إلى الزيادة منه، وما علمه من علم الله إلاَّ القليل، قال له: {وَقُل رَّبِّ}، واختار له هذا الاسم الحسن في الدعاء إشعارًا له أن ربَّه الذي آواه يتيمًا، وأغناه من العيْلة، وهداه من الضلالة، وعلمه ما لَم يكن يعلم، هو حَرِيٌّ أن يزيده علمًا ينفعه، فكان النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ يقول: "يا رب انفعنِي بما علَّمتَنِي"، و"يا رب علِّمنِي ما ينفعني"، و"يا رب زدني علمًا"، و"الحمد لله على كل حال"، وهذا تعليم من الله لنبيّه، ولنا من بعده لنقتدي به وندعو ربنا بما دعاه به نبينا ورسولنا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ والله المرجو أن يجيب دعاءً علَّمَنَا إياه، وما أحوجنا إليه وما أحسن الدعاء بالكلمات التي جاء بها أو أمر بها كتاب ربنا ـ تبارك وتعالى

ـ.

ولم يأمر الله نبيَّه أن يقول رب زدني سلطانًا، ولا مالاً، ولا ولدًا، بل قال له: {وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}؛ لأن العلم هو الذي يرفع مقامه، ويقربه من الله، ويفتح له أبواب رحمته، ويرفع درجاته في الجنة، ذلك هو العلم النافع الذي به يُعبَد الله وينال رضاه، وبه يخشاه من يخشاه، {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} (فاطر:28).

 

الآيات ( 115 - 127 ) قصة آدم وزوجه حواء عليهما السلام

ثُمَّ يذكِّر الله ـ تعالى ـ بقصة أبينا آدم وأمر الملائكة بالسجود وعصيان إبليس وإبائه وتحذير آدم من مكر هذا العدو له ولزوجه وذريتهما، وفي هذا وعظ وتحذير من عدونا فيقول عز وجل:

 

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)

------------------------

 

بعد ذكر قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل، وإيرادها مورد الاعتبار والاتعاظ، وهي من أنباء ما قد سبق يورد الله ـ تبارك وتعالى ـ قصة أبينا الأول آدم، قصة خلقه وإسجاد الملائكة له، وإباء إبليس من السجود، وما ترتب على ذلك، والمقصود من كل ذلك التذكير والإنذار والوعظ يقول الله ـ تعالى ـ:

 

{وَلَقَد عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}

 

العهدُ هو: الوصية، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا} أي: وصَّينا آدم أباكم الأول، {مِن قَبْلُ} أي: من قبل موسى وهارون، ومن قبلهما من الأنبياء والرسل، عهدنا إليه بما عهدنا من الوحي الذي فيه إرشاده وهدايته، وتحذيره من عدوه حتى لا يفتنه ولا يغويه، ولكن آدم نسِيَ كل ذلك في لحظة من اللحظات، فافتُتِن بوسواس عدوِّه إبليسَ وضعف عزمه، قال ـ تعالى ـ:

 

{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}

 

أي: لم نجد لآدم ولا لزوجه عزمًا: أي قوةَ صبرٍ في الصمود أمام العدو الأكبر إبليس اللعين، وهذا الضعف مركب فيه وفي بنِيهِ، فما أشبه ذريته به في ضعف العزيمة وقلة الصبر، ولكن آدم سرعان ما تذكَّر وتاب ورجع إلى ربه وأناب، فتقبله الله، وتاب عليه، وكذلك الذِّينَ اصطفى الله من ذريته يفتنون كما فُتِن أبواهم ثم يتوبون كما تابا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، أما الذِّينَ يصرون على خطاياهم والذِّينَ يكفرون ويحادُّون الله ورسوله، فأولئك لَم يتشبهوا بأبيهم آدم وأمهم حواء، ولم يرثوا عنها التوبة والإنابة، إنما هؤلاء أشباه إبليس وجنوده الذِّينَ ورثوا عنه الإصرار والتمرد فهم جند إبليس وحزبه، لقد انفصلوا من فصيلة البشر وانخرطوا في فصيلة الشياطين، يقص الله ـ تعالى ـ علينا قصة آدم لنتعظ بها فيقول:

 

{وَإِذْ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلنَا يَا ءَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى}

 

يذكرنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بقصة خلق آدم وإسجاد الملائكة له سجود تعظيم وتشريف، لا سجود عبادة له، إنما هو عبادة لربهم الذي جعل خلقه من تراب، ونفخ فيه من روحه، آية عظيمة تدل على علمه وحكمته في خلقه وقدرته على كل شيء، فهم إذ يسجدون له تشريفًا وتكريمًا إنما يسجدون لربهم طاعة له وتعظيمًا وخضوعًا لسلطانه وخشوعًا، يقول ـ تعالى ـ: اذكر يا مُحَمَّد حين قلنا للملائكة ومعهم إبليس:

 

{اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبلِيسَ أَبَى}

 

لقد فَهِم الملائكة وفَهِم إبليس معهم أن أمر الله بالسجود موجه إليهم جميعًا، فلا يجوز أن يشذ منهم أحد فيمتنع عن السجود، فامتثلوا كلهم فسجدوا إلا إبليس الذي كان من الجن فامتنع وأبى ظلمًا وعلوًّا؛ ذلك أن إبليس خُلق من نار وركب في طبعه ما لم يركب في طبع الملائكة، فالملائكة خُلقوا من نور، ولم يركب في طبعهم الشهوات، فهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما إبليس الذي هو أبو الجن فقد رُكِّب في طبعه ما رُكِّب في طباع الجن والإنس من الشهوات، وجعلت لهم إلى جانب الشهوات عقول يتلقون بها أوامر الله ونواهيه، ويتحملون بها أمانة التكليف ويترتب عليها الثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى، لقد سبق في علم الله أن إبليس تتغلب عليه طبيعته الجنية، لذلك قال في آية أخرى: {إلاَّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}

 

ولا معنى هنا للاشتغال باختلاف بعض المفسرين وارتباكهم في أمر إبليس، هل يدخل في الخطاب وهو ليس من الملائكة، والخطاب موجه إلى الملائكة، أو هو من الملائكة؟ ويأتون بالتأويل البعيد حتى يجعلوه من الملائكة، كيف يكون من الملائكة والله ـ تعالى ـ يقول: {كان من الجن}، والجن غير الملائكة؟ وكيف لا يتناوله الخطاب، وقد جاء بواو الجماعة {اسجدوا لآدم} وهو معهم، وقد فهم ذلك قطعًا؟ ولذلك انقطع عذره حتى عاتبه الله {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}، فالعبارة صريحة في أنه داخل معهم في الأمر، ولا إشكال في الأمر، ولا عذر له من هذا الجانب، إنما الذي منعه من السجود كِبرُهُ وحسدُه لآدم وخذلان الله له، ونعوذ بالله من الخذلان، ونعوذ بالله من سوابق الشقاء، لقد أبى السجود تمردًا وكفرًا وعنادًا، ولَم تنفعه عبادته الطويلة مع الملائكة، وكذلك الكفر يُحبِط العمل كما يحبطه الله بالإصرار والتمرد فلنحذر الإصرار، ولنحذر محادة الله ورسله بالتمرد على الأوامر وارتكاب النواهي، ولنحذر الكبر والحسد؛ فإنهما أول ما عُصي الله به، وهما عدوُّ الإيمان، إذا تمكنا في القلب خرج منه الإيمان، حينئذ أسفر إبليس عن طبعه الخبيث وأعلنها عداوة لآدم وبنيه، وأعلنها حربًا على الله، فحذر الله أبانا آدم من شر عداوته، وما ينجَرُّ عنه من المكر والكيد والإغواء.

 

{فَقُلْنَا يَا ءَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوجِكَ فَلاَ يُخرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى}

 

قال الله لآدم إن هذا الذي امتنع عن السجود لك عصيانًا وتمردًا هو عدو لك ولزوجك ولبنيكما، سوف لا يألو جهدًا في إضلالكم وإغوائكم؛ ليلحقكم به في الشقاء، فإياكم فاحذروا من مكره وكيده ولا تطيعوا له أمرًا، وإياكما أن يخرجاكما بمكره وكيده من الجنة فتشقى.

 

{إِنَّ لَكَ أَن لاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعرَى وَإِنَّكَ لاَ تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى}

 

أسكن الله أبانا آدم الجنة، وامتن عليه بما فيها من النعيم، وضمن له فيها أربعة أشياء هي كبرى النعم التي يسعى الناس ويشقون في الحصول عليها، وهي كبرى مطالب الإنسان في هذه الحياة: الطعامُ والشرابُ واللباسُ والمسكنُ الذي يُكنُّه، ويقيه حر الشمس وقهر الزمهرير، وبرد الأمطار، والبَرد والثلوج، هذا ما يطلبه الإنسان، ويشقى الرجال في التحصيل عليه، ولذلك قال ربنا مخاطبًا آدم {فَتَشْقَى}، ولم يقل: فتشقيا وفي هذا إشارة واضحة من الله أن الرجل هو الذي يسعى على العيال، وعلى كاهله مؤونتهم، أما المرأة فمقرُّها البيت الذي يعده لها زوجها هنالك تثوي وتلد أولادها وتربِّيهم وتقوم بشؤون البيت، إن لك يا آدم أن تطعم فلا تجوع، وتشرب من أنهار الجنة العذبة فلا تظمأ، وإن عليك من كسوة الجنة ما يسترك ويجملك ولا يبلى، فأنت فيها لا تخاف العري، ولا تتعب في نسج اللباس ولا خياطته، وإنك في ظل ممدود يقيك حر الشمس فلا تضحى، ولا تتعرض في الجنة لشمس ولا لزمهرير، فتمتع بنعيم الجنة ولا تستمع لوسواس عدوك إبليس، فتتعرض لعقاب الله، وأول ذلك: الطردُ من الجنة، وإذا كانت طاعة الشيطان تعرض أبا البشر الخروج من الجنة، فكيف يطمع من هو خارج الجنة في دخولها وهو يطيع الشيطان ويعصى الرحمن؟!، أليس في ذلك موعظة وذكر للمؤمنين!

 

{فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَالَ يَا ءَادَمُ هَلَ اَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا}

 

فوسوس عدوُّ الله وعدوُّ آدم إبليس، وسوس لآدم وزوجه حواء ولا زال بهما يمعن في الوسوسة ولا يمل، ويظهر لهما بمظهر الناصح الذي يريد لهما الخير، ويقسم لهما على ذلك، وذلك بعد أن يشُكَّا في نُصحه ويراجعاه القول؛ ولذلك جاءت العبارة بالمقاسمة: {وقاسمهما إني لكما لَمن الناصحين} (الأعراف:21).

 

يقسم ويحلف بالله على الكذب، وهو الشيطان لا يتورع عن ذلك، وآدم وحواء مطبوعان على الإيمان والصدق لا يظنان أن أحدًا يتجرأ على الله فيحلف باسمه الغالي العزيز على الكذب، فيُصدِّقَان إبليس في قَسَمه، ويغتران بوسوسته بعد الارتياب، وبعد طول المحاولة والتكرار، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ: {فدلاهما بغرور} (الأعراف:22)، والتدلِيَةُ: هي الإغراء بالخداع شيئًا فشيئًا، وإدلاء المخدوع وإلقاؤه في المهواة بطريقة تدريجية، ما زال بهما يزخرف لهما القولَ ويؤكده بالحلف الكاذب حتى وقعا في المحذور، ونسيا تحذير الله إياهما من كيده وخداعه، ويروى أن إبليس خدع حواء أولاً، ثم استظهر بها على آدم فغلب المسكين حين بقيَ وحدَه يغالب وسواس الشيطان والمرأة، ويَا لَضُعفَ الرجال أمام هذين العاملين إلا من عصم الله، مال آدم وحواء إلى الشجرة الوحيدة التي نُهِيَا عنها من بين أشجار الجنة الكثيرة والكثيرة التي أبيحت لهما، ذلك أن إبليس زعم لهما أنها هي وحدها شَجَرَةُ الخُلدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى، قال لهما:

 

{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَن هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ}

أقسم إبليس لآدم وزوجه أن هذه الشجرة التي نُهِيَا عنها هي شجرة الخلد، من أكل منها كان من الخالدين في الجنة، وأن الله نهاهما عنها ليهبطهما إلى الأرض، وما علم المسكينان أن أكلهما من الشجرة هو سبب هبوطهما إلى الأرض وحرمانهما من البقاء في الجنة؛ لأن الجنة هي دار الكرامة ولا يجاور الله في دار كرامته من عصاه، فاغترا بوسواس عدوهما وظناه ناصحًا أمينًا.

 

{فَأَكَلاَ مِنهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفضانِ عَلَيهِمَا مِن وَّرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى}

 

نسي آدم وحواء العهد فأكلا من الشجرة المحرمة عليهما حقيقة، فما إن أكلا منها حتى طار عنهما الحلي والحلل وبدت لهما {سَوْءَاتُهُمَا}: أي عوراتهما، طار اللباس؛ لأنه لباس الكرامة من الله، ولا تبقى الكرامة لمن عصى الله ـ تعالى ـ وأطاع الشيطان، اختار الله من كلماته هذه الكلمة الشنيعة {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا}؛ لتدل على شناعة المعصية، وخزي العصاة وهوانهم على الله وهي كلمة تؤدي معناها حقًا وما كان ليدل على معناها غيرها في هذا الموقف، فلو قال مثلا: نزع عنهما لباسهما، أو طارت عنهما الحلل، لَمَا دلَّت حقيقة الدلالة على فظاعة الموقف، وكم مرة قرأت هذه الآية وقرأت تفاسيرها، ولكني ما شعرت بحلاوة بلاغتها ودلالتها على المقصود إلاَّ في هذه اللحظة، ولنفحات الله أوقات يدَّخرها لأوقاتها فسبحان الله، ولا قوة إلاَّ بالله، وكم لله على عباده من منن وفتوحات؟!، وكم لأسلوب القرآن من دلالات واضحات وآيات بينّات لا يظفر بكشفها إلاَّ المتدبرون؟!، وفي هذا التعبير عبر ومواعظ منها:

 

إن المعصيةَ: أي معصيةُ الخالق أمر عظيم وكبير، سريعة العقوبة، فما إن أكلا من الشجرة حتى نُزِع عنهما لباسهما كلُّه، ولم يبق لهما ما يستر عورتيهما، وناداهما ربُّهما بالأمر بالهبوط إلى الأرض والخروج من الجنة، وقرنهما في هذا المصير بعدوهما وعدو الله الشيطان الرجيم، فما أشأم المعصية وما أسرع عقوبتها، لولا أن الله يمهل العصاة لعلهم يتوبون أو يذَّكرون، وليس عليه أن يمهلهم إنما ذلك تفضُّل منه ولُطفٌ بعباده الضعفاء، ولو شاء ما فعل، وقد حذَّرهم شؤمها، وأنذرهم عقوبتها، وأحيانًا يعجلها عليهم إذا اقتضت حكمته وعدله ذلك، فليحذر العصاة من عقوبة الله {ولا يَامَنُ مكرَ الله إلاَّ القومُ الخاسرون} (الأعراف:99)، أفأمن الذِّينَ يرتكبون الفواحش والموبقات، ويبغون على الناس أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولا يمهلهم ولا يُفلِتُهم فيذهبون إلى سخط الله وعقابه وعذابه المقيم {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (الأنعام:165).

 

وفي الآية لَطف الله بعباده المؤمنين حتى في حالة العقوبة، إذا علم أنهم أولياؤه، وأنهم سيتوبون إلى ربهم ويُنِيبُون، فإن الله لَمَّا حرم على آدم وحواء لباس الجنة حين عصياه لَم يحرم عليهما الورق، وهو أيضًا من ورق الجنة بل تركهما ينزعانه ويخصفانه: أي يضمان بعضه إلى بعض بالشوك أو بالسعف أو نحوه ليجعلا منه ستارًا لسوآتهما الباديات، وهذا من الله لطف بهما وقد علم أنهما لم يعصياه كفرًا وتمردًا كما عصى إبليس، بل فُتِنا ونَسِيَا عهدهما نسيانًا وغفلة، وفي الآية دلالة على كرم طبع آدم وحواء، فَهُما وإن كان زوجين لا يحرُم عليهما النظر إلى سوآتهما، ولكنهما خجلا واستحيا بعضهم من بعض، وهذا يدل على ما طبعا عليه من الحياء والكرم وصدق الله العظيم القائل {لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم} (التين:04)، وفي الآية كشف لطبيعة الإنسان الذي هو شغوف بما منع ونُهِيَ عنه، وفي الحديث: "لو نُهِيَ الناس عن فت البعر لفتُّوه"، لقد كان في الجنة آلاف الأشجار ذوات الثمار المختلفة ولم يحرم الله عليهما إلاَّ شجرة واحدة كان يُمكن جدًا لآدم وحواء أن يستغنيا عنها، لولا مَيْلُ الإنسان إلى ما نُهِيَ عنه، ولا ننسى وسواس الشيطان.

 

وقد يعجب أحدُنا ويعتب على أبويه آدم وحواء فيقول: يا سبحان الله! كيف يتركان كل أشجار الجنة ويتعلقان بالشجرة الواحدة التي نهيا عنها، ويأكلان منها ويكون أكلهما سببًا لشقائهما، وشقاء ذريتهما من بعدهما؟!

 

وليس أمرهما بأعجب من أمرنا، ولا حالهما بأغرب من أحوالنا، فإننا جميعًا نقع دائمًا في مثل ما وقعا فيه، وما تلك الشجرة المحرمة عليهما إلاَّ مثال للمحرمات القليلة التي نهينا عنها، فما أقلها في جانب الطيبات الكثيرة والكثيرة التي أباحها الله لنا في هذه الأرض، إن الأشياء القليلة التي نهينا عنها وحُرِّمت علينا ما هي في قلتها بالنسبة للطيبات من الرزق التي خلقت لنا إلاَّ كنسبة الشجرة التي نُهي عنها آدم إلى شجر الجنة، أباح الله لنا الطيبات من الرزق وحرَّم علينا شجرة الخبائث، ولو عقلنا ما تعرضنا لها، ولكن الجِبِلَّة التي جُبِل عليها أبونا الأول وأمنا هي واحدة لا تختلف، والشيطان هو الشيطان فلا عتب على أبوينا، والرواية متكررة دائمًا وأشبهنا بأبويه الخطاءون التوابون والله هو الغفور الرحيم.

 

وفي الآية إشكال عند المفسرين: وهو يتعلق بوسوسة إبليس لأبوينا وهما في الجنة وهو مطرود منها بعد إبائه للسجود لآدم، كيف يتأتى له أن يوسوس لِمن في الجنة بعد أن أخرج منها؟ ولهم في هذه تأويلات، ولعل أقربها إلى الصواب هو أن الطردَ مؤجل إلى حين، وذلك أن الله خاطبهم جميعًا آدم وحواء والشيطان بخطاب واحد: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو} (البقرة:36)، أبقاه الله في الجنة أو أذن له في الرجوع إليها ولو لفترات؛ ليتحقق أمر الله وقضاؤه المحتوم؛ لأن الله أمهل إبليس إلى قيام الساعة خاطبه بقوله: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعِدهُم وما يَعِدُهم الشيطان إلا غرورًا} (الإسراء:64)، فلابد لأمر الله أن يقع، ولا يهمنا إشكال المفسرين في القضية ما دام أمر الله واقعا، وقضاء الله مقدورا، ولنتجاوز لهذه الأشكال إلى ما يعنينا من معنى الآيات ويكسبنا موعظة وذكرى، قال ـ تعالى ـ:

 

{وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى}

 

وصف الله عبده آدم بالمعصية، هكذا بهذا اللفظ الغليظ؛ لأنها مخالفة نهيه، وهي وإن عدَّها العلماء في الصغائر؛ لأن الأنبياء معصومون من الكبائر، ولكنها بالنسبة لمقامه تُعَدُّ معصية، وهو الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته وعلَّمه الأسماء كلها، فما كان ينبغي أن يرتكب إتيان المحظور، وليس فيما يعصى الله به صغير، وفي هذا الوصف من الله لما فعل آدم بالمعصية زجر لنا عن ارتكاب المعاصي، وأن ذلك ضلال وغواية يوجب العقوبة، ثم إن الله ـ تبارك وتعالى ـ اجتبى عبده آدم، أي وفقه للتوبة النصوح فأناب إلى الله وبكى من خطيئته زمانا، وكذلك بكت أمنا حواء وقالا: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف:23)، هذا إلى تسبيحات وتضرعات وذكر في كلمات تلقَّيَاها من ربهما فتاب عليهما، وهداهما إلى حظيرة الاستقامة، وهداهما لاكتساب معاشهما، وصنع كسوتهما، في هذه الأرض التي أُهبطا إليها، وجعلت مهادا لهما ولأولادهما، وما كان ربهما الذي خلقهما ليضيعهما وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وفي هذا ما فيه من لطف الله بعباده المؤمنين وقبوله لتوبة التوابين {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون} (الشورى:25).

 

وفي الآية إن مرتكب الخطيئة غاوٍ، وأنه بعد توبته مهتدٍ يهديه ربُّه إلى صراط مستقيم، وفي هذه الآيات ذكر آدمُ وتدخُل معه زوجه بالتبع، وقد جاء التصريح بها وبتوبتها في سُورَة البقرة حيث جاء ضمير المثنى هنالك، وبعد ذكر التوبة والهداية ذكر الله قصة إهباط آدم إلى الأرض، وإن كانت توبة الله عليه وقعت بعد هبوطه إلى الأرض، ولكن قدَّمها الله في الذكر لينبِّهنا على حفاوته وعنايته بأوليائه فلا يذكر لنا إخراجهما من الجنة إلاّ بعد أن ذكر لنا توبته عليهما واجتباه لآدم، وفي ذلك إشارة إلى أنه وإن شقى بمعصيته في الدنيا بهبوطه إلى الأرض ومجاورته فيها عدوَّه، فإنه لن يشقى يوم القيامة، وسيعود إلى الجنة وينعم فيها بالخلود، ورضوان الله أكبر، وكذلك التائبون من أبنائه.

 

{قَالَ اهْبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُمْ لِبَعضٍ عَدُوٌّ}

 

الخطاب من الله ـ تعالى ـ لآدم وإبليس؛ لأنه قال: بعضكم لبعض عدُو، وهذه العداوة بين إبليس وآدم وذريته لا بين آدم وزوجه، صدر الأمر الصارم من الله العلي الأعلى بالهبوط إلى الأرض لآدم وزوجه وإبليس جميعًا، وصدر الحكم النافذ أن عداوة إبليس لآدم وذريته متمكنة مستمرة لا مطمع في زوالها، هذا ليحذر آدم وبنوه من شر هذه العداوة، ولا يحسنوا الظن بإبليس أبدًا، ولو تظاهر لهم بالنصح، وأقسم لهم على ذلك أيمانًا مغلظة، وقد رأينا ما جرَّ حُسنُ الظن به من بلاء وشقاء لأبوينا الأولين، فأعلن الله لنا بهذه العداوة صراحة، حتى نتقيها ولا نغتر بقسم إبليس وتظاهره بمظهر الناصح، فلا عذر بعد الإنذار المصرَّح به من قِبَل الله، فيجب أن نقابل عداوة إبليس بعداوتنا، وعداوتنا هي مخالفتنا له وسوء ظننا به وبذريته وجنوده، قال ـ تعالى ـ:

 

{فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنَ اَعرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَّنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعْمى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنَ اَسرَفَ وَلَمْ يُومِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}

 

خطاب من الله ـ تبارك وتعالى ـ لآدم وذريته، بل هو للإنس والجن حتى تقوم الساعة، وفيه من العلم أن الله ـ تبارك وتعالى ـ سيتعهد الإنس والجن بالأنبياء والرسل يهدونهم ويدلونهم على صراط المستقيم الذي يهدي الناس إلى الجنة ويجنبهم النار وأن لا يتركهم هملاً، بل يهديهم وينزل عليهم كتبًا قيمة فيها النور المبين {إن علينا للهدى وإن لنا لَلاَخِرة والاُولى} (الليل:12-13).

 

{فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}

 

إتيان الهدى من الله مؤكد بالنون الثقيلة، فالأمر محقق لا مرية فيه، والهدى من الله لا من غيره، فلا تهتدي عقول البشر وحدها لخط طريق الهداية؛ لأنها تختلف وتطغى عليها الأهواء والشهوات {قل إن الهدى هدى الله} (آل عمران:72)، حكم الله وحكمه الحق، أنَّ من اتبع هدى الله وآمن برسله واتبعهم، فإنه لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، والأولى أن من أعرض عن ذكره وكفر برسله ولَم يتبع هداه، فإن له معيشة ضنكا في هذه الحياة، ويحشره الله يوم القيامة أعمى، فالشقاء والمعيشة الضنك: أي المضيقة المنغصة الشقية لأهل الضلال المعرِضِين عن ذكر الله، والراحة والهداية والمعيشة الطيبة وطمأنينة القلب للمتبعين هدى الله المؤمنين بأنبيائه ورسله.

 

هذا وقد يستشكل بعض الناس أمر الواقع وهم يرون الكفار والمنافقين منعمين مترفين، بينما كثير من المؤمنين الصالحين في بؤس وفقر ومرض وبلاء فكيف يستقيم المعنى والحالة هذه؟!

 

إن الله ـ تبارك وتعالى ـ صادق في قوله، وهو الذي يقول: {من عمل صالحًا من ذكر أوُ انثى وهو مُومن فلنحيِيَنَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:97)، والحياة الطيِّبة في الحقيقة، ليست بوفرة متاع الحياة وكثرة الغنى، والظفر بالقهر والسلطان، وغيرها من زينة الحياة الدنيا، بل قد تكون هذه الأعراض من أسباب الشقاء والنكد إذا خلت من الروح، وتجرَّدت من قِيَم الإيمان والأخلاق الإسلامية، ولذلك نرى كثرة الإنتحارات والاغتيالات والمآسي عند هؤلاء المترفين من الكفار والمنافقين، وما ذلك إلاَّ عنوان على ما هم فيه من فراغ روحي يسبب لهم الشقاء والحيرة والاضطراب، و"الدنيا كماء البحر من ازداد شربه ازداد عطشه"، وأهلها يتناحرون على أعراضها الدنية، ويتقاتلون على حب العلو والمال، ويتحاسدون على مراتبها، ويتنافسون عليها، بينما ترى أبناء الآخرة مرتاحي القلوب، راضين بما قسم الله لهم، راجين من الله ما لا يرجوه أهل الدنيا، فهم في حياة طيبة قلوبهم مطمئنة بذكر الله الذي آمنوا به، وتوكلوا عليه وفوَّضُوا أمورهم كلها إليه، فهم في راحة، وهم على هدى من ربهم، فشتان بين الفريقين، وجاء في الحديث الشريف: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" (رواه مسلم).

 

وكيف لا يكون البلاء نعمة للمؤمنين، وبشرى لهم إذا علموا أنهم يؤجرون عليه مالا يؤجرون على العاقبة، فدرجاتهم ترتفع به عند الله وسيآتِهم تكفر به وحسناتهم تزكو به {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمر:15)، إنهم سيقال لهم يوم القيامة، وهم على أبواب الجنة {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر:73)، ويقال لهم في رياض الجنة ينعمون مخلدين فيها أبدًا {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد:24)، فلا إشكال إذن في الآية إذا علمنا حقيقة الفرق في الحالات النفسية بين أهل الهدى وأهل الضلال.

وقيل عن بعض المفسرين

:

{مَعِيشَةً ضَنْكًا}

 

أي في البرزخ هي عذاب القبر، والمعاني لا تتزاحم فهم في الدنيا كما ذكرنا في شقائهم وحيرتهم وضلالهم يعمهون، وهم في قبورهم يتعذبون بما قدمت أيديهم، يوم يكون قبر المؤمن روضة من رياض الجنة، وتكون نسمته طائر يعلق في شجر الجنة، كما جاء في الحديث الصحيح، ثم إنهم يوم القيامة يتباينون، فأهل الإيمان المتبعون هدى الله، يحشرون آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بينما أهل الضلال يحشرون عميًا وبكمًا وصمًّا، وعند حشرهم على هذه الحالة يجري بينهم وبين ربهم هذا الحوار المزعج:

 

{وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعْمى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِيَ أَعْمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى}

 

إن الله يجزي عباده الجزاء الوفاق، فمن كان في هذه الدار أعمى البصيرة معرضًا عن ذكر الله، فهو في تلك الدار أعمى البصر، وذلك زيادة له في العقوبة؛ لأن الذي يتلقى أنواع العذاب والنكال، وهو أعمى أشد إحساسًا بالويل والألم والإهانة من الذي يُعذَّب وهو يرى، فأعداء الله يوم القيامة عميٌ وبُكمٌ وصمٌّ؛ لأنهم كانوا في الدنيا عُميًا عن نور الله لا يبصرونه، وبكمًا عن النطق بالحق يجحدونه، وصمًّا عن الذكر لا يسمعونه، كانوا إذا ذُكِّروا بآيات ربهم يخرون عليها صمًّا وعميانًا، فإذا حُشر أحدهم على هذه الحالة اندهش وانزعج منها.

 

{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِيَ أَعْمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}

 

يقول يا ربِّ لِمَ حشرتني أعمى؟، فَقِيدَ البصر، وقد كنت في الدنيا بصيرًا؟، فيُجيبُه ربُّه

:

{كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنْسَى}

 

وليس النسيان هنا بمعناه الحقيقي؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يضل ولا يَنسى، وإنما يُفسَّر النسيان بِحرمان عدُوِّ الله من رحمة الله، فإن الله حين يقسم رحمته بين أوليائه يحرمُهم كالمنسيِّينَ، ولا يجعل لهم فيها حظًا ذلك هو النسيان.

 

{وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنْسَى}

 

جزاء وفاقًا، كذلك يخاطبهم الله حتى ييأسوا من رحمة الله؛ لأنهم أتتهم آيات ربهم بينات فأعرضوا عنها ونسوها ولم يتدبروها، آتاهم الله الآيات البيّنات في الأكوان فلم ينظروا ماذا في السماوات وماذا في الأرض، وماذا بينهما، وماذا تحت الثرى من الآيات العظيمة التي تدل على عظمة الخالق وعلمه وقدرته وحكمته في خلقه، ولم ينتفعوا بها، وآتاهم الله الآيات البيّنات في كتبه المنزلة على رسله المبلغين عن الله، فلم يرفعوا بها رأسًا، وتولوا وهم معرضون، وقد يدخل في هذا الوعيد من آتاه الله القرآن فنسِيَه ونسِيَ دراسته والعمل بما فيه، فهو والجاهل سواء، فلنحذر هذا النوع من النسيان فقد ورد فيه الوعيد، ونعوذ بالله من نسيان كتاب الله، وفي الحديث الشريف: "مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعَقَّلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت"، وفي الحديث الشريف: "من تعلم القرآن ثم نسِيَه حُشِر يوم القيامة أجذم"، والأجذم المقطوع اليد والمقطوع الحجَّة عند الله يوم القيامة كما رأينا في هذه الآية.

 

{وَكَذَلِكَ نَجزِي مَنَ اَسرَفَ وَلَمْ يُومِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}

 

كذلك يكون جزاء الله للمسرفين الذِّينَ أسرفوا في تقدير أنفسهم فرفعوها فوق الحق، وتكبَّروا على دعاة الله، وأعرضوا عنهم استكبارًا وطغيانًا، فما الدين وما القرآن وما الآخرة في نظرهم إلاَّ تخيلات الرجعيين المتخلفين {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} (غافر:83)، فهم مسرفون بهذا الاعتبار، ومسرفون أيضًا بارتكاب المعاصي والفواحش والمظالم؛ لأن حب الدنيا قد استحوذ عليهم فأنساهم الآخرة، وشهواتهم طغت عليهم، فلا قيد لها من إيمان أو خشية، فأي شيء يكفهم عن العصيان، وهم معرضون عن ذكر الله؟ ولذلك قرن الله إسرافهم بعدم الإيمان؛ لأن عدم إيمانهم هو السبب في إسرافهم، ولأنهم حين يسرفون في الإثم والعدوان يذهب الإيمان ولا يبقى، ففي الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} (رواه البخاري ومسلم)، الحديث فكما أن اقترن العمل الصالح بالإيمان، فكذلك اقترن الإسراف بعدم الإيمان اقتران اللازم بالملزوم، ثم قال ـ تعالى :

{وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}

 

بعد هذا التخويف من سوء عواقب المسرفين، زاد فأنذرهم بعذاب الآخرة الذي هو أشد وأبقى، وأكد الله الخبر بـ: "اللام"، لتحقق وقوعه فلا ريب في ذلك، فإذا صاروا إليه تصاغر في جنبه كل نعيم نالوه في الدنيا، وتقاصرت أيام الدنيا حتى حسبوها يومًا أو بعض يوم، وتصاغر كل ما ينالهم من المعيشة الضنك وعذاب القبر وإن طال، وموقفهم موقف الخزي والفضيحة يوم القيامة، كل ذلك يتضاءل في جنب عذاب الآخرة المقيم الدائم، فهو أشد وأبقى فما أسوأ مصير المسرفين المكذبين.

 

طه: الآيات ( 128 - 135 ) آخر السورة

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

--------------------------

 

بعد الكلام على أخبار موسى ـ عليه السلام ـ وقومِه، ثم الكلام على قصة آدم أبي البشر وأمهم حواء، وكيف انتقلا من الجنة التي أُسكِنا فيها أولاً فأُهبِطا منها بسبب نسيانهما عهد ربهما، فأُسكِنَا في هذه الأرض وتعرضًا لِمشقتها وحرِّها وقرها، وها نحن اليوم نَدبُّ فيها، منها خُلِقنَا وفيها نعود ومنها نبعث، بعد ذكر هذه الأخبار ألفتنا الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى آثار الأمم قبلنا في هذه الأرض لنعتبر بمن مضى، وتعجب ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من الذِّينَ يغفلون ويُعرِضون عن هذه الآثار التي تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويتمادون في الظلم والعصيان، وهم يسكنون في مساكن الظالمين، وضرب الله لهم الأمثال بهم، وهم عن الأمثال عمون:

 

{أَفََلَم يَهْدْ لَهُم كَمَ اَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}

 

أعَمِيَ هؤلاء الكفار المعاندون والمكذبون عن أطلال من قبلهم؟ فلم يهد لهم أن يعتبروا بها ويخافوا مثل مصيرهم {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذِّينَ من قبلهم} (غافر:82)، الخطاب لكفار قريش، وغيرهم ممن كان في زمان نزول القرآن، ولجميع أصناف المكذبين حتى تقوم الساعة، وها هم يستمعون آيات الله تُتلى عليهم من جميع إذاعات العالم، حتى من إذاعات الشيوعيين المشركين، وهذا تحقيق لما ضمن الله لهذا القرآن من حفظ، فها هو يتلى ـ كما أنزل ـ من إذاعات الذِّينَ يكفرون به، فمَن في الدنيا لا يسمع هذا القرآن؟، وقد طبع ووزع في بلاد الدنيا، ونقل إلى لغات أجنبية كثيرة، ونُشِر في مشارق الأرض ومغاربها، وصدق الله العظيم {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه} (القيامة:17-19)، أيتحيَّر هؤلاء المستمعون للقرآن المكذبون به فلا يهتدون إلى أنه حق، وما يدعو إليه حق؟، ودعوته من جنس دعوات الرسل الذِّينَ سبقوه الذِّينَ كذبتهم أممهم، فأهلكهم الله وجعل من مهلكهم عبرة للمتأخرين الذِّينَ يأتون من بعدهم {إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} (الزمر:21)، أفلا يتدبرون في هذه الآثار العمرانية الضخمة المتينة التي تدل دلالة واضحة على عظم ما كان عليه أصحابها من التمكن في الأرض، وتسخير الناس في البناء، والصناعة والحفر وما كانوا عليه من السلطان والقهر، كيف خربت بلادهم، وخلت ديارهم، وبقيت آثارهم تدل عليهم؟! {فكأين من قرية اَهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبير معطلة وقصير مشيد} (الحج:45)، إن هذه الآثار تنطق أن أهلها كانوا ظالمين، ولولا ذلك لما دمر الله عليهم وخرب ديارهم وأخلى قصورهم وعطل آبارهم وتركهم عبرة للمعتبرين، ولَم تُغنِ عنهم كثرتهم ولا قوتهم شيئًا.

 

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}

 

إن في ذلك الإهلاك والتدمير لمساكن الظالمين لآيات لأولي العقول المفكرة، والقلوب المستبصرة المعتبرة، كان الأحرى بهؤلاء المكذبين أن يعتبروا بعواقب الظالمين المكذبين، وهم يمشون في مساكنهم، يمرون على "وادي القرى" ديار ثمود، وعلى "سدوم" ديار قوم لوط، وعلى "مدين" قوم شعيب وعلى "الأحقاف" مساكن عاد قوم هود، وفي أهرام مصر، وفي قصور الحيرة، وقصور اليمن في ديار سبأ، وغيرهم.. وغيرهم.. عبرة للمعتبرين، والدنيا ملأى بهذه الآثار والأطلال التي تنطق بالعبر وتبوح بالخبر، فما على العاقل إلاَّ يسير في الأرض فينظر ويعتبر.

 

{وَلَولاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى}

 

لقد رأينا فيما تقدم من قصة آدم وحواء شؤم المعصية وعقوبة الذنب فما إن وقع الذنب حتى حلت العقوبة وطار الحلي والحلل وانكشفت السوءات، وهنا يقرر الله ـ تبارك وتعالى ـ نفس المعنى ويقول: لقد كان عقاب الكفر والذنوب لازمًا لها لولا حلم الله، وإمهاله لهؤلاء الكفرة لعلهم يرجعون، أو لعلَّ الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله، تلك هي الكلمة التي سبقت من الله، إن الله يمهل الكفرة والفجار، وإن الله لا يستأصل هذه الأمة بعذاب يسحتهم رحمة منه بهم؛ ولأنهم آخر الأمم، فما أخر عنهم الهلاك إلاَّ كلمة الله وأجل مسمى مضروب لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فقوله ـ تعالى ـ: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} معطوف على قوله: {كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ}، فقدم جواب: "لولا" وأقحم بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لِيَكون وقعه أمكن في النفوس وأشد، ولتكون دلالته أقوى؛ لأنها المقصودة بالذات، يقرر الله ويحكم أن لكل ذنب عقوبة لازمة له، إن لم تكن عاجلة فلها أجل محدود لا تتعداه، ولا يرفعها إلاَّ التوبة النصوح، وقد تكون العقوبة مخففة بعد التوبة كفارة للذنب وتطهيرًا للنفس والقلب من أثره، وكان من دعاء النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" ومن حديث ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، وفي هذا إشارة إلى شؤم المعاصي وأنها كالنار المشتعلة المهددة بالخطر، وأن ما يطفئها التوبة، والتضرع إلى الله، وإسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والإكثار من الصدقات، والمبادرة بالباقيات الصالحات، تلك هي المكفرات المطهرات.

 

{فَاصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنَ _انَاءِي اللَّيلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرضَى}

 

فاصبر على ما يقول هؤلاء الكفرة، ولا تضق بهم ذرعًا فإن لهم أجلا مسمى لا يَعْدُونه، إنهم يسخرون ويستهزئون ويسبون رسول الله ودينه، ويستبطئون العذاب، ويكذبون بوقوعه ويقولون {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} (يس:48)، {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} (المجادلة:08)، اصبر على أذاهم واتركهم، وتوكَّل على الله وكفى بالله وكيلا، واستعن في صبرك وفي جميع أمورك بالصلاة، تقيمها لله ـ تعالى ـ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، {وَمِنَ _انَاءِي اللَّيْلِ}: أي في سائر أوقات الليل، وعند أطراف النهار {لَعَلَّكَ تَرضَى} ما اختاره الله لك ولأصحابك من الابتلاء والامتحان، وترضى عاقبة صبرك يوم تُلاقي ربَّك.

 

أمر الله نبيَّه بالصبر على ما يقول الكفار من قومه، وأمره أن يسبح بحمد ربه في أوقات عيَّنَها له وتلك هي الصلوات الخمس يقيمها ويصليها لله ـ تبارك وتعالى ـ {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}، أي صلاة الصبح وصلاة الظهر والعصر {وَمِنَ _انَاءِي اللَّيلِ}، أي صلاة المغرب والعشاء.

 

{فَسَبِّحْ}: أي فَصَلِّ، {وَأَطرَافَ النَّهَارِ} أي: صلاة العصر وصلاة الصبح، كرر هذين الوقتين لصعوبة الصلاة فيها وثقلهما على المنافقين، فهم ينامون عن صلاة الصبح ولا يشهدونها، ولا يحافظون على الصلاة الوسطى؛ لأنهم تلهيهم عنها الأسواق والتجارة والبيع فكرر الله هذين الوقتين وحض عليهما، ووعد عليهما الرضا، لما يناله المحافظ عليهما من الثواب الجزيل يوم يلقى ربه يوم الجزاء، و"لعل"، إذا جاءت في كلام الحق جل جلاله، فإنها للتحقيق لمن فعل المأمور مخلصًا لربه الدين.

فلنحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها، ولنُرَبِّ عليها أولادنا وأهالينا، ولا نتركهم للنوم، فإن كثيرًا من الشباب يتباطئون ويتثاقلون عن صلاة الصبح خاصة، وهي الصلاة التي يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار {وقرءان الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} (الإسراء:78)، هكذا يسلي الله نبيَّه ويأمره بالصبر على ما يقوله المكذبون والمستهزئون، ويرشده أن يستعين عليهم بالصبر والصلاة، فهما خير وسيلة يتقرب بها إلى الله وينال بها رضاه، ويتقي بها سخطه ويعتصم بها؛ ليدفع الله بهما عنه كيد الكائدين وظلم المكذبين، ثم إن الله ـ تعالى ـ يصرف وجه نبيِّه وحبيبِه عن النظر بعين الاعتبار والإكبار إلى ما متع الله به أعداءه من نعيم الدنيا الفانية، فليس ذلك أبدًا علامة على تكريمه ومحبته لمن مكنهم من ذلك، بل هو لمجرد الابتلاء والامتحان، وقد يكون للإملاء والكيد لأعدائه ليزدادوا إثمًا، قال ـ تعالى ـ:

 

{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُم فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَّأَبْقَى}

 

أي: لا تنظر يا مُحَمَّد أنت ومن معك من المؤمنين نظر المعجب الراغب المتمني لما متعنا به بعضًا من هؤلاء الكفار الجاحدين لرسالتك، اصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك واتل ما أوحي إليك من كتاب ربِّك، واصرف بصرك عما أوتي هؤلاء من زينة الحياة الدنيا، فإنما متعناهم بها لنفتنهم بها، فليست لهم خيرًا، بل هي شر لهم وفتنة، ليس النهي هنا عن مجرد النظر العابر لِمَا أُوتِيَه هؤلاء الكفار المترفون، إنما نهيٌ عن النظر الطامح الذي تُمازجه الرغبة الملحة، والتمني كتمني الذِّينَ يريدون الحياة الدنيا لِمثل ما أوتي قارون حين خرج على قومه في زينته قالوا: {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} (القصص:79)، فقد استعظموا حظَّه، وما أحقره!، ونسوا نعمة الإيمان وثواب الله الذي هو خير وأبقى، وذلك هو الحظ العظيم، وهذا النظر الطامح المنهي عنه تفيده صيغة النهي الواردة في القرآن الكريم.

 

{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}

 

جاء التعبير بِمَدِّ النظر المسند إلى العينين معًا؛ لأن الناظر إلى الدنيا نظر رغبة فيها يَمُدُّ عينيه معًا، ويفتحهما كأنه يريد أن يلتهمها بعينيه؛ لشدة رغبته في زينتها، وتلهفه على ما فاته منها، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاَّ قليل {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير} (البقرة:126)، وليس هذا المتاع إلاَّ كزهرة تتفتح زاهية، ثُم سرعان ما تذبل وتتصوح، وما أحلى التعبير بالزهرة، وإضافته إلى الحياة الدنيا مؤذن بسرعة ذهابها وفنائها، فلا ينبغي أن يفتتن بها العقلاء، ولا أن يتمناها الذِّينَ آتاهم الله نعمة الإيمان والعمل الصالح، ثم إن هذه الزهرة ليست لكل كافر وجاحد بل هي مقصودة على بعض منهم دون بعض ولذلك قال ـ تعالى ـ:

 

{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنهُمْ}

 

أي أصنافًا منهم بأصناف من زهرات الحياة الدنيا لفتنتهم، فبعض منهم فتنوا بالمال، وبعضهم فتنوا بالملك والسلطان، وآخرون يفتنون بالبنين، ومنهم من يفتن بصحة البدن واستوائه وجمال الصورة، فيبغون بهذه الأشياء ويبطرون ولا يشكرون الله، بل يُمعِنُون بها في الفجور والعصيان والإثم وأنواع الظلم، وتلك هي الفتنة، ويا ليتهم لم يُمتَّعوا بها فهي لهم عذاب في الدنيا، وحسرات في جهنم، حيث يلقون جزاءهم وتكون لهم عذابًا فوق العذاب، كما قال الله في أشكالهم من المنافقين: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (التوبة:55)، فهي لهم عذاب في الحياة الدنيا وعذاب في الآخرة، نعم سيعذبون بها في الآخرة؛ لأنهم كفار لم يؤدوا حق شكرها، بل طغوا بها وظلموا وفتنوا بها، واستظهروا بها على معصية ربِّهم الذي رزقهم إياها، وهم أيضًا يعذبون بها في الحياة الدنيا؛ لِخُلُوِّ قلوبهم من الإيمان واستحواذ الشيطان وحب الدنيا عليها، فهم على استمرار في تعب شديد ولهث متواصل وحيرة وخوف عليها أن تصيبها الجوائح والخسائر والنقص، وأنَّى لأحد أن يسلم من المصائب، لاسيما الذِّينَ يكسبونها من الربا ولا يؤدون زكاتها، وهم أيضًا في عذاب من أولادهم الذِّينَ طمسوا فيهم فطرة الإسلام فنشؤوا كفارًا متمردين عاقين لهم مشاققين غير بارين ولا محسنين، فأنى لمثل هؤلاء أن يصدر منهم خير، فآباؤهم وأمهاتهم منهم في عذاب، وكذلك شأنهم من جميع مُتَع الدنيا، فعاقبتهم النحس والنكد والدمار والعياذ بالله، وفي قلوبهم ما لا يعلمه إلاّ الله من الغم والمخاوف والوساوس، وإن رآهم الجاهل في نعيم وحسبهم به سعداء وهم عن السعادة بعداء، إنما السعادة وطمأنينة النفس في الإيمان بالله والاعتصام به وبكتابه.

 

{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَّأَبْقَى}

 

ورزق ربِّك من الكتاب والحكمة والإيمان والعمل الصالح خير لك ولمن آمن معك وبعدك وعمل صالحًا، {والباقيات الصالحات خير عندك ربك ثوابًا وخير أملا} (الكَهف:96)، ذلك رزق الله النافع لعبده المؤمن هو خير له في دنياه، وقد ملأ الله نفسه رضًا وطمأنينة وقناعة وأصلح الله أهله وذريته فهم أبرار قد اتبعوا آباءهم بإيمان، وأطاعوا الله فيهم فهم لهم قرة أعين في الدنيا، وهم لهم امتداد أجر بعد مماتهم، يدعون لهم ويتصدقون ذلك خيرٌ وأبقى، جمع الحسنَيَيْن:

الخيرية والبقاء، وهو ثواب الله للمؤمنين وعند الله ثواب الدنيا والآخرة.

 

{وَامُرَ اَهلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}

 

يرشد الله نبيَّه وكل مؤمن إلى بناء صرح سعادته الأبدية له ولأهله وذلك بتنشئتهم على التقوى، وعماد التقوى والإيمان هي الصلاة والمحافظة عليها والمداومة على إقامتها في أوقاتها، وبطهارتها وركوعها وسجودها وخشوعها، يأمر الله نبيَّه وكل مؤمن أن يأمر أهله بالصلاة، وذلك منذ صغرهم حتى يتعودوها وينشؤوا على محبتها والأنس بها، وتكون قرة عين لهم يناجون فيها ربهم، ويستعينون بها على أمورهم كلها، ولا خير في أهل لا يُصَلُّون، وأي خير في مساكنة من هو شرٌّ من الكلاب والخنازير وأضل سبيلا، والمقابر خير من البيوت لا تقام فيها الصلوات ولا يقرأ فيها القرآن، تلك بيوت لا خير فيها ولا بركة، ولا يرجى منها سكينة ولا هناء، وكما أمرنا الله ـ تبارك وتعالى ـ بأمر أهالينا بالصلاة أمرنا أن نصطبر عليها وعلى مشقة المحافظة على شروطها ومراقبة أوقاتها والمداومة عليها، ولا يكون أمرنا لأهلنا مقبولا ونافعًا إلاّ إذا كنا نمتثل ما نقول ونفعل ما نأمر به، فإذا كنا كذلك كان حريًّا بأهالينا وأولادنا الصغار أن يقتدوا بنا ويتبعونا في الإيمان والعمل الصالح.

 

ولما كانت الصلوات قد تعرض لنا في أوقات التجارة والبيع وأنواع الحرف في طلب الرزق، فتكون عرضة للضياع أخبرنا الله ـ تعالَى ـ أن الرزق مضمون وقد تكفل الله عزَّ وجلَّ به فقال:

 

{لاَ نَسْأَلُكَ رِزقًا نَّحنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}

 

يقول: لا نسألك أن تنفعنا برزقٍ، فالله ـ تعالَى ـ غنِيٌّ عن عباده، وهو يُطعِم ولا يُطعَم، ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أولادك، فنحن نرزقك وإياهم، فلا يمنعنك طلب الرزق عن إقامة الصلوات في أوقاتها الموقوتة، وفيه إشارة إلى أن الرزق يبارك لمن حافظ على الصلوات، والعاقبة الحسنة لأهل التقوى الذِّينَ يمتثلون أوامر الله ويجتنبون نواهيه، ويحفظون حدوده، فهم الذِّينَ يرضون سعيهم عند خروجهم من هذه الدنيا، وقد جاءتهم البشرى من ربهم، وهم الذِّينَ يحبون لقاء الله ويحب الله لقاءهم ويُلَقِّيهم الله نضرة وسرورًا، وذلك هو الفوز العظيم، وإذا كانت الأمور بخواتيمها، فإن العاقبة الحسنة تكون في آخر أيام الدنيا يوم لا تنفع أصحاب الأموال أموالهم، ولا يُغنِي عن أصحاب السلطان سلطانهم، ولا يدفع الأولاد ولا الأحباب عنك ما حلَّ بك من قدر الله شيئًا، ولا ينفعك يومئذ إلاَّ ما قدمت من عمل صالح، فبشرى يومئذ لأهل التقوى بشرى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذِّينَ ءَامنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (يونس:62)، وأولياء الله المتقين هم الذِّينَ يقيمون الصلاة ويأمرون أهاليهم بإقامتها، ويُربُّون على ذلك أولادهم، تلك بيوت عامرة عَمَرُوهَا بالصلاة وقراءة القرآن وسائر أنواع القربات من الباقيات الصالحات، أولئك هم المؤمنون المتقون الذِّينَ لهم العاقبة الحسنى.

 

{وَقَالُوا لَوْلاَ يَاتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَاتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الاُولَى (133) وَلَوَ اَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَولاَ أَرْسَلْتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنَ اَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}

 

قال الكفار من قريش لولا يأتينا هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول من الله الينا، لولا يأتينا بآية، أي: بِمعجزة من ربه تشهد له على صدقه، فأجابهم الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ بقوله:

 

{أَوَلَمْ تَاتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الاُولَى}

 

أولَم يكفهم أنَّ الصحف الأولى: صحف إبراهيم وموسى وغيرهما، قد بشَّرت بِمبعث نبِيٍّ صفته كذا وكذا، وموطنه كذا، فلم يبق لديهم شك في أن هذا هو نبي آخر الزمان الذي بشَّرت به الرسل وبينت أوصافه، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وتلك هي بَيِّنَة ما في الصحف الأولى، ومعجزته القرآن، يتلى عليهم لا يشُكُّون أنه ليس من كلام البشر؛ لأنهم أدرى الناس ببلاغة القول، وقد تحدَّاهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مفتريات أو حتى بسُورَة واحدة، فعجزوا كلهم وفي هذا ما يكفي في بيان أن هذا الكلامَ كلامُ الله، وليس هو كلام مُحَمَّد ولا غيره من البشر، فهم إنما يجحدون رسالته كفرًا وعنادًا وكبرًا {وما يجحد بآياتنا إلاَّ الكافرون} (العنكبوت:47)، ويكفي بيِّنةٌ أن أُمِّيًّا ما عرف القراءة ولا الكتابة يأتيهم بهذا الكتاب الحكيم، الذي فيه البيِّنات والعلوم والأحكام والحكم {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} (العنكبوت:48)، فمن يرد الله هدايته يهده بهذا الكتاب، ومن يرد أن يضله لا يؤمن ولو جاءته كل آية، فهم يقترحون الآيات ويطلبونها كبرًا ولجاجًا، وقد علم الله منهم ذلك ولا يوافقهم إلى مطالبهم هذه رحمة بهم وإمهالا لهم لعلهم يرجعون ويذكرون؛ لأنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوه من بعض الآيات فلم يؤمنوا بعدها، لأهلكهم الله وتلك سُنَّة الله في الذِّينَ خلوا من قبل، قال الله: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلاَّ أن كذَّبَ بها الاَوَّلُون} (الإسراء:59)، فما عليك يا مُحَمَّد إلاَّ البلاغ وسيهتدي بك من أراد الله هدايته {وقالوا لولا أنزل عليه ءَاية من ربه قُلِ اِن الله يضل به من يشاء ويهدي إليه منَ اَنَاب} (الرعد:27)، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات يا مُحَمَّد، فما عليك إلاَّ الإنذار والتبليغ، وبعد هذا فإن أمر الهداية والضلالة إلى مشيئة الله، وقد قامت عليهم حجة الله وجاءتهم البينات الكافيات.

 

{وَلَوَ اَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنَ اَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى

}

لا أحد أحب إليه العذر من الله، ففي هذه الآيات إشارة إلى حكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب، وأن الله ـ تعالَى ـ يريد بذلك أن يقيم الحجة على عباده بإرسال مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ خاتم الرسل، وأرسله للناس كافة وضَمِنَ بقاءَ رسالته وحِفظَ كتابِه حتى تقوم الساعة، فهو نذير آخر الزمان، وإن من أمة إلاَّ خلا فيها نذير، ولو شاء الله لأهلك قريشًا على عصيانهم قبل إرساله؛ لأنهم قد خلت النذر من قبله، ولكنْ رَحْمَةً بهم أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم يخاطبهم بلسانهم ويقرأ عليهم كتابًا بلغتهم، وهم يعرفون أمانته وصدقه، ولو أن الله أهلكهم قبل مجيئه لاحتجوا على ربهم، وقالوا يا ربنا هَلاَّ أرسلت إلينا رسولاً يدعونا إلى سبيلك ويبين لنا ما نفعل ونذر من الأعمال حتى نتجنب سخطك وعقوبتك، فكيف تُهلِكُنا يا ربَّنا ونحن غافلون؟ يقول الله ـ تعالَى ـ: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدا عليكم} (المزمل:15)، وأنزلنا معه كتابًا يخرجكم من الذل إلى العز ويجنبكم خزي الدنيا والآخرة ويخرجكم من الظلمات إلى النور، ولكنكم كذبتم به وأعرضتم، وقلتم ساحر ومجنون، وقلتم شاعر نتربص به ريب المنون.

 

{قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنَ اَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}

 

قل لهم يا مُحَمَّد: كلٌّ منا ومنكم متربصٌ بالآخر، أنتم تتربصون بنا الموت أو الهزيمة {قل هل تربصون بنا إلاَّ إحدى الحسنَيَيْن ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} (التوبة:52)، أنتم تتربصون بنا في الحقيقة إحدى الحسنيَين: الشهادة أو النصر، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده جزاء لكم على كفركم وجحودكم، أو بأيدينا في غزوة ينصرنا الله فيها، ويظهرنا عليكم، ونتربص ظهور هذا الدين {فتربصوا إنا معكم متربصون} (التوبة:52).

 

{فَسَتَعْلَمُونَ مَنَ اَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}

 

"السين"، للتنفيس، وجاءت هنا مقترنة بالفعل إشارة إلى قرب تحقق الوعيد، أي فستعلمون قريبًا علم اليقين من هم أصحاب الصراط السوي، نحن أو أنتم، وفي هذا تسلية للنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ولقومه الذِّينَ يؤذيهم الكفار بالسخرية والاستهزاء وأنواع الأذى، وهذا نظير ما جاء في سُورَة المطففين {إن الذِّينَ أجرموا كانوا من الذِّينَ ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهله انقلبوا فاكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أُرسِلوا عليهم حافظين فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون على الاَرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} (المطففين:29-36)، فالآيات تسلية وتطمين للمؤمنين على أنهم على هدى من ربهم، وأن العاقبة الحسنى لهم لا لأعدائهم {وسيعلم الذِّينَ ظلموا أي منقلب ينقلبون} (الشعراء:227)، ويومئذ يعترفون ويؤمنون ولا ينفعهم إيمانهم، وذلك حين يأتيهم الأجل المحتوم وحين يبعثون يوم القيامة، وفي الآية ذكر أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى، وليس فيها ذكر الطرف الآخر لحقارته وهوانه؛ ولأنه يُعرَف بطريق المفهوم.

 

وفي السُورَة عَودٌ على بدء، وهذا من بلاغة القرآن تختم السُورَة بمثل ما بدئت به، ففي بدايتها تسلية لقلب النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وتطمين له أنه على الحق، فلا يهلك نفسه عليهم حسرات، إنه عليه إلاَّ البلاغ:

 

{طَه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ القُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى}

 

{قُل كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنَ اَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}

 

وفي نهاية السُورَة مثلُ الذي في بدايتها من التسلية والتثبيت والتطمين، فتربصوا بهم، فليتربصوا فسيعلمون قريبًا من هم أهل الهدى، ومن تكون لهم العاقبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد والحمد لله رب العالمين.

***

تم تفسير سُورَة: "طه"